منفستو الأشوس بركة ساكن في مرآة الحرب والتناقضات الاجتماعية – قراءة لرواية
تاريخ النشر: 21st, September 2024 GMT
رواية "الأشوس الذي حلَّقت أحلامه مثل طائرة مسيَّرة" للأستاذ عبد العزيز بركه ساكن، تعد إضافة جديدة لمسيرة هذا الكاتب التي تشغل الأوساط الأدبية والفكرية باستمرار. مثل كل عمل يطرحه بركه ساكن، الرواية جاءت محملة بالتحديات الجريئة والأسئلة الكبيرة عن الإنسان والمجتمع والحرب والسياسة، لكنها أثارت جدلاً واسعاً حول توقيتها ومضمونها.
النقد الأدبي والنص
إن قراءة الرواية من منظور نقدي يتطلب النظر إلى أكثر من مستوى في النص. فالرواية ليست مجرد عمل روائي يحكي قصة شخصيات تعيش في بيئة معينة، بل هي على الأرجح تمثل موقفًا سياسيًا واجتماعيًا متشابكًا. الكاتب، كما هو معلوم، يسخر أدواته الفنية لطرح رؤيته للعالم، ولا يمكن فصل مواقفه الشخصية والسياسية عن أعماله الأدبية.
السياق السياسي للرواية
بركه ساكن، كما يُفهم من الرواية، يقف ضد الحرب بشكل واضح. ويمكن القول إنه يحاول أن يقدم تحليلاً عميقًا للمآسي التي تحدث في السودان، ويستخدم "الأشوس" كرمز للسياسيين الفاسدين والقيادات العسكرية التي تتلاعب بمصائر الشعوب. وهذا ما يطرح تساؤلاً كبيراً: هل يمكن للكاتب أن يعبر عن مواقفه السياسية من خلال الأدب في وقت تكون فيه الأوضاع مشتعلة؟ أم أن هذا يشكل خطراً على مصداقية الفن ذاته؟ النقاد الذين يرون أن الرواية جاءت كتقرير عاجل عن حرب لم تنتهِ بعد ربما لديهم نقطة مهمة: هل العمل مكتملاً أم مجرد تحليل متسرع للوضع الراهن؟
الرمزية في النص
الرمزية في الرواية، وبخاصة رمزية "الأشوس" و"ديك زلُّوط"، تحمل دلالات اجتماعية وسياسية عميقة. الديك زلُّوط، على سبيل المثال، لا يمثل مجرد حيوان في البيئة السودانية، بل يرمز إلى الشخصيات المتهورة والقيادات الفاشلة التي تسند طرحها قيم أنسانية التي تسعى وراء مصالحها على حساب الشعب. هذا الاستخدام الذكي للرمزية هو ما يجعل أسلوب بركه ساكن مميزًا، لكنه أيضاً قد يكون صعب الفهم بالنسبة لبعض القراء الذين قد يرونه تعقيداً غير مبرر.
التحليل الاجتماعي والبيئي
ما يميز روايات بركه ساكن هو تلك القدرة على نقل التباينات الاجتماعية والاقتصادية بين مختلف فئات المجتمع السوداني. يظهر هذا بشكل واضح في تصويره لمعاناة الطبقات الفقيرة، مثل مشهد "مريم بنت منصور" التي تعاني من قوانين النظام العام. هذه القدرة على تصوير الواقع السوداني بصورة واقعية قد تجعل من النص وثيقة اجتماعية بقدر ما هو عمل أدبي، لكن يبقى السؤال حول ما إذا كان هذا الوضوح والتشريح المباشر يخدم الفن الروائي أو يحوله إلى خطاب اجتماعي مباشر.
التوقيت والموقف الأخلاقي
كثير من النقاد يعيبون على بركه ساكن إصدار هذه الرواية في وقت لم تنتهِ فيه الحرب بعد. السؤال هنا يدور حول مسؤولية الكاتب: هل يجب أن ينتظر الكاتب انتهاء الصراعات حتى يقدم رؤيته؟ أم أن على الكاتب أن يكون صوتًا للحقيقة في خضم الفوضى؟ من الواضح أن بركه ساكن اختار الموقف الثاني، وهذه شجاعة أدبية لا يمكن إنكارها. لكنه أيضاً أثار سخط البعض الذين يرون أن الرواية جاءت في توقيت غير مناسب وأنها قد تزيد من الاستقطاب في المجتمع.
"الأشوس الذي حلَّقت أحلامه مثل طائرة مسيَّرة" عمل معقد يستحق التفكر فيه بعناية. ربما لن يتفق الجميع مع مواقف بركه ساكن أو أسلوبه، لكن لا يمكن إنكار أن الرواية تمثل جزءًا مهمًا من مسيرة هذا الكاتب الذي يسعى دائمًا إلى تحدي القوالب الجاهزة وتقديم رؤية نقدية للمجتمع والسياسة. النص مليء بالرموز والمعاني التي تحتاج إلى قراءة عميقة، وربما يكون هذا جزءًا من سحره. في النهاية، يظل "الأشوس" عملًا جدليًا، وقد يكون هذا هو بالضبط ما أراد بركه ساكن تحقيقه: إثارة النقاش والجدل حول الأوضاع الراهنة وقيمة الأدب في زمن الحرب.
zuhair.osman@aol.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. دمى الراحلين
#دمى_الراحلين
من أرشيف الكاتب #احمد_حسن_الزعبي
نشر بتاريخ .. 13 / 1 / 2018
رسامة يابانية اسمها “أيانو تسوكيمي” عادت إلى قريتها “ناجارو” جنوبي اليابان بعد غياب طويل وغربة أجبرتها على الانقطاع عن أخبار مسقط رأسها وجيرانها الطيبين، عادت لتفتش الحواري وتزور الحوانيت وتدق الأبواب فوجدت جل سكان قريتها قد هاجروا أو ماتوا ولم يتبق منهم سوى 37 شخصا فقط.. رفضت الفنانة “أيانو” الفكرة، ولم تتخيل أن تفرغ قريتها الوادعة من أبنائها تلك القرية التي كانت تعج بأصوات الناس وضحكاتهم وكانت تملأ أجسادهم مقاعد المقاهي وزوايا الحارات..
كانت تريد استرجاع الأيام لتراهم من جديد، لكن الزمان مثل ماء النهر لا يعود إلى الوراء أبدا.. ولأنها ترفض فكرة الغياب تماما وتريدهم كما كانت في طفولتها وشبابها، وبسبب اشتياقها إلى نظرات وقوام نفس المؤنسين الذين اعتادت عليهم.. دأبت “أيانو” على صناعة الدمى.. لقد اعتكفت سنوات طويلة وهي تصنع دمى قطنية تشبه الذين غابوان بنفس الملامح؛ ذات الوجه والطول والعيون والعلامات الفارقة.. في مقاومة ذكية منها لفكرة الموت والغياب..
لقد صنعت “أيانو” أكثر من ثلاثمائة وخمسين دمية لثلاثمائة وخمسين شخصا رحل عن قريته أو مات.. كانت تصر على أن تُجلس الدمى في أماكنها المعتادة، فتحت البيوت المغلقة وأجلست كائنات القطن في مقاعدها كما كانت قبل الغياب على الكرسي نفسه أو قرب الشرفة في المطبخ وعلى سرير الشفاء، كما فتحت المقاهي من جديد لأجساد الزبائن القدامى كي يطردوا الغبار ويشغلوا المكان والطاولات فيخافهم الظلام وتشعل المصابيح ضوءها مرحبة بالعائدين من رحلة النسيان الطويلة.
صنعت “أيانو” دمى عائلتها واسترجعت الأم والأب والأشقاء من غيابهم كما أحبت أن تراهم هي، بعافية دون مرض أو علة أو ضعف وقالت ابقوا هنا قريبين أحبكم كما أنتم حتى لو كانت جلودكم من قماش وقلوبكم من قطن، فأنا أحبكم كما أنتم انظروا إلي بعيون الخرز فهي أحَن علي من عيون الوحشة المحدقة بي ليل نهار..على الأقل وإن لم أنجح في دفق الحياة فيكم فأنتم قادرون على إعادة الحياة فيّ، انظروا، ها أنتم ترتدون ملابسكم و تدفئون أماكنكم وتحيون شرايين البيت من جديد، تشاركونني الليل الطويل، لا تدعونني أحلل الأصوات بميزان الرعب، أنتم تتقاسمون معي صوت الرعد وصوت الريح الذي يتسلل إلى غرفتي من الشبّاك الخشبي، كل ما أحتاجه منكم هو وجودكم، ولو كان وجودا شكليا، أشكو لكم عندما تضيق بي الدنيا أو تأتيني الأزمات على شكل طرود جماعية، لا بأس إن كنتم لا تسمعونني يكفي أنني أراكم وأسمعكم، احتكاكي بقطن أطرافكم يسعدني ويسمعني أصواتكم البعيدة هناك في الموت والغربة، هل ثمة فرق بين الموت والغربة ؟؟ كلاهما غياب أيها الخالدون..
يا لها من فكرة عبقرية يا “أيانو”..ليتنا نملك مهارة يديك لنسترجع من نحب، نصنع دمى لمن غادرونا، نعتني الابتسامة ذاتها، ولون البشرة وتجاعيد اليدين، ليتنا نستطيع أن نصنع حضنا أبويا أو رائحة لثوب الأم نلوذ بهما بقية العمر، ليتنا نستطيع أن نصنع ركبة من صوف نغفو عليها عندما يداهمنا إعصار الخوف، ليتنا نعيد تشكيل آبائنا لتكتمل العائلة من جديد، نعيدهم إلى أماكنهم الخالية، نجلس حولهم، نضع وسائدنا بالقرب منهم، نبارك الأحفاد في أحضانهم، نجتمع ثانية دون رتابة أو انشغال بهواتفنا النقّالة، تدور أحاديثنا بحضرتهم نناولهم فناجين القهوة بأيديهم كما كان، وعندما تحين ساعة النوم نشعل “النوّاسة” ونتركهم يأخذون قسطا من الراحة ثم نودّعهم بعبارة “تصبحون على خير”..
دمى القطن أكثر حياة من الصور المعلقة على الجدران.. هنا “في الدمى” ترى ظلا للجسد وتلمس حيّزا في المكان وهذا إنجاز كبير وتقليص لوحشة الموت.. ما الموت إلا اختفاء الظل وشغور المكان.. نحن بحاجة إلى تسخيف الغياب والاحتفاء بالحياة من جديد حتى لو كان الكيان من “دمى” والوجود مستعارا.. لو دققنا بوجودنا سنكتشف أنه مستعار أيضا ونحن مجرد كيانات لحمية وضعت في أماكن يجب ألا تغادرها.
آه يا “أيانو” لو أنني أملك مهارة يديك لصنعت لنفسي من قماش الشوق وقطن الغياب “أمّا ووطنا” فأنا مشتاق لدفء حضنهما بعدما انسلا من فراشي وغابا..
احمد حسن الزعبي
ahmedalzoubi@hotmail.com
#172يوما
#الحرية_لاحمد_حسن_الزعبي
#أحمد_حسن_الزعبي
#كفى_سجنا_لكاتب_الأردن
#متضامن_مع_أحمد_حسن_الزعبي