جدل “العدالة الانتقالية” في السودان
تاريخ النشر: 21st, September 2024 GMT
تثير الحرب الدائرة في السودان حاليًا كثيرًا من الأسئلة وتفتح باب احتمالات كثيرة قد تحدث، وفيما يتم بذل جهود كثيرة لوضع نهاية لهذه الحرب، ينخرط فيها سياسيون وعسكريون وناشطون في العمل العام، فإنّ المناقشات تدور أيضًا حول ما يجب القيام به بعد وقف الحرب وكيف سيتم التعامل مع كثير من الملفات.
جدل
يؤرق سؤال العدالة وكيفية تحقيقها أذهان الكثيرين مع تزايد الانتهاكات وجرائم الحرب، خاصة وأنّ التجارب السياسية في تاريخ السودان الحديث لم تعرف أي تجربة ناجحة في تحقيق العدالة بمعناها الشامل، وكان الشعار المطبّق بعد كل تغيير سياسي كبير هو "عفا الله عما سلف"، فينفذ القادة الكبار بجرائمهم بدون محاسبة.
لهذا اتجهت أنظار كثير من القادة السياسيين والقانونيين والمهتمين بقضايا العدالة إلى تجارب العدالة الانتقالية في كثير من دول العالم لدراستها والاستفادة منها في حالة الانتقال المفترض بعد الحرب. وبالمقابل، فإنّ هناك بعض الأصوات المتشككة في تجارب العدالة الانتقالية ومدى مناسبتها للتجربة السودانية، قد يمضون للقول إنها محاولة للهروب من العدالة الحقيقية.
طبيعة الجرائم والانتهاكات في ظل النظم الديكتاتورية والحروب تعجز العدالة التقليدية عن ملاحقتها ومعالجة آثارها
العدالة الانتقالية (Transitional justice)، هو مفهوم يشير إلى مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي تقوم بتطبيقها الدول المختلفة من أجل معالجة ما ورثته من إنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وتتضمّن هذه التدابير الملاحقات القضائية، ولجان الحقيقة، وبرامج جبر الضرر وأشكال متنوّعة من إصلاح المؤسسات، خاصة الأمنية والعسكرية والعدلية.
وهنا لا بد من توضيح أنّ العدالة الانتقالية تختلف عن العدالة التقليدية في كونها تُعنى بالفترات الانتقالية مثل: الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلّح إلى حالة السلم، أو الانتقال من حكم سياسي تسلطي إلى حالة الحكم الديمقراطي، أو التحرر من احتلال أجنبي باستعادة أو تأسيس حكم محلي، وكل هذه المراحل تواكبها في العادة بعض الإجراءات الإصلاحية الضرورية وسعي لجبر الأضرار لضحايا الانتهاكات الخطيرة.
الداعي الأساسي لاستدعاء تجارب العدالة الانتقالية هو أنّ طبيعة الجرائم والانتهاكات المرتكبة في ظل النظم الديكتاتورية والحروب، مثل الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والإخفاء القسري، تعجز العدالة التقليدية عن ملاحقتها ومعالجة آثارها.
الذاكرة السودانية
في بداية الألفينات نشطت بعض المنظمات الحقوقية والناشطين في المجتمع المدني السوداني لاستدعاء تجارب العدالة الانتقالية في كثير من دول العالم الثالث، من جنوب أفريقيا والمغرب، سيراليون، رواندا، كولومبيا، إلى شيلي والأرجنتين ومحاولة خلق نموذج سوداني ينهي حالة الإفلات من العقاب التي شكلت طابع كل الفترات الانتقالية في السودان.
وتصاعد طرح قضية العدالة الانتقالية مع قرب الوصول لاتفاق سلام شامل بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان التي كانت تقاتل في الجنوب، ثم تم تضمينها في وثائق الفترة الانتقالية بعد توقيع اتفاق السلام الشامل في يناير 2005، لكن مضت تلك السنوات في الصراع والشقاق بين طرفي الاتفاق، ولم تنفّذ كل شعارات المرحلة حتى انتهى الأمر بانفصال الجنوب.
استمر النشاط الحقوقي بعد ذلك وأفرز خبراء سودانيين بارزين، حتى على المستوى الدولي، في مجال العدالة الانتقالية، أمثال الدكتور أمين مكي مدني وكمال الجزولي والدكتور محمد عبد السلام وغيرهم.
وانفتحت النقاشات خلال السنوات الاخيرة من حكومة الإنقاذ (1989-2019) ثم بعد الثورة الشعبية التي أنهت نظام البشير، وتم تضمين العدالة الانتقالية في كل مواثيق الفترة الانتقالية، وفي مرحلة لاحقة تم تشكيل "مفوضية العدالة الانتقالية" لكنها وقعت أسيرة خلافات وتصوّرات مختلفة حول دورها، فلم تنجز شيئًا حتى وقع الانقلاب العسكري في أكتوبر 2021.
بعد توقيع الاتفاق الإطاري في ديسمبر 2022 بين خكومة البرهان والقوى السياسية، تمت مناقشة موضوع العدالة الانتقالية في مؤتمر موسّع، شارك فيه خبراء سودانيون وأجانب، وممثلو أسر ضحايا الحروب والانتهاكات، وانتهى إلى إعلان من 16 مادة.
لو فلت المجرمون ومرتكبو الانتهاكات هذه المرّة أيضًا فلن يمكن الادعاء بأنّ هذه ستكون آخر الحروب
وتتضمن بنود إعلان المبادئ الصادر عن مؤتمر العدالة الانتقالية: إنشاء مفوضية مستقلة للعدالة الانتقالية بسلطات واسعة، وإصدار قانون للعدالة الانتقالية بمشاركة أصحاب المصلحة كافة، واعتراف الدولة بانتهاكات الماضي “الجسيمة” لحقوق الإنسان والاعتذار عنها رسميًا، لكن اندلعت الحرب في أبريل 2023 وعطلت كل شيء.
حجم الانتهاكات والجرائم التي ارتُكبت خلال حرب السودان الجارية الآن، أعاد طرح قضية العدالة بقوة، فلو فلت المجرمون ومرتكبو الانتهاكات هذه المرّة أيضًا، مثلما حدث في فترات سابقة، فلن يمكن الادعاء، أو مجرد الإيحاء، بأنّ هذه ستكون آخر الحروب.
من الافضل أن يفتح السودانيون هذا الملف الآن، ليكونوا حين تحين ساعة الانتقال جاهزين بنموذج للعدالة قادر على تجاوز جرائم الماضي وجراحاته، وعلى طمأنة من تبقى من أهل السودان بأنّ الحق لا يضيع، وأنّ دولة الظلم لها نهاية وأنّ كل مجرم سيلقى حسابًا عسيرًا.
(خاص "عروبة 22")
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: العدالة الانتقالیة فی کثیر من
إقرأ أيضاً:
“اليونيسف” تطلق تقرير حالة أطفال العالم خلال منتدى دبي للمستقبل 2024
أطلقت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسف”، اليوم أحدث تقاريرها بعنوان “حالة أطفال العالم لعام 2024.. مستقبل الطفولة في عالم متغيّر”، وذلك خلال أعمال اليوم الثاني من “منتدى دبي للمستقبل 2024″، الذي تنعقد فعالياته في “متحف المستقبل”، برعاية سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، رئيس مجلس أمناء مؤسسة دبي للمستقبل.
وتم إطلاق التقرير خلال جلسة حوارية استضافت بو فيكتور نيلوند، مدير مكتب اليونيسف العالمي للبحوث (إينوشنتي)، وكل من جوشوا أوباي، وروان البنداري، من برنامج زمالة مستقبل الشباب التابعة لليونيسف.
ويقدم التقرير السنوي لليونيسف “حالة أطفال العالم”، تحليلاً للقضايا الملحّة التي يواجهها الأطفال في أنحاء العالم المختلفة، ويجمع بين شبكة الشباب العالمية التابعة لمركز إينوشنتي الخاص باليونيسف، وزملاء برنامج استشراف الشباب، حيث يعرض أيضاً تحليلات قائمة على البيانات ووجهات نظر شبابية حول التحديات الرئيسية التي تجب معالجتها لبناء مستقبل أفضل للأطفال في كل مكان.
ونظمت “اليونيسف”، بالشراكة مع مؤسسة دبي للمستقبل معرضاً تفاعلياً بعنوان “مستقبل الطفولة في عالم متغير” في متحف المستقبل، يقدم شخصيات أطفال المستقبل الذين يعيشون في ثلاثة عوالم مختلفة، ما يسلط الضوء على الحاجة الملحة إلى اتخاذ إجراءات لدعم اتفاقية حقوق الطفل.
وعلق نيلوند على إطلاق التقرير، بالقول إن استكشاف النتائج المحتملة للتحول الديمغرافي، وتغير المناخ، وتأثير التقانات الرقمية يسمح بالتخطيط للمستقبل وبناء مستقبل أفضل للأطفال، كما أن إشراك الشباب، يسهم في تشكيل هذا المستقبل، ويضمن نجاح العمل.
وأكد سعادة خلفان جمعة بلهول، الرئيس التنفيذي لمؤسسة دبي للمستقبل، أن إطلاق تقرير اليونيسف “حالة أطفال العالم 2024″، من منتدى دبي للمستقبل هو تذكير بالواجب المشترك لحماية فرص ومستقبل الأطفال والشباب في جميع أنحاء العالم، مشيراً إلى دور المنتدى الدولي باعتباره منصة للحوار العالمي واستشراف المستقبل، في توفير مساحة مشتركة لمعالجة التحديات الملحة التي تواجه الأجيال القادمة، لافتاً إلى التزام المؤسسة بقيادة المبادرات التي تمكّن تلبية الاحتياجات المتغيرة للأجيال الصاعدة.
جدير بالذكر أن “منتدى دبي للمستقبل”، يعتبر أكبر تجمع عالمي لخبراء ومؤسسات استشراف المستقبل، ويشارك في دورته الثالثة أكثر من 2500 خبير من 100 دولة، إلى جانب 100 مؤسسة عالمية متخصصة في تصميم المستقبل.
ويركز أحد الموضوعات الرئيسية الخمسة لهذه النسخة من المنتدى على “فرص أجيال المستقبل” وتزويد النشء والشباب بالأدوات والفرص اللازمة في عالم متغير، إلى جانب تعزيز الحوار بين الأجيال لتمكين الشباب من رسم معالم مستقبلهم وتفعيل إمكاناتهم.وام