تدبر معاني القرآن.. رحلة مصطفى محمود من الشك إلى الإيمان
تاريخ النشر: 21st, September 2024 GMT
«لم أشك أبدًا في وجود الله.. لكن لما بدأت أكتب طرحت كل المسلمات وراء ظهري وبدأت أفكر في الله والإنسان بطريقة علمية مثلما تعلمت في كلية الطب»، عندما طرح الدكتور مطصفى محمود كتابه «الله والإنسان» قامت الدنيا عليه؛ ووجهت الاتهامات للطبيب الشاب آنذاك بالإلحاد، تمت مصادرة الكتاب والتحقيق معه، وقالوا إن نهايته ستكون على «الرصيف» بالقرب من مقام السيدة زينب، خاض سنوات في قراءت الأديان وكان القرآن والسيرة النبوية هي دليل الكاتب المثير للجدل بكتاباته في شبابه للوصول إلى الإيمان.
الدكتور مصطفى محمود لخص رحلته من الشك إلى الإيمان في ندوة قديمة في دار الأوبرا، في حضور الشيخ الغزالي والمفكر الاسلامي دكتور محمد عمارة والمفكر اليساري محمود امين العالم والمطرب سيد مكاوي ومجموعة من المشاهير والمفكرون، في لقاء نادر نقله التلفزيون المصري «ماسبيرو» ونعرضه في إطار حملة «الوطن» لـ تعزيز الهوية الدينية تحت شعار «الإيمان قوة.. واعبد ربك حتى يأتيك اليقين».
رحلة الشك من كلية الطبالرحلة من الشك إلى الإيمان بدأت بحب الدكتور مصطفى محمود للعلوم، شاب مراهق في الثانوية العامة يعشق التجارب العلمية، يجمع الإحماض في بيته حتى تعرضت ملابسه للتلف من كثرة التجارب، وقال في لقاء نادر:«أفتكر إني في الثانوية مكنتش اكتفي بكتب العلوم كنت بجيب الكتب اللي بيدرسوها في كلية العلوم، وابتديت أحوش مصروفي واشتري حاجات أحماض وأعمل تجارب، وكل البيجامات بتاعتي بقت مخرمة من الأحماض، شغفي بالعلوم والفنون كان جوايا باستمرار، والحلم اللي جوايا ديمًا باستير وأديسون، دخلت كلية الطب بحيلة عشان أخويا مختار عايزني أدخل كلية تانية، وأنا هواياتي مش فيها أنا بحب العلوم والفنون والكلام دا، ورجعت البيت قولت له متقبلتش وقالي مفيش فايدة إلا كلية الطب».
درس التشريح لمعرفة أجزاء الجسمقبل دخول كلية الطب قضى مصطفى محمود عامًا في كلية العلوم وأخذ معملا صغيرا في الكلية أجرى فيه تجاربه، وبحد وصفه «عايز أعمل حاجه مكنتش عارف هي إيه»، وفي أول عامين بكلية الطب تخصص في التشريح الذي كان يعشقه، فكان أول من يدخل إلى المشرحة وآخر من يخرج منها: «الإنسان لأول مرة بيتتفتح قدامي وأشوف جوا إيه القلب والمخ والأعصاب والأورودة هو دا البني آدم، الأسئلة أكبر من الكتب اللي بقرأها، سنتين عندنا تشريح اشتريت نص بني آدم بعد ما اتحنط في الفورمالين واشتريت مخ بـ20 قرش أياميها، قعدت طول الأجازة مكفي على البني آدم، وجبت فورمالين وكنت بحفظ الجثة فيها وحطيت الفورمالين تحت السرير وأشم فورمالين وانا مش داري».
انتقل الدكتور مصطفى محمود من الهوس بالعلوم إلى قراءة الأدب العالمي كاملًا، والسر جثة البني آدم التي اشتراها وعكف على دراستها ونجح في اختبار التشريح بفضلها، لكنه بسببها ايضًا استنشق الفورمالين الذي بسببه أصيب بمرض في الشعب الهوائية وظل في غرفته ثلاث سنوات، وقتها قرأ الأدب كاملًا وقال:« الـ 3 سنين دول ثمرتهم إني بقيت مفكر حاليًا وبسببها المحنة دي بقيت برحب بأي إختبار من ربنا ورجعت شخص مختلف خالص واحد تاني، بفضلهم كتبت 30 قصة ووريتهم للعقاد وحبهم جدا وقدمني للزيات اللي نشرلي قصتين سنة 1947، وبعدها عدد من المسرحيات وقصة اتصورت في السينما والكتب اللي اتهاجمت عليها وأُتهمت بالإلحاد بسببها».
درس الأديان لمعرفة ماهية الإنسانكان أول كتاب للدكتور مصطفى محمود هو كتاب«الله والإنسان» وبسببه «قامت الدُنيا ولم تقعد»، إذ كان يضم مجموعة مقالات له نُشرت من قبل دار المعارف في عام 1955، وتم منعه من التدوال في المكتبات المصرية وما زال، والذي اتُهم مصطفى محمود بالإلحاد بسببه وقال:« الكتاب كان ثمرة للتفكير المتواصل في إيه هو البني آدم والإنسان والكون والله، نتج عن وقوفي أمام الجثة وأنا بشرح، واقول مش ممكن دا مش البني آدم دا شكله من برا البني آدم حاجة تانية، لما ابتديت اكتب طرحت وراء ظهري كل المسلمات الدينية والاجتماعية وبدأت على بياض حاولت أفهم زي ما اتعلمت في كلية الطب، الكتاب كان في كلام كتير صادم للمتدينين والأزهر وفالواقع أنا عمري ما شكيت في وجود الله ابدًا، إنما يمكن الكتاب تعرض للوحي والبعث والخلود والجنة والنار وأجابت عليها إجابة علمية مش من الموروث الديني، الدكتور محمد عبد الله المحامي قال في دفاع بليغ جدا في محاكمة سرية الأسئلة اللي أثارها الدكتور مصطفى محمود قال أكتر منها المفكرين الكبار والجماعة الصوفية وغيرهم والقاضي اكتفى بمصادرة الكتاب واتقفل الموضوع لكن متقفلش بالنسبة لي».
بعد المحاكمة ظل الدكتور مصطفى محمود سنوات طويلة يفكر في ماهية البني آدم ولم تنته كتبه المُثيرة للجدل: «عدى الكتاب وحكايته وزمايلي قالوا دا راجل درويش هينتهي بيه الحال على باب السيدة زينب، وبعدها اكتشفت إن المنهج العلمي مبيفسرش الإنسان ودخلت في الفلسفة وقراءت الأديان الهندوسية وغيرها والأديان السماوية»، ولما وصل إلى القرآن انتباته مشاعر مختلفة، وكان عندما يتلو أياته يشعر بإحساس فريد، ووجد في القرآن لمحة علمية «أعجب حاجة في القرآن العلاقة بين الآية والقلب، إيقاع الآية غريب بحس بكل جملة قبل تفسيرها، العلاقة بين الآية وبيني أنا حسيت أن الكلام عظيم لا يصدر إلا عن متحدث عظيم، ودخلت في السيرة النبوية والتاريخ ولقيت منظومة كبيرة خالص في جزيرة بعيدة عن الحضارة، قدرت تطلع ناس زي عمر ابن الخطاب وأبو بكر وعلي ابن أبي طالب، غزوا العالم»، وصل أخيرًا لنهاية الرحلة وقام بتأليف عدد من الكتب أبرزها «محاولة لفهم عصري»، لكنه كالعادة هُجم لمحاولته لتفسير القرآن وتمت مصادرة الكتاب لكنه خرج إلى النور بعد فترة، ثم كتاب «رحلتي من الشك إلى الإيمان» و«حوار مع صديقي الملحد».
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: حملة الوطن الدکتور مصطفى محمود کلیة الطب فی کلیة
إقرأ أيضاً:
«الزمن الجميل».. هل يبقى أضعف الإيمان؟
هل يمكن وصف الـ«الذاكرة الاجتماعية» بأنها الحاضنة الأبقى لكل ما هو متعلق بالمجتمع الإنساني؟ هل هناك معززات من شأنها أن تحافظ على بقاء الأداء لهذه الذاكرة، وما مدى ذلك؟ ما هو نصيب الفرد من هذه الذاكرة، وهل هو يستشعرها بالفعل كممارسة على أرض الواقع، أم أنها تبقى مفهومًا علميًا هو فـي يد أهل الاختصاص فقط؟ إلى أي مدى يمكن أن تحافظ الـ«الذاكرة الاجتماعية» على تألقها لتقوم بكامل الدور المنوط منها؟ وماذا عن مستوى التغييرات التي يعيشها أفراد المجتمع فـي إرباك الـ«الذاكرة الاجتماعية» فـيؤثر على أدائها المتوقع؟ هل يلعب التاريخ فـي بعديه المادي والمعنوي فـي تعزيز الدور الذي تقوم به الـ«الذاكرة الاجتماعية»؟ وهل هناك علاقة عضوية متبادلة بين الطرفـين؟ لماذا يتأثر الناس -غالبا- عندما يزال موقعا أثريا عن مكانه وإلى الأبد هل لذلك التأثر علاقة بالمخيلة الاجتماعية؟ وبمعنى آخر هل تعيش الذاكرة الاجتماعية قلقا دائما للحفاظ على كينوناتها من مثل هذه الأرصدة فـي بعدي التاريخ المادي والمعنوي؟ وهل ذلك ينطبق أيضا على اختفاء بعض القيم الإنسانية التي ينظر إليها بكثير من الاهتمام؟ هل هناك ثمة علاقة بين الهوية والـ«الذاكرة الاجتماعية» وأيهما يخدم الآخر أكثر؟ نسمع كثيرا جملة «الزمن الجميل» مع أننا فـي لحظتنا الآنية لم نعش ذلك الزمن الذي يوصف بـ«الجميل» ترى من صدر هذا الوصف وأنزله على الذاكرة حتى استحسنته «وصفًا» دون أن تعيش تفاصيله الدقيقة هل هذا من فعل الـ«الذاكرة الاجتماعية» أيضا؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل وقعت هذه الذاكرة فـي مأزق التحايل على الحقيقة؟ لأن الأزمان لن تكون جميلة بالمطلق، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ليس من الواقعية فـي شيء أن نجزم ببساطة الأشياء وتواضعها على أنها معبرة عن زمن جميل، فقد يكون الزمن قاسيًا بكل ما تعنيه الكلمة، فمن إذن يكون له حق التقييم فـي النفـي أو الجزم بذلك؟ ولذلك يأتي السؤال الختامي لهذه المقدمة الاستفهامية هل يبقى «الزمن الجميل» أضعف الإيمان لرصيد «الذاكرة الاجتماعية» موضوع هذه المناقشة؟ من يأمن الذاكرة؟ ومن يأمن الزمن؟ ومن يأمن الظروف التي استغلتها الذاكرة فـي تحايلها على الزمن؟ فالذاكرة لا تكتب تاريخها بعيدة عن الزمن المنجز، والزمن لا يخلد أفعاله اعتمادا على الذاكرة فقط، وإلا لضاعت الكثير من الثوابت، والكثير من القيم المعرفـية، والكثير من حقائق الأشياء، والكثير مما بذله الناس فـي أزمان صعبة، وما كان له أن يتحقق لولا هذا الحرص الإنساني على أن يكون له أثر ما، فـي لحظة زمنية فارقة، إذن من يكتب التاريخ؟ الفرد الجماعة الأثر الباقي «الشاهد» والمعبر عن أن هنا جهد إنساني بذل فـي هذا المكان بالذات؟ لذلك يقال: إن الأزمان تكتب تاريخها حتى فـي أحلك الظروف التي تمر بها الإنسانية، وأحلك الظروف هنا (الجهل/ الفقر/ عدم الاستقرار/ الاستعمار) حيث لا تستطيع الإنسانية تجميع قواها لكتابة التاريخ، فالبلدان التي ترزح تحت وطأة هذه الظروف مجتمعة أو متفرقة، لا يستطيع إنسانها أن يكتب تاريخ لحظته بصورة أكثر دقة، وبأريحية تامة، فهو يعاني من ذات اللحظة الزمنية الفارقة فـي حياته، من كثير من الارتباك، والقلق، وعدم التوازن، ولأن الشعوب غالبا لا تخضع كثيرا لاستمرار حالات أحلك الظروف، فإنها سرعان ما تنتفض على أي شيء ترى أنه سوف يقيد حركتها عن رصد تاريخها والكتابة فـيه، وتجميع حمولته المعرفـية وإلحاقها بالذاكرة، ولا يضعف إلى الحد الذي يكون فـيه لقمة سائغة للغريب، فالأرصدة الاجتماعية لا يجب أن يكون بين مجموعها ومجموعها فترة زمنية قاطعة، فالتاريخ متواصل بفعل الزمن، فكما الزمن لا يستريح فـي استمراريته، فكذلك التاريخ لا يتوقف فـي إنجاز أبنائه، وكذلك الـ«الذاكرة الاجتماعية» الدفعات المتقطعة مما هو منجز؛ لأنه بهذا الرصد المتواصل تؤصل هوية إنسان/ شعب/ مجتمع/ أمة فـي يوم ما، ليكون لكل ذلك تاريخ يكتب بماء الذهب.
هنا تنجز الهوية مع الـ«الذاكرة الاجتماعية» مستحقا إنسانيا، لا يمكن تجاوزه، ولذا لا تستغرب إن عرفت يوما ما أن هناك من اكتشف «وثيقة» تاريخية فـي أحد متاحف العالم تسجل لك سبقا زمنيا منجزا فـي أمر ما من أمور حياة من سبقوك، ولأن هذه الـ«وثيقة» هويتها لك، وجذورها تعود إلى بلدك، وإلى أمتك، وإلى وطنك، وإلى جغرافـيتك، إذن وفـي هذه الحالة فهي أنت، وأنت هي، وبالتالي فلا يستغرب إطلاقا أن تدفع مقابل أن تعود هذه الـ«وثيقة» إلى حيث جذرها الأصل، ولن ترتاح - وأنت صاحب القرار - أن تظل هذه الـ«وثيقة» فـي غربتها، وإلا عد ذلك نقيصة فـيك، وإنكارا لأهم مكونات تاريخك الذي ستدافع عنه بكل شراسة، فـي حالتي السلم والحرب، حيث لا تذوب الهويات فـي أيهما، ولا يتماهى الانتماء فـي أي منهما أيضا، ولعل هنا يتضح المعنى أكثر فـي تسمية «الزمن الجميل» لأنك امتداد له، وإلا ما الذي يجبرك على أن تحرص على عودة الوثيقة إلى حيث منشأها الأول، حيث أنت تقبع الآن؟ ينطلق أداء الذاكرة الاجتماعية بوهج غير مسبوق من خلال ما يحرص الناس على بقائه، واستمراره، حتى ولو كان هذا الأمر لا يتوافق مع عصره، وهنا تتسلل الهويات لتوقظ فـي الأنفس الارتهان على البقاء، وأن هذا البقاء لن يكون إلا من خلال هذا الذكر، ومن خلال هذا التبني، ومن خلال هذا التخيل، ولذلك فجملة «الزمن الجميل» لم تأت من فراغ الذاكرة الاجتماعية، بل من ثرائها المعرفـي، وثرائها القيمي، وثرائها التاريخي، حتى وإن لم تعش هذه الأنفس شيئا من هذا الجمال الذي تتحدث عنه مع أي مشهد يعيد إلى الـ«الذاكرة الاجتماعية» شيئا من ألقها الذي كان، سواء تمثل هذا الذكر فـي هذه الجملة، أو فـي اقتناء شيء من الموروث، أو الالتحام مع القناعة الذاهبة إلى تأصيل ما تبقى فـي هذه الذاكرة، ومن هنا يأتي أسف الناس على إزالة الشواهد التاريخية والأثرية، ويعد ذلك نكرانا صريحا لما أهداه إلينا الزمن الجميل، وللقناعة الموجودة، أن ما أزيل لا يمكن تعويضه، وما تهشم وتغيرت ملامحه لا يمكن إعادته على ما كان عليه، وقد زرت بلدا عربيا تعرض لاستعمار طويل، وكان من محاسن هذا الاستعمار عند انسحابه لم يهدم ما أقامه من جمال العمارة، هذه العمارة وهي رصيد تاريخي بلا منازع لهذا البلد يتعرض اليوم للتشويه حيث ما يتهدم منه، لم يعاد على صورته الأصل، فأصبحت المباني مشوهة، بالترقيع الفاضح فـي تشويهه، لذلك لا تستسيغ الـ«الذاكرة الاجتماعية» هذا التشويه، وترى فـي استمراره ضربة قاسية لحقيقة حياة كانت بغض النظر عن جماليتها أو قبحها، فذلك نصيب زمنها الذي كان، ونصيب فردها أو جماعتها الذين كانوا، ولذلك يتم الحكم اليوم على الخلاصة التي وصلت إلينا، دون الدخول فـي التفاصيل، وهي تبقى فعلا «أضعف الإيمان».
يمكن القول هنا أن الـ«الذاكرة الاجتماعية» ليست فقط للقيم الاجتماعية المُؤْمَنُ بأهميتها، وليست فقط للعادات والتقاليد المتوارثة، وليست فقط لشيء من العمارة الاجتماعية التي التصقت جدران مبانيها بعضها على بعض للتعبير عن اللحمة الاجتماعية، وعن لهاث الأنفس الدالة على التقارب والتآزر، والتواد، وليست فقط لأحوال الناس فـي زمن ما دون غيره، وليست فقط لشواهد حالات الفقر والغنى، والتآلف والتصادم، والوفاق والتنازع، وليست فقط لدروب القرية وسككها، وسواقي الحقول والبيادر ومزارعها، وليست فقط لمجلس القرية ومسجدها ومدرسة تعليمها، وإنما لكل ذلك دون استثناء، كما هو حال كرة الثلج المتضخمة، والتي إن جار عليها الزمن وأصابها شيء من التشظي تناثرت قطعا، ليس يسيرا لملمتها، فالزمن لا يعطي دائما فرصة التحام الأجزاء على بعضها لتعود الصورة كما كانت قبل نيف من الزمان.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفـي عماني