استطاع باحثو معهد "جاي آي إل إيه" البحثي التابع لجامعة كولورادو بولدر الأميركية تحديد المكونات المطلوبة لبناء الساعة الأكثر دقة على الإطلاق، وذلك يعني خطوة أولية مهمة جدا لاقت كثيرا من الترحيب في أوساط الفيزياء بالعالم.

وفي بحثهم المنشور يوم الخامس من سبتمبر/أيلول بدورية نيتشر، حدد الفيزيائيون تردد الضوء المطلوب من أجل استثارة نواة عنصر الثوريوم 229 كي تنتقل إلى مستوى طاقة أعلى.

ويتوقع علماء الفيزياء أن هذا الابتكار سيسهم في إجراء مزيد من الأبحاث الدقيقة المتعلقة بفيزياء الجسيمات، واكتشاف أغوار المادة المظلمة.

حساب الوقت على مر التاريخ

تطورت الساعات عبر الزمن مرات عدة، فاستخدم المصريون القدماء واليونانيون والرومان وسائل شديدة البساطة من أجل التعرف إلى الوقت، وتمثلت هذه الوسائل في الساعات الشمسية (عمود مثبت في الأرض يتغير مكان ظله على مدار اليوم)، تليها الساعات المائية المتطورة (ساعة تتكون من إناء أو إنائين مملوئين بالماء بكل منهما ثقب يمرر الماء، ويمثل مرور كمية من الماء مرور الوقت).

وفي القرن السابع عشر، خلال مطلع عام 1657 تحديدًا، طوّر العالم كرستيان هيوجنز أول نموذج للساعة البندولية، وهي تتكون من "وزن" يتحرك يمينًا ويسارًا مربوطًا بترس معدني، وتعني حركة الترس مرور ثانية واحدة.

لاحقًا ظهرت الساعة الميكانيكية، وتعمل بطريقة عمل ساعة البندول، إلا أن العلماء استبدلوا البندول الطويل بملف معدني صغير قادر على الانقباض والارتخاء، مُحرّكًا الترس.

قدرة البشر على بناء أدق الساعات تطورت على مرّ الزمن (الجزيرة)

وأخيرًا ظهرت ساعة الكوارتز، وهي مادة مميزة تنتج الكهرباء عند تعرضها للضغط، وتهتز حينما نمدّها بالكهرباء، تعمل الساعة حينما تصدر البطارية كهرباء مسببة اهتزاز مادة الكوارتز التي تنطلق منها نبضات كهربائية تستطيع أجهزة الترانزستور قياسها.

ولأن هذه الساعة قد تتأثر دقتها بعوامل عديدة، اتجه العلماء إلى تطوير الساعة الذرية، المشابهة في مفهومها لساعة الكوارتز.

وبدلًا من الكوارتز، يستخدم العلماء عنصر السيزيوم، وبدلًا من البطارية مصدر الطاقة يوجد مصدر لإشعاع الميكروويف، وهو الإشعاع المستخدم في تسخين الطعام بأجهزة "الميكروويف" المنزلية.

ويحدد العلماء مقدار الثانية لا عن طريق الاهتزازات كما كان الحال سابقًا، إنما عن طريق رصد انتقال الإلكترونات التي تدور حول نواة السيزيوم من مستوى طاقة منخفض إلى مستوى أعلى.

الساعة النووية

لكن الساعة النووية تعمل بشكل مختلف، وإذ يتكون أي عنصر من ذرة، داخلها في النواة تقع البروتونات والنيوترونات، فحينما تتعرض النواة لقدر من الطاقة، تنتقل هذه البروتونات والنيوترونات إلى حالة طاقة مختلفة، مثلما هو الحال حينما نأكل السكريات، فنستمد الطاقة التي نستغلها في الحركة على مدار اليوم.

وفي حديثه إلى الجزيرة نت، أشار شوانكون تشانج -الباحث الرئيس بالدراسة- إلى أن الساعة النووية "تعتمد على تغير حالة الطاقة الخاصة بالبروتونات والنيوترونات الموجودة داخل النواة، بدلًا من انتقال الإلكترونات إلى المدار الأعلى طاقة".

ويوضح تشانج أن "الفارق الأساسي بين الساعتين النووية والذرية لا ينبغي اختزاله في الدقة؛ إذ يتطلب الحصول على ساعة نووية فائقة الدقة سنوات من التجارب، حينئذ ستتفوق هذه الساعة على نظيرتها الذرية بمراحل".

من ناحية أخرى، شرح الباحث أهم مميزات الساعة النووية الجديدة، وأولها هو الاعتماد على جزئيات وتفاعلات مختلفة عن تلك الخاصة بكيفية عمل الساعة الذرية، ويُمكن استخدام الساعتين معًا في الأبحاث الفيزيائية من أجل الحصول على نتائج دقيقة.

ويرى تشانج أن الساعتين النووية والذرية ستسهمان في اختبار صحة الثوابت الفيزيائية التي طالما اعتمد العلماء عليها طويلًا، مثل سرعة الضوء، وثابت الجاذبية، وذلك سيفيد في إجابة السؤال عن هذه الثوابت: هل هي ثابتة حقا؟

كذلك فإن ارتفاع معدل استقرار الساعة النووية مقارنة بكل الساعات المصنوعة سابقًا، نتيجة عدم تأثرها بعوامل البيئة الخارجية، مثل المجالات المغناطيسية، يعني زيادة فاعليتها. ويُمكن وضع النواة الخاصة بالساعة في أجسام صلبة، وهذا يعني إمكانية استخدامها خارج المعامل البحثية بلا مشكلة.

(الجزيرة) فهم الكون بصورة أفضل

تواصلت الجزيرة نت مع الدكتور مصطفى بهران، الأستاذ الزائر في قسم الفيزياء بجامعة كارلتون الكندية، لتقييم مدة فاعلية الساعة الجديدة، فأوضح أن "الساعة الذرية تستمد الطاقة من ليزر الضوء المرئي، بينما تستمد الساعة النووية الطاقة من ليزر الأشعة فوق البنفسجية الأعلى طاقة وترددًا".

وأضاف بهران أن "الساعة الذرية تخطئ بمقدار ثانية واحدة كل مليار مليار ثانية، أما الساعة النووية التي هي قيد التطوير فتخطئ بالمعدل نفسه كل 100 ألف مليار مليار ثانية"، ولا يعتقد بهران أن هذه التقنية الحديثة لقياس الوقت ستسهم مباشرة في حياة البشر، لكنها بالتأكيد ستسهم في فهم أعمق للكون من حولنا.

ويقترح بعض الفيزيائيين أن المادة المظلمة هي مادة ذات كتلة خفيفة جدا تؤثر تأثيرًا بسيطًا في بعض الثوابت الفيزيائية، مثل شدة القوة المغناطيسية. تساعد الساعة النووية ومن قبلها الساعة الذرية في رصد هذه التغيرات الطفيفة.

ويتفق تشانج مع هذا الرأي، فالطاقة المظلمة -طبقًا لتعريفه- تمثل "مجالات اهتزازية"، وهذه المجالات تؤثر بطريقة معينة في الإلكترونات، وتؤثر بطريقة مختلفة في النواة.

ويضيف قائلا "إذا أردنا دراسة المادة المظلمة يمكننا الاستعانة بكل من الساعة الذرية وتلك النووية، فكل ساعة منهما عند تعرضها لتلك المادة سيصدر منها اختلافات في مستوى الطاقة، سواء على مستوى الإلكترونات، أو على مستوى الذرة".

جدير بالذكر أن الساعات الذرية الحالية نظرًا لمستوى دقتها تستخدم في تكنولوجيا الاتصالات، مثل أنظمة تحديد الموقع "جي بي إس"، والاتصالات بين الأقمار الصناعية، وكذلك الاتصال بين سفن الفضاء وكوكب الأرض، وكلها مجالات يُمكن أن تدعم اكتشاف أعماق الفضاء البعيد.

وسيعمل تشانج وفريقه خلال المرحلة القادمة على مزيد من التجارب الخاصة بالساعة النووية لاختبار مدى تأثرها بالعوامل الخارجية، وضمان حُسن سير العمليات داخلها.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الساعة النوویة الساعة الذریة

إقرأ أيضاً:

«الاتحادية للرقابة النووية» تعتزم إطلاق مشاريع تحويلية وتعزيز تعاونها الدولي في 2025

أبوظبي-وام
تعتزم الهيئة الاتحادية للرقابة النووية إطلاق عدد من المشاريع التحويلية، خلال 2025؛ لدعم تحقيق رؤية «نحن الإمارات 2031»، التي تهدف إلى جعل الدولة «الأكثر أماناً في العالم»، من خلال تعزيز معايير السلامة النووية والتطبيقات الإشعاعية.
وقال كريستر فيكتورسن، مدير عام الهيئة، في كلمته، خلال الإحاطة الإعلامية التي نظمتها الهيئة للكشف عن أبرز إنجازاتها خلال العام الماضي 2024 ومشاريع 2025، إن الهيئة تسعى لتوسيع تعاونها العالمي من خلال تصدير خبراتها للدول التي تتوجه نحو استخدام الطاقة النووية، وذلك في إطار جهودها لتبادل المعرفة والخبرات، وتعريفها بتجربة الإمارات في بناء وتشغيل محطات الطاقة النووية. وأوضح أنه نظراً لثقة المجتمع الدولي بالتجربة النووية لدولة الإمارات وكفاءتها فقد كثفت الهيئة العام الماضي تعاونها مع الشركاء على المستويين الوطني الدولي، ووقعت نحو 8 اتفاقيات مع دول مختلفة مثل كندا وكوريا الجنوبية والمجر؛ للتعاون في مختلف المسائل الرقابية، مشيراً إلى إطلاقهم بالتعاون مع المفوضية الكندية للسلامة النووية أول دليل إرشادي حول التدقيق على عمليات التفتيش في الجهات الرقابية النووية.
وقال فيكتورسن في تصريحات لوكالة أنباء الإمارات «وام»، في هذا الصدد، إن الهيئة تعمل على تطوير استراتيجية للذكاء الاصطناعي، من المقرر إطلاقها خلال العام الجاري، تهدف إلى تسخير أحدث التقنيات في القطاع النووي، بما يُسهم في تبسيط العمليات التنظيمية وتعزيز كفاءتها.
وتوقع أن تتجه الجهات المرخصة مثل محطات الطاقة النووية والمنشآت الطبية إلى تقديم طلبات ترخيص لاستخدام الذكاء الاصطناعي في عملياتها، مؤكداً أن الهيئة ستقوم بتقييم هذه الطلبات وفقاً لمعايير السلامة والأمان.
وأوضح أن الهيئة تسعى للانضمام إلى ورقة المبادئ الثلاثية بشأن نشر الذكاء الاصطناعي في الأنشطة النووية، والتي تم توقيعها بين الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والمملكة المتحدة.
وأكد في هذا الإطار الاستعداد للمشاركة في القمة العالمية للحكومات 2025، من خلال طاولة مستديرة رفيعة المستوى حول «دور الذكاء الاصطناعي في تسريع المفاعلات المعيارية الصغيرة»، وذلك بالتعاون مع وزارة الذكاء الاصطناعي في الدولة ووكالة الطاقة النووية، ومن المتوقع أن يحضرها نحو 20 مسؤولًا من القطاع النووي على المستويين الوطني والدولي.
وفي سياق توسيع التعاون الدولي، أشار فيكتورسن إلى استضافتهم المترقبة في أكتوبر/تشرين الأول القادم للندوة الدولية الثامنة حول منظومة الوقاية من الإشعاع في أبوظبي؛ حيث سيجتمع نحو 600 خبير عالمي لمناقشة أحدث التطورات في مجال الحماية من الإشعاع وتطبيقاتها المختلفة.
وحول أبرز إنجازات الهيئة خلال العام الماضي فقد أشرفت على محطة براكة للطاقة النووية من خلال إجراء 47 عملية تفتيش للسلامة في مجالات تشمل إعادة التزود بالوقود والصيانة واختبار صعود الطاقة وغيرها، وتم اعتماد 267 مشغل مفاعل ومشغل مفاعل أول في المحطة.
ونفذت الهيئة 50 عملية تفتيش متعلقة بالضمانات، و96 عملية تفتيش تتعلق بالرقابة على الاستيراد والتصدير، لضمان امتثال المرخص لهم للوائح الهيئة.
كما تم إجراء 58 عملية تفتيش رقابية خاصة بأمن المنشآت التي تستخدم مواد مشعة، وتنفيذ 195 عملية تفتيش لمركبات نقل المصادر المشعة، بالإضافة إلى ذلك، أجرت الهيئة سبع عمليات تفتيش تتعلق بأمن محطة براكة لمراجعة جميع الترتيبات والتنفيذ؛ للتأكد من امتثالها للمتطلبات الرقابية.
وفي إطار ترخيص وتفتيش المنشآت التي تستخدم المصادر الإشعاعية، نفذت الهيئة 210 عمليات تفتيش في المنشآت الطبية وغير الطبية، بالإضافة إلى إصدار إجمالي 1090 ترخيصاً للمنشآت وأكثر من 1600 تصريح استيراد وتصدير.
وبالإضافة إلى ذلك، أجرى المختبر المعياري الثانوي لقياس الجرعات التابع للهيئة، والمسؤول عن تقديم خدمات المعايرة لمعدات قياس الإشعاع، أكثر من 1120 معايرة لعملاء من داخل الدولة وخارجها.
وواصلت الهيئة أنشطتها الخاصة بالتأهب لحالات الطوارئ من خلال إجراء 18 تدريباً وطنياً ودولياً والمشاركة فيها، بما في ذلك جهود الاستجابة لحالات الطوارئ النووية العابرة للحدود.
وجرى تنظيم 13 ورشة عمل تدريبية من خلال مركز عمليات الطوارئ التابع للهيئة.. وفي مجال البحث والتطوير، تم إبرام 15 اتفاقية تعاون بحثي مع العديد من الدول تغطي مواد المفاعلات وإدارة النفايات والبنية التحتية للسلامة الإشعاعية وغيرها، وتم إصدار تقرير فني لتحديد التحديات والفرص الرئيسية لتعزيز البحث والتطوير في مجال الحماية الإشعاعية.

مقالات مشابهة

  • الأرصاد توقع بروتوكول مع هيئة الطاقة الذرية لدراسة الأمطار والكتل الهوائية والشح المائي
  • المملكة المتحدة تتجه لتخفيف قواعد الطاقة النووية
  • إندونيسيا تلجأ للمفاعلات النووية العائمة للحصول على طاقة نظيفة |تفاصيل
  • "الأرصاد الجوية" تستقبل وفدا من هيئة الطاقة الذرية المصرية
  • المُعارضة الإيرانية في فرنسا تكشف أسرار طهران النووية
  • فبراير 2025.. انطلاق فاعليات المنتدى الدولي للشباب بشأن التقنيات النووية المستدامة
  • فبراير 2025.. انطلاق فاعليات المنتدى الدولي للشباب بشأن التقنيات النووية المستدامة بالإسكندرية
  • الطاقة الذرية تخذر من خطر وقوع حادث نووي..واشتعال النيران في مصفاة روسية عقب هجوم بمسيرة أوكرانية
  • «الاتحادية للرقابة النووية» تعتزم إطلاق مشاريع تحويلية وتعزيز تعاونها الدولي في 2025
  • إيران.. بيان هام بشأن المفاوضات النووية