في اجتماع مجلس الوزراء الذي ترأسه جلالة السلطان هيثم بن طارق -أيده الله- بقصر المعمورة بولاية صلالة، وذلك بتاريخ 19 سبتمبر 2024، جاء في نص البيان عن الاجتماع: «وفي ظلّ صلابة اللحمة المجتمعية والانسجام والتآلف الذي عُرف به المجتمع العُماني طوال التاريخ، واستنادًا على القيم العُمانية العريقة التي ترفض كافة أشكال التشدد والتعصب والتحزب، فقد أكد مجلس الوزراء على أهمية تحصين المجتمع من مختلف الجوانب، وتعزيز دور الأسرة لتقوم بتنشئة أبنائها على المبادئ السمحة واجتناب الأفكار الضالة والتأثر بها».
يعنينا في البداية القول: إن التعامل الجاد مع المسألة القيمية في أي مجتمع يقتضي تشخيص مصادر تهديد القيم، وتحديد المنابع الفعلية من اتجاهات وموجات وأدوات من شأنها أن تهدد النسيج القيمي؛ فلا يصح إيجاد المبادرات والبرامج والحملات دون أساس منهجي واضح يقتضي التتبع وملاحظة التغيير الفعلي لاحقًا. وفي مجتمعنا- كما هو حال مجتمعات الخليج- نعتقد أن مهددات النسيج القيمي نابعة من خمسة مصادر رئيسية؛ أولها: الانخراط في عالم اتصالي موسع تقوده برامج وتطبيقات التواصل الاجتماعي، وتنغمس فيها جملة من الثقافات والقيم المتداخلة، التي يصعب على الناشط فيها ما لم يكن محصنًا فكريًا وقيميًا من التعامل النوعي معها، وفلترة اتجاهاتها، وتمكين الذات من الفكر الناقد إزاءها. وفي مقابل ذلك فإن هناك ضعفًا كبيرًا في تسويق الثقافة والقيم المحلية بأدوات وطرق مبتكرة عبر هذه الفضاءات، وضعف في التأكيد عليها في مقابل الثقافات والقيم الأخرى ذات السطوة. فالمسألة مسألة تحصين في المقام الأول، وانخراط في الإنتاج وتسويق الثقافة في المقام الآخر. المصدر الآخر: هو في طبيعة تقديم الإعلام بنوعيه التقليدي والاجتماعي للمكونات الاجتماعية: كيف يقدم الإعلام المهيمن اليوم شكل الأسرة والمفاهيم المتصلة بها؟ وكيف يقدم معاني الاندماج الاجتماعي؟ وكيف يقدم قيم الحرية والفردانية في مقابل التواصل والتفاعل الاجتماعي؟ وكيف يقدم قيمة التربية والتنشئة؟ أن أسئلة من هذا القبيل يجب أن تبحث وتطرح في سياق الإعلام المهيمن؛ ونقصد بالإعلام المهيمن المادة الإعلامية التي تحوز اهتمام الفئة الأكبر من المجتمعات، ونوعية الوسائل والمحتوى والمنصات التي ينخرطون في متابعتها بشكل أكبر مقارنة بغيرها.
المصدر الثالث من مصادر تهديد القيم هو الفجوات بين الأجيال، وعدم وجود توازن وتواصل في معادلة الأجيال، ما نشهده اليوم هو اضطرارية الجيل الأقدم للتواكب مع لغة ومفاهيم وأدوات الجيل الأحدث، واختلال معادلة الأجيال في حد ذاتها تشكل مشكلة اجتماعية. تعرف الأجيال الأقدم بأنها حافظة القيم، والناقلة لها، وإحدى أدوات الضبط الاجتماعي التي تسهم في التزام طيف واسع من المجتمع بموجهات تلك القيم، ولكن متى ما سلبت الأدوات والوسائل والمساحات التي تمكن هذه الأجيال من التواصل والتفاعل مع الأجيال الجديدة متى ما توسعت تلك الفجوات وأحدثت شرخًا في نقل القيم الاجتماعية المرغوبة. المصدر الرابع في تقديرنا متمثل في ضعف مساحات الحوار العام الاجتماعي، وتحول النقاش حول الواقع الاجتماعي إلى نقاش افتراضي مؤطر، تقوده اتجاهات آنية، وتسيطر عليه النزعات الذاتية، وتحكمه الفردانية. إن وجود مساحات واقعية لتعزيز الحوار حول الواقع الاجتماعي مسألة ذات أهمية، سواء كانت تلك المساحات برامج إعلامية، أو ندوات موسعة، أو جلسات نقاش، أو حوارات متعددة المستويات. ثم إن النقاش الذي يؤدي إلى التحصين القيمي هو النقاش الذي يبحث في عمق القيم، ويسائل السلوكيات المترجمة لها بشفافية، ولا يواري عن ذكر حقائق الواقع دون تزييف أو مبالغة. أما المصدر الأخير في تقديرنا – وهو مصدر تتماثل فيه كافة المجتمعات على حد سواء – فهو يتمثل في طبيعة الواقع الاقتصادي، وما يدفع ذلك الواقع الأفراد فيه إلى تبني قيم معينة، وإلى تمثل قيم قد لا تكون مطابقة للأصل المجتمعي، وقد تكون دافعة إلى الصراع الاجتماعي منه إلى التوازن والتكامل.
في كل الأحوال فإن التحصين القيمي للمجتمع يتطلب اليوم جهدًا تآزريًا، أول منطلقاته ألا تنسحب المؤسسات الاجتماعية عن أدوارها الفعلية، فلا تنسحب الأسرة عن الدور القيمي لصالح الدور الرعوي، وأن تترك للمساحات والفضاءات الأخرى نطاقًا لتشكيل قيم وهدم قيم أخرى، وكذا الأمر يتصل بالمدرسة كمؤسسة حاضنة لسنوات التشكيل الأساسية للقيم. وفي المقابل هناك دور موسع يجب أن تقوم به المحافظات اليوم من خلال تشجيع مساحات الحوار المحلي حول المسألة القيمية، وتشجيع مكونات المجتمع المحلي على تبني البرامج والمبادرات الحاثة على التحصين القيمي، وتجسيد المساحات لممارسة الفنون الإبداعية المرسخة للقيم، مثل المسرح وغيرها، والتي من شأنها إيصال الرسائل بطرق غير مباشرة تتماشى مع الوجدان الاجتماعي. وعلى مستوى المكون التعليمي، فإن الدعوات التي تظهر بشأن ضرورة إيجاد مقررات دراسية تعنى بالأخلاق والقيم العامة لم تعد من قبيل التزيد، وإنما ضرورة في تقديرنا، ذلك أن جزء أصيل من ارتباط الطلبة إنما هو بالمكون التعليمي، وبنسق المعرفة، فمتى ما حولت مادة الأخلاق والقيم إلى مكون معرفي يقود الطالب إلى أصلها وتأصيلها، والجوانب النفسية والسلوكية المتصلة بها، كلما كانت تلكم القيم والأخلاق أكثر رسوخًا وقناعة لدى الطلبة.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عُمان
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الإنتاج الاجتماعي .. مسؤولية مَنْ؟
من المسلّمات المفروغ منها، أن الحياة لا تعيد إنتاج نفسها بصورة أقرب إلى النمطية منها إلى التجدد والتغيير، ولذلك فهي تشهد تغييرات جوهرية كثيرة ومتنوعة في كل شؤونها، وهذا أمر، مفروغ منه إلى حد كبير، فالأحداث صغيرها وكبيرها لا تتكرر بالصورة نفسها -وإن تشابهت كفعل- وذلك لأن الأسباب ذاتها تختلف بين زمن وآخر، والفاعلين فيها ذاتهم يختلفون في كل عصر، والأدوات ذاتها ليست هي التي كانت قبل نيف من السنين، لذلك فالحياة حالة ديناميكية متطورة ومتقلبة، ولا تتكرر الصور فيها إطلاقا؛ لأن الفاعل الحقيقي فيها هو الإنسان الذي تتقلب أحواله وتتجدد أنشطته، ولا يستقر على حال، فما أن يحقق مستوى معينا، إلا ويراوده التفكير في الشروع في تحقيق مستوى آخر، أكثر قدرة على تلبية متطلباته، ومن هنا نشهد هذا التطور الهائل في كل شؤون الحياة، وعلينا ألا نستغرب؛ لأنه بدون ما هو متحقق ويتحقق لن تسير حياتنا بالصورة التي نأملها أولًا، ونريد تحقيقها ثانيًا.
إلا أن الأمر يحتاج إلى شيء من الاستيعاب فيما يخص الإنتاج الاجتماعي، ذلك أن التفريط في هذا الإنتاج يمثل خطورة، وهذه الخطورة تكمن في ضياع أو تماهي الهوية الاجتماعية على وجه الخصوص، صحيح أن للأجيال الحق في أن تسلك وتتمسك بما يعبر عن شخصيتها في الزمن الذي تعيشه، ولا يعنيها أن تلتفت إلى الماضي بكل حمولته، فذلك كله لا يعبر عنها، في آنيتها، ما بقدر ما تنظر إليه كمرجع، يمكن أن تعود إليه لتستقرئ أمرا ما من أمور حياتها اليومية، ولكن لا يهم أن يشكل لها منهجا، فمنهجها هو ما عليه حياتها اليومية، وما تحققه من مكاسب في إنتاجها الاجتماعي الذي تعيشه، ولا يجب أن ينازعها عليه أحد، فما تشعر به، وهي في خضم نشاطها وتفاعلها، هو ما يحقق لها ذاتها الحقيقية، ولا يهمها كثيرا أن تعيد توازنها وفق منظور غيرها الذي يكبرها سنا، نعم، هي تؤمن بخبرة من سبقها، ولا تتشاكس معه في هذا الجانب، لكن أن يطالبها هذا- الذي سبقها- بشيء مما هو عليه، وأنتجه طوال سنوات عمره، فلا أعتقد أن يجد آذانًا مصغية لهذا الطلب، وقد يقابل بشيء من السخرية في حالة الإصرار على موقفه.
ونعود إلى السؤال الذي يطرحه العنوان، ونطرح سؤالا استدراكيا آخر: هل هناك جهة مسؤولة عن الإنتاج الاجتماعي؟ قد تسعى المؤسسة الرسمية إلى وضع ضوابط وقوانين، وقد تشجع عبر برامج معينة إلى ضرورة المحافظة على القيم، وقد تضع مؤسسة أخرى حوافز معينة بغية أن تجذب الفئة العمرية الصغيرة باعتناق القيم بصورة غير مباشرة، حتى لا تلقى صدى مباشرا، تتناثر من خلاله مجموعة الجهود التي تبذل في هذا الجانب، والسؤال الاستدراكي الآخر: هل لذلك نتائج متحققة تلبي الطموح؟ الإجابة طبعا، لا، قد ينظر إلى هذا الأمر كنوع من المحافظة على التراث -لا أكثر- ولذلك يكون الأمر للعرض أكثر منه للتطبيق، والشواهد على ذلك كثيرة نلمسها في القريب والبعيد من أبنائها الذين يرون في المرجعيات الاجتماعية الكثيرة شيئا من الماضي، لا أكثر، وأن هذا الماضي قد تجاوز سقفه الزمني، وبالتالي فالمحاولة لإعادة إنتاج هذه المرجعيات، هو نوع من التفريط في ما ينتجه الزمن الحاضر الذي يجب أن تسخر كل دقائقه ولحظاته لخدمة حاضره، وليس لاستدعاء صور ذهنية غير مَعيشة؛ فالأجيال لا تفرط في المتحقق، وهو المعبر عن هويتها الحاضرة، حيث لا يعنيها الماضي كثيرا، حتى لو نظر إليه كضرورة لتأصيل الهوية.