ترجمة: أحمد شافعي -
بلغ خطر اندلاع حرب نووية أعلى ذروة له منذ نهاية الحرب الباردة. والسبب يكمن أساسا في تهديدات وتدريبات روسيا النووية المستمرة وسط صراع أوكرانيا، ولكن الأمر لا يقتصر على روسيا وحدها. فقد تؤدي توترات الشرق الأوسط إلى تحفيز إيران على تعجيل مساعيها المحتملة إلى برنامج أسلحة نووية. وكوريا الشمالية مستمرة في تحديث وتوسيع ترسانتها النووية.
قد تمثل هذه التطورات مجتمعةً تحديا للمؤسسات والقواعد والمحرمات التي حالت دون استعمال الأسلحة النووية منذ قصف هيروشيما ونجازاكي في عام 1945. ولكن تآكل هذا النظام النووي لا يجري في عزلة. فالحكام الأوتقراطيون غالبا ما يعملون وفق تنسيق في ما بينهم في سياق السعي إلى تقويض النظام الدولي القائم، فيتحدون الأعراف المتصلة بحقوق الإنسان، والحدود الدولية، كما يتحدون على نحو متزايد الأعراف المتصلة بالأسلحة النووية. وعلى الرغم من نجاح الجهود الدبلوماسية العالمية في تأسيس أعراف بشأن استعمال الأسلحة النووية، لم يعد بوسع العالم أن يفترض أن الأسلحة النووية لن تستعمل في صراع تقليدي.
الانهيار النووي
تمثل الأعراف في جوهرها قواعد سير. قد تتجسد في مؤسسات، من قبيل معاهدة 1968 لحظر الانتشار النووي (NPT)ومعاهدة عام 1967 للحظر الشامل للتجارب النووية CTBT، في حالة الأسلحة النووية. ولكن هذه الأعراف، باعتبارها «معيارا للسلوك الملائم»، لا تكون ملموسة طيلة الوقت. فالأعراف في النظام النووي قد تمنع الدول من استعمال الأسلحة النوية من خلال آليات التقييد، فيعتمد ما يعرف بالمحرمات النووية على الرفض الأخلاقي والسياسي واسع النطاق للأسلحة النووية في تثبيط استعمالها. وقد ترغم الأعراف أيضا الدول على التقيد بالتزاماتها المفروضة بموجب المعاهدات ويأتي هذا الإرغام من خلال آليات التوجيه.
لقد تعهدت أغلب الدول حتى الآن بعدم إقامة أو اختبار أسلحة نووية. وبرغم رسوخ الأعراف الرافضة للاستعمال والانتشار والاختبار النووي لكنها لم تحترم تاريخيا، وبخاصة العرف المتعلق بالاختبارات النووية. في دراسة حديثة، تبين لنا أن هذه الأعراف، القائمة بحسم منذ منتصف القرن العشرين، تتعرض بشكل متزايد للانتهاك من حفنة فاعلين. ومن نقاط الضعف الخاصة في هذه الأعراف مسألة ترابطها، فعند انتهاك عرف، ولنقل إنه الخاص بالاختبار النووي، فإن العرفين الأخيرين ـ أي عدم الاستعمال وحظر الانتشار ـ قد يتهددان أيضا. ومن ثم فرفض عرف نووي واحد قد يؤدي إلى رفض كامل النظام النووي.
في ظل بيئة الأمن المتدهور المشهودة خلال السنوات الأخيرة، أشار زعماء العالم وخبراء نوويون إلى أن الأعراف الثلاثة قد تتعرض لمزيد من التحدي. في أكتوبر 2022، قدرت أوساط المخابرات الأمريكية أن مخاطرة استعمال سلاح نووي في أوكرانيا قد ترتفع إلى 50% في غمضة عين عمليا. وصرح روبرت فلويد السكرتير التنفيذي لمعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية أن «التقدم ينطوي على مخاطرة بالتفكك في غياب حظر ملزم قانوني للاختبارات النووية». وبرغم أن أغلبية الدول (187) وقعت معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية وتراعي العرف الرافض للاختبارات النووية، فالمعاهدة لم تدخل بعد حيز التفعيل لأن بعض الدول القادرة نوويا لم تصدّق بعد عليها نظرا لاعتبارات استراتيجية وتكنولوجية، منها مخاوف من أن التحقق من الالتزام سوف يكون صعبا وأن بعض الدول الموقعة قد لا تلتزم ببنود المعاهدة.
إذا ما استمرت الأعراف النووية في الانهيار، قد يصبح العالم أشد خطورة. فقد يؤدي المزيد من إجراء الاختبارات النووية على سبيل المثال إلى نتائج إنسانية وبيئية مدمرة. ولكي تلقوا نظرة خاطفة على أمثال هذه الآثار، تذكروا أن الاختبار الأمريكي لسلاح نووي شديد التأثير في عام 1954 على جزيرة بيكيني أتول وهي من جزر مارشال قد أدى إلى تبخر ثلاث جزر وتلويث خمس عشرة جزيرة أخرى أو أكثر، وتسبب في ظهور أورام الغدة الدرقية بين السكان. ووسط عدد متزايد من الصراعات الإقليمية، قد تكون العواقب المترتبة على عالم خال من المحرمات النووية والأعراف المناهضة لاستعمال الأسلحة النووية عالما أشد كارثية.
العمل المتناغم
بسبب اتساع نطاق الفاعلين الذين يتحدون النظام الدولي يكتسب الحفاظ على الأعراف المحيطة بالأسلحة النووية مزيدا من الأهمية. منذ أن أصر الرئيس الصيني شي جينبنج في عام 2014 على أن الصين في ظل قيادته تنافس على مستقبل النظام الدولي، وتحدي التحالفات والمؤسسات والمبادئ التي اعتمدت عليها الولايات المتحدة منذ فترة طويلة لتشكيل النظام الدولي. وقبل عقد من الزمن، دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أيضا إلى نظام عالمي جديد أكثر تماشيا مع مصالح روسيا. وفي أغسطس 2024، وقع قرارا بـ»تقديم الدعم لأي أجانب يريدون الهروب من المثل النيوليبرالية المفروضة في بلادهم والانتقال إلى روسيا». وتزداد الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا تمكينا لبعضها البعض في «محور القلالقل» بحسب ما ذهب إليه أندريا كيندول تيلور وريتشارد فونتان في مجلة فورين أفيرز حيث يكتسب «التعاون المتزايد بين الدول الأربع دافعه من معارضتها المشتركة للنظام العالمي الخاضع للسيطرة الغربية، وتضرب جذور هذا العداء في اعتقاد هذه الدول بأن النظام لا يوليهم المكانة أو الحرية اللتين تستحقهما».
هذه القوى الأربع عازمة على تحدي الأعراف النووية الثلاثة الكبيرة. وهي تعتمد على الأسلحة النووية ـ وشبح هذه الأسلحة ـ في تحقيق أغراضها الإقليمية والإستراتيجية. وهي كلها على استعداد لتقويض النظام النووي لعمل ذلك. فقد هددت كل من روسيا وكوريا الشمالية باستعمال الأسلحة النووية في السنوات الأخيرة. وصرح بوتين في فبراير 2024 أن الدول الغربية «لا بد أن تدرك أننا في روسيا لدينا أيضا أسلحة يمكن أن تصيب أهدافا في أراضيهم». وهدد الزعيم الكوري الشمالي كيم يونج أون مرارا باستعمال الأسلحة النووية استعمالا استباقيا. والصين تسارع بتوسيع ترسانتها النووية مع معارضتها لمحادثات الحد من الأسلحة. وقد عارضت إيران العرف المناهض للانتشار النووي، مطورة عناصر أساسية لبرنامج أسلحة نووية يكذِّب مزاعم طهران بنواياها السلمية وصعب على الولايات المتحدة أن تكبحه منذ انسحابها في عام 2018 من الاتفاقية النووية التي استهدفت الحد من برنامج أسلحة إيران في مقابل تخفيف العقوبات. رفضت كوريا الشمالية أيضا القيود المفروضة على الانتشار النووي من خلال انسحابها من معاهدة حظر الانتشار النووي سنة 2003 وتطويرها بعد ذلك أسلحة نووية وتكنولوجيا صاروخية، فضلا عن اختباراتها النووية، وتحديها للعقوبات الدولية.
تتضافر دول في تحدي العرف المناهض للاختبارات النووية، وهو أضعف الأعراف النووية. وكان أوضح انتهاك في الفترة الأخيرة للأعراف الثلاثة هو الذي وقع باختبار كوريا الشمالية في 2017 لسلاح يشتبه في أنه سلاح نووي حراري. والأقل منه وضوحا وإن لم يقل أهمية هو تهديداتها المستمرة بالاختبار مرة أخرى. ولم يقتصر شأن هذه الأفعال على إظهارها التطورات في قدرات كوريا الشمالية النووية بل لقد كانت أيضا تحديا للإجماع العالمي المناهض للاختبارات النووية. وقد أشارت روسيا إلى عزمها استئناف الاختبارات النووية في خضم توترات جيوسياسية بارزة. ومن شأن استئناف دولة للاختبارات النووية ـ وبخاصة حين لا تكون هذه الدولة هي دولة كوريا الشمالية المنبوذة على نطاق واسع ـ أن يقوض العرف ويثر مخاوف بشأن سباق أسلحة جديد. وكل هذا التلويح بالسيوف النووية يثير خطر تحول حرب تقليدية إلى صراع نووي.
ويجدر بنا أن نلاحظ أن تحدي الأعراف النووية لم يقتصر على الحكام الطغاة، فقد خالفت الولايات المتحدة أيضا الأعراف العالمية بعدم تصديقها على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية سنة 1999، وكذلك فعل المستشارون السياسيون في كوريا الجنوبية حينما اقترحوا أن ينشئ بلدهم برنامج أسلحة نووية مستقلا.
على حافة الهاوية
النظام النووي في خطر، وما من بلد يمكن أن يحافظ عليه منفردا. لذلك يجب على الولايات المتحدة أن تعطي الأولوية لمجموعتين من الشراكات الدولية القادرة على تفعيل الأعراف النووية في هذه البيئة المترابطة. فأولا، يجب على واشنطن أن توسع علاقاتها مع بلاد في جنوب العالم كثير منها مستعد للشراكة في تحدي التمرد على الأعراف. والحق أن بلادا من قبيل المكسيك قد أعربت عن مخاوف من التآكل الحديث في النظام النووي ويشتمل ذلك على مخاطر الاستعمال النووي وزيادة أهمية الأسلحة النووية. وقد سعى كل من الرئيس الصيني شي ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى تحجيم بوتين، بتذكيرهما الرئيس الروسي بأن استعمال الأسلحة النووية في حرب أوكرانيا لن يكون مقبولا.
توفر تهديدات النظام النووي فرصة لتأسيس إجماع. إذ يجب أن تسعى البلاد إلى المزيد من المشاركة والحوار وتأسيس فهم أفضل لمختلف زوايا النظر إلى الأسلحة النووية على المستوى الإقليمي. فالدول ذات الأسلحة النووية على سبيل المثال ترى الأسلحة النووية ضرورة لأمنها، لكن دولا كثيرة لا تمتلك هذه الأسلحة وتراها تهديدات جذرية للسلام العالمي وتناصر نزعها تماما. وقد يستغرق تكوين الإجماع حوارات مزعجة حول المخاوف من عدم قيام الولايات المتحدة بواجباتها في النظام النووي، فهي ضمن حفنة دول وقعت معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية لكنها لم تصدق على المعاهدة. ومع ذلك، ينبغي أن يتمثل أحد أهداف هذه الحوارات في إظهار أن الدول التي تمتلك أسلحة نووية لا تتماثل جميعا، ولا ينبغي أن تلقى معاملة من الدبلوماسية الدولية بوصفها كتلة واحدة. فكثير من الدول غير النووية تساوي بين جميع ممتلكي الأسلحة النووية وتلومها على تآكل الأعراف النووية دونما انتباه إلى السلوكيات الأشد خطورة، من قبيل التلويح الروسي بالسيف النووي في أوكرانيا. وبوسع التعامل فرديا مع الدول النووية أن يساعد في التفرقة بين السلوكيات المسؤولة والسلوكيات عديمة المسؤولية ويفرض الضغط على الدول التي تقاوم فعليا النظام النووي.
الأولوية الثانية يجب أن تتمثل في تفعيل الشراكات مع حلفاء الولايات المتحدة في الناتو وفي منطقة المحيطين الهندي والهادئ لدعم الأعراف النووية القائمة. غير أن تحديا خاصا سوف يتمثل في أن خطوات تقوية أحد الأعراف قد تضعف العرفين الآخرين بشكل غير مباشر. فعلى سبيل المثال، قد يؤدي ردع نووي للتصعيد إلى تقوية عرف عدم الاستعمال وعدم الانتشار لأن زيادة الأمن قد تقلل احتياج القوى غير النووية إلى تطوير قدرات نووية خاصة بها. في الوقت نفسه، قد يمثل عقبات للحد من الأسلحة ونزعها على المدى البعيد بزيادة أهمية الأسلحة النووية وقيمتها. ولهذا السبب، ينبغي أن تتبنى الولايات المتحدة وشركاؤها نهجا مزدوج المسار، أي دعم الردع ـ من قبيل تصريحات مسؤولي إدارة بايدن الأخيرة بأن الولايات المتحدة قد تضطر إلى توسيع خطط التحديث النووي ـ مع البحث عن حلول مبتكرة جديدة لتقليص الخطر النووي وتقوية الأعراف. فعلى سبيل المثال، قد تشجع الولايات المتحدة اليابان ـ وهي البلد الوحيد الذي عرف خراب الأسلحة النووية في الحرب ـ على تيسير الحوار بين الدول ذات الأسلحة النووية والدول غير النووية لصالح الحفاظ على الأعراف.
ولا بد أن تستمر الولايات المتحدة في الاستثمار في تحالفاتها، وتوسيع التزامها بالردع، والانخراط في حوار أمين مع كل من الدول النووية وغير النووية، وإيضاح المخاطر في حال استمرار الانزلاق القائم حاليا. فالنظام النووي ينهار حاليا في هدوء، وقد يؤدي خرق واحد لإحدى ركائزه إلى تقويض الركائز جميعا في كارثة محققة.
دورين هورشيج زميلة مشاركة في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية وباحثة مشاركة غير مقيمة في جامعة سنترال فلوريدا.
هيزر وليمز مديرة مشروع القضايا النووية وزميلة بارزة في برنامج الأمن الدولي في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية وزميلة مشاركة في مشروع إدارة الذرة في كلية كينيدي بجامعة هارفارد.
خدمة فورين أفيرز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: معاهدة الحظر الشامل للتجارب النوویة الولایات المتحدة على سبیل المثال کوریا الشمالیة النظام الدولی النظام النووی برنامج أسلحة النوویة على غیر النوویة أسلحة نوویة النوویة فی نوویة على قد یؤدی من قبیل نووی فی فی عام
إقرأ أيضاً:
حين تعيد الصين تشكيل النظام العالمي
ترجمة - نهى مصطفى -
في أوائل فبراير، وبينما كان على متن طائرته الرئاسية محلقًا فوق المسطح المائي الذي أعاد تسميته حديثًا بـ«خليج أمريكا»، أعلن الرئيس دونالد ترامب عزمه فرض رسوم جمركية على جميع واردات الصلب والألمنيوم. وبعد أسبوعين، أصدر مذكرة رئاسية تتضمن إرشادات جديدة لفحص استثمارات الشركات الصينية في الولايات المتحدة واستثمارات الشركات الأمريكية في الصين. طوال الأسابيع الأولى من إدارته، شدد ترامب على ضرورة إعادة التصنيع إلى الداخل، مؤكدًا أن الطريقة الوحيدة لتجنب الرسوم الجمركية هي تصنيع المنتجات داخل الولايات المتحدة.
مع فرض الرسوم الجمركية، والحمائية، وقيود الاستثمار، والتدابير المصممة لتعزيز الإنتاج المحلي، بدت السياسة الاقتصادية لواشنطن فجأةً أقرب إلى نهج بكين خلال العقد الماضي، وكأنها «السياسة صينية، ولكن بطابع أمريكي». لطالما قامت استراتيجية الولايات المتحدة تجاه الصين على افتراض أنه كلما اندمجت الصين في النظام العالمي القائم على القواعد، زادت احتمالية أن تصبح أشبه بالولايات المتحدة. على مدى عقود، لم تتوقف واشنطن عن مطالبة بكين بالتخلي عن الحمائية، وفتح أسواقها أمام الاستثمار الأجنبي، والحد من استخدام الدعم الحكومي والسياسات الصناعية، لكن نجاحها في ذلك كان محدودًا. ومع ذلك، كان التوقع السائد أن يؤدي هذا التكامل إلى تقارب بين البلدين.
حدث تقارب، لكن ليس كما توقعه صانعو السياسات الأمريكيون. بدلًا من أن تصبح الصين أشبه بالولايات المتحدة، بدأت واشنطن تتصرف بأسلوب بكين. قد تكون أمريكا صاغت النظام الليبرالي القائم على القواعد، لكن الصين رسمت ملامح مرحلته التالية: الحمائية، الدعم الحكومي، وقيود الاستثمار الأجنبي، والسياسات الصناعية. لم يعد النظام الاقتصادي العالمي كما أنشأته واشنطن، بل بات أقرب إلى رأسمالية الدولة القومية الصينية.
في التسعينيات وبداية الألفية، بدا أن الصين تتجه نحو التحرر الاقتصادي. منذ أواخر السبعينيات، انفتحت على الاستثمار الأجنبي، وأعادت هيكلة الشركات الحكومية، وسرّحت عشرات الملايين من العمال، مما مهد لانضمامها إلى منظمة التجارة العالمية. اعتقد البعض أن هذا الانفتاح سيؤدي إلى تحرر سياسي، لكن هذا الافتراض كان خاطئًا. لم تُظهر بكين أي نية للإصلاح السياسي، ومع ذلك، كان تقدمها الاقتصادي مذهلًا:
• الناتج المحلي الإجمالي ارتفع من 347.77 مليار دولار عام 1989 إلى 1.66 تريليون دولار عام 2003، ثم قفز إلى 17.79 تريليون دولار عام 2023 (البنك الدولي).
• ساهمت العولمة في انتشال أكثر من مليار شخص من الفقر، لكنه تقدم لم يُوزع بالتساوي، إذ دفع بعض العمال في الدول الصناعية ثمن صعود الآخرين.
مع تولي هو جين تاو ثم شي جين بينج، أصبح واضحًا أن مسار الصين الاقتصادي لم يكن خطيًا، ففي عهد هو، زاد تدخل الدولة عبر دعم «أبطال وطنيين» في القطاعات الاستراتيجية بدلًا من مواصلة تحرير السوق، بينما أدى تدفق الواردات الصينية الرخيصة إلى تسريع إزالة التصنيع في الولايات المتحدة، مما جعل الصين مركز التصنيع العالمي، متجاوزة اليابان وألمانيا، حيث ارتفعت حصتها من القيمة المضافة للتصنيع عالميًا من 9% عام 2004 إلى 29% بحلول 2023 وفقًا للبنك الدولي. واصلت واشنطن الضغط على بكين لإصلاح اقتصادها، مطالبةً بفتح الأسواق، وخفض الرسوم الجمركية، والسماح بالاستثمار الأمريكي الحر دون نقل التكنولوجيا قسريًا، كما دعت لإنهاء الدعم الحكومي الصيني للإنتاج والتصدير، لكن هذه المطالب قوبلت بتجاهل. وفي عام 2009، قادت إدارة أوباما جهود إنهاء جولة الدوحة بسبب مخاوف من منح الصين مكانة دائمة كدولة نامية، مما يمنحها امتيازات تجارية دون التزامات صارمة، ورغم الانتقادات، كان واضحًا أن الممارسات الاقتصادية الصينية ستؤدي إلى اضطرابات في النظام التجاري العالمي.
دفعت المخاوف من السياسات الاقتصادية الصينية إدارة أوباما إلى السعي وراء اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP)، التي ضمت 12 دولة والتزمت بحماية حقوق العمال والبيئة، والحد من الدعم الحكومي، وفرض قيود على الشركات المملوكة للدولة، وحماية الملكية الفكرية، لكن بحلول 2015، أصبحت الاتفاقيات التجارية مثار جدل داخلي، مما أدى إلى انسحاب الولايات المتحدة.
ومع تولي شي جين بينج السلطة عام 2012، أنهى فعليًا مرحلة «الإصلاح والانفتاح»، وركز على الهيمنة على التقنيات الحيوية، والإفراط في الإنتاج، والاعتماد على النمو القائم على التصدير، ووفقًا للخبير براد سيتسر، أصبحت صادرات الصين تنمو بمعدل يفوق التجارة العالمية بثلاثة أضعاف. وفي قطاع السيارات، تنتج الصين ثلثي الطلب العالمي، كما تستحوذ على أكثر من نصف الإنتاج العالمي من الفولاذ والألمنيوم والسفن.
وواجهت الشركات الأمريكية في الصين سياسات عدائية مثل سرقة الملكية الفكرية، وإجبارها على نقل التكنولوجيا، وتقييد وصولها إلى السوق لصالح الشركات المحلية، ومع غياب المعاملة بالمثل، تدهورت العلاقات، وتصاعدت المواقف الأمريكية والأوروبية المناهضة لبكين. وبعد فشل واشنطن في إقناع الصين بتعديل سياساتها أو إنشاء كتلة تجارية بديلة، لجأت إلى تبني النهج نفسه، فرفع ترامب الرسوم الجمركية على الواردات الصينية من 3% إلى 19% خلال ولايته الأولى، مما أثر على ثلثي الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة، وحافظ بايدن على الرسوم وأضاف أخرى على معدات الحماية الشخصية والمركبات الكهربائية والبطاريات والصلب. ثم فرض ترامب في ولايته الثانية رسومًا إضافية بنسبة 20% على جميع الواردات الصينية، متجاوزًا قراراته السابقة وإجراءات بايدن مجتمعة، كما شددت الولايات المتحدة قيود الاستثمار، فانخفض الاستثمار الصيني السنوي في أمريكا من 46 مليار دولار عام 2016 إلى أقل من 5 مليارات عام 2022.
وفي تحول آخر، تبنت سياسات دعم صناعي مشابهة للصين خلال إدارة بايدن، حيث خصصت 1.6 تريليون دولار عبر حزم تحفيزية مثل قانون الاستثمار في البنية التحتية والوظائف لعام 2021، وقانون CHIPS والعلوم لعام 2022، وقانون خفض التضخم لعام 2022. وإذا واصلت الولايات المتحدة تبني النهج الصيني، فقد تلجأ إلى إلزام الشركات الصينية المستثمرة بالخارج بإقامة مشاريع مشتركة مع الشركات المحلية ونقل التكنولوجيا إليها. مما قد يعزز الصناعة الأمريكية واقتصادات الدول المتضررة من الإنتاج الصيني الفائض، مثل الدول الأوروبية، ويعد قطاع الطاقة النظيفة مثالًا واضحًا على ذلك، حيث تهيمن الصين على 60% من مبيعات السيارات الكهربائية عالميًا بفضل إنتاج أرخص وأفضل جودة من نظيراتها الأمريكية.
ومع أن السيارات الصينية محظورة تقريبًا في أمريكا بسبب الرسوم الجمركية والقيود التنظيمية، إلا أن أوروبا تواجه توسعًا صينيًا متزايدًا، إذ ارتفعت حصة السيارات الكهربائية الصينية في السوق الأوروبية من 0% عام 2019 إلى 11% بحلول يونيو 2024، وقد فرض الاتحاد الأوروبي رسومًا جمركية أواخر 2023 لإبطاء التوسع الصيني. لكن ذلك ليس حلًا كافيًا لحماية صناعة السيارات الأوروبية، وللحفاظ على الوظائف والتصنيع، تبدو أوروبا مستعدة لقبول الاستثمارات الصينية في إنتاج السيارات الكهربائية، لكن مستقبل السياسة الأمريكية لا يزال غير واضح. بينما قد تضطر أوروبا إلى تبني استراتيجية الصين، بفرض مشاريع مشتركة ونقل التكنولوجيا، لتجنب أن تصبح مجرد محطة تجميع للسيارات الصينية.
لا يزال الجدل قائمًا حول مدى نجاح سياسة بايدن الصناعية خارج بعض القطاعات الرئيسية. صحيح أن الاستثمار الأمريكي في التصنيع شهد ارتفاعًا، لكن النتائج ليست حاسمة بعد. وكما أشار الاقتصادي جيسون فورمان في الشؤون الخارجية مطلع هذا العام، فإن نسبة القوى العاملة في التصنيع تواصل الانخفاض، ولم تشهد أي ارتفاع ملحوظ، كما ظل إجمالي الإنتاج الصناعي المحلي راكدًا. ويعود ذلك جزئيًا إلى تأثير السياسات المالية التي دفعت إلى ارتفاع التكاليف، وقوة الدولار، وزيادة أسعار الفائدة، مما شكل رياحًا معاكسة لقطاعات التصنيع غير المشمولة بالدعم الحكومي.
بغض النظر عن نتيجة هذا النقاش، هناك أمر واحد مؤكد: حتى في القطاعات التي تلقت دعمًا حكوميًا، مثل أشباه الموصلات والطاقة الخضراء، فإن استعادة القيادة العالمية ستظل طريقًا طويلًا ومليئًا بالتحديات. تعتمد الولايات المتحدة الآن على سياسات الحماية التجارية، ولكن من المحتمل أن تؤدي هذه السياسات إلى ارتفاع التضخم، وزيادة تكاليف المعيشة، وفقدان الوظائف في القطاعات المتضررة من ردود الفعل الانتقامية من الدول الأخرى.
يعتمد ترامب على فكرة أن جدار التعريفات الجمركية، إلى جانب حالة عدم اليقين بشأن فرضها أو إلغائها في أي لحظة، سيدفع الشركات إلى نقل إنتاجها إلى الولايات المتحدة، حيث يمكنها التأكد من عدم تعرض سلعها لهذه التعريفات. لكن في الواقع، تفضل الشركات بيئات سياسية مستقرة وقابلة للتنبؤ، لا أنظمة تعريفات متقلبة قد تتغير من صباح إلى مساء. ومن المرجح أن تؤجل الكثير من الشركات قراراتها الاستثمارية، منتظرة وضوح الصورة بشأن التعريفات التي ستُطبق، وعلى أي دول؟ وإلى متى؟
تشير الدراسات إلى أن فعالية الرسوم الجمركية في تعزيز قطاع التصنيع الأمريكي ليست حاسمة، إذ لم تحقق سياسات ترامب الجمركية منذ 2018 الأهداف المرجوة. فقد وجدت دراسة أجراها باحثا الاحتياطي الفيدرالي، آرون فلاين وجاستن بيرس عام 2024، أن زيادة الرسوم ارتبطت بانخفاض القوى العاملة في قطاع التصنيع الأمريكي وارتفاع أسعار المنتجين، كما أدت إلى فقدان 75 ألف وظيفة مباشرة، فضلًا عن خسائر غير مباشرة بسبب الرسوم الانتقامية التي فرضتها الدول الأخرى. وفي قطاع الصلب، أظهرت دراسة للخبيرين بن ستيل وإليزابيث هاردينج أن الإنتاجية تراجعت بعد فرض ترامب رسومًا بنسبة 25% على واردات الصلب في مارس 2018، حيث انخفض الإنتاج في الساعة بصناعة الصلب الأمريكية بنسبة 32% منذ عام 2017، في حين شهدت قطاعات صناعية أخرى زيادات في الإنتاجية. ورغم أن ترامب يعوّل على هذه السياسات لإعادة الإنتاج إلى الولايات المتحدة، فإن نجاح هذا النهج يعتمد أيضًا على السماح للشركات الأجنبية بالاستثمار في السوق الأمريكي، وهو ما يتناقض مع المواقف السياسية لكل من بايدن وترامب، اللذين رفضا استحواذ شركة نيبون ستيل اليابانية على يو إس ستيل، بل وما زالت واشنطن تناقش ما إذا كان ينبغي السماح لصندوق الاستثمارات العامة السعودي بالاستحواذ على حصة مسيطرة في جولة بي جي إيه، وهي الجهة المنظمة لبطولات الجولف الأمريكية، رغم أن هذا القطاع ليس حيويًا بأي حال من الأحوال.
ما يحدث اليوم ليس مجرد منافسة اقتصادية، بل تحول في النموذج الاقتصادي الأمريكي نفسه. فمع نجاح الصين غير المتوقع في قطاع السيارات الكهربائية والتكنولوجيا النظيفة، اضطرت الولايات المتحدة إلى تقليد سياسات بكين، لا بسبب الإيمان بأهميتها، بل بسبب فعاليتها الواضحة. لم يكن صعود الصين قائمًا على تحرير السوق، بل على تدخل الدولة في الاقتصاد لتحقيق أهداف قومية. واليوم، تتحرك الولايات المتحدة نحو نموذج يشبه إلى حد كبير «رأسمالية الدولة القومية»، التي تتسم بالحمائية، وقيود الاستثمار الأجنبي، والدعم الحكومي، وسياسات صناعية موجهة. في صراع تحديد قواعد اللعبة الاقتصادية، يبدو أن المعركة قد حُسمت لصالح الصين، على الأقل في الوقت الراهن.
مايكل ب. ج. فرومان، محامٍ أمريكي، والرئيس الحالي لمجلس العلاقات الخارجية.
نشر المقال في Foreign Affairs