عن أيام لبنان السوداء و"الشماتة" وأمور أخرى
تاريخ النشر: 22nd, September 2024 GMT
ترتفع اليوم أصوات لبنانيّة، كانت أكثر خوفاً وتردداً، مطالبةً حزب الله بالتوقّف عن مواصلة الحرب، وبالكفّ عن تعريض المدنيّين لموت مجانيّ. ذاك أن الذرائع كلها تساقطت، ونظريّة "الحزب يحمي لبنان" صار من بالغ الصعوبة الدفاع عنها، حتّى أنّ "لبنان"، بكلّ ما هو عليه من ضعف وإضعاف، بات يملك من القدرة على "حماية الحزب" ما يفوق قدرة الحزب على "حماية" لبنان.
فليس من معجزات في الأفق، وهناك توازنات قوى قد لا تعجبنا لكنْ لا بد من التسليم بها، وبأن أحداً لن يهبط من السماء لتعديلها. والحال أن إسرائيل تتصرّف تصرف وحش هائج لا يثنيه أي اعتبار عن ارتكاب المجازر، والتقديرات كلّها تتحدّث عن تصعيد كبير على الجبهة اللبنانية الإسرائيليّة، وهذا فيما بات واضحاً تماماً أن الرد العسكريّ الممكن لا يستطيع وقف ذلك، تماماً كما لا يستطيع وقفه الضغط السياسيّ والدبلوماسيّ، لا في غزّة ولا في لبنان الذي فقد كلّ أوراقه في هذا الميدان. أمّا الماضون في تحميس حزب الله، وحماس، وفي إدانة كلّ دعوة إلى التوقّف عن مواصلة القتال، فلا يفعلون غير التسبّب بمزيد من الدم والضحايا والمضيّ على الطريق التي أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه.
لقد احتلّ تعبير "الشماتة" موقعاً معتبراً في شبكة المشاعر التي أثارتها الأيّام السوداء الأخيرة المستمرّة. والشماتة، دون أدنى شكّ، شعور مريض، خصوصاً حين تطال مدنيّين صدف أنّهم كانوا هناك على مقربة من هذا التفجير أو ذاك. لكن ألسنا جميعاً مرضى بنتيجة هذا الوضع المزمن من تفشّي الكراهية، والحقد في ما بين "الأخوة"، وهو ما فاقمته كثيراً حرب لم تسند غزّة بل صدعت لبنان؟ وهل يمكن، لغير الملائكة، وهم قلّة، والمُداهنين، وهم كثرة، أن يستجيبوا لدعوات التضامن مع حزب الله، غاضّين النظر عن أنّه ساقهم إلى حرب كهذه غصباً عنهم، ولم يكن ذلك للمرّة الأولى، وهذا مع العلم أنهم عارضوا دائماً حروبه ووقفوا ضدّها، واعتبروها أكثر ما يعطّل قيام دولتهم وما يمنع إصلاح سياستهم واجتماعهم. وقد حصل ذلك بعد تاريخ لم يعد قصيراً من العنف والاغتيال اللذين طالا لبنانيين وسوريين كثيرين جداً، ناهيك عن أفعال التشهير والتخوين وسواهما؟
واليوم، في ظل تحريم كلّ مراجعة وكل اعتراف، ما الذي يمكن قوله لرافض الحرب بوصفها حرباً إيرانية إسرائيليّة حين يعلم أنّ السفير الإيراني في بيروت يحمل "البايجر" الذي يحمله الكادر العسكريّ في حزب الله؟ وهل يُفترض باللبناني "الوطني والشريف" أن يتحمس لموته في حرب إيرانية إسرائيلية؟ وما الذي يقال لأهل الضحايا منذ 14 شباط (فبراير) 2005 حتى تفجير مرفأ بيروت وما تلاه، ممن طُمس التحقيق في جرائم موتهم، حين يعلن زعيم حزب الله أنّ التحقيقات بصدد ضحايا وسائل الاتّصال على وشك أن تنتهي؟ وماذا يقال للسوري الذي لا يقرأ سيرة قائد عسكري من الحزب إلا ويكتشف أنه شرب دم أخيه السوريّ؟ وهل يكفي لرأب هذه الصدوع كلّها وقوفنا "في وجه العدوّ الصهيوني" كما لو أنّ هذا الشعار طاقة سحرية تُسلَّط على شعوب مسحورة؟
لكن رغم كلّ شيء، وكلّ ما يحصل، لا تزال حرارة التشهير والتخوين حتّى اليوم تنافس حرارة السلاح. ذاك أنّ المطلوب هو أن يقال ما تقوله الآلة الحربية وتوابعها بحذافيره. فإذا استمرّت الأمور العسكريّة في التدحرج نحو الأسوأ لن يتبقّى لنا سوى أن نودع العقل نهائياً، فنعلن مثلاً أنّنا ننهزم لكثرة ما انتصرنا، وأنّنا نتراجع لشدّة ما تقدّمنا! وبهذا فقط نكون "وطنيّين شرفاء"!
وأغلب الظنّ أنّ عملية قضم العقل هذه يُراد لها أن تتوّج كلّ مسارات القضم التي سبقتها وطالت سائر مستويات الوجودين الخاصّ والعامّ. وهذا إنّما يصدر عن تقليد عريق في ديارنا يمكن تسميته بالسيناريو القياميّ المعكوس. فبحسب الرواية الناصريّة مثلاً، حصلت هزيمة حزيران (يونيو) 1967 فيما كانت تتفجّر الإنجازات والمكاسب التي كان التشكيك بها يرقى إلى خيانة موصوفة، وبعد أن استعرضت سوريّا عبقريّة فذّة عبّر عنها ذكاء حافظ الأسد، إذا بسوريّا نفسها تتفسّخ وتنهار...
لكنْ بغضّ النظر عما تنتهي إليه هذه الكارثة المطنطنة، المغلّفة بالانتصارات المؤزّرة، يبقى شيء واحد: فلربما بدا ذات مرّة أنّ اللبنانيين مرشّحون لأن يغدوا شعباً واحداً، لكن المؤكّد أن هذه الحرب قتلت ما تبقّى من أمل بذلك. ولسوء الحظ بات المرجّح بعدها أنّهم لن يغدوا.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: تفجيرات البيجر في لبنان رفح أحداث السودان الانتخابات الأمريكية غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية تفجيرات البيجر في لبنان حزب الله
إقرأ أيضاً:
مستقبل حزب الله
“بيننا وبينكم الجنازات” عبارة منسوبة تاريخيا للإمام أحمد بن حنبل، كان الفقيه المرموق إمام أهل السنة في زمانه، ويروى أنه ذكر العبارة المعنية في ذروة تحديه لأهل البدع، والمثير على اختلاف القرون، أن حكم إمام السنة صدق في حق أعظم زعماء الشيعة العرب في عصرنا السيد حسن نصر الله، ليس لأنه فقيه أو مرجع ديني، بل لأنه كان إماما لسنة المقاومة وأهلها على مدى أربع عقود خلت، فقد شارك في تشييع نصر الله عدد هائل من الناس يقارب عددهم المليون، وفي تقديرات متحفظة مدققة، جاوز العدد ثلاثة أرباع المليون، وهو حشد أسطورى بالقياس إلى ظروف يوم التشييع المتأخر كثيرا عن صدمة يوم استشهاده، وبالقياس إلى ظروف طقس معاكسة، سادته البرودة الشديدة وهطول الثلوج بغزارة، وبالقياس إلى حجم سكان بلده الصغير، لبنان، فهذه أكبر جنازة لزعيم لبناني بإطلاق، بل إنها واحدة من أكبر الجنازات الأسطورية في التاريخ الإنساني كله، وعلى رأسها جنازات الزعيم جمال عبد الناصر والإمام الخميني وكوكب الشرق أم كلثوم والأميرة ديانا والبابا يوحنا بولس السادس.
وقد اختلفت الآراء والمقاربات القارئة ليوم تشييع نصر الله، حسب توزع المواقع السياسية غالبا، فكل جماعات إسرائيل في لبنان والمنطقة العربية عموما، اعتبرت دفن نصر الله دفنا للمقاومة، وبعض ضحايا أخطاء وخطايا الرجل وحزبه في سوريا بالذات، لم يتخلفوا عن مواكب الشماتة فيه، وفي قتله على يد كيان الاحتلال “الإسرائيلي” وطائراته وقنابله الأمريكية الضخمة.
وكل ذلك مفهوم وله العذر أحيانا، وإن كان النقاش في جوهره ليس محصورا في التشفي بالرجل، بل بالتساؤل عن مستقبل حزبه “حزب الله” بعد رحيله، وهو القائد الأبرز في سيرة الحزب وإن لم يكن القائد المؤسس، فقد قضى في قيادة الحزب أكثر من ثلاثة عقود، صنع فيها وهج الحزب لبنانيا وعربيا وعالميا، وبنى مؤسساته المتشعبة متينة التكوين، وجعله أكبر أحزاب لبنان والمشرق العربي كله، وكان شخصية كاريزمية جامعة، قادت “حزب الله” ومقاومته إلى انتصارات كبرى، أبرزها تحرير الجنوب اللبناني أواخر مايو 2000، ومن دون أن يتورط في توقيع اتفاق استسلام، ولا صك تطبيع مع العدو، ثم كان خوضه معركة كبرى مع جيش العدو طوال يوليو 2006، وصولا إلى مبادرته بخوض حرب إسناد للمقاومة الفلسطينية مع عملية “طوفان الأقصى”، التي تبعتها حرب الإبادة الجماعية في غزة، وإلى أن تطورت الدراما الحربية غير المسبوقة، وقرر العدو “الإسرائيلي” الأمريكي، أن يخوض حرب إبادة “حزب الله” نفسه مع مقتل حسن نصر الله في 27 سبتمبر 2024، ومن قبله هجوم “البيجر” و”اللاسلكي” والاغتيالات المتتابعة لعدد كبير من قادة الصف الأمامي لحزب الله، و في المقتلة “الكربلائية” الدامية وبعدها، بانت مخاطر خروق أمنية واسعة تعرض لها الحزب، جاءت غالبا نتيجة توسع عمله في بيئات وساحات هشة مليئة بالمتربصين والجواسيس، من إيران إلى لبنان مرورا بالعراق وسوريا بالذات، فيما بدا من خطايا نصر الله بشخصه وسياسته، غير أن حسنات الرجل وأفضاله راحت ترأب الصدوع، على نحو ما بدا في المقدرة اللافتة المعجزة للحزب، على استعادة تنظيمه الدقيق في نحو عشرة أيام لا غير، وبالذات في التنظيم العسكري للحزب، الذي أفادته ميزة الإحلال التلقائي للقيادات والاستعداد المسبق بتجهيز البدائل، وبما مكنه من القتال الأسطوري الكفء طوال أكثر من شهرين، وضد خمس فرق من جيش العدو، لم تستطع التقدم بريا إلى عمق الجنوب اللبناني، وظلت عند قرى الحافة الجنوبية الحدودية، بما دفع العدو إلى طلب اتفاق لوقف النار، كان تكرارا في نصوصه الأساسية للقرار الأممي 1701 الصادر عقب حرب 2006، وهو الاتفاق الذي تلكأت “إسرائيل” في تنفيذه، وانتهكته مئات المرات قبل وبعد مد وقت مهلة انسحاب العدو إلى 21 يوما إضافية بعد شهري وقف النار، وظلت “إسرائيل” تحتفظ باحتلال خمس تلال استراتيجية على الحدود، وهو ما يمنح “حزب الله” مبررا لبنانيا إضافيا لاستئناف المقاومة المسلحة، مع تغير الظروف، ومن دون إغفال مصاعب كثيرة مضافة يواجهها “حزب الله” على طريق استعادة حضوره، بينها المساعي الأمريكية “الإسرائيلية” الضاغطة في الداخل اللبناني، وتحفز جماعات “إسرائيل” اللبنانية للسعي إلى نزع سلاح “حزب الله”، حتى لو كان الثمن إشعال حرب أهلية لبنانية جديدة، لا يحول دونها سوى تفوق القوة العسكرية والسياسية لحزب الله، وقوة واتساع تنظيمه، على نحو ما بدا في يوم تشييع زعيمه التاريخي حسن نصر الله، الذي لم يخف يوما طبيعة علاقة حزبه بالقيادة الإيرانية، وقال ذات مرة بوضوح قاطع “سلاحنا وأكلنا وشربنا يأتي من الجمهورية الإسلامية الإيرانية”، وفيما تعرف جماعات “إسرائيل” اللبنانية، أن أي مواجهة لها مع “حزب الله” ستكون خاسرة بالتأكيد، وتسعى لاستجلاب المدد من العدو “الإسرائيلي” الأمريكي نفسه، وتريد أن يدمر لها العدو “حزب الله”، كما قتل زعيمه الأشهر بمئة طن متفجرات، بينما أثبتت تجربة قتل “نصر الله”، أنها لا تؤدي بالضرورة إلى قتل الحزب، الذي لا يزال يحتفظ بأغلب مقدراته الصاروخية وطائراته المسيرة المتطورة، وبمصانع سلاحه تحت الأرض، وحتى بأنفاقه وسلاحه ومقاتليه في الجنوب اللبناني نفسه، ويحظى بالتأييد الجارف عند قواعده الاجتماعية الكبرى، ويبتكر الحيل والطرق لفك الحصار، ويطور أساليب التواصل مع الداعم الإيراني الرئيسي، ويجري مناورات سياسة مع حلف الخصوم في الداخل اللبناني، ويعد لصيغ مقاومة تخفف دواعي الصدام مع الدولة والجيش اللبناني، ومن دون استهانة بالأثر الخانق لأحداث وتبدلات سوريا الجديدة، التي قطعت شريان الاتصال البري الميسر مع إمدادات السلاح الإيراني، وإن كانت الفوضى المتصلة في الداخل السوري مما قد يخدم “حزب الله”، وعناصر التفكيك في سوريا متفاقمة الأثر، وقد تدفع الوضع السوري إلى مخاطر التقسيم ومضاعفة ثقل النفوذ الخارجي، فقد أخرجت إيران من سوريا، وحل محلها نفوذ تركي مرئي، مع استمرار النفوذ الأمريكي بقواعده العسكرية في شمال شرق سوريا بالذات، والأخطر ما تترى حوادثه من نفوذ كيان الاحتلال “الإسرائيلي” الذي دمر بالكامل كل مقدرات الجيش السوري، الذي جرى حله مع سقوط طغمة بشار الأسد، ولم يعد لسوريا جيش رغم إعلانات متكررة عن السعي لبناء جيش جديد، والحد من توسع انتشار جماعات مسلحة على أسس عرقية وطائفية، لا تخفي “إسرائيل” نيتها لاستثمارها لتقسيم سوريا، من وراء دعم عناوين “اللامركزية” و”الفيدرالية” وغيرها، وحديث حكومة بنيامين نتنياهو، عن استعدادها لبسط حمايتها على جماعات مثل “الدروز” وغيرهم، ثم إعلانها عن “نزع سلاح” ثلاث محافظات في الجنوب السوري، إضافة لاحتلالها الدائم لهضبة الجولان، ثم شفعها لإنذار نزع السلاح بهجمات جوية وبرية طالت محافظات القنيطرة ودرعا وصولا إلى ريف دمشق.
تواجه الحزب تحديات صعبة لكنه يبقى كيانا أصيلا راسخ الجذور
ومن شأن هذه التطورات ولواحقها المنتظرة، أن تؤدي في المستقبل القريب والأبعد إلى مشهد أخطر، تسعى فيه “إسرائيل” بتفويض أمريكي إلى صنع خرائط جديدة، تلحق فيها سوريا بغالب مناطقها باحتلال “إسرائيلي” مباشر وغير مباشر، يستفز قواعد الشعب السوري، وقد يدفعها لدعم نشوء حركات مقاومة مسلحة، قد يجد فيها “حزب الله” سندا لفك الاختناق اللوجيستي من الجهة السورية.
وبالجملة، قد لا يبدو مستقبل “حزب الله” رهينا بتمنيات الخصوم أو الأصدقاء، والقدر المتيقن منه موضوعيا، إن الحزب واجه ويواجه تحديات صعبة، إضافة لتلقي ضربات موجعة، لكنه يبقى كيانا أصيلا راسخ الجذور، وليس شجرة “لبلاب” تميل مع الريح، فقاعدته الاجتماعية واسعة، ومؤسساته راقية التنظيم، والحاجة إليه لبنانيا وعربيا لا تنفد في المدى العاجل والآجل، وإلهام زعيمه التاريخى غاية في التأثير، بل تبدو المفارقة الظاهرة، أن “إسرائيل” ذاتها تلعب دورا ملحوظا في تجديد دور “حزب الله”، فما من تراجع وارد في عدوانية ووحشية كيان الاحتلال، لا في فلسطين ولا في لبنان ولا في سوريا، وطغيان الاحتلال يؤدي إلى تحفيز خط المقاومة لا العكس، و”حزب الله” مدرسة مقاومة، بنيت على أساس روح استشهادية، لا تؤثر فيها الخسائر البشرية ولا المادية، ولا الدمار الشامل، فالمقاومة تنهض دائما من رماد، وتجربة “حزب الله” جمعت الحس الاستشهادي المبارك إلى تطوير التكنولوجيا الحربية المتحدية، ونشأت أجيال قادرة على استيعاب دروس المواجهات الأخيرة، التي لم تنهزم فيها المقاومة الجديدة، وإن كان الطريق إلى النصر الكامل لا يزال شاقا، ويمضى عليه الحزب الذي بناه حسن نصر الله، ولا يموت بموته الجليل.