عن الطيب صالح
تاريخ النشر: 21st, September 2024 GMT
عن الطيب صالح
عمار علي حسن
تعرفت على الأديب السوداني الكبير الطيب صالح من صديق سوداني، سكن معى في السنة الجامعية الأولى غرفة بالمدينة الجامعية، وكان اسمه «على» من «واد مدني» يدرس بكلية دار العلوم جامعة القاهرة.
في هذا العام كانت رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» تُحدث دوياً هائلاً في الجامعة وخارجها، إثر اعتراض بعض طلاب التيار السياسي الإسلامي على تدريسها، بدعوى أنها تحوى «مشاهد جنسية» مع أن مؤلفها لم ينزع إلى «الإيروتيكا» إنما كان يوظف هذه الغريزة الطبيعية فنيًا، وبشكل بارع.
جذبتنى الرواية الساحرة، وأخذتنى من كل الذين حولى، حتى إننى لم أشعر بهذا النشال الذى مد يده ليسرق نقودى الشحيحة حين كنت ألتهم سطورها واقفاً في أوتوبيس مزدحم، وهى واقعة لم أنسها، حتى إننى حين حصلت على جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابى مرتين، في القصة والرواية، قلت لأصدقائى السودانيين، إن الجائزة تعويض عما فقدته، وهى مزحة بالطبع، إذ لا توجد مقارنة بين ما سرقه النشال، وما منحته لى هيئة الجائزة من مكافأة.
قرأت مع الأيام أعمال الطيب صالح كاملة، واستمعت إليه وهو يقول إن روايته «عرس الزين» أفضل في نظره من «موسم الهجرة إلى الشمال» لكن الأخيرة هى التى منحته شهرة، وهى التى ترجمت إلى لغات عدة، وكتبت عنها أطروحات علمية وكتب ودراسات غزيرة وعميقة، فرآها الناس «بيضة الديك»، أو ذروة أعمال الرجل، قليلة العدد، رفيعة القيمة.
بهذه الروح تلقيت كتاب الناقد والباحث السودانى ناصر السيد نور «الهوية السردية.. مقاربة نقدية في رواية موسم الهجرة إلى الشمال»، الصادر مؤخراً عن دار «رامينا» ويعالج عبر سطوره زاوية مهمة في هذه الرواية، ويقدم رؤية نقدية كتبها بوعى ومحبة حول موضوع الهوية بعناصرها الدينية والعرقية والجهوية، الذى يمثل مركز الرواية، أو مقولتها الأساسية.
يبدأ نور، وهو كاتب وناقد ومترجم سودانى حاز أيضاً جائزة الطيب صالح في مجال الترجمة، بتعريف للهوية، ثم مفهوم الهوية الثقافية، وكيف تتجلى في الأعمال السردية، وبعدها يخصص فصلاً عن رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» متعاملاً معها كحالة أو شخص أو ظاهرة، فيعرض سيرتها، من حيث موضوعها أو حكايتها وكذلك شخصياتها، والدراسات التى كتبت عنها، ثم سيرة مؤلفها.
وفي الفصل الثالث والأخير يتناول ما يسميها «الهوية السردية»، ويجلى تفاعلها مع الهوية التاريخية، وبعض الهويات الفرعية التى تعرضها الرواية، مثل هوية المرأة، وهوية المكان، وهوية الزمان والاسترجاع، لتصل إلى الفكرة الأكثر أهمية، والتى كانت أحد الأسباب المهمة لذيوع هذه الرواية، وهى العلاقة بين الشرق والغرب،ليست رواية الطيب صالح هذه هى الأولى التى تعالج هذه العلاقة، فقد سبقه توفيق الحكيم في «عصفور من الشرق» ويحيى حقى في «قنديل أم هاشم»، وبعده هناك أيضاً رواية «الحى اللاتينى» لسهيل إدريس، و«أصوات» لسليمان فياض، وغيرها، لكن هذا الموضوع هو ما أعطى كل هذه الأعمال أهمية، ومنها «موسم الهجرة إلى الشمال» التى كشفت جذور هذه العلاقة، التي تمت هندستها فيما بعد تحت عنوان «صراع الحضارات».
لا يتعامل نور مع هذه الرواية بوصفها فقط نصاً أدبياً حاملاً للمتعة والتذوق اللفظى، إنما أيضاً هى رؤية معرفية، يلزم استعمال مناهج واقترابات عديدة في سبيل سبر أغوارها، منها النقد الأدبى، وتحليل الخطاب، والدراسات الثقافية، بانفتاحها على التاريخ والاجتماع والسياسة وعلم النفس، آخذاً نفسه بجدية وصرامة في البحث والتحليل، وقد آل على نفسه أن يفعل ذلك حين قال في مقدمة الدراسة إن الرواية بتوغلها العميق في المعانى الإنسانية، وإثارتها أسئلة حول علاقة الشرق بالغرب، والمكانة التى احتلتها عالمياً «تضع الناقد أمام تحد يستدعى وعياً نقدياً وإلماماً معرفياً في موازاة قيمة النص السردى».
يستجيب الناقد لهذا التحدى بالاطلاع على عدد من المراجع حول قضية الهوية خصوصاً، سواء باللغة العربية أو الإنجليزية، يظهر في المسرد الذى أورده في نهاية كتابه، ويظهر فيه كيف استفاد من هذه الكتب في تحليله، ومن الأعمال النقدية في سبر أغوار النص.ينتهى نور، الذى سبق له أن ألف أربعة كتب نقدية، اثنين بالعربية واثنين بالإنجليزية، إلى أن «موسم الهجرة إلى الشمال» امتلكت بصيرة نافذة في التنبؤ بصدام الحضارات، وكيف سيغزو أهل الجنوب أوروبا عبر العلاقات العاطفية بين رجال أفريقيا ونساء أوروبا، وهو ما يأتى على لسان بطلها «مصطفي سعيد» صراحة حين يقول إنه سيغزو أوروبا بعضوه الذكرى.
ويرى الناقد أن رواية الطيب صالح هذه لم تعالج الهوية بوصفها ظاهرة اجتماعية، أو محاججة فلسفية، أو موقفاً أيديولوجياً، بطريقة مباشرة كما تطرحها وتفرض الخطابات تفسيرها، بل تمثلتها الرواية ضمن سرد فنى بازخ.
فالطيب صالح، في الحقيقة، لم يكن معنياً ولا متوقعاً، وقت كتابته الرواية، كل هذه التصورات والدراسات التى تسحب النص، عبر التفسير والتأويل، إلى الجدل هو القضايا الكبرى، ومنها الهوية، وهنا تولد مهمة النقاد، مثل ناصر السيد نور، الذى نظر إلى الرواية من زاوية مختلفة، وأنجز هذا الكتاب المهم.
الوسومالطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال ناصر السيد النور
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال
إقرأ أيضاً:
الهوية البصرية للجمعيات الخيرية
إن توظيف العلوم الإدارية في الأسواق له أهمية بالغة، ولذلك نجد أن القطاعات التجارية تهتم إلى حد بعيد بزيادة ربحيتها من خلال توظيف هذه العلوم الإدارية، وتمكينها من التفوق على منافسيها والبقاء في المقدمة في كل المجالات، وهناك شركات عالمية عملاقة تعزو نجاحها في المقام الأول إلى توظيف الأبحاث والعلوم، التي وضعتها على المستوى الأول عالمياً. والأمثلة في ذلك كثيرة حتى أصبحت منتجات تلك الشركات محط اهتمام العملاء، بل انتقل العميل من مشترٍ إلى مناصر ومسوق، ومن أسباب نجاح هذه الشركات خلق هوية بصرية لدى عملائها، فأصبحوا عندما يرون تلك الهوية، يبدأ العقل الباطني باسترجاع معلومات ومنتجات تلك الشركة، بل تستثيره للشراء ،إن الهوية البصرية للعلامة التجارية هي مزيج من العناصر الرسومية التي تحدد العلامة التجارية وعناصرها، الألوان، والرموز، والشخصيات، وتصميم العبوة والتغليف، وكلما اتسقت تلك العناصر عززت الهوية البصرية لدى العملاء.
انظر إلى بعض المنتجات، مثل القهوة، فقد ترغب في شرائها من متاجر مشهورة وتدفع فيها القيمة العالية، وقد يكون ذلك لتميزهم في الجودة أو لارتباط الصورة الذهنية والهوية البصرية لذلك المتجر بعقلك حتى جعلتك تقدم على الشراء، فالعملاء عندما يرون رمز ذلك المتجر في أي مكان، يرتبط عقلهم الباطني بمنتجاته، وهذا ما نريده أن ينمو في قطاعاتنا الخيرية، تُعد الهوية البصرية للجمعيات الخيرية حجر الزاوية في تعزيز تواصلها مع المجتمع وداعميها، ولو تخيلنا جمعية خيرية تمتلك شعارًا مميزًا وألوانًا جذابة، يتعرف عليها الناس في جميع أنحاء المدينة، حيث يرتبط اسمها في عقول المواطنين سوف ينعكس ذلك على تقديم الدعم والتسويق لها، فالهوية البصرية قد تحدث فرقًا كبيرًا في تشجيع الناس على المشاركة والدعم.
عندما نتحدث عن ‘الصورة الذهنية’، فإننا نشير إلى الطريقة التي ينظر بها الأفراد إلى الجمعية عند رؤيتهم لشعارها أو لونها المميز، هذه الصورة تتشكل من خلال التجارب السابقة والاتصالات البصرية التي تربط القيم التي تمثلها الجمعية، من ناحية أخرى، ‘الهوية البصرية’ تشمل جميع العناصر المرئية التي تميز الجمعية، بما في ذلك الألوان، الشعارات، وأنماط التصميم، التي تعكس رسالتها وأهدافها الأساسية.
إن الهوية البصرية للجمعية تزيد من رغبة الداعمين للعطاء لتلك الجمعية وتعزز الولاء لديهم ولدى أصحاب المصلحة ،فلابد من اختيار الألوان الجاذبة التي يسهل مع العقل استذكارها، وتعد الألوان العنصر الأساس لتعزيز الصورة الذهنية لدى أفراد المجتمع، كما أنه لا بد من اختيار الرموز (Logo) بعناية، ويتراوح ذلك من كتابة الاسم بطريقة مميزة، أو يمكن أن يكون تصميمًا من دون كتابة مع التأكيد على أن يكون بسيطًا وأنيقًا، مع إمكانية الاعتماد على الكتابة والرموز، وهذا ما تفعله معظم الشركات العالمية، إن فوائد الرموز (Logo)تعزز الصورة الذهنية وسهولة التعرف على الجمعية، ولابد أن يعكس النشاط الأساس لها.
وقد أشار بعض الخبراء أن تصميم الهوية ‘تشكّل الهوية البصرية الأساس الذي يُبنى عليه تواصل الجمعية مع المجتمع ، وإنها ليست مجرد شعارات وألوان، بل هي تجسيد لقيم الجمعية ورسالتها.’ هذه الرؤية تؤكد أهمية التركيز على العناصر البصرية لإيصال الرسالة بشكل فعال وإحداث التأثير المطلوب، كما أن الهوية البصرية ينعكس أثرها على العاملين.
وحتى يكون للهوية البصرية تأثير كبير لابد من انسجام الظهور الخارجي في وسائل التواصل الاجتماعي والمؤتمرات والحفلات والبيئة الداخلية من مطبوعات ومبانٍ وغيرها مع الهوية البصرية، فهي توجد الولاء وتمنح النفس مزيدًا من العطاء ، وذلك العلم لا يُستهان به، وقد تستخسر بعض الجمعيات البذل على إيجاد هوية خاصة مما يكون له أثر سلبي على المستوى البعيد ، فالدراسات التي كتبت في القطاع التجاري عن أثر الهوية البصرية على الفرد والمجتمعات، فهي ليست بمعزل عن القطاع الخيري الذي هو بحاجة لتلك الهوية التي تحقق له الأثر والاستدامة في أعمالها.
أخيرا نحن في عالم تتسارع فيه المنافسة على الدعم والمساهمات، فإن تحسين الهوية البصرية للجمعيات الخيرية لا يعد مجرد خيار بل ضرورة، ولهذا يجب علينا أن نركز على بناء هوية قوية تعكس قيمنا وتجذب الدعم الذي نحتاجه لتقديم العون للآخرين، تذكر الهوية البصرية ليست فقط لتمييز الجمعية، بل هي دعوة لكل فرد للمشاركة في بناء مجتمع أفضل.