سودان وادي النيل النموذج التنموي الممكن لمجتمعات غير منتجة ؟
تاريخ النشر: 22nd, September 2024 GMT
northernwindpasserby94@gmail.com
زرياب عوض الكريم
من أهم كتاب العالم الثالث الذين قدموا تحليلاً معمقاً لأزمة التنمية والتخلف التنموي من منظور تحليل سيسيولوجي حاول تعديه إلى تحليل ثقافي مركب (كتابه الأخير عن العنف والهوية (القومية)) - هو المفكر والأكاديمي الهندي في الجامعة البريطانية أمارتيا صن Amartya Sen.
في كتابه معضلة الملايو أيضاً 1967 تطرق مهاتير محمد إلى التحليل الثقافي لأزمة تخلف مجتمعات الملايو.
تلاه في سلسلة من الدراسات السيسيوإقتصادية المفكر اليساري الماليزي من جذور يمانية حسين العطاس المدرس بالجامعة البريطانية وعقبه إبنه فريد حسين العطاس الذي رغم عداؤه لحركة قومية الملايو وإنتماؤه السابق للحزب الشيوعي الصيني في ماليزيا أسهم في الإضافة إلى أطروحة مهاتير الإجتماعية في الستينيات عن كسل الملايو Native laziness في قائمة طويلة من المؤلفات والكتابات المؤثلة. (عن كسل الملايو. الفساد في العالم الثالث. المثقفين في الدول النامية الخ).
تلت تجربة مهاتير مع الكتابة عن معضلة الملايو ، المفكرة والأنثربولوجية الهندية (أوشا مهاجاني) usha mahajani المُدرس في الجامعة البريطانية في كتاباتها عن أزمة الجالية الهندية في بورما وماليزيا وعن ملابسات تشكل القومية الفلبينية (سياق دول الملايو أو الهند الصينية).
كل هذه الكتابات الفرعية والمتخصصة والكتابات من الباطن تصب في حقل مدرسة النقد الذاتي لأزمة الجنوب العالمي أو العالم الثالث بالتعبير السوفياتي المعروفة باسم مدرسة مابعد الإستعمار post colonialism.
مدرسة النقد الذاتي في أمريكا اللاتينية التي عرفت بإسم مدرسة التبعية dependcy school قدمت تحليل لأزمة التخلف التنموي في مجتمعات أمريكا اللاتينية من منظور إقتصاد سياسي أو منظور سياسي. بينما المدارس التنموية في الإتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية جمعت مابين المنظور السياسي (القومية الثقافية) والمنظور الإقتصادي التقني (البنيوي) institutional economics.
لكننا سنعتمد في مقاربتنا هذه متداخلة الحقول المعرفية تداولية السرد التي تندرج في خانة دراسات الإقتصاديات الإجتماعية والتضامنية ، على جهود المدرسة الهندية.. جهدي أوشا مهاجاني الفكري وأحد أميز خلفائها بحثياً - خريج الجامعة الإسبانية (الكاتالونية) في برشلونة والمدرس حالياً في الجامعة الماليزية الدكتور الشاب راجيش راماشندران (Rajesh Ramachandran) المتخصص في دراسات التمييز واللغويات السياسية والإقتصاد المؤسسي ، صاحب القائمة الطويلة من الاطروحات والكتابات - يمكن الإطلاع على جانب تلخيصي منها في كتابه الإستعراضي
( Essays on Education , Discrimination and Development).
**
مجتمعات وادي النيل المقصودة أو السودان التركو مصري 1898 بدون اللاندسكيب النيلوتشادي Nilo Sahran or - Nilo Chadian. هي مجتمعات البدويت الشمالية والجنوبية Badawiet بما فيها الحيز الأنثربولوجي للقومية الشمالية (مثلت البلويت في بربر مروي الدامر) .
مجتمعات تتصف بكل خصوصية القوميات الأفرو آسيوية cushtic nationalities وهم (31 إثنية مصنفة) منها الصوماليين البليين (الأجو Agew) العفر السيدامو الهدايا الساهو البورنجي (في حدود كينيا) إلخ حيث يمثل الاورومو إستثناء.
مجتمعات رعوية (رعائية) Pastoral. ضعيفة التنظيم السياسي مقابل تماسك ومرونة تنظيماتها السيسيوإقتصادية political and socio-economic organization ماعدا الإستثناء الصومالي.
قليلة العدد قليلة الخصوبة مقارنة بغيرها وبمحيطها من المجتمعات شرقا في القرن الإفريقي والهضبة الإثيوبية (إبسينيا) Abyssinia التي هي (مجتمعات نمط إنتاج آسيوي) ومجتمعات اللاندسكيب النيلوتشادي غرباً (مجتمعات نمط إنتاج إقطاعي).
مجتمعات مغلقة ومعزولة في دينامياتها الإجتماعية ، تتميز بالتناسق أو التطابق بين نمط الإنتاج السياسي (على المستوى الفوقي - الدولة) ونمط إنتاجها الإجتماعي (على المستوى التحتي - المجتمعات) ، عكس مجتمعات اللاندسكيب النيلوتشادي التي تتميز بالإزدواجية بين المستوى السياسي والاجتماعي في نمط الإنتاج.
خضعت هذه المجتمعات تأريخياً قبل صعود الإستيعاب الإسلامي والإقطاع الإسلامي في القرن السادس عشر 1505 ولم تعرف الإقطاع الإسلامي إلا لمدة ثلاثة قرون ، خضعت لنمط الإنتاج الآسيوي أو لهيمنة مجتمعات الإنتاج الآسيوي لأكثر من ألف سنة.
هناك دراسات مهمة عن السيدامو مثلاً كعينة نموذجية ، لخصائص هذه المجتمعات ثقافياً وسيسيولوجياً. أغلب تلك الدراسات إهتمت بدراسة الأسطورة والقيم (النظام القيمي) والتقاليد المقارنة.
دراسة التنظيم السياسي والسسيوإقتصادي لإثنيات البدويت الجنوبية والشمالية (لاندسكيب وادي النيل) بما فيها القومية الشمالية ، لديها أهمية مفتاحية في فهم معطيات التخلف التنموي Underdevelopment وأزمة تلك المجتمعات المعاقة ثقافياً وسياسياً.
الأكاديمي والمثقف الشمالي الوحيد الذي إهتم بهذا التخصص وحصل على إجازة من مدرسة الإقتصاد في جامعة لندن فيه ، هو الدكتور أحمد عباس ، احد خريجي جامعة الخرطوم وجامعة لندن لاحقاً والمدرس في جامعة إماراتية حالياً حسب مالدي من معلومات عنه ، احد ابناء جزيرة تنقاسي.
للدكتور أحمد عباس أطروحة وحيدة عام 1969 مهمة انثربولوجيا وفريدة على نهج الدراسات السيسيوإقتصادية بعنوان White Nile Arabs عن مجتمع عشيرة / إثنية الحسانية في مديرية شمال النيل الأبيض تنظيمها الإجتماعي والسياسي. ونشرت ضمن أعمال مدرسة الإقتصاد في الجامعة اللندنية.
(i)
ماهو النموذج التنموي الممكن لمجتمعات غير منتجة؟
-إستناداً إلى تقسيم عمل المجتمعات إلى مجتمعات منتجة العمل Productive غير منتجة العمل Unproductive تدميرية العمل Distructive.
فسنجد أن المجتمعات الشمالية التي تدور حول مركزية الإقطاع الإسلامي الثقافية Socio economic centrism of peripheral feudalisation الهامشية في القرن السادس عشر وميلاده الباكر ربما بقرن سابق. ومركزيته الفرعية (هوية إثنية الجعليين (الجعللة)) Gaal-ization.
هي مجتمعات إنتقلت من النسق التدميري أو كونها مجتمعات تدميرية (بدائية مشاعية) تعتمد الغارة والسلب والنهب كمصدر للحياة القلقة 1505 يعد إنفلاتها من سلطة دولة سوبا آسيوية النمط الإنتاجي إلى مجتمعات غير منتجة في سياق الإستعمار الذي نقلها من ممارسة التدميرية إلى وضعية إقطاعية مريحة تكتسب فيها بدون جهد كادح وحقيقي. إستناداً لوضعيتها السياسية 1820.
ماهوية النموذج التنموي الممكن لمجتمعات وادي النيل 1898 ؟
سنعتمد على تركة كارل ماركس حول (العمل المنتج وغير المنتج) unproductive labour forces بوصفه عمل سلعي يخلق فائض قيمة ، ونظرية حسين العطاس حول كسل الأهالي ، وأطروحة ريتشارد غرابوسكي Richard Grabowskiحول علاقة الدولة المحسوبية بالمجتمعات التي قسمها إلى علاقة منتجة وغير منتجة. أخيراً نظرية هنري هول Henry E. Hale (نظرية المحسوبية والسياسات المحسوبية في المجال الاوراسي) حول الدولة المحسوبية ودينامياته.
تتميز مجتمعات الشمال النيلي north nilotic في مصطلح أقل عمقاً ، مجتمعات وادي النيل ، مجتمعات البدويت الجنوبية والشمالية الخ ، لاحقاً مجتمعات القاعدة الإجتماعية لجغرافية السودان المفيد الميتربولية ، من خلال مخطط تبولوجي أو وصفي بأنها..
(1) مجتمعات كسولة (كسل الأهالي : حسين العطاس).
(2) نصف رعوية half pastoral لأنها تخلت عن تقاليدها الرعوية الأصلية .. بإعتمادها الإسترقاق ونمط الإنتاج غير المنزلي (primitive communist) في عملية الإنتاج الحيواني ضمن تحولات القرن السادس عشر 1505 نحو الإقطاع الإسلامي Feudalisation.
(3) معاقة ثقافياً وسيسيولوجياً (يشمل الإعاقة السياسية) Social disabilities.
(4) مجتمعات رعائية (بتحسب إصطلاحي زبونية) لا يمكنها أن تعيش أو تمارس ديناميات التنظيم السياسي والإجتماع السياسي political resource - خارج سقف علاقات سياسية محسوبية.
وتلك مسألة تحتاج إلى تتبع تاريخي أكثر لإثباتها لا تتسع له هذه السطور.
هذه المعادلة الرباعية تربط تلك المجتمعات وثيقاً بمفهوم وتجربة الدولة المحسوبية والنمط الزبوني الرعائي غير المنتج أمنياً وسياسياً وإقتصادياً patrimonal state - patronage type.
(ii)
مناقشة المفاهيم المركزية (الثيمات)
حددنا مرض مجتمعات وادي النيل 1898 و مكوناتها أو أكثرها هيمنة من تلك المجموعات في النقاط الثلاث (كسل الأهالي / توطين العمل والمهنة / والإعاقة الثقافية أو الإنسداد الذهني mental blockage).
- فهي مجتمعات تفتقد ثقافة الصبر والمصابرة (المثابرة) كدالة همجية savageness . وهي مجتمعات قلقة ومتمردة على الطبيعة وتفتقر ثقافة الخضوع للسنن (البيئية) المودعة في الطبيعة التي تعرفها مجتمعات الإنتاج الآسيوي والإقطاعي كدالة سيسيولوجية سلبية.
- وهي مجتمعات غير منفتحة ذهنياً open society theory عاجزة عن الإستيعاب والإندماج (مجتمعات عزلة) لا (مجتمعات إستجابة) Response theory.
- مجتمعات مزدوجة الوعي - مزدوجة وجدانياً (هومي بابا) لا تستجيب للصدمات ولا تعرف ثقافة الإكتساب والتعلم. لكن تتكيف معها دون أن تتغير.
- يكفي النظر للشعر الشعبي ومركزيته الفلكلورية folklorist centrism منذ القرن 17 الميلادي لفهم ذهنية هذه المجتمعات مزدوجة الوعي.
(iii)
تمثلات البديل الممكن لمجتمعات غير منتجة
1. معالجة كسل الأهالي native laziness من موائمة تقسيم العمل مع التكييف المناخي. فنفس المناخ الحار والإستوائي والمهن الشاقة كمهن (الكولي) Coole أو عمالة الشحن والتفريغ المعاصرة والمهن الغابية التي كان يعجز عنها الملايو. كان يقوم بها الصينيون والهنود.
- عليه يجب وقف تحويل سكان وادي النيل ومكوناته من بدويت الجنوب والشمال إلى القطاع والعمل الزراعي mechnical agrarianization والتركيز على إسترداد وتطوير مهاراتهم في الرعي والإنتاج الحيواني.
2. توطين الإقتصادات الإجتماعية التضامنية بالتوازي والتزاوج مع الإقتصاد السياسي التجميعي (الصناعي الزراعي) الكبير من خلال..
- توطين الإقتصاد المنزلي domestic economics أو الحيازات الصغيرة.
- توطين وتحديث المشاعة القروية rural commons والإقتصاد التعاوني cooperative economics.
- توطين الصناعات الصغيرة micro economics.
- تعزيز الإستقرار الإقتصادي والضمان المالي طويل الأمد لضمان إستمرارية هذه التحولات المطلوبة.
3. معالجة مسألة الإعاقة الثقافية والإجتماعية ، من خلال ..
- سياسة الإنفتاح الثقافي مع المجتمعات المجاورة تحديداً مصر والقرن الإفريقي ومع الدول التنموية وفك سياسة العزلة الثقافية والسياسية.
- توطين اللغات الأجنبية والتعددية الألسنية وديمقراطية (دمقرطة) التعليم بما في ذلك تأهيل النظامين التعليميين الديني Scribal والوضعي ونظام اللغة الأجنبية التعليمي واللغة المحلية.
- التبادل الثقافي الخارجي مع المحاور التنموية الآسيوية بما في ذلك تأهيل النخب الجديدة والطبقة الوسيطة الجديدة في الخارج.
- توطين منهج النمذجة الثقافية أو التأثير الثقافي الطوعي cultural Modeling بدلاً عن التقعير (إنعكاس المرآة) الثقافي cultural mirroring. بما في ذلك توطين ثقافة سياسية political culture مختلفة عن تلك السائدة حالياً.
- الإستيعاب المهني وتوطين الخبرة الأجنبية في التعليم والتدريب المهني labourization.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی الجامعة بما فی
إقرأ أيضاً:
معضلة التحرر في منطقة الشرق
على العكس من معظم المجتمعات التي استطاعت أن تُحرر نفسها من قيود الهيمنة الخارجية، وأن تبني لنفسها مكانا بين الأمم، تستمر معضلة التحرر في منطقة الشرق في إثارة تساؤلات لا تنتهي: لماذا لم تتمكن مجتمعات هذه المنطقة، رغم نضالها الطويل وتضحياتها الجسيمة على طريق الحرية، من تحقيق استقلال فعلي وسيادة حقيقية؟ ولماذا لا تزال عالقة في دوامة من الصراعات التي لا تنتهي والتي تجعلها غير قادرة على الإفلات من الهيمنة الخارجية؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة تتجاوز التفسيرات السطحية لتصل إلى عمق البناء الاجتماعي والسياسي لهذه المجتمعات، حيث يمكن القول إن ما نراه اليوم ليس نتيجة عامل واحد، أو ظرف طارئ بل حصيلة لتراكم استمر عقودا طويلة. وخلاصة هذه العوامل يمكن وصفها بجملة واحدة: "فشل معظم هذه المجتمعات في بناء هوية وطنية جامعة قادرة على تجاوز حالة الانقسام والتفكك".
جذور التفكك والانقسام
تعود جذور التفكك في مجتمعات الشرق إلى عوامل تاريخية وسياسية واجتماعية، أبرزها الإرث الاستعماري، حيث لم تكتف القوى الاستعمارية بترسيخ وجودها العسكري فحسب، بل عمدت إلى تقسيم المجتمعات على أسس لا تعكس الانتماءات الفعلية، مما خلق كيانات سياسية هشة غير قادرة على الاستقلال حتى بعد رحيل المستعمر.
تعود جذور التفكك في مجتمعات الشرق إلى عوامل تاريخية وسياسية واجتماعية، أبرزها الإرث الاستعماري، حيث لم تكتف القوى الاستعمارية بترسيخ وجودها العسكري فحسب، بل عمدت إلى تقسيم المجتمعات على أسس لا تعكس الانتماءات الفعلية، مما خلق كيانات سياسية هشة غير قادرة على الاستقلال حتى بعد رحيل المستعمر
وبعد رحيل المستعمر، ظنت تلك المجتمعات أنها تسير نحو الاستقلال، إلا أنها سرعان ما وجدت نفسها في مواجهة واقع مرير من الارتهان والتبيعة للخارج، ما عمق هذه الأزمة هو أن النخب الحاكمة الجديدة ورثت أنظمة حكم غير قادرة على تمثيل الإرادة الشعبية، وبدلا من بناء مؤسسات قوية قادرة على تحقيق السيادة، انشغلت تلك النخب بإدارة الأزمات الداخلية، ما أتاح للقوى الخارجية فرصة استغلال هذه التناقضات لتعزيز هيمنتها عبر دعم أطراف محلية ضد أخرى.
تحرر بلا هوية: معادلة مستحيلة
لا يمكن لأي مجتمع من المجتمعات أن يتحرر من الهيمنة الخارجية، وأن يحقق لنفسه استقلالا فعليا دون وجود هوية وطنية جامعة. وبدونها تظل الأطراف الداخلية في ذلك المجتمع مشغولة بصراعاتها التقليدية، مما يجعل أي محاولة للتحرر تصطدم بانقسامات داخلية تضعف الإرادة الجماعية، وتجعل من مشروع التحرر مجرد حلقات في سلسلة تلك الصراعات.
إن مشكلة هذا النوع من المجتمعات تكمن في عدم قدرتها على بناء إجماع داخلي حول هويتها ومصالحها الوطنية العليا. فحتى عندما يستقل المجتمع سياسيا، تظل التبعية قائمة، والذي يحدث هو تغيير في شكل التبعية، حيث تستبدل قوة خارجية بأخرى، أو يتم استبدال الهيمنة السياسية بشكل آخر من أشكال من الهيمنة، مثل الهيمنة الاقتصادية والثقافية. ويرجع ذلك إلى عدم قدرتها على إدارة شؤونها الداخلية بفعالية، مما يجعلها بحاجة دائمة إلى تدخل خارجي.
وبما أننا نتحدث هنا عن مجتمعات مفككة لم تتمكن من بناء هويتها الجماعية بعد، حيث لا تزال القبيلة والطائفة والإثنية هي الوحدة الأساسية للولاء، فإن التحدي الأكبر الذي يواجه المجتمع هنا ليس إنهاء تبعيته للآخر، بل في قدرته على بناء هوية جماعية تتجاوز قادرة على تحديده كعدو، ومن ثم توجيه الإرادة الجماعية لمواجهته.
أزمة تحديد العدو: من هو الخصم؟
في المجتمعات المتماسكة، يتم تحديد العدو على أساس شعور جماعي بالهوية، حيث يصبح الآخر هو التهديد المشترك الذي يجب مواجهته، سواء كان داخليا أم خارجيا. لكن في المجتمعات المفككة، حيث الولاءات متنوعة ومتعددة، كما هو الحال في منطقة الشرق، لا يجد الناس أنفسهم قادرين على الاتفاق على من هو العدو، ولا على كيفية مواجهته.
في هذه الحالة، تصبح مسألة تحديد العدو في جوهرها أزمة هوية، مما يجعل من المستحيل تقريبا إرساء أساس مشترك لمواجهة أي تهديد داخلي أو خارجي. فبينما قد ترى إحدى الجماعات أن جارتها هي العدو، ترى جماعة أخرى في الدولة المركزية أو القوى الخارجية تهديدا أكبر.
وعليه، فإن مسألة تحديد العدو تغدو أمرا معقدا، وتصبح التبعية للأيديولوجيات الخارجية مسألة طبيعية. فبما أن الفرد لا يملك هوية وطنية واحدة، يصبح أسيرا لهويات متعددة تُشكل رؤيته للآخر. ولهذا، فإن أي دعوة للتحرر تواجه مقاومة أو عدم استجابة.
في سياقات مجتمعية معقدة، كتلك التي تعيشها منطقة الشرق، يعد القفز بين المراحل في بناء الهوية الوطنية الجامعة خطرا استراتيجيا عميقا يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية. المشكلة تكمن في أن التسريع غير المدروس للانتقال من مرحلة إلى أخرى يجعل الهوية الوطنية هشة، ذلك لأن الأسس التي تقوم عليها غير مكتملة بعد
ووفقا لكارل شميت، فإن الشعوب التي تمتلك هوية وطنية قوية تكون قادرة على توجيه صراعها ضد عدو خارجي واضح، بينما الشعوب المفككة تظل مشغولة بصراعات داخلية تمنعها من تشكيل إرادة موحدة لتحديده، فضلا عن مواجهته.
في حالات مثل اليمن، والسودان، ولبنان، على سبيل المثال، لم يستطع المجتمع حتى الآن التوافق على عدو واحد، حيث تنقسم الولاءات بين تيارات مختلفة موالية لقوى خارجية متصارعة، ما جعل البلاد ساحة لصراعات إقليمية حالت دون تحقيق أي تحرر حقيقي.
القفز بين المراحل
في سياقات مجتمعية معقدة، كتلك التي تعيشها منطقة الشرق، يعد القفز بين المراحل في بناء الهوية الوطنية الجامعة خطرا استراتيجيا عميقا يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية. المشكلة تكمن في أن التسريع غير المدروس للانتقال من مرحلة إلى أخرى يجعل الهوية الوطنية هشة، ذلك لأن الأسس التي تقوم عليها غير مكتملة بعد.
على المستوى القُطري، وجدت بعض هذه المجتمعات نفسها تعتمد على إسقاط مفاهيم مثل الدولة الوطنية على واقع لم يهيأ لذلك بعد. هذا الانتقال غير المدروس خلق نموذجا سياسيا مشوها، حيث ظهرت دول تحمل أسماء وطنية لكنها تحكم بمنطق الولاءات التقليدية، ما جعلها عرضة للانهيار عند أول اختبار سياسي أمني. وعلى المستوى القومي، وجدت مجتمعات أخرى نفسها ضمن سياقات لا تعبر عنها، ما عرقل كل محاولات التحرر. وعليه، أصبح الحديث عن التحرر بلا معنى، لأن الدولة نفسها، على المستويين، لم تكتمل بعد ككيان قادر على فرض سيادته داخليا قبل أن يطالب بها خارجيا.
إن الهوية الوطنية لا يمكن فرضها بالقوة أو تحقيقها بقرارات فوقية، بل تتشكل من خلال مراحل تدريجية يتم فيها ترسيخ القيم المشتركة، ويعاد فيها تعريف الانتماء بطريقة مقبولة لدى جميع الفئات؛ لأن الأفراد لا يتخلون عن هوياتهم الفرعية لصالح الهوية الوطنية إلا عندما يجدون فيها ضمانا لمصالحهم الاقتصادية والأمنية والسياسية. لذلك، ينبغي تبني نهج أكثر واقعية من خلال إعادة بنائها على أسس اجتماعية وسياسية صلبة، تتجاوز الانقسامات، وتضع مصلحة الجميع فوق أي مصالح فئوية.
خاتمة
إن معضلة التحرر في منطقة الشرق ليست مجرد مشكلة استعمار أو هيمنة خارجية، بل هي أزمة داخلية تتعلق بفشل المجتمعات في بناء هوية وطنية جامعة. وما لم يتم تجاوز هذه الأزمة، ستظل محاولات التحرر مجرد إعادة إنتاج للتبعية بأشكال جديدة، وسيبقى الشرق عالقا في دوامة الصراعات والضعف الداخلي.