أن تكون فلسطينيًّا في خيمة!
تاريخ النشر: 21st, September 2024 GMT
ماذا لو كان العنوان كما هو، باستثناء الجنسية؟ فحيثما أبدلت جنسيتك؛ اختلف المراد والوصف، وسينتج عنه معنى آخر، وحال آخر، وشكل متجسد آخر.
الخيمة في حكاية أي شعب لا تكون إلا لفعل غير معيشي، بمعنى أنها تكون حالة إسناد للترفيه أو التنزه أو حتى النشاط الكشفي، أما أن تقترن الخيمة بالفلسطيني فتلك حكاية أخرى، ليست من قبيل المتع الحياتية.
الخيمة في العُرف الفلسطيني تصنع الحُزن وما يترتب عليه من الحَزن، هي ليست فعلا خالصا، بل استدارة الوطن في خيمة!
أن تعيش في خيمة تجاورها خيمة أخرى، فخيمة، حتى يصبح العنوان كبيرا؛ الخيام، ذلك إيذان بأنك في امتحان مفاده؛ نحن هنا لأننا فلسطينيون، ولأن هذا الاسم أصبح عبارة عن مخيمات لا تتناسب مع تعريفها اللُّغوي والاصطلاحي!
فلا حرية في الكلام، لا خصوصية في الفعل المباح، حتى تكاد تحبس أطرافك كي لا تقع في مخالفة ما، على طريقة العُرف والعادة.
أن تكون في خيمة؛ يعني إلقاءك في بقعة بوطنك دون إذنك، لربما تكون في مكان يسعك بقليل، لكنه لن يكون كبيتك. خارج بيتك تعيش العذابات المتفرقة، فبيتك مؤثث بشكل تحبه، وإن كان بسيطا، خلافا لشكل ما يوجد داخل الخيمة! الخيمة كيان متحرك، لا يأخذ معنى البيت، هو منفى يُطبق على ذاكرتك، يفرغ روحك من امتلائها، ويحشرك في الفراغ، فراغ لا تعرف متى ينتهي، ومتى يمتلئ حتى تغيب الخيمة، ويحضر البيت.
أتساءل وأنا الفلسطيني المقيم في غزة، وأعيش ويلات الحرب، ماذا لو كانت الكهرباء والمياه خدمتان متوفرتان في الخيمة، هل يعني ذلك أننا لسنا منفيين، ولا يوصف حالنا بالمعاناة، لأننا في وطننا، رغم تحوله من بيت إلى خيمة! وإذا كانت الخيمة تعتبر كمنفى، فإن غزة تحوي مئات الآلاف من المنافي! ناهيك على عدم الإحساس بالطمأنينة في هذا المنفى الخيمة!
لا هدوء مطلق في الخيام، وإن صادفك بعضه، فسرعان ما تنتهك الطائرات والقذائف هذا الهدوء المصطنع، فلا أنت متلبس في فعل ممارسة الهدوء، ولا الحال يمنحك تلك الرفاهية!
لا أحد في غزة يختار مكان منفاه، بل الورقة!
تلك الورقة التي تسقط من الطائرات، تعلمك إلى أين تذهب لتختار منفاك.. الخيمة!
الشيء المؤكد الذي يغيب عن تركيبة الخيمة هو أهم شيء لحاجة الإنسان «الحمّام»، لذا فإنه أصبح مقترنا بذاك المنفى!
في الخيمة؛ الليل موحش جدا، هو وقت مكرسٌ لانتظار شروق الشمس، حتى لكأن أشعة الشمس تتحسس أجسادنا باحثة عن اكتمالها دون ثقوب!
إن لم تجد تلك الثقوب، فإنك تتنهد لتحس أنك حي، وتمضي إلى الاطمئنان على عائلتك القريبة والبعيدة، عبر المحمول- الذي لا يتمتع باتصال ثابث- للسؤال والخبر.
لست أدري عدد المرّات التي حملت فيها «الدلو» لتعبئة المياه المالحة، أو «الجالون» لتعبئة المياه العذبة بمقابل مادي، فلا وقت محدد لهذه الأعمال النهارية في غالب الأمر، المزدحمة بالتأكيد، لتزهق في كل يوم عددا من الساعات في الانتظار والتزاحم المقيت!
وأنت تدخل في كل مرة الخيمة تحاول أن تتغافل عن الحال الذي كنت فيه منعما، وما آل إليه الحال المجهول لمكان لا تنتمي له رغم أنه في وطنك!
أعتقد أن حياة الفلسطيني في غزة في ظل الخيمة، معادلة عجيبة، لنتخيل أن: فلسطيني + خيمة= منفى!
واقع محدّث في عام 2023، بعدما اقتصرت المعادلة على خيمة 1948!
الشيء الذي لا يتماشى مع المعادلات الإقليمية والدولية أن الفلسطيني إنسان، ولا سبيل إلى النيل منه، وإن صبّت عليه أصناف من العذاب.
ومن المضحكات المبكيات أن الخيمة قرب البحر! أهو احتماء الفلسطينيين بالبحر كي لا يهجَّروا من ترابهم، فيحول البحر بينهم وبين ذلك!
وما يلبث أن يبتلع البحر الخيمة حين يتمدد، وكأنه يتثاءب، ناسيا أن تثاؤبه هو حالة من إحداث مصيبة، نتيجتها الصراخ والقهر والخسارة المادية والانهيار الداخلي لأشخاص هربوا من موت التُّراب ليفاجئوا بمنغصات البحر اللَّاذعة!
ومصادفة أصبح القرب من البحر معينا على توفر المياه المستخدمة لغير الشرب! أي علاقة عجيبة تنتجها هذه الخيمة والرمزية لها.
الخيمة حواس أشبه بحواسنا، فالشمس تلهبها بلا رحمة في صيف، لو كان هادئا، والشتاء متسللا لداخلها، ناثرا بُردة الصقيع منه، تغلبني في الصيف والشتاء، فطاردة لنا في الصيف ومضيفتنا في الشتاء، هكذا كان الفلسطيني في خيمته.
وفي النسخة الثانية من النكبة الفلسطينية لا يمكن القفز عن إدراك التجاذب الفكري بين الوعي المثقف وبين الواقع الجبري؟!
لماذا علينا أن نخطّ ما نخط من كلمات في زاوية العقل الإنساني المُشتبك مع الآخر الذي يمارس عدوانه بكل شراسة.
لم تعد الكتابة فقط هي الحاضنة للموقف والوعي والإدراك بخطوط التّماس في الفعل الإنساني، بل زيدت عليه الصورة المتحركة التي تلتقط الحدث، وتمنح الفكرة والحقيقة في لحظات، فلا تحتاج الصورة المتحركة لذريعة العرض، فما يعرض؛ يوضح المراد والمشهد، ولذا كانت أسرع تأثيرا على المتلقي.
وهنا يتجه التصويب إلى هدف الكتابة في زمن الحرب، زمن الخيمة، زمن يحتل عقل وإدراك الفلسطيني في غزة.
ربما تكون سيرة الخيمة من سير المعاناة التي لم يتوقع أحد أن تتكرر في العام 2023-2024 وحتى ما بعدهما، لكنها سيرة توثّق للسيرة الكبيرة وهي قضية فلسطين.
هل كان علينا أن ننتزع فلسطين من الخيمة كي لا تتحول لمنفى؟ كان يمكن أن يكون ذلك في مكان آخر ومع عدو آخر، وكان يمكن ألا تكون الخيمة، وتبقى فلسطين دون منفى، لكن حالة الحياة هي فرار لفلسطين وإن صارت خيمة في منفى.
إلا أن ما حدث؛ حدّد مسار الخيمة ومزج تراب فلسطين بمرتبة المنفى، وجعل مما حدث كابوسا يريد الغزيّون انفضاضه عنهم.
صرت أتأمل في كلمة «خيمة» ذات الأربعة حروف، فإذا أردنا جمعها، كانت «خيام»، أربعة حروف أخرى بين خيمة وخيام، أهي مسألة جدلية أم مجرد توظيف للعقل الباطن أم هي مجرد فزلكة عددية!
المسافة بين الخيمة والبحر هي تلك المسافة الواصلة بين فلسطين التراب والماء، في مكان أقرب للمنفى!
هل كان على العالم أن يصحو، وثمن الصحو دمانا! وثمن الصحو تشرّدنا، وثمن الصحو الخيام، ليصبح هذا المكون الأساسي لمشهد الصحو!
وما بين الوعي والواقع يبرز الوجه التاريخي للقضية، وهو الحرية، حرية الإنسان، حرية المكان، حرية الحياة...
الخيمة رحى تهشم الروح وتطحن الذاكرة، ولا شفاء منها إلا بانتفاء حالة المنفى القسري، والخيمة حالة تمرد على الموت، رغم قربها من حالة إزهاق للروح، وتغيير لحالة معقدة ما بين الحياة وشبه الحياة!
الحكاية الطفلة «ماريا»، ذات الثلاثة أعوام، حين عادت لبيتها بعد شهور من المنفى؛ استيقظت فزعة: ماما، بدي أرجع ع بيتنا (الخيمة)!
الحكاية ليست ذات مشهد أو مشهدين، هي حكاية المرايا المتعددة، ففي كل مرآة تعدد العلاقة بين الزمان والمكان، وبينهما يكون الإيقاع مكرّسا بالتفاصيل وظلالها المعتمة أو تلك الأقل عتمة.
وبين الذكرى الضبابية والتي لم نصل إليها، وبين الذاكرة الحاصلة، سيندغم الكثير مما حدث ويحدث، لا لنقول شيئا مما حدث، بل لنقول كل الذي حدث ويحدث.
بين «كان» وما هو «كائن» وما «سيكون» نقف على مفترق لا طرق معروفة ولا مشاهدة، فقد مسحت تلك الآليات العسكرية ذاكرة عشرات السنين، تحت جنازيرها، لكنه التراب؛ ينعجن ببعضه، ويتحرك، لكنه لن يتناثر أو يتبخر، سيبقى هو نفسه التراب، وستغادر الآليات حتما من حيث أتت.
آمل ألا تتحول الخيمة وتصبح المنفى، ويخفت صوت التراب، ويزهق الإنسان، فتضيع فلسطين، ويبقى المنفى، وتبقى الخيمة، وتضمحل الذاكرة لمجرد خيمة ومنفى!
ستظل تلك المقولة خالدة في ذاكرتنا:
«سيرفع شبل من أشبالنا وزهرة من زهراتنا علم فلسطين فوق أسوار القدس ومآذن القدس وكنائس القدس».
تتزاحم الخرائط لضيف
فقد تأشيرة حياة
أزاح عن كاهله بكاء الانتظار
لخيبة مستعجلة
تستعير الحكاية مراثي القصص الاحتمالية للموت
موت يخرج من قبره هاتفا:
أنا ابن الخيمة!
طلعت قديح كاتب فلسطيني يعيش في غزة
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی خیمة فی غزة ما حدث
إقرأ أيضاً:
الجديد: نريد أن تكون البضاعة المباعة بالبطاقات أرخص من الكاش
دعا مختار الجديد أستاذ الاقتصاد بجامعة مصراتة إلى معاقبة الذين يخفون عشرات ومئات الملايين من السيولة في بيوتهم.
كتب قائلًا على حسابه بموقع فيسبوك اليوم الخميس “احتفظ بها كما تشاء، لم نعد نريدها ولن نطالبك باسم الوطن والوطنية بإيداعها في المصارف، لكنك يوما ما ستحتاج ان تودعها في المصرف لأجل شراء دولار أو فتح اعتماد حينها يجب أن تعاقب بفرض رسوم إيداع مرتفعة على هذا الإيداع”.
وتابع قائلًا “على المصرف المركزي منح مهلة لهؤلاء قبل البدء في تنفيذ ذلك. نعم لصفر عمولة على سحب العملة، نعم لعمولة مرتفعة على عمليات ايداع العملة، نريد أن تكون البضاعة المباعة بالبطاقات والحوالات البنكية أرخص من البضاعة المباعة بالكاش الذي سيتورط فيه التاجر، اللي صار في ورقة الخمسين نبوه يصير لورقة الخمسة والعشرة والعشرين”.