سودانايل:
2025-04-25@11:31:28 GMT

الشاعر حسن أبوكدوك.. رجلٌ إنتظرَ الموتَ طويلا

تاريخ النشر: 21st, September 2024 GMT

كان يضع كرسيه على ناصية منزل والده الذي يشرِف على ثلاثة شوارع. في ذلك الحي الذي يحمل إسم جده (حي أبوكدوك العريق بأمدرمان) يرقُبُ المارة بحذر خوف أن يختلط به أحد. فقد اعتزل الناس بعد أن أدرك جوهر الحياة بحس شاعر قادر على أن ينفذ ببصيرته لماوراء الواقع. بعد أن تداعت في داخله - بحكم خيبات الساسة والسياسة - عوالمٌ شادها من الشعر المنثور.

.. والنثر الشعري .. وبأقاصيص قِصار هُنّ درر في هذا الضرب العصي من الفن، حشد فيها كل عبقريته الفذة التي وهبها الله له... فنشر قصائده طوال عقد السبعينات في صحف الخرطوم السيارة مزاحماً بتلك الشوارد عمالقة أهل الشعر والإبداع.. فقد كان يقول:(إنه لا يُقرِض الشعر، وإنما "يُصعلكُ" الشعر).. والحق أنه كان يصور بناصع نظمه كل مستطرف مستظرف لا يخطر على البال، مناحي الحياة الأمدرمانية الثرة من (شحاذين و سكارى و حمالين ومتصوفة وبائعات خمر وبائعات هوى وحسناوات عذارى وتجار، وفقراء، وطلاب وأثرياء... إلخ ثم ينداح بأمانيه العراض نحو عالم تسوده العدالة والحرية والسلام) ثم إنكفأ على نفسه تلك الإنكفاءة المفاجأة معتزلاً الناس والأدب والسياسة وكل ما يتعلق بالحياة الإجتماعية من مقتضيات المجاملات والإختلاط.
لم تساوره منذ انعزالته تلك المجيدة مغريات الحياة، فعاش على هامشها طائعاً مختاراً يتحين أوان الرحيل الذي كان يستعجله بلهفةٍ لا تَني تنظر للحياة تلك النظرة الغامضة التي تحمل في طياتها الأبعاد اللانهائية لإستواء الوجود والعدم.
فقد عاش أبوكدوك الحياة كميت، ومات كأروع ما تكون الحياة عندما يمضي الإنسان وليس في قلبه مضغة سوداء تجاه أحد.
ولا في كفيه بقعة دم من شرايين أحد.
ولم تثقل ما بين جنبيه مظلمة بحق أحد.
فكان موته شاعرياً بقدر ما كانت حياته شاعرية، ملؤها النكتة اللمّاحة التي عادة ما يبدأها بقوله:(واحد صاحبنا شيوعي .... ) ثم يفضح الواقع بطرفة تبرز فيها المفارقة ما بين الكائن والمأمول..
خرج أبوكدوك ملوحاً بيده المعروقة بأن غاية ما كان يرتجيه قد تحقق، وأن جلسته على الناصية قد كفته بأن يرى بعينه التلسكوبية كل تلك المخازي التي دعته للعزلة وهو بَعْد وافرُ الدفق الشعري، مترعٌ بالإبداع قادر على العطاء لعله يجد في عالمه الآخر، عالماً آخراً أروع مما أبدعه خياله المَثَّال.
د. محمد عبد الحميد

wadrajab222@gmail.com

   

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

في غرفة العناية المركّزة

تدخل إلى المستشفى، تذهب إلى جناح العناية المركزة، تشاهد جثثًا نائمة، لا تقوى على الحراك، محاطة بالأسلاك، والأنابيب، والأجهزة الطبية، تشاهد أولئك الراقدين، الذين استسلموا لمرضهم، ولطبيبهم، وتشاهد ملامح القلق، وأحيانًا اليأس على وجوه ذويهم، أُمٌّ تبكي حين ترى ابنها ممددًا على سرير، وأبٌ يحاول التماسك، وأخت تحاول كتم دموعها، وزوجة تمسك بالمصحف تدعو لزوجها، وزوج يسعى من أجل بصيص من الأمل لزوجته، تراهم جميعًا واجمين، ينتظرون اللحظة التالية، بينما يقوم الأطباء والممرضون بعملهم «المعتاد»، مشهد يشعرك بضعفك، بإنسانيتك، بحزنك، وانكسارك.

ليس هناك أسوأ من الانتظار أمام سرير مريض، لا تعرف مصيره التالي، مؤلمة تلك اللحظات الفارقة بين الأمل واليأس، بين الموت والحياة، الجميع سواسية فـي ذلك المكان، يحاولون التماسك، والتمسك بحبل التفاؤل، وسط أمواج عاتية من القلق، يطلبون من الطبيب أن يطمئنهم على حال مريضهم، ولكنه لا يملك أحيانًا غير مصارحتهم بالحقيقة المؤلمة: «ليس هناك من أمل إلا بالله».. لا يجد المرء فـي تلك اللحظة إلا اللجوء إلى الخالق، يشعر بضعفه أمام جبروت الموت، ويمنّي نفسه أن تُستجاب دعواته، ولكن تمضي الأمور ـ أحيانًا ـ على غير إرادته، لا يكف ذوو المرضى عن الدعاء، حتى الرمق الأخير، إنه سلاح العاجز أمام قدرة الله.

أحيانًا تأتي لحظة الفرج، يُشفى المريض بعد أيام، أو أشهر من الغيبوبة، يفتح عينيه، ويرى العالم كأنما يراه لأول مرة، تدب فـي أوصاله الحياة، وسط «صدمة» أهله، الذين فقد بعضهم الأمل فـي شفائه، وتبدأ احتفالات محبيه بنجاته، يفرحون به كيوم ولادته، تلك اللحظة التي يخرج فـيها من كماشة الموت، إلى مسار الحياة، لحظة زمنية فارقة فـي الذاكرة، لم تكن التجربة سهلة، بذل الأطباء قُصارى جهدهم كي يُنقذوا حياة إنسان لا حيلة له إلا بالله، نجحوا، وذلك مبلغ غايتهم، تحمّلوا صراخ ذوي المريض، وتفهموا انفعالاته، وقدّروا ظرفه الإنساني، ولم ينتظروا الشكر من أحد، فشفاء المريض هو مكافأتهم التي سعوا لأجلها.

فـي جناح العناية المركزة يرقد طفل صغير، أو فتاة يافعة، أو رجل فتيّ، أو شيخ عجوز، يرقدون جنبًا إلى جنب مستسلمين لأقدارهم، لا أدري ما الذي يدور فـي أدمغتهم فـي ذلك الحين، هل ينقطعون عن العالم؟.. هل ينتهي تفكيرهم؟.. أي عالم خفـيّ يعيشونه؟.. هل بإمكانهم التخيل؟.. هل يشعرون بألم أهليهم؟.. هل يمر عليهم شريط حياتهم؟.. (حبيباتهم.. لحظات طيشهم.. خيباتهم.. انتصاراتهم.. حكاياتهم.. من ظلمهم.. ومن ظلموه؟..).. لا يملك الإجابة سواهم، وقد لا يملكون الإجابة بعد شفائهم، فذاكرتهم المشوشة لا تتسع لكل تلك الأسئلة، يخرجون ـ إن كتب الله لهم النجاة ـ إلى حياتهم العادية، قد يتذكرون فـي وقت ما، كيف عادوا من فم الموت، فـيتّعظون، وقد يمضون دون أن يلتفتوا لتلك اللحظات العصيبة.

فـي المستشفى، وحيث العناية المركزة، يتساوى الأحياء بالأموات، الجميع فـي سبات عميق، لا يلوون على شيء، يقضون أيامهم قابضين على جمرة الأمل، يحاولون الفرار من قَدَر إلى قَدَر..

شفى الله كل مريض يعاني، وأعان أهله، ومُحبيه على لحظات الانتظار المرير، وكفانا الله وإياكم شرور «أمراض الفجأة» التي كثرت هذه الأيام، ورحم الله موتى المسلمين جميعًا.

مقالات مشابهة

  • سامح قاسم يكتب | فتحي عبد السميع.. الكتابة من الجهة التي لا يلتفت إليها الضوء
  • حزنت جدا للمصيبة التي حلت بمتحف السودان القومي بسبب النهب الذي تعرض له بواسطة عصابات الدعم السريع
  • تفاصيل أغاني ألبوم محمد منير الجديد
  • «خِلال وظِلال».. ديوان جديد يُضيء سماء الشعر العُماني
  • طارق المنهالي يطلق «يا خالق جبالٍ تعلّا السحايب»
  • سامح قاسم يكتب | رنا التونسي.. شاعرة الحافة التي تنزف جمالًا
  • عمرو المصري عبر "إنستجرام": انتظروا أكثر من 20 عمل فني قريبًا
  • قبعة الموت.. ما الذي يجعله الفطر السام الأكثر فتكًا بالبشر؟
  • في غرفة العناية المركّزة
  • ميلاني جورجياد ديامس مغنية فرنسية أسلمت وآثرت الحياة على الموت