northernwindpasserby94@gmail.com

زرياب عوض الكريم

من أهم كتاب العالم الثالث الذين قدموا تحليلاً معمقاً لأزمة التنمية والتخلف التنموي من منظور تحليل سيسيولوجي حاول تعديه إلى تحليل ثقافي مركب (كتابه الأخير عن العنف والهوية (القومية)) - هو المفكر والأكاديمي الهندي في الجامعة البريطانية أمارتيا صن Amartya Sen.



في كتابه معضلة الملايو أيضاً 1967 تطرق مهاتير محمد إلى التحليل الثقافي لأزمة تخلف مجتمعات الملايو.

تلاه في سلسلة من الدراسات السيسيوإقتصادية المفكر اليساري الماليزي من جذور يمانية حسين العطاس المدرس بالجامعة البريطانية وعقبه إبنه فريد حسين العطاس الذي رغم عداؤه لحركة قومية الملايو وإنتماؤه السابق للحزب الشيوعي الصيني في ماليزيا أسهم في الإضافة إلى أطروحة مهاتير الإجتماعية في الستينيات عن كسل الملايو Native laziness في قائمة طويلة من المؤلفات والكتابات المؤثلة. (عن كسل الملايو. الفساد في العالم الثالث. المثقفين في الدول النامية الخ).

تلت تجربة مهاتير مع الكتابة عن معضلة الملايو ، المفكرة والأنثربولوجية الهندية (أوشا مهاجاني) usha mahajani المُدرس في الجامعة البريطانية في كتاباتها عن أزمة الجالية الهندية في بورما وماليزيا وعن ملابسات تشكل القومية الفلبينية (سياق دول الملايو أو الهند الصينية).

كل هذه الكتابات الفرعية والمتخصصة والكتابات من الباطن تصب في حقل مدرسة النقد الذاتي لأزمة الجنوب العالمي أو العالم الثالث بالتعبير السوفياتي المعروفة باسم مدرسة مابعد الإستعمار post colonialism.

مدرسة النقد الذاتي في أمريكا اللاتينية التي عرفت بإسم مدرسة التبعية dependcy school قدمت تحليل لأزمة التخلف التنموي في مجتمعات أمريكا اللاتينية من منظور إقتصاد سياسي أو منظور سياسي. بينما المدارس التنموية في الإتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية جمعت مابين المنظور السياسي (القومية الثقافية) والمنظور الإقتصادي التقني (البنيوي) institutional economics.

لكننا سنعتمد في مقاربتنا هذه متداخلة الحقول المعرفية تداولية السرد التي تندرج في خانة دراسات الإقتصاديات الإجتماعية والتضامنية ، على جهود المدرسة الهندية.. جهدي أوشا مهاجاني الفكري وأحد أميز خلفائها بحثياً - خريج الجامعة الإسبانية (الكاتالونية) في برشلونة والمدرس حالياً في الجامعة الماليزية الدكتور الشاب راجيش راماشندران (Rajesh Ramachandran) المتخصص في دراسات التمييز واللغويات السياسية والإقتصاد المؤسسي ، صاحب القائمة الطويلة من الاطروحات والكتابات - يمكن الإطلاع على جانب تلخيصي منها في كتابه الإستعراضي
( Essays on Education , Discrimination and Development).

**

مجتمعات وادي النيل المقصودة أو السودان التركو مصري 1898 بدون اللاندسكيب النيلوتشادي Nilo Sahran or - Nilo Chadian. هي مجتمعات البدويت الشمالية والجنوبية Badawiet بما فيها الحيز الأنثربولوجي للقومية الشمالية (مثلت البلويت في بربر مروي الدامر) .

مجتمعات تتصف بكل خصوصية القوميات الأفرو آسيوية cushtic nationalities وهم (31 إثنية مصنفة) منها الصوماليين البليين (الأجو Agew) العفر السيدامو الهدايا الساهو البورنجي (في حدود كينيا) إلخ حيث يمثل الاورومو إستثناء.

مجتمعات رعوية (رعائية) Pastoral. ضعيفة التنظيم السياسي مقابل تماسك ومرونة تنظيماتها السيسيوإقتصادية political and socio-economic organization ماعدا الإستثناء الصومالي.

قليلة العدد قليلة الخصوبة مقارنة بغيرها وبمحيطها من المجتمعات شرقا في القرن الإفريقي والهضبة الإثيوبية (إبسينيا) Abyssinia التي هي (مجتمعات نمط إنتاج آسيوي) ومجتمعات اللاندسكيب النيلوتشادي غرباً (مجتمعات نمط إنتاج إقطاعي).

مجتمعات مغلقة ومعزولة في دينامياتها الإجتماعية ، تتميز بالتناسق أو التطابق بين نمط الإنتاج السياسي (على المستوى الفوقي - الدولة) ونمط إنتاجها الإجتماعي (على المستوى التحتي - المجتمعات) ، عكس مجتمعات اللاندسكيب النيلوتشادي التي تتميز بالإزدواجية بين المستوى السياسي والاجتماعي في نمط الإنتاج.

خضعت هذه المجتمعات تأريخياً قبل صعود الإستيعاب الإسلامي والإقطاع الإسلامي في القرن السادس عشر 1505 ولم تعرف الإقطاع الإسلامي إلا لمدة ثلاثة قرون ، خضعت لنمط الإنتاج الآسيوي أو لهيمنة مجتمعات الإنتاج الآسيوي لأكثر من ألف سنة.

هناك دراسات مهمة عن السيدامو مثلاً كعينة نموذجية ، لخصائص هذه المجتمعات ثقافياً وسيسيولوجياً. أغلب تلك الدراسات إهتمت بدراسة الأسطورة والقيم (النظام القيمي) والتقاليد المقارنة.

دراسة التنظيم السياسي والسسيوإقتصادي لإثنيات البدويت الجنوبية والشمالية (لاندسكيب وادي النيل) بما فيها القومية الشمالية ، لديها أهمية مفتاحية في فهم معطيات التخلف التنموي Underdevelopment وأزمة تلك المجتمعات المعاقة ثقافياً وسياسياً.

الأكاديمي والمثقف الشمالي الوحيد الذي إهتم بهذا التخصص وحصل على إجازة من مدرسة الإقتصاد في جامعة لندن فيه ، هو الدكتور أحمد عباس ، احد خريجي جامعة الخرطوم وجامعة لندن لاحقاً والمدرس في جامعة إماراتية حالياً حسب مالدي من معلومات عنه ، احد ابناء جزيرة تنقاسي.

للدكتور أحمد عباس أطروحة وحيدة عام 1969 مهمة انثربولوجيا وفريدة على نهج الدراسات السيسيوإقتصادية بعنوان White Nile Arabs عن مجتمع عشيرة / إثنية الحسانية في مديرية شمال النيل الأبيض تنظيمها الإجتماعي والسياسي. ونشرت ضمن أعمال مدرسة الإقتصاد في الجامعة اللندنية.

(i)

ماهو النموذج التنموي الممكن لمجتمعات غير منتجة؟

-إستناداً إلى تقسيم عمل المجتمعات إلى مجتمعات منتجة العمل Productive غير منتجة العمل Unproductive تدميرية العمل Distructive.

فسنجد أن المجتمعات الشمالية التي تدور حول مركزية الإقطاع الإسلامي الثقافية Socio economic centrism of peripheral feudalisation الهامشية في القرن السادس عشر وميلاده الباكر ربما بقرن سابق. ومركزيته الفرعية (هوية إثنية الجعليين (الجعللة)) Gaal-ization.

هي مجتمعات إنتقلت من النسق التدميري أو كونها مجتمعات تدميرية (بدائية مشاعية) تعتمد الغارة والسلب والنهب كمصدر للحياة القلقة 1505 يعد إنفلاتها من سلطة دولة سوبا آسيوية النمط الإنتاجي إلى مجتمعات غير منتجة في سياق الإستعمار الذي نقلها من ممارسة التدميرية إلى وضعية إقطاعية مريحة تكتسب فيها بدون جهد كادح وحقيقي. إستناداً لوضعيتها السياسية 1820.

ماهوية النموذج التنموي الممكن لمجتمعات وادي النيل 1898 ؟

سنعتمد على تركة كارل ماركس حول (العمل المنتج وغير المنتج) unproductive labour forces بوصفه عمل سلعي يخلق فائض قيمة ، ونظرية حسين العطاس حول كسل الأهالي ، وأطروحة ريتشارد غرابوسكي Richard Grabowskiحول علاقة الدولة المحسوبية بالمجتمعات التي قسمها إلى علاقة منتجة وغير منتجة. أخيراً نظرية هنري هول Henry E. Hale (نظرية المحسوبية والسياسات المحسوبية في المجال الاوراسي) حول الدولة المحسوبية ودينامياته.

تتميز مجتمعات الشمال النيلي north nilotic في مصطلح أقل عمقاً ، مجتمعات وادي النيل ، مجتمعات البدويت الجنوبية والشمالية الخ ، لاحقاً مجتمعات القاعدة الإجتماعية لجغرافية السودان المفيد الميتربولية ، من خلال مخطط تبولوجي أو وصفي بأنها..

(1) مجتمعات كسولة (كسل الأهالي : حسين العطاس).

(2) نصف رعوية half pastoral لأنها تخلت عن تقاليدها الرعوية الأصلية .. بإعتمادها الإسترقاق ونمط الإنتاج غير المنزلي (primitive communist) في عملية الإنتاج الحيواني ضمن تحولات القرن السادس عشر 1505 نحو الإقطاع الإسلامي Feudalisation.

(3) معاقة ثقافياً وسيسيولوجياً (يشمل الإعاقة السياسية) Social disabilities.

(4) مجتمعات رعائية (بتحسب إصطلاحي زبونية) لا يمكنها أن تعيش أو تمارس ديناميات التنظيم السياسي والإجتماع السياسي political resource - خارج سقف علاقات سياسية محسوبية.

وتلك مسألة تحتاج إلى تتبع تاريخي أكثر لإثباتها لا تتسع له هذه السطور.

هذه المعادلة الرباعية تربط تلك المجتمعات وثيقاً بمفهوم وتجربة الدولة المحسوبية والنمط الزبوني الرعائي غير المنتج أمنياً وسياسياً وإقتصادياً patrimonal state - patronage type.

(ii)
مناقشة المفاهيم المركزية (الثيمات)

حددنا مرض مجتمعات وادي النيل 1898 و مكوناتها أو أكثرها هيمنة من تلك المجموعات في النقاط الثلاث (كسل الأهالي / توطين العمل والمهنة / والإعاقة الثقافية أو الإنسداد الذهني mental blockage).

- فهي مجتمعات تفتقد ثقافة الصبر والمصابرة (المثابرة) كدالة همجية savageness . وهي مجتمعات قلقة ومتمردة على الطبيعة وتفتقر ثقافة الخضوع للسنن (البيئية) المودعة في الطبيعة التي تعرفها مجتمعات الإنتاج الآسيوي والإقطاعي كدالة سيسيولوجية سلبية.

- وهي مجتمعات غير منفتحة ذهنياً open society theory عاجزة عن الإستيعاب والإندماج (مجتمعات عزلة) لا (مجتمعات إستجابة) Response theory.

- مجتمعات مزدوجة الوعي - مزدوجة وجدانياً (هومي بابا) لا تستجيب للصدمات ولا تعرف ثقافة الإكتساب والتعلم. لكن تتكيف معها دون أن تتغير.

- يكفي النظر للشعر الشعبي ومركزيته الفلكلورية folklorist centrism منذ القرن 17 الميلادي لفهم ذهنية هذه المجتمعات مزدوجة الوعي.

(iii)

تمثلات البديل الممكن لمجتمعات غير منتجة

1. معالجة كسل الأهالي native laziness من موائمة تقسيم العمل مع التكييف المناخي. فنفس المناخ الحار والإستوائي والمهن الشاقة كمهن (الكولي) Coole أو عمالة الشحن والتفريغ المعاصرة والمهن الغابية التي كان يعجز عنها الملايو. كان يقوم بها الصينيون والهنود.

- عليه يجب وقف تحويل سكان وادي النيل ومكوناته من بدويت الجنوب والشمال إلى القطاع والعمل الزراعي mechnical agrarianization والتركيز على إسترداد وتطوير مهاراتهم في الرعي والإنتاج الحيواني.

2. توطين الإقتصادات الإجتماعية التضامنية بالتوازي والتزاوج مع الإقتصاد السياسي التجميعي (الصناعي الزراعي) الكبير من خلال..

- توطين الإقتصاد المنزلي domestic economics أو الحيازات الصغيرة.

- توطين وتحديث المشاعة القروية rural commons والإقتصاد التعاوني cooperative economics.

- توطين الصناعات الصغيرة micro economics.

- تعزيز الإستقرار الإقتصادي والضمان المالي طويل الأمد لضمان إستمرارية هذه التحولات المطلوبة.

 

3. معالجة مسألة الإعاقة الثقافية والإجتماعية ، من خلال ..

- سياسة الإنفتاح الثقافي مع المجتمعات المجاورة تحديداً مصر والقرن الإفريقي ومع الدول التنموية وفك سياسة العزلة الثقافية والسياسية.

- توطين اللغات الأجنبية والتعددية الألسنية وديمقراطية (دمقرطة) التعليم بما في ذلك تأهيل النظامين التعليميين الديني Scribal والوضعي ونظام اللغة الأجنبية التعليمي واللغة المحلية.

- التبادل الثقافي الخارجي مع المحاور التنموية الآسيوية بما في ذلك تأهيل النخب الجديدة والطبقة الوسيطة الجديدة في الخارج.

- توطين منهج النمذجة الثقافية أو التأثير الثقافي الطوعي cultural Modeling بدلاً عن التقعير (إنعكاس المرآة) الثقافي cultural mirroring. بما في ذلك توطين ثقافة سياسية political culture مختلفة عن تلك السائدة حالياً.

- الإستيعاب المهني وتوطين الخبرة الأجنبية في التعليم والتدريب المهني labourization.

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: فی الجامعة بما فی

إقرأ أيضاً:

فخّ الهويّات.. حسن أوريد يحذّر من تحول الهويات لسلاح إقصاء مجتمعي

صدر حديثًا كتاب "فخّ الهويّات" للكاتب والمفكر المغربي حسن أوريد، الذي يُسلّط الضوء فيه على المخاطر الكامنة خلف تصاعد خطاب الهوية، عندما يتحوّل من دعوة للاعتراف إلى وسيلة لإقصاء الآخر، ثم استعدائه وشيطنته، مما يؤدي إلى ردود فعل مضادة وهويات متقابلة، قد تنتهي بما يصفه الكاتب بـ"أنكر الداء": انفراط العقد الاجتماعي.

في 200 صفحة، يتناول الدكتور أوريد هذه الإشكالية المعقدة التي باتت تفرض نفسها في العالم العربي والغربي على حد سواء. يرى أن خطاب الهوية، الذي ظهر بقوة بعد تراجع السردية الشيوعية، حلّ محل مفاهيم الطبقة، وأخذت الثقافة مكان الاقتصاد، ليولد بذلك "طلب هويّاتي" يعبّر عن رغبة دفينة في الاعتراف. لكن هذا الطلب سرعان ما انحرف عن مساره، فتحوّل إلى عامل تهديد مباشر لأسس التعايش، ولتماسك الدولة والمجتمع.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"حساب" بيتر باينارت.. سؤال الهوية اليهودية عقب إبادة غزةlist 2 of 2غرام بعض الناس باليمين والفاشية يفسره علم النفسend of list

يؤكد أوريد أن الحل يكمن في تحديد الإطار السليم الذي يمكن للهويات أن تنشط فيه، دون أن تمسّ بالعيش المشترك. ويشدّد على أن المواطنة هي الحصن والملاذ، وأن "على القانون الأسمى أن يكون حضن المواطنة وحصنها"، باعتبارها الرابط الجامع الوحيد في المجتمعات الحديثة.

الكتاب يتوغّل في أسئلة مركزية تلامس الواقع اليومي والراهن السياسي: كيف نوفّق بين مطلب الهوية ومتطلبات المواطنة؟ كيف أن نزاوج بين الخصوصية والعالمية؟ وهل يمكن تحقيق عدالة رمزية لا تزدري أي مكون اجتماعي؟ ويتناول أوريد احتدام خطابات الهوية في الغرب، خاصة في علاقات التوتر بين "الأصليين" والمهاجرين، وخصوصًا المسلمين منهم، حيث تغدو قضايا الهوية مظهرًا مرئيًا لأزمات أعمق وأكثر تعقيدًا.

إعلان

فخّ الهويّات هو محاولة فكرية لفهم خطاب الهوية، في مشروعيته وانحرافاته، في العالم العربي والغربي على حد سواء. ويتناول قضايا ذات بعد كوني مثل الإسلاموفوبيا، وعودة النزعات العرقية، والمجتمعات الأرخبيليّة، وفكرة "الاستبدال الكبير"، بالإضافة إلى خطاب ما بعد الاستعمار، والعدو الحميم، وكبش الفداء الضروريّ.

وللحديث عن الكتاب الغني بأسئلته وهواجسه الإنسانية في زمن تتنازع فيه الهويات وتتشظى المجتمعات، تحدثنا مع المؤلف وكان هذا الحوار القصير:

كيف يمكن لمفهوم المواطنة أن يشكل إطارا فعالا لتحقيق العيش المشترك في ظل تنوع الهويات؟

الإشكال لا يكمن في الهوية بحد ذاتها، بل في الكيفية التي نتعامل بها معها، إذ يفترض أن تكون الهوية استجابة لمطلب الاعتراف، سواء لجماعة أو فئة أو أقلية، على أن تقوم في الوقت نفسه على احترام الكرامة الإنسانية.

غير أن المشكلة تظهر عندما تتحول الهوية إلى أداة لاستعداء الآخر، فتهدد بذلك أسس العيش المشترك. ومن هنا، لا يكفي البحث عن التوفيق بين الهوية والعيش المشترك، بل يجب تجاوز هذا الإشكال نحو تصور أوسع.

فالعيش المشترك، في غياب إطار ناظم، يظل مجرد أمان أو مشاهدات سطحية لا تفضي إلى حلول.

والإطار القادر فعلا على احتضان الهوية وتحقيق العيش المشترك هو مفهوم المواطنة، إذ يشكل أساسا عمليا لترسيخ القبول بالآخر وتنظيم التنوع ضمن عقد جامع، بينما التوقف عند مجرد شعار "العيش المشترك" دون آليات واضحة لا يفضي إلى نتائج ملموسة.

ما هي حدود خطابات الهوية التي يجب عدم تجاوزها حتى لا تؤدي إلى الانغلاق والتشظي داخل المجتمعات؟

لا يمكن إنكار أن الهويات أصبحت واقعا لا يمكن القفز عليه. ومع ذلك، يجب أن نعترف، انطلاقا من تجارب متعددة ومآلاتها سواء في الغرب أو خارجه، أن خطابات الهوية قد بلغت مرحلة المأزق.

إعلان

فإذا تأملنا، على سبيل المثال، تجربة التنوع الثقافي التي كانت كندا من أوائل من تبناها، ولاحقا أصبحت نموذجا يحتذى به في بعض الدول الغربية، سنلاحظ أن هذا التنوع، رغم محاولات التلطيف بما يعرف هناك بـ"الالتآم المعقول" أو بالأدق "التكيف المعقول"، أدى في المحصلة إلى نوع من الطائفية والانغلاق.

الشيء نفسه نلاحظه في الغرب بشكل أوسع، حيث آل مشروع التنوع الثقافي إلى الانكفاء داخل الهويات والانغلاق عليها بدل الانفتاح والتفاعل. ونجد مثالا آخر في الولايات المتحدة، فيما يعرف بـ"التوليفة الهوياتية"، والتي برزت بداية في سياق نضالات الحركات السوداء، كأداة لتجاوز إشكالات القوانين التي لم تكن كافية لتغيير واقع التمييز.

لكن هذه التوليفة، رغم نواياها، أفضت إلى ردود فعل مضادة، وأسهمت في تشظي الهوية الجماعية، بل وأحيانا في إعادة إنتاج التهميش داخل فئات المحرومين أنفسهم.

وبالتالي، يمكن القول إنه سواء في الغرب أو خارجه، فإن الأدوات التي طرحت سابقا لإدارة التنوع وضبط الهويات قد وصلت إلى طريق مسدود، وأسهمت -عن قصد أو غير قصد- في تكريس الوضع القائم بدل تغييره.

لماذا تُعد تداعيات الحركات الهوياتية في العالم العربي أكثر خطورة مقارنة بنظيراتها في الغرب؟

فإن قضايا الهوية قد طرحت وما زالت تطرح، لكن طبيعتها تختلف بشكل واضح عن نظيرتها في الغرب. ففي حين أن خطابات الهوية في السياق الغربي قد تؤدي، في أقصى حالاتها، إلى توترات أو نزعات انفصالية -كما يطلق عليها في فرنسا مثلا مصطلح "الانفصالية"- فإن الأمر في العالم العربي يحمل طابعا أكثر تعقيدا وخطورة.

فهنا، انقسام الهويات لا يقتصر على التوتر السياسي أو الثقافي، بل قد يهدد مباشرة العقد الاجتماعي الذي تقوم عليه الدولة والمجتمع.

وقد شهدنا في حالات متعددة أن جماعات تستند إلى هوية خاصة -سواء كانت عقائدية أو لغوية- لجأت إلى التسلح، وتحولت إلى مليشيات وقوى مسلحة باتت تهدد كيان الدولة ذاته، وتمس بشكل مباشر تماسك المجتمعات.

إعلان

ومن هنا، فإن الحركات الهوياتية في العالم العربي، حينما تنفلت من الضوابط وتتخذ منحى انفصاليا أو صداميا، تكتسب طابعا أكثر خطورة من نظيراتها في الغرب، إذ يمكن أن تنزلق بالأوضاع إلى احتراب أهلي ومواجهات تهدد الاستقرار والوجود الوطني برمته.

كيف يسهم هذا الكتاب في فتح حوار مشترك حول قضايا الهوية بين المجتمعات الغربية والعربية، وما الذي يميزه عن غيره من الكتب في هذا السياق؟

يمكن القول إنني، في مجمل ما أكتبه، أنطلق من فكرة أساسية مفادها أن القضايا المطروحة في الغرب تتقاطع وتتداخل بدرجات مختلفة مع تلك التي تطرح في مجتمعاتنا.

ولذا، فإن فهمنا العميق لقضايانا يتطلب النظر إلى الغرب وتحليل ما يدور فيه، كما يمكن للغرب، في المقابل، أن يدرك أبعادا من إشكالاته الخاصة من خلال دراسة مجتمعاتنا.

فقضايا مثل الهوية، على الرغم من اعتبارها أحيانا قضايا عرضية أو "عابرة"، هي في الواقع ذات طبيعة متشابكة ومعقدة، ومن بين هذه القضايا نذكر الإسلاموفوبيا والهجرة، اللتين تنظر إليهما من زوايا مختلفة، لكنهما تؤثران بعمق في مجتمعاتنا كما تؤثران في المجتمعات الغربية.

وقد شكل هذا الكتاب فرصة مناسبة للتوقف عند واقع الأقليات المسلمة في الغرب، حيث تطرح قضية الهوية هناك بشكل حاد ومختلف، وغالبا ما ينظر إليها كسبب في الإشكالات، في حين أنها في الواقع نتيجة لسياقات سياسية وثقافية معقدة.

وعلى كل حال، آمل أن يشكل هذا الكتاب فرصة حقيقية لفتح باب الحوار، فهو لا يمثل نهاية أو خلاصة نهائية، بل هو مجرد بداية لنقاش عميق ومستفيض. الغاية منه ليست فرض أجوبة، بل تحفيز التفكير الجماعي بما يمكن أن يشكل قواسم مشتركة تجمعنا، بدل الاستغراق في ما يفرقنا.

مقالات مشابهة

  • وحدة صنعاء.. النموذج الفريد والمبهر
  • غوارديولا عن موسم السيتي: لم يكن موسما جيدا لكن كان من الممكن أن يكون أسوأ
  • في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن
  • نائب رئيس مجلس الوزراء البحريني يشيد بالمسار التنموي المصري
  • السوداني: العراق يتجه الى توطين الصناعات الدوائية
  • الأراضي البعلية تحوّل صحارى الشمالية إلى حقول منتجة
  • ليانغ سوو لي: منفعة متبادلة بين الشركات الصينية والعربية في إطار النمط التنموي الجديد
  • أوبن أيه آي.. إطلاق أول نموذج لغوي مفتوح يشعل السباق في عالم الذكاء الاصطناعي
  • رئيس جامعة حلوان: لا يتحقق أي بناء لمجتمعات مستدامة بدون تمكين المرأة
  • فخّ الهويّات.. حسن أوريد يحذّر من تحول الهويات لسلاح إقصاء مجتمعي