الرعاية السامية للحماية الاجتماعية
تاريخ النشر: 21st, September 2024 GMT
منذ أن ظهر مصطلح الحماية الاجتماعية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهو يرتكز على مجموعة من المفاهيم الأساسية مثل المساواة وتكافؤ الفرص والتوزيع العادل للثروات وغيرها، بهدف تهيئة أفراد المجتمع لمواجهة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، وتمكين قدرتهم على مواكبة التحولات والتغيرات التي تحدث في المجتمع في ظل التطورات التنموية المختلفة.
فالحماية الاجتماعية تُعد – حسب اليونسكو – (ضرورة اجتماعية واقتصادية وسياسية)؛ لأنها توفِّر ضمانا لمستقبل أفضل وأكثر استدامة لأفراد المجتمع، وتقدِّم لهم مناخا من الأمان الاجتماعي والاقتصادي، الذي يمكن أن يعيشوا ضمنه في رفاهية، وبالتالي فإن أنظمة الحماية الاجتماعية تتمحور حول الإنسان باعتباره الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات، بُغية تحقيق أهداف التنمية البشرية وضمان التطوُّر المستدام لأنماط الحياة الاجتماعية والاقتصادية، لذا فإن رعاية الإنسان انطلاقا من ذلك يقوم على قدرة الدولة على تقديم الخدمات الأساسية (الصحة والتعليم والأمن وغيرها) من ناحية، وإتاحة الفرص المتنوعة التي تمنحه إمكانات تحسين حياته المعيشية وتحقيق رفاهه الاجتماعي.
إن عناية الدول ببرامج الحماية الاجتماعية لا تقوم على دعم الفئات الهشة في المجتمع (كبار السن، والأطفال، والنساء، وذوي الإعاقة) وحسب، بل أيضا على فتح فرص التعليم والعمل، وتطويرها بما يضمن حصول الأفراد على ما يستحقون من فرص تُسهم في تحسين حياتهم، ولهذا فإن برامج الحماية التي تقدمها المجتمعات تعتمد على مدى وعيها بمفهوم الحماية من الناحية التنموية، وبالتالي قدرتها على تقديم برامج ونُظم ملائمة ومستدامة ومتكيِّفة مع التطورات الحالية وقادرة على تحقيق الأهداف المستقبلية التي تصبو إليها.
ولقد اعتنت سلطنة عمان بالحماية الاجتماعية بوصفها الأساس التنموي الذي يدعم النمو الاجتماعي القائم على مبادئ المساواة والعدالة وصون كرامة الإنسان وحقوقه في إطار شامل ومستدام، ولعل إصدار قوانين الحماية الاجتماعية منذ السبعينيات وحتى إصدار قانون الحماية الاجتماعية في عام 2023، يكشف التطوُّر الذي مرَّت به الحماية الاجتماعية في عُمان من حيث المفهوم ومدى الوعي بإمكاناته التنموية المرتبطة بتنمية أفراد المجتمع وتغيير أنماط الحياة ليكونوا مستعدين وقادرين على مواكبة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها الدولة، إضافة إلى تحسين مستوى مشاركتهم في تحقيق التنمية المستقبلية.
إن تطوُّر مفاهيم الحماية الاجتماعية في عُمان باعتبارها أنظمة وسياسات راسخة في التشريع الوطني، يقدِّم نموذجا شاملا يغطي جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية للمواطن؛ سواء على مستوى دعم الحصول على الدخل المعيشي الملائم الذي يحفظ كرامته، أو على مستوى حفظ حقوق وواجبات العاملين في القطاعات المختلفة، وضمان تحقيق الأمان الوظيفي الذي ينشدونه.
ينطلق الفهم الحديث للحماية الاجتماعية من تمكين إشراك أفراد المجتمع كلهم في العمل التنموي للدولة، وتعزيز قدرتهم على التعاون والتشارك الفاعل والإيجابي، لذا فإن هذا الفهم والوعي المتطلِّع يفسح المجال أمام أفراد المجتمع للعطاء والتفاؤل والعمل المتواصل من أجل تحسين أنماط الحياة وتنظيم مستويات الحماية الاجتماعية الذاتية التي تتبناها الأسرة نفسها بُغية حماية أفرادها اجتماعيا واقتصاديا.
والمتتبع لخطابات جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- سيجد مدى الحرص على حماية شعبه اجتماعيا واقتصاديا، انطلاقا من الرعاية السامية للمواطنين والاهتمام الكبير بكل ما من شأنه أن يُعزِّز تحقيق رفاهيتهم، ويمكِّنهم من المشاركة الفاعلة في تنمية الوطن، ولهذا فإن ما تفضَّل به جلالته أثناء رئاسته لاجتماع مجلس الوزراء بقصر المعمورة العامر بصلالة؛ يكشف تلك الرعاية الشمولية التي يحظى بها أفراد المجتمع العماني.
فبدءا من تخصيص خمسين مليون ريال إضافية لبرامج ومسارات تشغيل الباحثين عن عمل، وما يسهم به ذلك من فتح آفاق التوظيف أمام الشباب، وتخصيص اثنين وسبعين مليون ريال لتمويل برنامج منفعة دعم الأسرة؛ الذي سيمثِّل رافدا مهما لتحسين المستويات المعيشية للكثير من الأسر العمانية، ويمكِّنهم من تحقيق العيش الكريم، إضافة إلى تخصيص مبلغ إضافي بقيمة أربعين مليونا ضمن الخطة الخمسية الحالية لتسريع بناء المدارس، الأمر الذي سيكون له الأثر الكبير في تحقيق الأهداف التنموية الرامية إلى تعزيز جودة التعليم.
إن ذلك الدعم كله يسهم مباشرة في تعزيز مبادئ الحماية الاجتماعية والقدرة على تحقيق برامجها، ويتيح المجال للقدرات الوطنية لتحقيق مستويات أعلى من التنمية البشرية؛ فبرامج توظيف الباحثين عن عمل لا ينعكس نجاحها على حماية المستفيدين منها اقتصاديا وحسب، بل أيضا حمايتهم على المستوى الاجتماعي والثقافي، فكلما كان المستوى الاقتصادي للأفراد مستقرا كان أكثر صحة وأمنا على المستويين النفسي والاجتماعي، وبالتالي أكثر قدرة على المساهمة الفاعلة في التنمية المجتمعية.
إضافة إلى أن بدء صرف منفعة دعم الأسرة، وما عكسه من اطمئنان على مستوى المجتمع، يمثِّل تعزيزا لذلك الدعم المستحق للمواطنين المشمولين بهذه المنفعة، وهي الفئة المجتمعية التي تشغل الدول عادة، والتي تحرص دوما على رعايتها وحمايتها، ولهذا فإن الرعاية السامية لهذه الأسر والاهتمام المتزايد بها، دفع إلى زيادة مخصصات هذه المنفعة بما يضمن استدامة هذا الدعم وشموليته، تحقيقا للأمن الاجتماعي، ورفاه تلك الأسر.
إن شمولية الرعاية والحماية الاجتماعية تتأسَّس وفق مجموعة من المحددات التي تضمن قدرة الدولة على تقديم إطار متكامل من الرعاية التي تضمن تطوُّر المجتمع تطورا قائما على توفُّر برامج حماية صحية وتعليمية واقتصادية وحتى بيئية، لكي ينمو أفراد المجتمع نموا صحيا وفكريا ونفسيا، يمكِّنهم من الاستقرار الاجتماعي والمشاركة في التنمية الوطنية بإيجابية.
ولذلك فإن الأفق الرشيد الذي تنطلق منه الرعاية السامية للمواطن العماني، يحث دوما على التربية الاجتماعية التي تعزِّز دور الأسرة والتكافل الأسري القائم على الأخلاق الأصيلة والمبادئ التي رسختها الحضارة العمانية عبر تاريخها الممتد. إن التربية الوالدية في المجتمع العماني تنضوي ضمن آفاق الحماية الاجتماعية باعتبارها أساسا من أُسس التربية والتنشئة خاصة في ظل الانفتاح والمشتتات التقنية المتعددة، التي أصبحت تمثِّل خطرا كبيرا على الناشئة والشباب إذا لم يحسنوا التعامل معها والاستفادة منها بما يخدم مجتمعهم.
إن الرعاية السامية التي يحظى بها المواطن العماني، والاهتمام السامي بتعزيز برامج الحماية الاجتماعية تقدِّم نموذجا للاهتمام بتوسيع آفاق الحماية وأنماطها وتمكين دورها في التنمية الاجتماعية من ناحية، وتعزيز دور المواطنين بكافة شرائحهم لضمان مشاركتهم في التنمية الوطنية، وفتح الفرص أمامهم لتحسين مستويات عيشهم وتغيير أنماط حياتهم نحو الأفضل، وهي رعاية تدفعنا جميعا إلى العمل الجاد الذي يُسهم في دعم أهداف هذه الحماية.
فالتعاون والمشاركة الفاعلة بين أفراد المجتمع والمؤسسات الحكومية والخاصة والمدنية، سيُسهمان في دعم الأهداف الوطنية لبرامج الحماية الاجتماعية، إضافة إلى أن فرص التعليم والعمل تتيح لجميع أفراد المجتمع مجالات مفتوحة لتحسين المستوى المعيشي للأسر، لذا فإن برامج الحماية الاجتماعية تمثِّل أساسا يمكن الانطلاق منه نحو مجتمع متعاون ومتكافل.
عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: برامج الحمایة الاجتماعیة الاجتماعیة والاقتصادیة الحمایة الاجتماعیة فی أفراد المجتمع فی التنمیة إضافة إلى
إقرأ أيضاً:
معارض الكتب.. الكلمة التي تبني وطنا
في زمن تُقاس فيه التحوّلات بالتنمية المادية، وتُقاس فيه النجاحات بعدد المشروعات والمنجزات الملموسة، هناك ما يحدث في كثير من الهدوء وبعيدا عن الضجيج وعن المؤتمرات السياسية والاقتصادية وعن تفاصيل الإنجازات اليومية، لكنه أكثر رسوخا وأبعد أثرا.. إنه بناء الوعي.
ومن بين أكثر أدوات هذا البناء فاعلية وعمقا، يمكن الحديث عن معارض الكتب، الفضاءات التي تبدو ـ للوهلة الأولى ـ أسواقا أو دكاكين للبيع، ولكنها، في عمقها الحقيقي، مؤسسات للنهضة الصامتة، وجبهات مقاومة فكرية في مواجهة التفاهة، وهيمنة الاستهلاك، وتآكل الجوهر في هذا الزمن الرقمي.
ومعرض مسقط الدولي للكتاب، الذي يفتح أبوابه اليوم في دورته التاسعة والعشرين، هو أحد تلك الحالات المجتمعية النادرة التي تراكم فيها الوعي العماني على امتداد أكثر من ثلاثة عقود، وارتسمت عبرها ملامح الأجيال التي قرأت وتناقشت واختلفت وتحاورت بين أروقته وفي قاعات فعالياته.
لقد تحول المعرض، عاما بعد عام، إلى مرآة غير مباشرة لأسئلة المجتمع الكبرى: ما الذي يشغل العمانيين؟ ما نوع المعرفة التي يبحث عنها الشباب؟ كيف تتغير اهتمامات الفئات العمرية المختلفة؟ وفي أي اتجاه تمضي أذواق المجتمع الثقافية؟ هذه الأسئلة لا تُجيب عنها استطلاعات الرأي، وهي غائبة أصلا، بقدر ما تجيب عنها عناوين الكتب التي تم بيعها، وخرائط الزحام أمام دور النشر، وحوارات الزوار في الزوايا والأجنحة.
لكن معرض مسقط الدولي للكتاب الذي يفخر به العمانيون باعتباره أحد أهم معارض الكتب في العالم العربي وباعتباره الحالة الثقافية التي تعكس حقيقة وعمق المجتمع العماني ليس تظاهرة ثقافية آنية، إنه بكثير من المعاني مختبر مجتمعي لقياس الوعي والذائقة العامة، ورصد تحوّلاتها. وفي كل دورة كان المعرض يقدم، دون أن يصرح، مؤشرا سنويا لوعي المجتمع ومسارات الحرية الثقافية عبر مستويات البيع ومستويات التلقي للكتب الفكرية والروائية والأطروحات السياسية والفكر الديني والكتاب النقدي الذي يتجاوز القوالب الجاهزة، وكذلك عبر قياس مستوى تنوع فئات المجتمع الذين يرتادون المعرض.
وما بين عشرات الملايين من الكتب التي انتقلت من أرفف الدور إلى أيدي القرّاء، كانت تتشكل سلسلة ذهبية من الوعي: قارئ يطرح سؤالا، وناشر يستجيب، وكاتب يكتب، ومجتمع ينمو. وبهذه الطريقة تبنى النهضات الثقافية والفكرية الحقيقية والعميقة بعيدا عن الشعارات الكبيرة ولكن بتراكمات صغيرة بفعل القراءة، ثم التأمل، ثم النقد الحقيقي.
وكل من آمن بالكتاب ودافع عن مكانته، وشارك في صناعته أو نشره أو قراءته، كان يضع حجرا مكينا في مسيرة بناء وعي المجتمع العُماني، ذاك الوعي الذي لا يُرى لكنه يُشعر، ويُقاس بمدى قدرة المجتمع على طرح الأسئلة بدلا من استهلاك الأجوبة الجاهزة.
ولذلك فإن الذين سيحتفلون في مركز عمان للمؤتمرات والمعارض صباح اليوم إنما يحتفلون بما صار يمثله المعرض في الوجدان الجمعي من كونه مركزا للمعرفة وساحة للحوار، وفضاء واسعا لأحلام الجميع.. وهذا الفعل أحد أهم أدوات المقاومة في زمن رقمي قاسٍ يستهلكنا أكثر مما يعلّمنا؛ ذلك أن أمة لا تحتفي بكلمة، لا تبني مستقبلا. ومعرض الكتاب ليس احتفالا بالورق، بل احتفاء بالعقل، وبما يجعلنا بشرا في عالم واسع يُصادر فينا إنسانيتنا كل يوم.