السلام.. رسالة عُمان الخالدة في عالم مُضطرب
تاريخ النشر: 21st, September 2024 GMT
د. حامد بن عبدالله البلوشي **
shinas2020@yahoo.com
في عالم مضطرب بالحروب، مليء بالآلام، يعج بالمشاحنات؛ يأتي اليوم العالمي للسلام كجرس إنذار لنا جميعًا، وكناقوس خطر يقرع آذان العالم كي يستفيق من غفوته، وكمنبه يوقظ به الغافلين.
لم يكن تخصيص الأمم المتحدة ليوم 21 من شهر سبتمبر مجرد يوم يتحدث فيه المتحدثون، ويتشدق خلاله المتكلمون بكلمات جوفاء عن السلام والمسالمين، تجتمع فيه الميكروفونات، ويخطب فيه السياسيون خطبًا عصماء، ثم نرى في اليوم التالي دماء تتناثر، وأشلاءً تتطاير، ومقابر جماعية، وطائرات تقذف، ودبابات تقتحم، ورصاصات تندفع، وصواريخ تنفجر، وقنابل ترعد، وبنادق تئزّ، فبئس الاحتفال إذن، وساءت الأحاديث وقتها.
إنِّه يوم، يحتاج فيه العالم أجمع إلى قرارات صارمة، وإجراءات حازمة، ومسؤولين حكماء، وسياسيين نُجباء، يُحَكِّمُون العقول لا البنادق، ويستمعون فيه إلى صوت العقل، لا صوت المتفجرات، ويغلبون فيه الإنسانية على الهمجية، وصوت الحكمة على صوت البندقية، وأن يعلم صناع القرار أنَّ الحروب ليس فيها منتصر ولا غالب، وإنما يخسر فيها الطرفان، ويستعر بلهيبها المظلومون، ويكتوي بنيرانها الأطفال والنساء والشيوخ، إنها دمار شامل، وخراب مستعجل، ومدن تزول، ومبانٍ تُدَكّ، وأشجار تحترق، وحياة تتوقف، ونكات سوداء في قلوب المقهورين، وثارات لا تنتهي، إنه فن القتل والقتل المقابل، لا ترتاح فيه النفوس إلا بالتخلص من تلك الحياة، والافتكاك من تلك المظالم، والاختفاء من قائمة الأحياء، إنه مليارات تحرق ليفسد الإنسان في الأرض ويهلك الحرث والنسل، بدلاً من أن تكون هكتارات تزرع لتطعم ملايين الجائعين، وتؤوي ملايين المشردين، وتمسح على رؤوس المكلومين، وتطمئن ملايين الخائفين، وتنفق على تعليم الأطفال قيمة التسامح والمحبة، بدلا من أن يروا الكراهية والمظالم عيانًا بيانًا.
إنه يوم يجب أن نسعى فيه جميعًا بكل ما أوتينا من قوة، وبكل ما أتيح لنا من إمكانيات؛ لوقف العنف والنزاعات، والانتهاء من الظلم والخصومات، والتوقف فيه عن أحاديث الكراهية، وخطابات العداوة، وأن نفسح فيه المجال للحوار البنَّاء، والتَّعاون المُثمر، وننشر فيه المحبة والعدالة، وأن نعلم أنَّ الطرف الثالث دائمًا هو المستفيد وحده، إنِّه الطرف الذي يُريد هلاك الجميع، ويحلم بالقضاء على الآخر، ويرى في الحروب مصلحته، وفي الدمار سعادته.
ولنتذكر معًا أن السلام هو الرسالة الخالدة لجميع الأديان، وأن الإسلام إنما اشتق من السلام، فقد بزغ فجر الإسلام في قلب الصحراء، حيث البقاء للأقوى، والحروب تثور لأتفه الأسباب، والأخبار تتطاير عن حرب الروم والفرس، وانتصار الأوس على الخزرج، وانتقام عمرو بن كلثوم من عمرو بن هند، واشتعال حرب البسوس بسبب مقتل ناقة، وحرب بعاث، وحرب الفجار، وحرب داحس والغبراء، وغيرها الكثير. حتى جاء رسولنا صلى الله عليه وسلم فأصبحت الحروب عند الضرورة فحسب.
وقد أمر الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وأمر المسلمين على مر العصور بالمسارعة إلى السلام، وعدم الاعتداء على الآخر، فقال سبحانه وتعالى: "وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا" (الأنفال: 61)؛ بل إن أحد أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى هو السلام، وبين سبحانه وتعالى أنَّ رسالة الإسلام هي رسالة محبة وتعاون مع الآخرين، فلا يعادي المسلم إلا من يعاديه، أما الأصل فهو التعاون والتعارف والمودة: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة: 8"، فمهمة الإنسان في هذه الأرض هي إعمارها، وملؤها بالخير، ونشر السعادة، ومن العجيب أن لفظة سلام قد ذكرت في القرآن اسما أو فعلا 140 مرة، في حين أن كلمة الحرب بكل مشتقاتها لم تذكر إلّا 10 مرات، فهل الإسلام هو دين حرب أم دين سلام؟!!
إنَّ السلام لا يعني الضعف والخمول، ولا يفهم منه الإخلاد إلى الأرض والاستكانة، ولا يقصد من ورائه أن نجعل خدودنا مرتعًا للأعداء. إن أول خطوات السلام الحقيقية جيش قوي مُجهز بأقوى أنواع الأسلحة، وعيون ساهرة لحماية الحدود، وشرطة تحمي المواطن، وقيادات تواصل الليل بالنهار لصيانة ميراث الأجداد، وتلاحم بين القيادة وصفوف المواطنين، وتطوير للقدرات القتالية، ومواكبة لأحدث نظم الدفاع عن البلاد، فإن الله -تبارك وتعالى- الذي يدعونا للسلام والمسالمة؛ هو سبحانه وتعالى الذي يدعونا للإعداد والتجهز الدائم بكل ما نملك من قدرات: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ (الأنفال: 60).
السلام هو تلك القوة الناعمة، التي تدفع الأمم والمجتمعات نحو الازدهار والتقدم، وترتفع بها نحو السمو والتطور، وتفتح أزهار السعادة والسرور، ويرفل في ظلها المواطنون في أمن وأمان، ويخططون خلاله لمستقبل مزهر، وأحلام وردية، وحياة مضيئة، وأمل متجدد، فالسلام ليس فقط غياب للحرب، بل هو صفحة منيرة للعدالة والمحبة بين الجميع، ومفتاح للاستقرار والرفاهية.
إنَّنا بحاجة جميعًا للراحة من عناء الحروب التي تأكل الأخضر واليابس، وتسفك الدماء، وتمزق الأسر والعائلات، وتدمر الحضارات، وتوقف قطار التقدم، وتطمس جمال الحياة، وتقتل أحلام الصغار، فنحن في أمس الاحتياج أكثر من أي وقت مضى إلى مداواة جراح الحروب التي تشتعل في العالم شرقه وغربه، وأن نعيد للأرض بهاءها وجمالها، وأن نغرس شجرة بدلا من أن نجتث جذورها، وأن نزرع أرضًا بدلا من أن نجرف تربتها، وأن نبني مدنًا بدلًا من أن نشرد أهلها، وأن نطعم جائعًا بدلا من أن نسلط عليه سلاح الجوع.
السلام هو الركيزة التي ترتكز عليها كل الحضارات، وهو الرسالة السامية التي نحملها للعالم وللأجيال القادمة، وهو القيمة التي تجعل منا خلفاء لله في الأرض بحق، وهو الراية التي يتوارثها جيل بعد جيل، وهو المفخرة التي يتباهى بها الخلف بأسلافهم.
وقد فهمت سلطنة عُمان دورها في العالم فهما صحيحًا، فحملت مشعل النور والسلام لجميع الشعوب، فأرض عُمان الطيبة هي جسر سلام بين أمم العالم، ومهد للتسامح والمحبة، وموطن للتعايش والتعاون، فقد عُرِفَت السلطنة بحيادها الإيجابي، وبسياستها المتوازنة في التعامل مع دول الجوار، ومع محيطها الإقليمي والعالمي، بفضل حكمة السلطان قابوس -طيب الله ثراه- والذي اختار الحوار والتفاهم طريقًا لحل النزاعات، وسبيلًا للقضاء على الخصومات،لذلك حظي جلالته رحمه الله تعالى بتقدير وإشادة العالم لدوره في تحقيق السلام، ونشره بين شعوب المنطقة خاصة، والعالم عامة؛ حيث منحته الكثير من الجمعيات والمؤسسات الدولية جوائز السلام، ومن أهمها "جائزة السلام" الدولية في 16 من أكتوبر سنة 1998، بإجماع 33 جامعة، ومركز أبحاث، ومنظمة في الولايات المتحدة الأمريكية. كما حاز على جائزة السلام من الجمعية الدولية الروسية في عام 2007، وجائزة «جواهر لال نهرو للتفاهم الدولي» في عام 2007، وها هو حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله- يكمل مسيرة عُمان المظفرة بحصافته وحنكته، مؤكدًا أن عُمان ستظل دائمًا وأبدًا صوت الحكمة الرصين، ويد السلام الممدودة للجميع، ورمز السلام والاستقرار، فتعلو من سواحل عُمان الهادئة نداءات السلام العالية؛ لتسمع أرجاء العالم صوتها القوي الهادر، كنموذج يحتذى، ووسيط نزيه، وصديق للجميع، لا يميل عن الحق قيد أنملة، ولا يحيد عن الإنصاف مقدار ذرة، يخبر العالم أجمع أن السلام هو تراث عُماني خالد، وميراث تتوارثه الأجيال، ولا يمكن التفريط فيه أبدًا، وعلينا جميعًا أن نتحمل مسؤولياتنا نحو وطننا الغالي، وأن نجعل السلام رائدنا، وأن تبقى عُمان للأبد رمز السلام الذي نتوق له جميعًا.
حفظ الله عُمان آمنة مطمئنة، عزيزة شامخة، تنعم بالأمن والأمان، والاستقرار والرخاء، وأسبغ عليها نعمه ظاهرة وباطنة، وأدام لها حكمتها، وبارك قيادتها، وأسعد شعبها، وحفظها من كل سوء ومكروه.
** مدير عام شبكة الباحثين العرب في مجال المسؤولية الاجتماعية
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
نتانياهو يوجه رسالة للمسيحيين
أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو اليوم الثلاثاء ما وصفه بأنه الدعم "الثابت" للمسيحيين في جميع أنحاء العالم للدولة العبرية في محاربة "قوى الشر".
للعام الثاني على التوالي، يستعد المسيحيون في الأراضي الفلسطينية وإسرائيل للاحتفال بعيد الميلاد فيما الحرب تتواصل في قطاع غزة وتلقي بظلالها على الاحتفالات.
وفي رسالة مصورة، خاطب نتانياهو المسيحيين في جميع أنحاء العالم قائلاً، "لقد وقفتم إلى جانبنا بثبات وقوة بينما تدافع إسرائيل عن حضارتنا ضد الوحشية".
“My dear Christian friends, as you gather with your family and friends this Christmas, I wish the Christian community in Israel and around the world blessings for a Merry Christmas from the Holy Land. pic.twitter.com/b5YtGaCUug
— Prime Minister of Israel (@IsraeliPM) December 24, 2024وأضاف، "نسعى إلى السلام مع أولئك الذين يرغبون بإحلال السلام معنا، لكننا سنفعل كل ما هو ضروري للدفاع عن الدولة اليهودية الوحيدة، مصدر تراثنا المشترك"، وأكد متوجهاً إلى المسيحيين "بدعمكم وبعون الله، أؤكد لكم أننا سننتصر".
يعيش في إسرائيل نحو 185 ألف مسيحي يمثلون 1,9% من السكان ويشكل المسيحيون العرب نحو 76% من هذه الفئة السكانية، وفقاً لبيانات المكتب المركزي للإحصاء في إسرائيل.
ويؤكد مسؤولون فلسطينيون وجود 47 ألف مسيحي في الأراضي الفلسطينية بما في ذلك قطاع غزة.
وأثرت الحرب المستمرة في قطاع غزة والتي اندلعت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 بعد هجوم مباغت شنته حماس على جنوب إسرائيل، على الطوائف المسيحية في إسرائيل والأراضي الفلسطينية.
وأسفر الهجوم عن مقتل 1208 أشخاص غالبيتهم مدنيون.
وتردّ إسرائيل مذّاك بقصف مدمّر وعمليات برّية في قطاع غزة ما أسفر عن مقتل 45317 شخصاً، غالبيتهم مدنيون من النساء والأطفال، وفقاً لأرقام وزارة الصحة التابعة لحماس والتي تعتبرها الأمم المتحدة ذات صدقية.