حكاية شهيد شيعه الأموات قبل الأحياء.. انطلقت جنازته بعد 57 عاما من وفاته
تاريخ النشر: 21st, September 2024 GMT
يقال إن زمن المعجزات انتهى. لكن ما جرى خلال الشهرين الماضيين على أرض سيناء أثبت أن المعجزات يمكن أن تخرج من قلب الرمال لتذهل كل من كان له عقل يعى وقلب يشعر.. وأن للشهداء كرامات وعلامات تثبت فى كل وقت وحين أنهم «أحياء عند ربهم يرزقون». تلك هى قصة مجند مصرى، ربما لم يخطر بباله قبل 57 عاماً أنه سيصبح حديث أبناء المستقبل، كما كان حديثهم فى الماضى، وأنه سوف يعود إلى مسقط رأسه مكرماً بجنازة عسكرية مهيبة، محمولاً على أعناق رجال كانوا وقت رحيله فى علم الغيب، وأنه سوف يسير خلفه أفراد عائلته القادمون من المستقبل.
على عمق لا يتعدى نصف طول مسطرة الأطفال المستخدمة فى المدارس، 15 سم فقط، كان «فوزى» يرقد تحت الرمال، يحمل فى جيبه بطاقة تحقيق شخصية رقم 273 تشير إلى اسمه الكامل فوزى محمد عبدالمولى، وتاريخ ومحل الميلاد 18 يناير 1954 فى الإسكندرية، وأنه كان يقيم فى وادى القمر، ووظيفته كعامل بإحدى الشركات الكبرى فى مسقط رأسه وادى القمر.
بطاقة شخصية حملت مفارقة غريبة للغاية، إذ حملت البطاقة تاريخ ميلاده وأيضاً تاريخ وفاته، فالبطاقة كان من المفترض أن ينتهى العمل بها يوم 10 أبريل من العام 1967، وهو العام ذاته الذى استشهد فيه المجند البطل «فوزى».
خلف الشهيد أسرة عريقة، لاتزال تتمسك ببعضها البعض، يتذكرون فقيدهم، ويحتفظون بصورته الوحيدة الباقية لديهم، لم ينسه أحد منهم قط، من عاصره ومن لم يفعل، بل تكفل من يعرفونه بالحكى عنه لمن لم يكونوا قد ولدوا بعد حين رحل، أسرة لا يزال أفرادها يبكون شهيدهم حتى اليوم، ربما لهذا بدا خبر العثور على جثمانه بمثابة أمر جلل، أو بالأحرى معجزة كبرى غير قابلة للاستيعاب!
مفاجأة غير متوقعة للأسرة
كان الجندى المصرى الذى تم إعلانه شهيداً عقب فقدانه عام 1967 بأربع سنوات، لاتزال الآمال تراود أفراد أسرته أنه ربما كان حياً، أو ربما فقد الذاكرة، وما يزال على قيد الحياة بشكل أو بآخر، لكن ظهور أوراقه كاملة برفقة رفاته مثّل لهم الخبر اليقين أنه بالفعل شهيد، قولاً وفعلاً، لكنه شهيد حى، عاد بنفسه من تحت الأرض، حاملاً بطاقته الشهيرة، ووثيقة تحقيق الشخصية العسكرية رقم 360116 والذى استشهد وهو على رتبة جندى.
«محمد»: «متعلقات عمى بقيت بحالة جيدة طوال تلك السنوات.. بطاقته الشخصية.. شارته العسكرية.. شهادته الصحية وصور الرفاق على الجبهة»«فوزى» الذى كان يملك فصيلة دم نادرة هى o سالب، كان يملك قلباً نادراً أيضاً، ترك برغم سنوات عمره القليلة أثراً عظيماً للغاية.
أهالى الدخيلة استقبلوا الجثمان بـ«الزغاريد»إجراءات عديدة كان على ابن شقيقه محمد عبدالمولى أن ينهيها قبل أن تتواصل معه الجهات المعنية لإنهاء الأمر، تصور أنه سوف يتسلم الرفات، ليرتاح الشهيد أخيراً برفقة والديه فى مقابر العائلة بمنطقة الدخيلة بهدوء، لكن «محمد» لم يتخيل أن يشيع عمه بجنازتين عسكريتين؛ الأولى أثناء تسلُّم الرفات من داخل مستشفى السويس العسكرى، فى جنازة حضرها قادة الجيش الثالث الميدانى، وجلس خلالها «محمد»، و«عبدالمولى» الذى ذهب لاستقبال جثمان شقيقه فوق كرسى متحرك، بقاعة كبار الزوار، لكن هذا لم يكن كل شىء، فقد كانت هناك جنازة عسكرية مهيبة بانتظاره من مسجد السنانى فى منطقة الدخيلة إلى داخل جبانات الدخيلة، حيث عاد «فوزى» أخيراً إلى والدته التى انتظرته لسنوات طويلة قبل أن تتوفى وهى لا تعلم أن صاحب الصورة التى كانت تلثمها وتحدث الناس عنها طوال حياتها سوف يعود إليها عقب 57 عاماً من استشهاده.
أجواء استثنائية شهدتها «الدخيلة»كانت الأجواء صباح يوم 19 سبتمبر توحى بأن ثمة حديثاً سعيداً على وشك الحدوث، انخرط عمال الحى فى رش الأرض بالمياه وتنظيف الأرصفة، ورفع أى قمامة ولو بسيطة من على الأرصفة، ظهر السجاد الأحمر المخصص لاستقبال الشخصيات المهمة، وبدا الجميع متحفزاً لحدث مهم.
«الوطن» قطعت الطريق من القاهرة إلى الإسكندرية كى تشهد الحدث الاستثنائى، كنا نرغب فى أن نحكى القصة لكل شخص نلقاه، أن نروى للجميع قصة «فوزى»، الجندى البطل الذى أكرمه الله بالعودة إلى أهله من دون حول أو قوة. داخل الميكروباص المتجه من الكيلو 21 إلى الدخيلة كان كثيرون فى طريقهم إلى الحدث المهم، وهناك أمام مسجد السنانى كان من بين المنتظرين أب وابنه، يجلسان قبالة الباب، وقد أثار فضولهما حالة الاستعداد فسأل الأب وأجابه الموجودون بالقصة، لكنه رد باستغراب وهو يفض ورقة كانت بداخلها شطائر فلافل: «هيدفنوا إيه؟ هو فاضل منه إيه؟».
لم يكن السائل يعرف أن الشهيد ما يزال يحتفظ ببذلته العسكرية كاملة، وبأوراقه كاملة، وبهيكله أيضاً كاملاً، مسألة أثارت استغراب عائلته، حيث هتفت ابنة شقيقته الصغرى: «اللى أعرفه إن الناس بعد السنين دى كلها بتكون تراب، إزاى لسه زى ما هو، بورقه وتفاصيله، لا أكله ديب ولا أثر فيه مطر ولا جرفه سيل، دى معجزة والله العظيم»، مسألة أمّن عليها رجل طاعن فى السن إلى جوارها، هتف بحكمة بالغة: اللى بتسأل عنه موجود، والشهيد شاهد على قول الله تعالى «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون».
كرامات من قلب الجنازة المهيبةلم يكد محمد محمود عبدالمولى يتسلم متعلقات عمه الشهيد حتى انتابته قشعريرة، حيث بقيت متعلقاته طوال تلك السنوات بحالة جيدة؛ بطاقته الشخصية، وشارته العسكرية، وشهادته الصحية، وصور أصدقائه وعائلته، لكن الأمر الأغرب فى القصة كلها كانت علبة البفرة الخاصة بسجائره، ماركة سميراميس.. ما تزال على حالها كأن الشهيد قد وضعها بجيبه قبل ليلة واحدة، وليس قبل أكثر من 20805 ليالٍ مضت!
«سلوى»: «الناس من بحرى وأبوتلات والعجمى جايين يحضروا جنازة خالى اللى مفقود من 60 سنة.. تبقى دى كرامة للشهيد ولا لأ؟»«الناس دى كلها جاية علشان خالى فوزى؟ دى أول مرة العيلة تتجمع بالشكل ده، جايين من بحرى وأبوتلات والعجمى وكل حتة فى إسكندرية، أنا أول مرة أشوف العيلة كلها متجمعة بالشكل ده فى مكان واحد»، اعتبرت «سلوى»، ابنة شقيقته «حياة»، اجتماع العائلة من دون سابق إنذار، بالعدد الضخم الذى رأته، أمراً خارج نطاق التصور، قالت: «لما شهيد مفقود قرب على الستين سنة متوفى، يجمع عيلته اللى شافها واللى ماشافهاش تبقى دى كرامة للشهيد ولا لأ؟ فى ليلة واحدة عرفنا ميعاد الجنازة، وفى ساعة واحدة جمعنا خالى، ألف رحمة ونور عليه.. كان بيصل رحمه عايش وميت».
لم يتبق من إخوة «فوزى» الأشقاء سوى شقيقته الكبرى «حياة»، والشقيق الأوسط «عبدالمولى»، بينما توفى الأخ الأكبر «محمود»، أما والده فقد توفى بينما كان «فوزى» فى عمر السابعة، لكن والدتهم، التى تزوجت من بعد وفاة والدهم، صنعت امتداداً كبيراً للأسرة التى اجتمعت من كل حدب وصوب ليشهدوا معجزة عودة الشهيد.
على باب المسجد، جلست «حياة»، لم ترغب فى البقاء مع السيدات، هكذا التمست الاقتراب من النقطة التى سيمر منها شقيقها، ولم تتوقف عن البكاء لحظة، حيث راحت تردد: «أشوفه.. نفسى أشوفه، فرحانة من قلبى بس أشوفه، ماشُفتش منه غير كل خير، كل اللى أطلبه منه كان يجيبهولى، كان بيسمع كلامى، كنت أقول له يا فوزى عاوزة كذا، كان يقول لى اللى عاوزاه أجيبهولك، كان حنين قوى»، لاتزال تذكر هديته الأخيرة لها، الشاب الذى لم يكد يبلغ السن القانونية، ذهب لقضاء الخدمة العسكرية فى اليمن، حيث ظل لسنوات، اعتقدت خلالها «حياة» أنها قد فقدته.
لكنه عاد مع هدايا لها ولوالدتها «شبشب وملاعق طعام لامعة»، كان الراحل يملك -بحسبها- «حنية الدنيا» فى قلبه، ربما لهذا كانت ترغب بشدة فى حضن أخير للنعش المنتظر المغلف بعلم مصر، بكت المرأة الثمانينية بكاءً مريراً كأنها تبكى للمرة الأولى، بينما وقفت الأسرة والجيران والمارة فى انتظار الشهيد لساعات، دون كلل أو ملل، قبل شهور كان يخطر ببالها وتتساءل: أين هو؟ وحين علمت أنه ما يزال هناك.
لم تكن ترغب بشأنه سوى ألا يصير وحده بعد هذه اللحظة، أن يحظى بصحبة أسرته ممن سبقوه إلى دار الحق ومن ينتظرون اللحاق به، لم تتخيل أنه سيعود مرة أخرى محملاً بالهدايا أيضاً، هدايا تمثلت فى متعلقاته الثمينة التى ظلت محفوظة فى جيبه تحت الرمال، مقاومة تقلبات درجات الحرارة وشراسة المناخ فى أجواء الصحراء، حيث تحملت 171 فصلاً بين خريف وربيع وصيف وشتاء!
أمّنت «اعتماد»، أختها غير الشقيقة من أمها، على حديثها، وقالت: «كان حنين جداً، لسه فاكرة كلام أمى عنه، وفاكرة ردوده عليها، الكلمة الوحيدة على لسانه كانت حاضر يا أمى، عمره ما قصر معاها أو معانا فى أى شىء، صحيح كنت صغيرة لكن حضرته وشُفت جمال قلبه بعينى».
«زينب»: «كنت أشوف أمى ماسكة صورته تبوس فيها وتبكى.. أنا حاسة إنى جاية فرح »«المعجزة الحقيقية إنه قدر يرجع لأهله أخيراً.. لأمه وأبوه وإخواته وهينام فى حضنهم»، قالتها «زينب»، صحيح أنها أصغر أبناء والدة «فوزى»، وأخت غير شقيقة، لم تره أبداً، إلا أنها لم تتمالك دموعها بدورها، تقول: «كنت أشوف أمى دايماً ماسكة صورته تبوس فيها وتبكى، وتقول لى لو كنتى تشوفيه يا بنتى كان بدر.. فوزى اللى فاز بالحسن والأدب، كنت صغيرة وشُفت حبها له، مفيش زيه شاب ولا فى طيبته، قال أنا ماشى ومش راجع، كان عنده إحساس إنه رايح ومش راجع.. أنا حاسة إنى جاية فرح، عاوزة أزغرد.. فرحة بدموع لكن من القلب».
وسط الجمع جلست نعمة إسماعيل، زوجة خاله الراحل، فى انتظاره: «النهارده الفرحة مش سايعانا إنه وصل لنا أخيراً، آخر زيارة له جالنا البيت، كان بيود أهله وبيصل رحمه، سلم عليا قبل ما يمشى زى ما سلم على كل العيلة».
كانت المفاجأة فى عدد من الوجوه غير المعروفة التى ظهرت فجأة، فمن بعيد هرولت سيدة، كانت تبكى، راحت تطلب من الموجودين أن ترى صورته، سألها الواقفون هل تعرفينه؟ فقالت: «لا والله، سمعت القصة ومش مصدقة، قلبى رفرف وجيت، بنتى بتفرش شقتها هنا قريب هتتجوز، سِبت كل حاجة ونزلت جرى علشان أقف أستقبله، دى معجزة عظيمة لازم أشوفها بعينى»، أظهرت لها صورته على هاتفى فراحت تلثمه، قبل أن تنخرط فى البكاء داعية له بالرحمة الواسعة.
الحالة ذاتها انتابت رجلاً فى التسعين من عمره، كان يتوكأ عصاه ويمشى بتؤدة تجاه الجمع الواقف، الحج محمد، كما يناديه أهل منطقة الدخيلة، تحديداً فى المساكن المقابلة للجبانات، وقف بين الزحام فى انتظار وصول الشهيد، كانت لحيته البيضاء الطويلة بلون جلبابه وعمته، انحنى ظهره وتساقطت أسنانه، إلا أن وجهه كان مشرقاً بقوة، نظر لى معتقداً أننى لا أعرف القصة، وقال: «تعرفى اللى هييجى كمان شوية ده شهيد من سنة 67، انتى متخيلة المعجزة.. زمن المعجزات ماولاش، الشهيد حى عند ربه وحى فى قلوبنا كلنا».
«أنا آمنت إنها آية من ربنا»، قالتها أمنية محمود عبدالواحد، تصفه بـ«جدها» وتقول: «يبقى جدى، خال بابا وخال ماما، كنت أسمع عنه، لكن ماكنتش أتوقع إنه يخلينى أحضر بنفسى جنازة عسكرية كنت بسمع عنها وبس، دى أول مرة أشوف حاجة زى كده وأسمع حاجة زى كده، دى حاجة من الخيال، فعلاً ربنا قادر على كل شىء، من فقدان الأمل لقمة الأمل، فيه ناس نسيته، لكن هو مانسيناش، وقرر يرجع ويفكرنا إن المعجزات ممكنة».
«عادل»:« جدتى كانت دايما تبعت لأمى تقول لها ابعتيلى عادل.. لما بشوفه كأنى شفت فوزى قدامى»فى أحد الأركان وقف رجل، يشبه الصورة المتداولة للشهيد كثيراً، عادل إسماعيل قبيصى، الابن الأكبر للأخت الكبرى «حياة»، كانوا ينادونه بـ«فوزى» للشبه الكبير بينهما، شبه حين يتحدث عنه الرجل يبكى بشدة، يقول: «جدتى كانت دايماً تبعت لأمى تقول لها ابعتيلى عادل، لما بشوفه بشوف فوزى قدامى على طول، كانوا بيتسابقوا علىّ علشان يشيلونى، لو كان خلّف يمكن ماكانش ابنه يكون شبهه بالشكل ده، الناس فى الشارع كانت دايماً تذكرنى إنى شبهه، أتمنى فى يوم أكون شهيد على خطاه».
زفة عريس وليست جنازة«النهارده زفة عريس وكلنا جايين نزفه للسما»، قالتها «شادية»، ابنة عم الراحل، تقول: «حضرته لما كان شاب طول بعرض يفرح القلب، كان دايماً يسأل علينا، ويودنا، الكل لسه بيحلف بحنيته، قبل ما يمشى جالنا وسلم علينا، وقعد معانا، ماكانش يعرف إننا بعد السنين دى كلها هنيجى كلنا نزفه للسما عريس».
«وصل وصل»، هتف بها أحدهم فانطلقت الزغاريد بقوة، بينما بكى الكثيرون، وسط هتافات: «لا إله إلا الله.. الشهيد حبيب الله»، صلاة من أعماق الروح أداها الجميع، فى مقدمتهم قيادات بالقوات المسلحة، ووفد من الأزهر الشريف، ومديرية الأوقاف بالإسكندرية، ولم تلبث الصلاة أن انتهت حتى انطلقت الجنازة، ومعها طلقات البنادق تكريماً للشهيد، وزغاريد، فيما انساب «فوزى» المتدثر بعلم مصر فوق السجادة الحمراء صوب مدفن العائلة ليجتمع بهم أخيراً، مشهد سيظل باقياً فى أذهان كل من رأوه.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: الإسكندرية الدخيلة
إقرأ أيضاً:
تشييع جثمان الشهيد عبدالرؤوف القحطاني في جبل راس بالحديدة
سبأ :
شُيع بمديرية جبل راس في محافظة الحديدة، جثمان الشهيد عبدالرؤوف عبدالله علي القحطاني من أبناء عزلة خنة، الذي استشهد وهو يؤدي واجبه في الدفاع عن الوطن.
وخلال التشييع الذي شارك فيه قيادات عسكرية ومحلية وتنفيذية، أشاد المشيعون، بتضحيات الشهداء الذين بذلوا أرواحهم فداء للوطن، مؤكدين المضي على نهجهم في مواجهة الأعداء.
وقد وُوري جثمان الشهيد الثرى في روضة الشهداء بمنطقة الهلابا بحضور أقاربه وجمع من المواطنين.