استخدام التكنولوجيا والبيانات في محاربة الفساد
تاريخ النشر: 22nd, September 2024 GMT
من المعروف أن الفساد يؤثر بشكل كبير على إفقار المجتمع وزيادة التكاليف وتقليل فرص الوصول إلى الخدمات الأساسية. كما يتسبب الفساد أيضاً في تجاوز ضوابط البيئة والسلامة، مما يؤدي إلى التلوث وتدمير البنية التحتية، وإضعاف الثقة في الحكومات وإزكاء الصراعات وزيادة هشاشة الدولة. ويؤثر الفساد سلبًا على الثقة في القطاع الخاص والمستثمرين، ويقلل من إيرادات الحكومات بسبب التهرب الضريبي وغيرها.
وفي تقرير للبنك الدولي منشور بتاريخ 11/9/2024، تم التطرق إلى الأساليب التي يتبعها البنك مع شركائه لمكافحة الفساد. ويُعتبر مكافحة الفساد من الأولويات القصوى لسد فجوة التمويل وتعزيز رسالة ذلك البنك في القضاء على الفقر المدقع وتعزيز الرخاء المشترك في عالم صالح للعيش. ويعمل البنك حاليًا على تعزيز استراتيجيته لتحسين التصدي للتدفقات المالية غير المشروعة الناتجة عن الفساد، من خلال دعم البلدان المتعاملة معه في جهود مكافحة الفساد، والتعاون مع الشركاء الدوليين، وتفعيل مبادرات السياسات العالمية، وتطبيق آليات قوية تحمي نزاهة وسلامة الأنشطة التي يمولها. كما تطرق التقرير إلى ضرورة التركيز على الجريمة العابرة للحدود، بما في ذلك جوانب الفساد التي تتجاوز الحدود الوطنية. ويسعى البنك الدولي إلى تطوير عمله لمواكبة هذا التعقيد المتزايد للفساد، من خلال معالجة أبعاده العابرة للحدود وتكييف استراتيجياته الجديدة من عدة جوانب. وبالإضافة إلى ذلك، يتبنى البنك نهجًا تكامليًا يعزز مفاهيم التحقيق من النتائج، ويشمل حشد المعرفة، جمع البيانات والأدوات، وبناء شراكات جديدة.
ويسعى البنك الدولي والمؤسسات الدولية الأخرى باستمرار لتطوير استراتيجيات لمحاربة الفساد، بما في ذلك الفساد العابر للحدود. ويمكن القول إن نجاح هذه الجهود يعتمد على عدة عوامل ومعايير يمكن تقييمها بناءً على النتائج والمشاريع المنفذة. كذلك يجب القول بأن الجهود المبذولة من المؤسسات الدولية لدعم التنمية في البلدان النامية أو حتى محاربة معيقات التنمية مثل الفساد، دائمًا ما يُعتقد أنها لا تعدو أن تكون مجرد نظريات لا تطبق عمليًا، أو أنها غير ملموسة على أرض الواقع. والحقيقة أن فشل تطبيق تلك الإستراتيجيات ناتج عن أن السياسات غالبًا ما يتم تصميمها وتنفيذها من قِبل النخب السياسية والاقتصادية في الدول النامية، وهي طبقات قد تكون عادةً بعيدة عن هموم ومعاناة المواطنين العاديين. وهذه النخب قد تكون أكثر اتصالًا بالمؤسسات الدولية مثل (البنك الدولي)، ولكنها لا تعبر عن احتياجات المجتمع ككل. بل إن النخب السياسية والاقتصادية قد تكون لديها مصالح شخصية أو اقتصادية تدفعها لدعم سياسات معينة لا تتناسب بالضرورة مع الاحتياجات الفعلية للمجتمعات المحلية. وعادة ما تركز تلك النخب على تحسين صورتها أمام المجتمع الدولي أكثر من تحقيق تنمية حقيقية في دولها النامية. بينما تكمن الحلول الحقيقية في تمكين المجتمعات المحلية لتكون جزءًا أساسيًا من عملية التخطيط والتنفيذ، من أجل تحقيق نتائج ملموسة ومستدامة. فعلى سبيل المثال، تم إطلاق مبادرات لمكافحة الفساد عبر الحدود، من بينها مبادرة استعادة الأصول المسروقة، التي تهدف إلى استرجاع الأصول المسروقة من المسؤولين الفاسدين. ويعتمد نجاح هذه المبادرة بشكل كبير على التعاون بين البلدان والشراكات الدولية. ومثل هذه المعطيات وغيرها تدعم نجاح البنك الدولي في تحقيق شراكات موسعة مع مؤسسات دولية وحكومات محلية في سبيل مكافحة الفساد. ومع ذلك، لا تزال تحديات الفساد مستمرة، خاصة في الدول التي تفتقر إلى مؤسسات قوية للحوكمة.
وعند تقييم تأثير التكنولوجيا على جهود مكافحة الفساد، يتضح أنها قد تكون سلاحًا ذو حدين، حيث يمكن أن تؤدي إلى نتائج إيجابية أو سلبية بحسب كيفية توظيفها. فبينما تمتلك التكنولوجيا القدرة على تعزيز الشفافية والمساءلة، فإن إساءة استخدامها قد يؤدي إلى عواقب سلبية، مثل زيادة فرص الاختراقات الأمنية واستغلال البيانات الشخصية، أو التلاعب بالمعلومات. لذا يتطلب استخدامها الفعال إدراكًا جيدًا للمخاطر، وتبني المعايير السليمة، وتوفير التدريب المناسب. وإذا تم استغلال التكنولوجيا بفعالية وذكاء، فإنها قد تصبح وسيلة فعالة لمكافحة الفساد وتقليل حالات الإفلات من العقاب.
ويسير العالم في العصر الحالي، ومن خلال مؤسسات مكافحة الفساد، نحو اعتبار التكنولوجيا أداة داعمة لجهود مكافحة الفساد من خلال تحسين الشفافية وتعزيز المساءلة. وتوفر الأنظمة الرقمية أدوات متقدمة لتتبع المعاملات المالية والحد من التلاعب، في حين تساعد البرمجيات التحليلية في الكشف عن الأنماط المشبوهة والممارسات الفاسدة. كذلك، تعزز منصات الإبلاغ الإلكتروني من قدرة الأفراد على الإبلاغ عن الفساد بأمان وسرية، مما يساهم في الكشف المبكر عن الأنشطة غير القانونية. وعند الحديث عن دور التكنولوجيا في دعم جهود مكافحة الفساد، تبرز عدة أدوات رئيسية، مثل الأنظمة الرقمية لإدارة المعاملات المالية وأنظمة المحاسبة الإلكترونية، التي تسهم في توثيق وتتبع المعاملات بدقة، مما يقلل فرص التلاعب. كما تدعم البنوك استخدام التكنولوجيا لتقديم تقارير مفصلة، مما يسهل اكتشاف الأنشطة غير القانونية. بالإضافة إلى ذلك، تُستخدم البرمجيات التحليلية لاكتشاف الأنماط المشبوهة بسرعة ودقة. تقنيات التوثيق والتوقيع الرقمي تضمن سلامة الوثائق، وتقلل من التزوير، بينما تساعد أنظمة التحقق من الهوية مثل بصمات الأصابع والتعرف على الوجه في ضمان صحة المعاملات. ثم تتيح منصات الإبلاغ الإلكتروني للأفراد تقديم شكاوى بسرية، مما يعزز الأمان ويشجع على الإبلاغ عن الفساد. وكل هذه الأدوات تدعم الشفافية والمساءلة وتعزز النزاهة في المؤسسات.
وتواجه عمليات مكافحة الفساد في البلدان النامية، مثل بعض الدول الإفريقية والعربية تحديات كبيرة تتعلق بتوافر وإدارة أدوات المكافحة، وخاصة التكنولوجيا منها. وتعتمد الحكومات بشكل متزايد على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، مما يؤدي إلى مشكلات مثل تدهور وسائل الإعلام الرقمية وتقادم الأجهزة والبرمجيات. وإن لم تُدار السجلات الرقمية باحترافية، فقد تتعرض للخطر، مما يؤثر على قيمتها كأدلة قانونية. وتواجه هذه الدول أيضًا تحديات في إدارة السجلات الرقمية أثناء تحقيقات الفساد، مثل ضياع الأدلة وتدهور السجلات، وصعوبة تحديد موقعها وتحليلها دون توفر أنظمة إدارة مناسبة. بالإضافة إلى ذلك، يسبب ضعف القوانين وأدوات التنفيذ إلى ضعف الرقابة وقلة العقوبات، مما يعرقل التحقيقات ويضعف المساءلة القانونية، وبالتالي تعوق هذه المشكلات جهود مكافحة الفساد بشكل كبير.
وتعد البيانات هي الأداة الأساسية والذراع الأهم في مكافحة الفساد على المستوى المحلي والدولي. فعلى المستوى المحلي، تساهم البيانات في تعزيز الشفافية من خلال إتاحة المعلومات المتعلقة بالإنفاق الحكومي والعقود والتبرعات وغيرها، مما يسمح للمواطنين بمراقبة استخدام الموارد العامة. كما تدعم البيانات المساءلة بتمكين الجهات الرقابية والمواطنين من تتبع القرارات الحكومية ومطالبة المسؤولين بتبرير أفعالهم. إضافة إلى ذلك، تسهم البيانات في التحقيقات القانونية عبر توفير الأدلة اللازمة، مثل سجلات المعاملات المالية وبيانات الأصول، مما يسهل اكتشاف الأنماط المشبوهة والكشف المبكر عن الفساد. وعلى مستوى التعاون الدولي، تسهم البيانات في تعزيز تبادل المعلومات بين الدول والمؤسسات الدولية، مما يعزز منسوب التعاون في مكافحة الفساد العابر للحدود. بالإضافة إلى ذلك، تتيح البيانات متابعة التزامات الدول بتنفيذ معايير الشفافية والمساءلة، مما يسهم في تحسين التنسيق الدولي لملاحقة الفاسدين عبر الحدود وتعزيز النزاهة على نطاق عالمي.
لا شك في أن البيانات الموثقة ضرورية في مكافحة الفساد، حيث تحول الشبهات إلى تحقيقات تستند إلى أدلة دامغة، مما يمنع انتشار الشائعات ويُسهل محاسبة المسؤولين. وتُعد السجلات المالية والمعاملات المصرفية أدوات فعالة لتتبع الأموال وكشف التلاعب. كما تساهم في تعزيز الشفافية عبر نشر معلومات دقيقة عن استخدام الموارد العامة، مما يُمكّن المواطنين ووسائل الإعلام من مراجعة الإجراءات والتأكد من صحتها. البيانات الموثقة تدعم الرقابة والمحاكمات بتقديم أدلة قوية، وتعزز العدالة والمساءلة بفعالية.
وتشير كثير من التقارير إلى تباين الدول حول العالم في استخدام التكنلوجيا في محاربة الفساد وإرساء قواعد الحوكمة. وتعتبر تجربة أوزبكستان في استخدام التكنولوجيا لمكافحة الفساد نموذجًا مثيرًا للاهتمام بسبب الإصلاحات الكبيرة التي قامت بها في السنوات الأخيرة. شرعت أوزبكستان في اعتماد التكنولوجيا كأداة رئيسية لتحسين الشفافية والمساءلة داخل الإدارة الحكومية. فعلى سبيل المثال، أطلقت الحكومة منصات إلكترونية للمعاملات الحكومية، مما قلل من الحاجة إلى التعامل المباشر بين المواطنين والمسؤولين، وهو أمر يقلل من فرص الفساد. واستثمرت في تدريب وتوعية العاملين في القطاع العام حول استخدام التكنولوجيا في مكافحة الفساد؛ ونُظمت برامج تدريبية لتحسين مهاراتهم في استخدام الأنظمة الإلكترونية والتعرف على الأدوات التي تعزز الشفافية. هذا بالطبع بالإضافة إلى استخدام الأدوات الأساسية التي تم ذكرها آنفاً.
كذلك استخدمت دولة كينيا خططاً زمنية لتقييم فعالية استخدام التكنولوجيا في مكافحة الفساد خلال عشر سنوات بدأت في عام 2012م، حين شرعت تلك الدولة في التفكير في تطوير الأنظمة الإلكترونية لمكافحة الفساد، وأطلقت نظاماً اليكترونياً واستخدمت تقنيات التحليل البياني لمراقبة الإنفاق وتحليل تأثيرها، ثم درست تأثير منصات الشكاوى على الإبلاغ عن الفساد واستجابة الحكومة حتى عام 2022م وذلك لتقييم تأثير برامج التدريب والتوعية على مكافحة الفساد. ومن خلال ذلك النوع من التدرج الزمني، يمكن تحديد كيفية تطور تأثير التكنولوجيا على جهود مكافحة الفساد بمرور الوقت وتقييم فعالية هذه الأدوات في تحسين الشفافية والنزاهة.
كذلك هناك مثال آخر من الدول العربية، حيث قامت المملكة العربية السعودية بتطبيق استراتيجيات مختلفة لتعزيز الشفافية وتحسين إدارة الموارد العامة. وأطلقت السعودية منصة إلكترونية باسم "فساد" تتيح للمواطنين الإبلاغ عن الفساد والشكاوى. وتعزز هذه المنصة من الشفافية وتساعد في تتبع القضايا. وحُولت معظم خدمات القطاع العام إلى منصات إلكترونية، مما يقلل من التلاعب ويزيد من كفاءة الخدمة.
نختم القول بأن التكنولوجيا تلعب دورًا محوريًا في تعزيز التنمية المستدامة، بما في ذلك جهود مكافحة الفساد. وفقًا للخطة الاستراتيجية الخماسية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وتُعد الرقمنة واحدة من الركائز الأساسية الثلاث لدفع عجلة التنمية إلى جانب الابتكار والتمويل. وتُسهم التكنولوجيا في تحسين كفاءة الإدارة العامة وتعزيز الشفافية، مما يؤدي إلى رفع جودة الخدمات العامة وزيادة الثقة في الحكومات. في هذا السياق، تُعتبر الإدارة العامة الرشيدة ركيزة مهمة لتحقيق التنمية المستدامة، حيث تعزز من كفاءة تقديم الخدمات العامة وتدعم ثقة المواطنين في مؤسساتهم. وتؤدي الإدارة الفعالة دورًا رئيسيًا في تحسين مستوى الخدمات التعليمية والصحية وتهيئة بيئة ملائمة للنمو الاقتصادي. كما تساعد على تقليص فرص الفساد. علاوة على ذلك، يُعد بناء البنية التحتية الرقمية والمكونات التقنية أمرًا جوهريًا لتحقيق الإدارة العامة الرشيدة. كما يُسهم الأمن السيبراني بدور بالغ الأهمية في مكافحة الفساد عبر حماية البيانات والنظم من التلاعب والهجمات، مما يعزز من الثقة في النظم الرقمية ويضمن تقديم خدمات عامة أكثر شفافية وفعالية. لذلك عندما تتكامل تكنولوجيا المعلومات مع أنظمة الحكم الرشيد والمبادرات المجتمعية الداعية إلى الشفافية والمساءلة، يسهم كل ذلك في تحسين كفاءة الحكومات وتعزيز مسؤوليتها. وتتيح هذه التقنيات تحقيق نتائج أكثر فعالية في الحوكمة، مما يسهم في تقديم خدمات عامة بجودة أعلى، وتدعم الجهود الرامية إلى تعزيز التنمية المستدامة وترسيخ مبادئ الإدارة العامة الرشيدة.
nazikelhashmi@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: استخدام التکنولوجیا الشفافیة والمساءلة جهود مکافحة الفساد الإبلاغ عن الفساد فی مکافحة الفساد بالإضافة إلى ذلک التکنولوجیا فی تعزیز الشفافیة الموارد العامة لمکافحة الفساد الإدارة العامة البنک الدولی البیانات فی فی تعزیز الثقة فی یؤدی إلى فی تحسین قد تکون من خلال ا یعزز
إقرأ أيضاً:
عندما تصبح البيانات سلاحا.. هل يشكل ديب سيك تهديدا لأمان وخصوصية المستخدمين؟
في عالمٍ تقوده الخوارزميات وتتغلغل فيه النماذج الذكية في أدق تفاصيل حياتنا، لم تعد مسألة الأمان والخصوصية مجرد هواجس نظرية، بل تحولت إلى ساحة معركة تتشابك فيها المصالح والابتكارات والمخاطر الخفية.
صعود "ديب سيك" (DeepSeek) لم يكن مجرد تقدم تقني، بل بداية لجدل واسع بين الخبراء وصناع القرار حول أبعاده الأمنية والجغرافية السياسية.
وكأن زلزالا رقميا ضرب ساحة الذكاء الاصطناعي، فاهتزت معه مفاهيم الأمان والخصوصية، وطفا على السطح جدل لا يزال مستعرا. فبينما يُنظر إلى "ديب سيك" كإنجاز تقني أحكم قبضته على عالم التكنولوجيا، تتصاعد المخاوف من تحوله إلى عين لا ترمش، تراقب كل حركة، وتنقب في كل معلومة بلا هوادة.
ومع تزايد قلق المستخدمين، تزداد التساؤلات حول ما إذا كانت هذه التقنية مجرد أداة عادية أم طريقة جديدة للهيمنة الرقمية التي تتلاعب بِالبيانات والخصوصية.
"ديب سيك" في مواجهة "شات جي بي تي".. هل المنافسة تتجاوز الأداء؟لقد سارع الخبراء إلى مقارنة "ديب سيك" بـ"شات جي بي تي" لتقييم مدى قدرة الوافد الجديد على منافسة أحد أكثر نماذج الذكاء الاصطناعي خبرة.
وبالرغم من أن الأداء يشكل عاملا مهما في هذه المعادلة، إلا أن التساؤلات تتجاوز ذلك لتصل إلى الأمان والخصوصية: هل يمكن الوثوق بـ"ديب سيك" فعلا؟
إعلانفبينما تواصل الولايات المتحدة الجدل حول حظر "تيك توك"، يظهر "ديب سيك" مع أوجه تشابه تثير القلق في سياقات الخصوصية والتأثيرات الجغرافية.
وما يزيد من الغموض أن الخدمة تُقدّم بأسعار تنافسية منخفضة، مما يطرح سؤالا جوهريا: إذا لم يكن المال هو الثمن الحقيقي، فما الذي يدفعه المستخدمون مقابل هذه التقنية؟
لكن، ماذا لو كانت المنافسة بين "ديب سيك" و"شات جي بي تي" تتجاوز الأداء لتصل إلى أبعد من ذلك؟ وهل الأمان هو العامل الحاسم في تحديد الفائز؟
تحليل سياسة الخصوصية لـ"ديب سيك".. هل يمكن الوثوق بهذه الخدمة؟إن المخاوف لا تتوقف عند أوجه التشابه مع "تيك توك" أو نموذج التسعير المغري، بل تمتد إلى جوهر القضية، وهو كيف يتعامل "ديب سيك" مع بيانات مستخدميه؟ هنا تحديدا، تلقي سياسة الخصوصية الضوء على أحد أكثر الجوانب المثيرة للجدل، حيث تطرح تساؤلات لا يمكن تجاهلها حول مدى أمان هذه المنصة.
في الظروف العادية، يفترض أن توفر سياسات الخصوصية الجيدة إحساسا بالطمأنينة للمستخدمين، خاصة لمن يحرصون على حماية بياناتهم الشخصية. لكن مع "ديب سيك"، يبدو أن العكس هو الصحيح، حيث تنص سياسة الخصوصية على:
"عند استخدامك لخدماتنا، قد نقوم بجمع مدخلاتك النصية أو الصوتية، أو المحفزات، أو الملفات المرفوعة، أو التعليقات، أو تاريخ الدردشة، أو أي محتوى آخر تُقدمه لنمُوذجنا وخدماتنا.. قد يتم تخزين المعلومات الشخصية التي نجمعها منك على خادم يقع خارج البلد الذي تعيش فيه. نحن نقوم بتخزين المعلومات التي نجمعها في خوادم آمنة تقع في جمهورية الصين الشعبية."
وهذا يعني أن "ديب سيك" قد يقوم بجمع معلومات حساسة تتضمن:
اسمك، وتاريخ ميلادك، وعنوان بريدك الإلكتروني. البيانات المدخلة في المنصة، سواء كانت نصية، أو صوتية، أو حتى محفوظات المحادثات السابقة. معلومات تقنية تتعلق بجهازك، مثل عنوان "آي بي" (IP)، ونظام التشغيل، وأنماط ضغط المفاتيح. إعلانلكن القلق لا يتوقف عند مجرد جمع البيانات، بل يمتد إلى مكان تخزينها وطريقة استخدامها. فبحسب سياسة الخصوصية، يتمّ حفظ هذه المعلومات على خوادم في الصين، ما يثير تساؤلات جادة حول ما يحدث لها بعد ذلك.
والأكثر إثارة للجدل، أن السياسة تنص على إمكانية استخدام البيانات لأغراض متعددة، تشمل تحسين الخدمة، والامتثالَ للالتزامات القانونية، وحماية المصلحة العامة، وبالطبع، توظيفها في الإعلانات.
ومما يزيد من الغموض، أن المزود يحتفظ بهذه المعلومات "طالما كان ذلك ضروريا"، دون تحديد إطار زمني واضح لحذفها نهائيا.
هذا الغموض، إلى جانب طبيعة البيانات التي يتم جمعها وكيفية التعامل معها، يعزز المخاوف بشأن المخاطر طويلة الأمد على خصوصية المستخدمين وإمكانية عدم وجود حماية حقيقية لبياناتهم الشخصية.
فيما يتعلق بالقلق المحيط بالروابط المحتملة مع السلطات الصينية، لم تقتصر المخاوف على سياسة الخصوصية فحسب، حيث أشار أحد مستخدمي منصة "إكس– تويتر سابقا" إلى بعض الأنشطة غير العادية التي لوحظت من قبل خدمة "ديب سيك" أثناء مناقشة مواضيع حساسة في المنطقة.
وعلى الرغم من أنه لا يوجد دليل قاطع يثبت أن "ديب سيك" يتبنى أي نوع من العلاقات المستمرة مع السلطات الصينية، إلا أن هذه الأنشطة تثير العديد من التساؤلات حول طبيعة المعلومات التي قد تُجمع أو تُستقبل على المنصة.
هذا الغموض يعزز المخاوف المتعلقة بكيفية تعامل "ديب سيك" مع المحتوى الحساس. ومع ذلك، لا يُعتبر هذا الأمر جديدا على عالم الذكاء الاصطناعي، خاصة في ضوء العديد من الأمثلة السابقة التي تناولت الانتهاكات المتعلقة بالتدخلات المشبوهة أو التحكم في البيانات. فمن ينسى فضيحة "كامبريدج أناليتيكا" (Cambridge Analytica) الكبرى التي أثارت جدلا واسعا؟
إعلان أزمات تتوالى وقلق يتصاعدلا تقتصر المخاوف المحيطة بـ"ديب سيك" على الأبعاد التقنية والجغرافية فحسب، بل تتزايد التحديات الأمنية بشكل ملحوظ منذ إطلاق الخدمة.
فقد تعرض "ديب سيك" لهجوم إلكتروني واسع النطاق، مما أثار تساؤلات جادة حول أمانه. هذا الهجوم دفع المنصة إلى اتخاذ تدابير عاجلة، أبرزها تقييد التسجيلات في الوقت الراهن.
ورغم هذه الإجراءات الاحترازية، لا يزال هجوم الحرمان من الخدمة الموزع (DDoS) يؤثر على الخدمة، ما يعمق القلق حول قدرتها على الحفاظ على استقرارها وأمانها على المدى الطويل.
في سياق متصل، كشف اختبار أمني مشترك أجراه فريق بحثي تابع لشركة "سيسكو" بالتعاون مع باحثين من جامعة بنسلفانيا عن فشل ذريع لنموذج "آر1" من شركة "ديب يك" في التصدي للمُحتوى الضار.
إذ حقق النموذج معدل نجاح هجمات بنسبة 100%، مما يعني أنه فشل في منع أي مطالبات ضارة، بحسب تقرير نشره موقع "إنترستنغ إنجنيرينغ".
وأوضح فريق البحث أن "ديب سيك" دمج تقنيات مثل مطالبة سلسلة الأفكار ونمذجة المكافآت والتقطير، بهدف تحسين قدرته على الاستدلال مقارنة بالنماذج التقليدية، مع الحفاظ على أداء عالٍ. ومع ذلك كشف تقرير "سيسكو" عن عيوب تجعله عرضة للاستخدامات الخبيثة والاحتياليّة.
علاوة على ذلك، خرجت إيطاليا عن صمتها، حيث أطلقت تحقيقا رسميا في "ديب سيك" بسبب مخاوف تتعلق بالخصوصية. وجاء التحقيق بسبب احتمال وجود خطر على بيانات ملايين الأشخاص في إيطاليا، وفقا لجهاز حماية البيانات (Garante)، الهيئة المسؤولة عن حماية البيانات في البلاد.
من جهة مماثلة، وفيما تتوالى الأنباء المحيطة بالمنصة، قد لا يكون قد تم التركيز بشكل كاف على التقرير الصادر عن شركة "كيلا" (KELA) للأمن السيبراني، التي تمكنت من اختراق "ديب سيك" واكتشاف ثغرات أمنية في النظام.
حيث كشفت في تقريرها الأخير أن "ديب سيك" عرضة للاختراق بسهولة باستخدام تقنيات تم الكشف عنها علنا قبل أكثر من عامين، مما يضيف مزيدا من القلق حول أمان المنصة.
مع النمو السريع لـ"ديب سيك" في مجال الذكاء الاصطناعي، يزداد القلق بين الخبراء حول تأثيرات هذه المنصة على الأمان، والخصوصية، والتأثيرات الاجتماعية.
إعلانوفي هذا السياق، علق خبير الأمن السيبراني في "نور دي في بي إن" (NordVPN)، أدريانوس وارمينهوفن، في حديثه إلى موقع "تيك رادار" (TechRadar)، قائلا:
"إن نموذج الذكاء الاصطناعي لديب سيك قد قوبل بردود فعل متزايدة بسبب رفضه معالجة المواضيع السياسية، مما أثار مخاوف حول التحيزات المحتملة والتأثيرات الخارجية على سياسات تعديل المحتوى في المنصة."
أما فيما يتعلق بالمخاوف المتزايدة حول سياسة الخصوصية الخاصة بالمنصة، أضافت لورين هندري-بارسونز، خبيرة الحقوق الرقمية، قائلة:
"هناك مخاوف حقيقية بشأن الإمكانيات التكنولوجية لـ "ديب سيك"، وخاصة عندما نتحدث عن شروط سياسة الخصوصية الخاصة به. حيث تنص على جمع بيانات مثل ضغطات المفاتيح الخاصة بالمستخدمين، بالإضافة إلى عنوان "آي بي" (IP)، ومن ثم دمج هذه المعلومات مع مصادر أخرى مثل معرفات الهواتف المحمولة، ومعرفات الكوكيز، والمزيد."
هذه التصريحات تعكس القلق العميق من المخاطر المحتملة التي قد تترتب على جمع هذه البيانات الحساسة.
هل شبكات "في بي إن" (VPN) قادرة على حمايتك من مخاطر "ديب سيك"؟مع استمرار الجدل حول "ديب سيك" وتزايد المخاوف الأمنية المحيطة به، يثار تساؤل حول ما إذا كانت شبكات "في بي إن" (VPN) قادرة على توفير الحماية الكافية للمستخدمين.
وبالرغم من أن الصورة الكاملة لمخاطر النموذج لم تتضح بعد، فإن المؤشرات الأولية تشير إلى أن استخدام "في بي إن" قد لا يكون كافيا لحمياتك بالكامل من التهديدات التي يشكلها.
صحيح أن شبكات "في بي إن" توفر مستوى عاليا من الحماية للخصوصية عبر الإنترنت، كما أن العديد منها يتضمن ميزات إضافية لمكافحة التهديدات الرقمية، لكن المشكلة تكمن في أن هذه الشبكات لا تستطيع منع "ديب سيك" من جمع معلوماتك الشخصية إذا قمت بالتسجيل في الخدمة ومنحتها حق الوصول إلى بياناتك.
الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن كمية المعلومات التقنية التي يجمعها "ديب سيك"، بما في ذلك بيانات الجهاز، و ضغطات المفاتيح، ومعرفات الهواتف المحمولة تعني أنه حتى لو كنت تستخدم "في بي إن" لإخفاء عنوان "آي بي" (IP) الخاص بك، فقد تظل هناك طرق أخرى لتعقّبك وجمع بياناتك.
إعلانبالتالي، إذا كنت قد منحت "ديب سيك" إمكانية الوصول إلى معلوماتك عبر التسجيل، فإن "في بي إن" لن تكون ذات فاعلية كبيرة في حمايتك.
وإذا كنت قلقا بشأن بياناتك بعد التسجيل، فمن الأفضل مراجعة سياسة الخصوصية الخاصة بالخدمة والنظر في استخدام أدوات متخصصة مثل "إن كوجني" (Incogni)، التي تساعد في إزالة المعلومات الشخصية من وسطاء البيانات.
كما تجدر الإشارة إلى أن "إكسبرس في بي إن" (ExpressVPN)، أحد أفضل خدمات "في بي إن" (VPN) للمبتدئين، يوفر خدمة إزالة البيانات ضمن ميزة "ايدنتيتي ديفندر" (Identity Defender).
إذا لم يكن "في بي إن" (VPN) حلّا.. فهل "بيربلكستي" (Perplexity) هو البديل؟بعد الجدل الذي أُثير حول "ديب سيك"، بدأ العديد من المستخدمين في البحث عن بدائل أكثر أمانا، وكان من بين الأسماء التي برزت بقوة "بيربلكستي إيه آي" (Perplexity)، المعادل الأمريكي. لكن في الواقع، وبالنسبة للكثيرين، قد تكون الفروقات بين الخدمتين طفيفة.
تماما كما واجهات "تيك توك" سابقا اتهامات تتعلق بالأمن القومي، تتركز المخاوف حول "ديب سيك" في إمكانية استخدامه كأداة للتأثير على الدول بشكل غير مرغوب فيه. ومع ذلك، فإن المنطق نفسه يمكن تطبيقه في الاتجاه المعاكس.
فبينما تشعر الدول الغربية بالقلق من "ديب سيك"، قد يكون للدول الشرقية مخاوف مماثلة بشأن منصات غربية مثل "بيربلكستي".
في هذا السياق، لا يختلف "بيربلكستي" كثيرا عن "ديب سيك"، فكلاهما ينص في سياسة الخصوصية على أن بيانات المستخدمين تُشارَك مع مقدمي الخدمات، والأهم من ذلك، مع شركاء الإعلانات.
وهذا يعني أن بياناتك لن تبقى ضمن حدود منصة الذكاء الاصطناعي فحسب، بل ستنتقل إلى جهات غير معروفة، مما يعرضها لنفس مستوى الخطر بغض النظر عن المزود الذي تختاره.
ومع تزايد اختراق البيانات بوتيرة شبه أسبوعية، يصبح هذا القلق أكثر واقعية. فكما لا يزال "ديب سيك" يعاني من تبعات هجوم إلكتروني حديث، فمن غير المستبعد أن تواجه "بيربلكستي" أو أحد شركائها الإعلانيين خرقا مُشابها.
إعلانومن يدري أين يمكن أن تنتهي بياناتك؟ من السهل أن تختلط الأمور عندما يتعلق الأمر بالقلق حول وصول الحكومة العليا إلى المعلومات.
ومع ذلك فإن الواقع بالنسبة للكثيرين هو أن التأثير الأكثر وضوحا الناتج عن مشاركة البيانات في أماكن غير مرغوب فيها سيكون متساويا بغض النظر عن الخدمة التي تختارها.
بالنهاية، وبالرغم من أنه لم يظهر أي خطأ جسيم في "ديب سيك" حتى الآن، تبقى المسألة أكثر تعقيدا من مجرد عدم وقوع حادث. فنحن نعيش في عصر أصبحت فيه بياناتنا الشخصية أثمن من أي وقت مضى بالنسبة لعمالقة التكنولوجيا.
ولا يجب أن ننسى أنه في عالم الإنترنت، إذا كان شيء ما يبدو غير مكلف، فغالبا ما يكون الثمن الذي تدفعه هو شيء أثمن بكثير من المال، مثل خصوصيتك وبياناتك الشخصية.
فهل ستفكر مرتين قبل تثبيت هذا النموذج على جهازك، خاصة في ظل مخاطر تسرِيب بياناتك؟