أزمة السيادة الوطنية، الفيل الذي في الغرفة… (2/2)
تاريخ النشر: 22nd, September 2024 GMT
أزمة السيادة الوطنية، الفيل الذي في الغرفة… (2/2)
مهدي رابح
يعتبر غزو محمد علي باشا للسودان عام 1821م, بحثا عن الذهب والرقيق, هو البداية الفعلية لتخلّق الدولة بشكلها الحالي. وقد اعتمدت قواته الي حد كبير في مهمتها على تعاون بعض السودانيين من جهة وبالمقابل على عدم وجود قوة سياسية وعسكرية متماسكة, منظمة وقادرة على مقاومة وتهديد مشروعه التوسعي في ظل تضعضع سلطة المملكة الزرقاء وتنافر القوي السياسية والاجتماعية الأخرى الأصغر حجما و المبنية على أسس قبلية في عمومها.
ما بعد سقوط المهدية وبالقفز على حقبة الحكم الثنائي فان المستعمر البريطاني اعتمد بصورة أساسية على شبكات النفوذ المكونة من المتعاونين معه من القيادات الدينية والأهلية كلاعبين أساسيين فيما سمي بنظام الحكم غير المباشر, ما مكنه من السيطرة على البلاد ومقدراتها بأقل التكاليف الممكنة. وما ان لاحت مؤشرات لارتخاء قبضة المستعمر عقب الحرب العالمية الثانية ووصول صوت هدير الموجة التحررية في افريقيا الي مسامع النخبة السودانية انقسمت هذه الي قسمين رئيسيين, المنادين باستمرار الحكم البريطاني من جانب والحاملين لراية الوحدة تحت التاج الخديوي المصري من الجانب الاخر, بينما ظلت أصوات الاستقلال التام خافتة حتى بداية الخمسينات لينضم اليها الجميع في نهاية الامر. وهو ما انعكس تدخلا مصريا مباشرا ابرزه خلال الانتخابات البرلمانية لعام 1953م حيث استخدام المال السياسي لتمويل الحملات الانتخابية لحاملي مشروع وحدة وادي النيل.
ظلت سياسات مصر الرسمية, كأحد اهم الفاعلين الخارجيين في الساحة السودانية, ثابتة ومتسقة الي حد كبير ولم تتمكن من تجاوز ما يمكن ان نطلق عليه مربع عقلية الباشوات, التي تنظر الي السودان كحديقة خلفية خاصة بها تسعي دوما للسيطرة عليها اما عن طريق نفوذها على وكلائها وحلفائها القدامى والجدد من القوي السياسية خلال فتران الحكم الانتقالي او الديموقراطي القصيرة او عن طريق نظم حكم عسكرية خاضعة تضمن لها الحفاظ على مصالحها وعلى رأسها بالطبع نصيبها من حصة مياه النيل, مقابل دعمها للأخيرة للاستمرار في الحكم.
اضافة الي النفوذ المصري الكبير والمؤثر دخل السودان في ساحة التجاذب العنيف بين القطبين الشرقي والغربي, ما جعله يتأرجح بين التأثير الأمريكي بعد انقلاب الجنرال عبود 1958م ثم السوفيتي عقب انقلاب النميري 1969م ثم مجددا المعسكر الغربي بعد تغيير النميري لسياساته في منتصف السبعينات قبل أن يعزل نفسه بعد تبنيه ما اسماه جزافا قوانين الشريعة الاسلامية. بينما اتسمت سياسات الفترة الديموقراطية الثالثة القصيرة جدا بعدم الوضوح وعدم الاتساق والتذبذب في المواقف.
جاءت الطعنة النجلاء لسيادة السودان واتساق سياساته الخارجية خلال حكم الإنقاذ الاسلاموي الثلاثيني المرير, فبعد تبني سياسات اقل ما يمكن أن توصف به هو البلاهة في بداياته, مدفوعا بهلاوس مشروع ايديولوجي اممي متخيل, واوهام التمدد عبر المنظومات الإسلاموية في دول الجوار ومحاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك ودعم منظمات إرهابية ارتكبت جرائم دولية مروعة انقلب النظام رأسا علي عقب ليصبح متعاونا ضد نفس تلك المنظومات وليرضخ لنفس القوي التي كان يعدها بالعذاب والهلاك مستجديا رفع العزلة عنه حينا والحماية حينا آخر كما شهدناه في زيارة البشير لمدينة سوتشي عام 2017م. بينما تأرجحت سياساته الإقليمية أيضا تبعا لرؤي تكتيكية قصيرة المدي كلها مرتبطة بحماية ودعم نظام الحكم الاستبدادي, من دعم غير مسوغ للعراق في غزوه للكويت, وان كان مقابل راجمات صاروخية تحصل عليها من الأول ومكنته من قلب الموازين العسكرية في جنوب السودان لصالحه, او تحالفه مع إيران لمساندتها له في تطوير صناعته الحربية مقابل توفيره لمسارات نقل السلاح الي لبنان وغزة, او تمكينه لعديد دول الخليج العربي من الاستحواذ علي مساحات مهولة من الأراضي السودانية مقابل ما يمكن ان يعتبر فتاتا اغلبه كان يوجه الي الحسابات الشخصية لأفراد من النخبة الحاكمة.
يمكننا وبصورة عامة مختصرة ان نقر بحقيقة ان السودان عانى طوال تاريخه من درجات متفاوتة من افتقاده للسيادة الوطنية, أي فقدان الدولة القدرة على اتخاذ قرارها المستقل في الشؤون الخارجية وعلى ترسيخ هذه السيادة داخليا، عبر بسط سيطرتها علي كامل أراضيها وتأكيد حقها في إصدار القوانين والتشريعات والسياسات المتعلقة بكل ما يدخل في نطاق حدودها الجغرافية. وهي ازمة مزمنة اشبه بالعيب الخلقي الذي ارتبط بتكوينها في الأساس, تعمق لاحقا بحكم عوامل اغلبها من صنع البشر حتى وصلت الي مرحلة انقسام جزء عزيز من البلاد واحتلال أجزاء اخري في حقبة حكم الاسلامويين, لتتعمق اكثر خلال عمليات الاعداد لانقلاب أكتوبر 2021م التي بدأت منذ الأسابيع الاولي التي أعقبت سقوط راس النظام السابق في 2019م وما ترتب علي ذلك من فراغ دستوري ومؤسسي لتصل الي الحضيض خلال شهور الحرب بين شريكي تلك المؤامرة طوال اشهرها السبعة عشر حتي الان.
رغم ما أولته الوثيقة الدستورية التي نتجت عن توافق المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير من اهتمام للسياسة الخارجية عقب سقوط راس النظام، حيث ألزمت في المادة الثالثة عشرة من فصلها الثاني الخاص بمهام المرحلة الانتقالية هيئات الحكم الانتقالي بمهمة “وضع سياسة خارجية متوازنة تحقق المصالح الوطنية العليا للدولة وتعمل على تحسين علاقات السودان الخارجية وبنائها على أسس الاستقلالية والمصالح المشتركة بما يحفظ سيادة البلاد وأمنها وحدودها”, ورغم ما حققه المكون المدني للحكومة الانتقالية من نجاح في فك عزلة السودان الخارجية واعفاء ديونه وضمان الدعم الدولي الكبير لعديد عمليات الإصلاح المهمة والتي كان المرجح لها ان تخرج البلاد من محنتها التاريخية الا ان المكون العسكري بجناحيه, الجيش والدعم السريع بالتعاون مع عناصر النظام السابق المتغلغلين في مفاصل أجهزة الدولة وقطاعها الأمني والعسكري تحديدا، تمكنوا من فتح قنوات اتصال خارجي بمعزل عن قيادات أجهزة الدولة المدنية المعنية وعمل كل منهما علي بناء تحالفه الاستراتيجي المستقل لدعم غايته في الانفراد بالسلطة وهو ما ادي جزئيا الي تشجيعهما لقطع الطريق امام الانتقال الديموقراطي بالانقلاب علي الدستور ثم لدفع بعض عناصر الجيش لقطع الطريق امام الاتفاق الإطاري عام 2022م وما ادي اليه لاحقا من مواجهة عسكرية محتمة, والتي بدأت عمليا, وحتي ننشط ذاكرة العديدين في زمان أصحاب الذاكرة السمكية هذا, من مطار مروي حيث كانت تربض طائرات لدولة جارة، في سياق عمليات مناورات مشتركة وتدريب حسب تصريحات الجيش أو ربما اعدادا لضربات جوية تستهدف الدعم السريع حسب تصريحات بعض قياداته.
ما بعد الحرب تحول السودان الي ما يشبه مزادا اقليميا و عالميا للسيادة , او كما ذكر احد كبار الدبلوماسيين الغربيين في تعليق بما معناه “ان كل شيء في السودان مطروح للمساومة/للبيع” , فحكومة بورتسودان تفاوض علي موقفها من المحاور الإقليمية المتصارعة وتعرض سواحل السودان المطلة علي البحر الأحمر لمن يدفع اكثر, مدافعا وقنابلا ومسيرات, وتعرض موارد السودان الطبيعية لمن بيده حق الفيتو في مجلس الامن الدولي بينما تعرض أراضي السودان لتحول الي ممرات وقواعد تغذي صراعات إقليمية مجاورة, بينما تظل قيادات الدعم السريع رهينة لمن يوفر لها تدفق السلاح والمال مقابل وعد لجعل السودان مبذولا لنفوذه وموارده واراضيه تحت تصرفه مستقبلا. اننا ببساطة وفي زمان البرهان وحميدتي الاغبر هذا تحولنا الي وطن معروض للبيع.
في الختام يمكننا القول وكما ظل السودان طوال غالب تاريخه تحكمه سلطات دكتاتورية تستغل القوات المسلحة لحسم الصراع حول السلطة والثروة ولخدمة طموحاتها وحماية مصالحها المادية، فان السياسات الخارجية في جوهرها ظلت مكملة لهذا الهدف الضيق، اي انها ظلت تصمم لخدمة استمرار سيطرة قلة علي السلطة والثروة مهما كان الثمن وتتناقض مع السيادة الوطنية والمصلحة العامة. وكما ان السودان لن يكتب له الاستقرار والتقدم دون إعادة بناء جيش مهني محترف يلتزم بمهامه بعيدا عن السياسية والاقتصاد وخاضع للسلطة السياسية المدنية فانه لن يكتب له النجاح دون ان يتم اصلاح مؤسساته المعنية بالسياسات الخارجية ودون ان ان تكون الأخيرة مملوكة للشعب السوداني وتعمل من اجل مصلحته وخاضعة للسلطة السياسية المدنية وتعمل تحت الرقابة الشعبية الصارمة واليقظة.
الوسومالحكم الانتقالي السودان السيادة الوطنيةالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الحكم الانتقالي السودان السيادة الوطنية
إقرأ أيضاً:
اليوم نرفع راية استقلالنا (1)
تعود ذكری الاستقلال من داخل البرلمان، وبلادنا تخوض حرب الكرامة لكن ذلك لا يمنعنا من الذكری فالذكری تنفع المٶمنين.
يحُقّ لأهل السودان أن يَتَباهوا علی ساٸر أهل أفريقيا طُرَّاً، وعلی كثيرٍ من أهل الدول العربية، بأنهم قد عرفوا سُبُل الحضارة قبلهم، وخَبِروا أساليب الحكم قديمها وحديثها، منذ عهودٍ موغلة فی القِدَم، بل منذ نشأة البشرية علی كوكب الأرض!!
وقد أثبت علماء التاريخ والآثار ذلك فی دراسات كثيرة، تنوء بها أرفف المكتبات القديمة، وتتداولها وساٸط الإعلام الحديثة، ويحتفي بها أُولو العزم من الدارسين، وقد ينكرها بعض المتعصبين من أصحاب الغرض، والغرض مرض !!
وقد يقول قاٸل (هب إن إنسان السودان كان أقدم البشر، وكان هو الإنسان الأول، وأن الجميع جاءوا من نسلهم – من لدن أبينا آدم عليه السلام وحتی يرث الله الأرض ومن عليها- !! فأين هو السودان، وإنسان السودان، وحكومات السودان من ذلك؟؟؟)
– منذ أن نال السودان استقلاله من دولتي الحكم (الثناٸی) -إنجلترا/مصر- فی الأول من يناير عام 1956م ، جَرَّب (ثلاثة) أنواع من الحكومات، فصلت بينها (ثلاث) ثورات شعبية وتخللتها (ثلاث) فترات إنتقالية۔
حكومة حزبية منتخبة۔حكومة يأتی بها إنقلاب عسكری ۔حكومة إنتقالية۔
ويمكن الحديث شيٸاً ما ولو شكلياً، عن نظام (حكم ملكي) فُرِضَ علی السودان الذي كانت تستعمره انجلترا (الملكية)، بالٕاشتراك مع مصر (الملكية) أيضاً، يديره حاكم عام إنجليزي تختاره (ملكة) إنجلترا ويُصدر (الخديوی) فی مصر فرماناً بتعيينه، وفي خِضَم التنازُع بين دولتي (الحكم الثناٸی)، نُودي ب (الملك فاروق ملكاً علی مصر والسودان) مع كون مصر نفسها كانت مستعمرة بريطانية حينذاك !!
تسلمت أول حكومة وطنية مقاليد الحكم من الإستعمار ، وكانت حكومة حزبية منتخبة برٸاسة السيد الأستاذ إسماعيل الأزهری، بعدما ذاب مٶتمر الخريجين – طليعة الوطنيين المنادين بإستقلال السودان – فی الحزبين الكبيرين، أو فی الطاٸفتين الكبيرتين علی وجه الدِّقة، فمٶتمر الخريجين الذی أنشِٸَ علی غرار حزب المٶتمر الهندی- القاٸم إلی يوم الناس هذا – وجد نفسه أمام (إنتخابات عامَّة) تتطلب ميزانيات ضخمة، ومعينات كثيرة، وتجربة جديدة كليَّاً، لا قِبَل له بها، خاصة بعد المعركة الإنتخابية عام 1943م لاختيار الهيٸة الستينية للمٶتمر والتی أدت لانقسام حاد، بين مجموعتين الأولی بزعامة الأزهري يساندهم الأبروفيون، والثانية مجموعة الشوقيين بزعامة محمد علی شوقي ومجموعة من أبناء الأنصار يساندهم بطبيعة الحال السيد عبد الرحمن المهدی، ووسط جماهير تدين بالولاء للسيدين الكبيرين، السيد (السير) علي الميرغنی زعيم طاٸفة الختمية، وسليل العترة النبوية !! والسيد عبد الرحمن المهدی زعيم طاٸفة الأنصار، ونجل السيد الإمام محمد أحمد المهدی مُفجر الثورة المهدية، الذی خاض غمار حرب ضروس ضد المستعمر وحرر البلاد من ربقة الإستعمار بحد السيف (حرفياً) بمساندة واسعة من جماهير الشعب السوداني الذی بذل الغالي والنفيس في سبيل نيله حريته. فقد كان من المحتم علی عضوية مٶتمر الخريجين أن ينضووا تحت عباءة أحد السيدين ربما تُقيةً، لكنه ليس عن قناعة حتماً، وعندها تفرق مٶتمر الخريجين أيدي سبأ، وحُرم السودان من تجربة حديثة لبناء دولة ديمقراطية حديثة، ونالت البلاد إستقلالها، بعد سودنة جميع الوظاٸف فی الدولة، وكانت السودنة هی الشرارة التي أطلقت التمرد فی جنوب السودان من عقاله، في اْغسطس 1955م، قُبيل إعلان الإستقلال إحتجاجاً علی إبدال الإنجليز الرحماء!! بالعرب القساة تجار الرقيق !! كما قالت بذلك الدعاية الإستعمارية (رمتني بداٸها وانْسَلَّتِ)، والذی أفضی في نهاية الأمر – بعد حرب أهلية هی الأطول فی القارة الأفريقية – إلی انفصال جنوب السودان بعد الإستفتاء الذی أقرته إتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) الموقع فی نيروبی يناير 2005م۔ وأدت ل(ثناٸية) جديدة !!
ونواصل إن أذِن الله لنا بالعودة.
-النصر لجيشنا الباسل.
-العِزة والمِنعة لشعبنا المقاتل.
-الخِزی والعار لأعداٸنا، وللعملاء.
محجوب فضل بدري
إنضم لقناة النيلين على واتساب