أزمة السيادة الوطنية، الفيل الذي في الغرفة… (2/2)

مهدي رابح

يعتبر غزو محمد علي باشا للسودان عام 1821م, بحثا عن الذهب والرقيق, هو البداية الفعلية لتخلّق الدولة بشكلها الحالي. وقد اعتمدت قواته الي حد كبير في مهمتها على تعاون بعض السودانيين من جهة وبالمقابل على عدم وجود قوة سياسية وعسكرية متماسكة, منظمة وقادرة على مقاومة وتهديد مشروعه التوسعي في ظل تضعضع سلطة المملكة الزرقاء وتنافر القوي السياسية والاجتماعية الأخرى الأصغر حجما و المبنية على أسس قبلية في عمومها.

واستطاعت السلطة المحتلة وباستخدام القوة الجبرية جمع مكونات اجتماعية متنافرة تحت نظام حكم مركزي موحد لأول مرة في تاريخها وبالمقابل جذبت عديد المغامرين الذين شاركوا فيما يمكن ان نسميه عمليات نهب للبلاد، ومن اخطرها وأعمقها أثرا كان التوسع في تجارة الرقيق حتى تحولت امدرمان الي أحد المراكز الدولية لهذا العمل المروع. أي ان النموذج السياسي-الاقتصادي الذي أسست عليه الدولة السودانية يرجع أصله لشراكة بين قوي خارجية وسودانيين ومغامرين مستفيدين من هذه المنظومة المصممة لنهب موارده الطبيعية واستغلال موارده البشرية, او ما أطلق عليه بروفيسور اليكس دي وال في معرض حديثه عن مالات الحرب في حوار مع مجموعة الازمات الدولية مصطلح “مؤسسة نهب استعماري متعددة الجنسيات.”

ما بعد سقوط المهدية وبالقفز على حقبة الحكم الثنائي فان المستعمر البريطاني اعتمد بصورة أساسية على شبكات النفوذ المكونة من المتعاونين معه من القيادات الدينية والأهلية كلاعبين أساسيين فيما سمي بنظام الحكم غير المباشر, ما مكنه من السيطرة على البلاد ومقدراتها بأقل التكاليف الممكنة. وما ان لاحت مؤشرات لارتخاء قبضة المستعمر عقب الحرب العالمية الثانية ووصول صوت هدير الموجة التحررية في افريقيا الي مسامع النخبة السودانية انقسمت هذه الي قسمين رئيسيين, المنادين باستمرار الحكم البريطاني من جانب والحاملين لراية الوحدة تحت التاج الخديوي المصري من الجانب الاخر, بينما ظلت أصوات الاستقلال التام خافتة حتى بداية الخمسينات لينضم اليها الجميع في نهاية الامر. وهو ما انعكس تدخلا مصريا مباشرا ابرزه خلال الانتخابات البرلمانية لعام 1953م حيث استخدام المال السياسي لتمويل الحملات الانتخابية لحاملي مشروع وحدة وادي النيل.

ظلت سياسات مصر الرسمية, كأحد اهم الفاعلين الخارجيين في الساحة السودانية, ثابتة ومتسقة الي حد كبير ولم تتمكن من تجاوز ما يمكن ان نطلق عليه مربع عقلية الباشوات, التي تنظر الي السودان كحديقة خلفية خاصة بها تسعي دوما للسيطرة عليها اما عن طريق نفوذها على وكلائها وحلفائها القدامى والجدد من القوي السياسية خلال فتران الحكم الانتقالي او الديموقراطي القصيرة او عن طريق نظم حكم عسكرية خاضعة تضمن لها الحفاظ على مصالحها وعلى رأسها بالطبع نصيبها من حصة مياه النيل, مقابل دعمها للأخيرة للاستمرار في الحكم.

اضافة الي النفوذ المصري الكبير والمؤثر دخل السودان في ساحة التجاذب العنيف بين القطبين الشرقي والغربي, ما جعله يتأرجح بين التأثير الأمريكي بعد انقلاب الجنرال عبود 1958م ثم السوفيتي عقب انقلاب النميري 1969م ثم مجددا المعسكر الغربي بعد تغيير النميري لسياساته في منتصف السبعينات قبل أن يعزل نفسه بعد تبنيه ما اسماه جزافا قوانين الشريعة الاسلامية. بينما اتسمت سياسات الفترة الديموقراطية الثالثة القصيرة جدا بعدم الوضوح وعدم الاتساق والتذبذب في المواقف.

جاءت الطعنة النجلاء لسيادة السودان واتساق سياساته الخارجية خلال حكم الإنقاذ الاسلاموي الثلاثيني المرير, فبعد تبني سياسات اقل ما يمكن أن توصف به هو البلاهة في بداياته, مدفوعا بهلاوس مشروع ايديولوجي اممي متخيل, واوهام التمدد عبر المنظومات الإسلاموية في دول الجوار ومحاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك ودعم منظمات إرهابية ارتكبت جرائم دولية مروعة انقلب النظام رأسا علي عقب ليصبح متعاونا ضد نفس تلك المنظومات وليرضخ لنفس القوي التي كان يعدها بالعذاب والهلاك مستجديا رفع العزلة عنه حينا والحماية حينا آخر كما شهدناه في زيارة البشير لمدينة سوتشي عام 2017م. بينما تأرجحت سياساته الإقليمية أيضا تبعا لرؤي تكتيكية قصيرة المدي كلها مرتبطة بحماية ودعم نظام الحكم الاستبدادي, من دعم غير مسوغ للعراق في غزوه للكويت, وان كان مقابل راجمات صاروخية تحصل عليها من الأول ومكنته من قلب الموازين العسكرية في جنوب السودان لصالحه, او تحالفه مع إيران لمساندتها له في تطوير صناعته الحربية مقابل توفيره لمسارات نقل السلاح الي لبنان وغزة, او تمكينه لعديد دول الخليج العربي من الاستحواذ علي مساحات مهولة من الأراضي السودانية مقابل ما يمكن ان يعتبر فتاتا اغلبه كان يوجه الي الحسابات الشخصية لأفراد من النخبة الحاكمة.

يمكننا وبصورة عامة مختصرة ان نقر بحقيقة ان السودان عانى طوال تاريخه من درجات متفاوتة من افتقاده للسيادة الوطنية, أي فقدان الدولة القدرة على اتخاذ قرارها المستقل في الشؤون الخارجية وعلى ترسيخ هذه السيادة داخليا، عبر بسط سيطرتها علي كامل أراضيها وتأكيد حقها في إصدار القوانين والتشريعات والسياسات المتعلقة بكل ما يدخل في نطاق حدودها الجغرافية. وهي ازمة مزمنة اشبه بالعيب الخلقي الذي ارتبط بتكوينها في الأساس, تعمق لاحقا بحكم عوامل اغلبها من صنع البشر حتى وصلت الي مرحلة انقسام جزء عزيز من البلاد واحتلال أجزاء اخري في حقبة حكم الاسلامويين, لتتعمق اكثر خلال عمليات الاعداد لانقلاب أكتوبر 2021م التي بدأت منذ الأسابيع الاولي التي أعقبت سقوط راس النظام السابق في 2019م وما ترتب علي ذلك من فراغ دستوري ومؤسسي لتصل الي الحضيض خلال شهور الحرب بين شريكي تلك المؤامرة طوال اشهرها السبعة عشر حتي الان.

رغم ما أولته الوثيقة الدستورية التي نتجت عن توافق المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير من اهتمام للسياسة الخارجية عقب سقوط راس النظام، حيث ألزمت في المادة الثالثة عشرة من فصلها الثاني الخاص بمهام المرحلة الانتقالية هيئات الحكم الانتقالي بمهمة “وضع سياسة خارجية متوازنة تحقق المصالح الوطنية العليا للدولة وتعمل على تحسين علاقات السودان الخارجية وبنائها على أسس الاستقلالية والمصالح المشتركة بما يحفظ سيادة البلاد وأمنها وحدودها”, ورغم ما حققه المكون المدني للحكومة الانتقالية من نجاح في فك عزلة السودان الخارجية واعفاء ديونه وضمان الدعم الدولي الكبير لعديد عمليات الإصلاح المهمة والتي كان المرجح لها ان تخرج البلاد من محنتها التاريخية الا ان المكون العسكري بجناحيه, الجيش والدعم السريع بالتعاون مع عناصر النظام السابق المتغلغلين في مفاصل أجهزة الدولة وقطاعها الأمني والعسكري تحديدا، تمكنوا من فتح قنوات اتصال خارجي بمعزل عن قيادات أجهزة الدولة المدنية المعنية وعمل كل منهما علي بناء تحالفه الاستراتيجي المستقل لدعم غايته في الانفراد بالسلطة وهو ما ادي جزئيا الي تشجيعهما لقطع الطريق امام الانتقال الديموقراطي بالانقلاب علي الدستور ثم لدفع بعض عناصر الجيش لقطع الطريق امام الاتفاق الإطاري عام 2022م وما ادي اليه لاحقا من مواجهة عسكرية محتمة, والتي بدأت عمليا, وحتي ننشط ذاكرة العديدين في زمان أصحاب الذاكرة السمكية هذا, من مطار مروي حيث كانت تربض طائرات لدولة جارة، في سياق عمليات مناورات مشتركة وتدريب حسب تصريحات الجيش أو ربما اعدادا لضربات جوية تستهدف الدعم السريع حسب تصريحات بعض قياداته.

ما بعد الحرب تحول السودان الي ما يشبه مزادا اقليميا و عالميا للسيادة , او كما ذكر احد كبار الدبلوماسيين الغربيين في تعليق بما معناه “ان كل شيء في السودان مطروح للمساومة/للبيع” , فحكومة بورتسودان تفاوض علي موقفها من المحاور الإقليمية المتصارعة وتعرض سواحل السودان المطلة علي البحر الأحمر لمن يدفع اكثر, مدافعا وقنابلا ومسيرات, وتعرض موارد السودان الطبيعية لمن بيده حق الفيتو في مجلس الامن الدولي بينما تعرض أراضي السودان لتحول الي ممرات وقواعد تغذي صراعات إقليمية مجاورة, بينما تظل قيادات الدعم السريع رهينة لمن يوفر لها تدفق السلاح والمال مقابل وعد لجعل السودان مبذولا لنفوذه وموارده واراضيه تحت تصرفه مستقبلا. اننا ببساطة وفي زمان البرهان وحميدتي الاغبر هذا تحولنا الي وطن معروض للبيع.

في الختام يمكننا القول وكما ظل السودان طوال غالب تاريخه تحكمه سلطات دكتاتورية تستغل القوات المسلحة لحسم الصراع حول السلطة والثروة ولخدمة طموحاتها وحماية مصالحها المادية، فان السياسات الخارجية في جوهرها ظلت مكملة لهذا الهدف الضيق، اي انها ظلت تصمم لخدمة استمرار سيطرة قلة علي السلطة والثروة مهما كان الثمن وتتناقض مع السيادة الوطنية والمصلحة العامة. وكما ان السودان لن يكتب له الاستقرار والتقدم دون إعادة بناء جيش مهني محترف يلتزم بمهامه بعيدا عن السياسية والاقتصاد وخاضع للسلطة السياسية المدنية فانه لن يكتب له النجاح دون ان يتم اصلاح مؤسساته المعنية بالسياسات الخارجية ودون ان ان تكون الأخيرة مملوكة للشعب السوداني وتعمل من اجل مصلحته وخاضعة للسلطة السياسية المدنية وتعمل تحت الرقابة الشعبية الصارمة واليقظة.

الوسومالحكم الانتقالي السودان السيادة الوطنية

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الحكم الانتقالي السودان السيادة الوطنية

إقرأ أيضاً:

السيادة الرقمية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

لا أقلل من امتلاك السلاح البري والجوي والبحري لكن حروب الجيل الخامس تحمل في طياتها تحديات كبيرة وخطرًا مستقبليًا على الدول العربية، تفجير أجهزة النداء (البيجر) عن بُعد والتي كان يحملها عناصر حزب الله في لبنان والذي لم يعطل فقط عنصرًا رئيسيًا من اتصالات المجموعة المسلحة، بل كشف عن هوية الأعضاء، وقتل وجرح العديد منهم، يعتبر خرقًا أمنيا غير مسبوق.

مع توسع انتشار هذه التقنيات، يصبح من الضروري أن نفهم التهديدات المرتبطة بها، خاصة فيما يتعلق بالأمن السيبراني والاعتماد المتزايد على التكنولوجيا في كافة مجالات الحياة.

تقنية الجيل الخامس ليست مجرد قفزة نوعية في عالم الاتصالات، بل هي بوابة نحو مستقبل تصبح فيه السيادة لمن يمتلك التكنولوجيا. والإجابة ليست فقط حول سرعة الإنترنت، بل حول من يتحكم في تدفق المعلومات وامتلاك أدوات القوة الرقمية.

الخطر الحقيقي يكمن في أن تكون الدول العربية مجرد مستهلكة لهذه التقنية دون أن تساهم في صناعتها أو تحصن نفسها ضد الهجمات الإلكترونية، فالاعتماد الكامل على التكنولوجيا المستوردة قد يجعل البنية التحتية المدنية والعسكرية عرضة للاستغلال أو الاختراق.

ففي عصرٍ تتحول فيه الحروب من ميادين القتال إلى الفضاءات الرقمية، يبرز الأمن السيبراني العسكري كخط الدفاع الأول في مواجهة تهديدات غير مرئية ولكنها قاتلة، فلم تعد المعارك تقتصر على الدبابات والطائرات، بل أصبحت الشيفرات والأكواد أدوات حرب جديدة تقودها العقول قبل الآلات، في هذا العالم الافتراضي، يمكن لضغط زر واحد أن يشل نظام دفاعي، أو أن يفتح بوابات التجسس على أسرار عسكرية بالغة الحساسية.

الأمن السيبراني العسكري هو درع الأمان الذي يحمي الدول من هذا النوع الجديد من الحروب. فهو لا يقتصر على حماية البيانات والمعلومات، بل يمتد إلى الدفاع عن الأنظمة الحيوية التي تتحكم في القوات والأسلحة والتكنولوجيا المتقدمة، مثل أنظمة القيادة والتحكم، الأقمار الصناعية، وحتى الطائرات بدون طيار، كل هذه الأنظمة أصبحت هدفًا محتملًا للهجمات السيبرانية التي قد تكون قادرة على تغيير مجرى المعارك قبل أن تبدأ على الأرض.

الهجوم السيبراني العسكري لا يشبه الضربات التقليدية، فهو صامت، خفي، ويضرب في العمق دون أن يُحدث دمارًا مرئيًا، لكنه قادر على إحداث فوضى شاملة، يمكنه تعطيل أنظمة الاتصالات أو إيقاف تشغيل الأسلحة أو حتى قلب الطاولة لصالح العدو من خلال تحكمه عن بعد في أنظمة القيادة.

لذا، أصبح بناء قدرات سيبرانية عسكرية قوية ليس رفاهية، بل ضرورة حتمية للبقاء في هذه اللعبة الجديدة، والدول التي تستثمر في عقولها قبل أجهزتها هي من ستمتلك التفوق في معارك المستقبل، حيث تكون القدرة على حماية المعلومة والتحكم في البيانات هي المفتاح إلى النصر.

وفي ظل هذه التحولات، يصبح الاستثمار في العقول والابتكار التكنولوجي ضرورة، وليس رفاهية. فإذا أرادت الدول العربية البقاء في قلب 
هذه الثورة الرقمية، فعليها أن تُعد نفسها لاستخدام الجيل الخامس كأداة للنهضة، لا أن تكون ضحية له.

مقالات مشابهة

  • الندم هو الثمن الذي ندفعه مقابل الأخطاء
  • امتداد شارع ال سويلم من جهة قصر الحكم
  • رداً على أزمة "سد النهضة".. وزير الخارجية المصري: سندافع عن مصالح بلادنا وأمنها المائي دون أي تهاون  
  • وزير الخارجية المصري لـ”الشرق”: مياه النيل “قضية وجودية” وتقسيم السودان “خط أحمر”
  • صحة الشرقية تستجيب لمريضة تشكو من السمنة المفرطة وداء الفيل
  • خبير اقتصادي: استمرار أزمة المركزي ستؤدي إلى وضع أسوأ من تفعيل آلية “النفط مقابل الغذاء”
  • عودة لحديث وزير الخارجية المصري عن السودان !
  • السيادة الرقمية
  • محمد حمدان دقلو: ملتزمون بالسعي إلى حل سلمي من خلال الانتقال إلى الحكم المدني