لجريدة عمان:
2025-01-30@17:11:22 GMT

التحصين القيمي للمجتمع

تاريخ النشر: 21st, September 2024 GMT

في اجتماع مجلس الوزراء الذي ترأسه جلالة السلطان هيثم بن طارق -أيده الله- بقصر المعمورة بولاية صلالة، وذلك بتاريخ 19 سبتمبر 2024، جاء في نص البيان عن الاجتماع: «وفي ظلّ صلابة اللحمة المجتمعية والانسجام والتآلف الذي عُرف به المجتمع العُماني طوال التاريخ، واستنادًا على القيم العُمانية العريقة التي ترفض كافة أشكال التشدد والتعصب والتحزب، فقد أكد مجلس الوزراء على أهمية تحصين المجتمع من مختلف الجوانب، وتعزيز دور الأسرة لتقوم بتنشئة أبنائها على المبادئ السمحة واجتناب الأفكار الضالة والتأثر بها».

في المنطلق هذه ليست الإشارة الأولى التي تنوه إليها القيادة السياسية فيما يتعلق بالمسألة القيمية، وتكرار الإشارة في ذاته يحمل معنى مهما بالنسبة للواقع الاجتماعي، وإذا جئنا إلى تحليل مفردات الإشارة هنا نجد أن هناك أربعة تأكيدات مهمة؛ أولها: أن الأصل في تأريخية المجتمع قيم الالتحام والانسجام والتآلف، وثانيها: أن هناك قيما بعينها تشكل خطرًا أقصى على النسيج المجتمعي ولابد من مواجهتها، وهي التشدد والتعصب والتحزب، وثالثها: أن الأسرة هي أساس التحصين القيمي للمجتمع وأن ديناميكياتها في التربية تحدد قوة النسيج المجتمعي عمومًا، ورابعها: أن هناك إلحاحًا ظرفيًا تحكمه ظروف الواقع المتغير يدعو إلى جعل المسألة القيمية الآن الشغل الشاغل في اهتمام كافة المكونات المجتمعية.

يعنينا في البداية القول: إن التعامل الجاد مع المسألة القيمية في أي مجتمع يقتضي تشخيص مصادر تهديد القيم، وتحديد المنابع الفعلية من اتجاهات وموجات وأدوات من شأنها أن تهدد النسيج القيمي؛ فلا يصح إيجاد المبادرات والبرامج والحملات دون أساس منهجي واضح يقتضي التتبع وملاحظة التغيير الفعلي لاحقًا. وفي مجتمعنا- كما هو حال مجتمعات الخليج- نعتقد أن مهددات النسيج القيمي نابعة من خمسة مصادر رئيسية؛ أولها: الانخراط في عالم اتصالي موسع تقوده برامج وتطبيقات التواصل الاجتماعي، وتنغمس فيها جملة من الثقافات والقيم المتداخلة، التي يصعب على الناشط فيها ما لم يكن محصنًا فكريًا وقيميًا من التعامل النوعي معها، وفلترة اتجاهاتها، وتمكين الذات من الفكر الناقد إزاءها. وفي مقابل ذلك فإن هناك ضعفًا كبيرًا في تسويق الثقافة والقيم المحلية بأدوات وطرق مبتكرة عبر هذه الفضاءات، وضعف في التأكيد عليها في مقابل الثقافات والقيم الأخرى ذات السطوة. فالمسألة مسألة تحصين في المقام الأول، وانخراط في الإنتاج وتسويق الثقافة في المقام الآخر. المصدر الآخر: هو في طبيعة تقديم الإعلام بنوعيه التقليدي والاجتماعي للمكونات الاجتماعية: كيف يقدم الإعلام المهيمن اليوم شكل الأسرة والمفاهيم المتصلة بها؟ وكيف يقدم معاني الاندماج الاجتماعي؟ وكيف يقدم قيم الحرية والفردانية في مقابل التواصل والتفاعل الاجتماعي؟ وكيف يقدم قيمة التربية والتنشئة؟ أن أسئلة من هذا القبيل يجب أن تبحث وتطرح في سياق الإعلام المهيمن؛ ونقصد بالإعلام المهيمن المادة الإعلامية التي تحوز اهتمام الفئة الأكبر من المجتمعات، ونوعية الوسائل والمحتوى والمنصات التي ينخرطون في متابعتها بشكل أكبر مقارنة بغيرها.

المصدر الثالث من مصادر تهديد القيم هو الفجوات بين الأجيال، وعدم وجود توازن وتواصل في معادلة الأجيال، ما نشهده اليوم هو اضطرارية الجيل الأقدم للتواكب مع لغة ومفاهيم وأدوات الجيل الأحدث، واختلال معادلة الأجيال في حد ذاتها تشكل مشكلة اجتماعية. تعرف الأجيال الأقدم بأنها حافظة القيم، والناقلة لها، وإحدى أدوات الضبط الاجتماعي التي تسهم في التزام طيف واسع من المجتمع بموجهات تلك القيم، ولكن متى ما سلبت الأدوات والوسائل والمساحات التي تمكن هذه الأجيال من التواصل والتفاعل مع الأجيال الجديدة متى ما توسعت تلك الفجوات وأحدثت شرخًا في نقل القيم الاجتماعية المرغوبة. المصدر الرابع في تقديرنا متمثل في ضعف مساحات الحوار العام الاجتماعي، وتحول النقاش حول الواقع الاجتماعي إلى نقاش افتراضي مؤطر، تقوده اتجاهات آنية، وتسيطر عليه النزعات الذاتية، وتحكمه الفردانية. إن وجود مساحات واقعية لتعزيز الحوار حول الواقع الاجتماعي مسألة ذات أهمية، سواء كانت تلك المساحات برامج إعلامية، أو ندوات موسعة، أو جلسات نقاش، أو حوارات متعددة المستويات. ثم إن النقاش الذي يؤدي إلى التحصين القيمي هو النقاش الذي يبحث في عمق القيم، ويسائل السلوكيات المترجمة لها بشفافية، ولا يواري عن ذكر حقائق الواقع دون تزييف أو مبالغة. أما المصدر الأخير في تقديرنا – وهو مصدر تتماثل فيه كافة المجتمعات على حد سواء – فهو يتمثل في طبيعة الواقع الاقتصادي، وما يدفع ذلك الواقع الأفراد فيه إلى تبني قيم معينة، وإلى تمثل قيم قد لا تكون مطابقة للأصل المجتمعي، وقد تكون دافعة إلى الصراع الاجتماعي منه إلى التوازن والتكامل.

في كل الأحوال فإن التحصين القيمي للمجتمع يتطلب اليوم جهدًا تآزريًا، أول منطلقاته ألا تنسحب المؤسسات الاجتماعية عن أدوارها الفعلية، فلا تنسحب الأسرة عن الدور القيمي لصالح الدور الرعوي، وأن تترك للمساحات والفضاءات الأخرى نطاقًا لتشكيل قيم وهدم قيم أخرى، وكذا الأمر يتصل بالمدرسة كمؤسسة حاضنة لسنوات التشكيل الأساسية للقيم. وفي المقابل هناك دور موسع يجب أن تقوم به المحافظات اليوم من خلال تشجيع مساحات الحوار المحلي حول المسألة القيمية، وتشجيع مكونات المجتمع المحلي على تبني البرامج والمبادرات الحاثة على التحصين القيمي، وتجسيد المساحات لممارسة الفنون الإبداعية المرسخة للقيم، مثل المسرح وغيرها، والتي من شأنها إيصال الرسائل بطرق غير مباشرة تتماشى مع الوجدان الاجتماعي. وعلى مستوى المكون التعليمي، فإن الدعوات التي تظهر بشأن ضرورة إيجاد مقررات دراسية تعنى بالأخلاق والقيم العامة لم تعد من قبيل التزيد، وإنما ضرورة في تقديرنا، ذلك أن جزء أصيل من ارتباط الطلبة إنما هو بالمكون التعليمي، وبنسق المعرفة، فمتى ما حولت مادة الأخلاق والقيم إلى مكون معرفي يقود الطالب إلى أصلها وتأصيلها، والجوانب النفسية والسلوكية المتصلة بها، كلما كانت تلكم القيم والأخلاق أكثر رسوخًا وقناعة لدى الطلبة.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عُمان

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الجمهورية العربية السورية.. الواقع والمستقبل

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

بعد سيطرة هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع على مقاليد الحكم في دمشق.. وبعد أن قامت إسرائيل بالقضاء على ما تبقى من عدة وعتاد الجيش السورى، واحتلال باقى هضبة الجولان، أصبحت الرؤية ضبابية ليس فقط لمستقبل سوريا، بل أيضاً لمستقبل منطقة الشرق الأوسط. فهل تتحول سوريا إلى نظام طائفي على غرار لبنان والعراق أم إلى نظام ديمقراطي يعيش فيه الجميع بأمن وأمان، أم تقوم حرب أهلية جديدة مثل ليبيا واليمن؟.

هذا ما نحاول إلقاء الضوء عليه بعد دراسة الخلفيات المتعلقة بالتاريخ والجغرافيا والتركيبة السكانية والظروف الإقليمية والدولية المحيطة بهذا البلد العربي العزيز على قلب كل مصري.

أولا: تاريخ الدولة السورية، تعتبر سوريا من أقدم الحضارات في تاريخ البشرية. وقامت فيها إمبراطوريات متعاقبة منذ القرن الحادي عشر قبل الميلاد. وكانت المسرح الرئيسي لمواجهات كبرى لم تنقطع لقرون كثيرة بين الإمبراطوريات القديمة من الفينيقيين والآشوريين والإغريق والفرس والرومان والفراعنة. ودخل الفتح الإسلامي سوريا في عصر عمر بن الخطاب علي يد خالد بن الوليد وأبى عبيدة بن الجراح، وكانت دمشق عاصمة الدولة الأموية. ثم كانت  مسرحاً رئيسياً لمواجهة الغزوات المغولية والصليبية، والتي كان لمصر  النصر فيها. وأصبحت سوريا ولاية عثمانية سنة ١٥١٧ بعد معركة مرج دابق، واستمرت حتى الحرب العالمية الأولى (١٩١٤-١٩١٨). وبعد الحرب تم إعلان استقلال سوريا عن الدولة العثمانية في ٨ مارس سنة ١٩٢٠ من قبل المؤتمر السوري العام، إلا أن فرنسا رفضت الاعتراف بالمؤتمر، وأصدرت في سبتمبر سنة ١٩٢٠ مراسيم التقسيم، وفصل لبنان عن سوريا. ونالت سوريا استقلالها التام عام ١٩٤٦ عن فرنسا.. وشاركت سوريا مع مصر في حرب أكتوبر المجيدة سنة ١٩٧٣. ثم اندلعت موجة الربيع العربي السوري سنة ٢٠١١، حتى انهار النظام في سوريا وهرب بشار الأسد إلى روسيا.

ثانياً: جغرافية الدولة السورية، تقع سوريا في موقع استراتيجي مهم في جنوب غرب آسيا على الساحل الشرقي للبحر المتوسط. وتشترك مع دول أخرى في ٦ أنهار هي دجلة والفرات (مع العراق وتركيا)، ونهر العاصي (مع لبنان وتركيا)، وأنهار الخابور والساجور والبليخ (مع تركيا).

ثالثا: التركيبة السكانية لسوريا، يتشابك العرق والدين في سوريا كما هو الحال في بلدان أخرى في المنطقة، مثل لبنان والعراق. وهناك هويات سياسية غير دينية ولا عرقية مثل القومية العربية السورية.

ورغم عدم وجود مصادر موثوقة تحدد معالم التركيبة السكانية الحالية في سوريا، إلا أن المعلومات تشير إلى وجود أعراق عربية وأكراد وشركس وأرمن وتركمان وشيشان وغيرهم. أما من ناحية الأديان فتوجد أغلبية مسلمة من السّنة والعلويين والشيعة، (والأغلبية هم السّنة) ومسيحيون ودروز وأقلية يهودية.

وتشير بعض التقديرات الحديثة (٢٠٢٣) إلى أن عدد السكان في سوريا، قد تجاوز حاجز ٢٩ مليونا. كما تشير  بعض التقديرات الأمريكية، ومنظمات أممية أن حوالي ٧٥٪ من السكان هم من المسلمين السنّة، ويمثل العرب فيهم قرابة ٥٠٪. أما المجموعات المسلمة، غير السنية، فتشكل قرابة ١٣٪ من السكان ومنهم العلويون والإسماعيليون والشيعة. وتشير بعض الدراسات إلى أن نسبة العلويين الذي ينتمي إليهم الرئيس السابق بشار الأسد، تبلغ حوالي ١٢٪، ويشكل الإسماعيليون والشيعة قرابة ٢٪ فقط.

رابعاً: الظروف الإقليمية والدولية، تتشابك مصالح القوى الإقليمية غير العربية، مثل تركيا وإيران وإسرائيل، مع مصالح القوى الدولية خاصةً الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي بشكل معقد جداً، تجعل الموقف السياسي السوري ملبداً بالغيوم ومفعما باحتمالات لا يمكن توقعها أو التنبؤ بها سواء كان على المدى القريب أو البعيد.

فمثلاً، هناك تدخلات من قوى كثيرة تحاول أن تنال نصيباً من التورتة السورية، مستغلة الفراغ السياسي الحالي. وهناك نوايا بأن تتولى الولايات المتحدة مسئولية الأكراد في الشمال والشرق، وإسرائيل مسئولية الدروز في الجنوب والغرب، وروسيا مسئولية العلويين، وتركيا مسئولية الجماعات السنية وهي الأغلبية المنتشرة في معظم مناطق سوريا.

وهناك تخوفات حقيقية عند العديد من الدول العربية في المنطقة خاصة، الأردن، ومصر، بشأن نوايا الشرع المستقبلية ودائرة مستشاريه. لكن التخوف الأخطر هو إنشاء فرع لجماعة الإخوان المسلمين يؤدي إلى إلهام الجماعات الإسلامية التي تسعى لزعزعة استقرار الأنظمة في المنطقة.

الخلاصة من العرض السابق يتضح جلياً أن كل الاحتمالات مفتوحة، أما البلدان العربية في المنطقة، صاحبة المصلحة العليا في استقرار سوريا، وأهمها مصر فما زالت تراقب الأوضاع دون أن تتخلى عن الشعب السورى الشقيق فى هذه الظروف الدقيقة. ندعو الله أن تستقر سوريا وأن تعود إلى الحضن العربي.

مقالات مشابهة

  • عضو بـ«النواب»: تصريحات الرئيس تمثل رسالة قوية للمجتمع الدولي لدعم الفلسطينيين
  • الشعب الفلسطيني لا يريد حماس
  • الحبس 3 سنوات والغرامة لمني فاروق بتهمة التعدي على المبادئ والقيم الأسرية
  • حبس منى فاروق 3 سنوات بتهمة التعدي على المبادئ والقيم الأسرية
  • بعد قليل.. الحكم على الفنانة منى فاروق بتهمة التعدي على المبادئ والقيم الأسرية
  • الحكم على الفنانة منى فاروق بتهمة التعدي على المبادئ والقيم الأسرية..غدًا
  • الحكم على منى فاروق بتهمة التعدي على المبادئ والقيم الأسرية .. غدا
  • سلطات الأمر الواقع البائس
  • الجمهورية العربية السورية.. الواقع والمستقبل
  • الواقع الخدمي والمعيشي بعد 50 يوم منذ سقوط الأسد