أغسطس 11, 2023آخر تحديث: أغسطس 11, 2023

د. آلاء العزاوي

مركز بابل للدراسات المستقبلية

تمثل أحداث النيجر جرس الإنذار الأخير الذي يهدد المصالح الغربية في إفريقيا ، لقد جاء الإنقلاب الذي نفذه الجنرال عبد الرحمن تشياني قائد الحرس الرئاسي الذي أطاح بالرئيس محمد بازوم وتولى قيادة بلاد يجتاحها العنف الجهادي ويقوضها الفقر، جاء الإنقلاب في وقت يعد الأخطر إذ وصلت عملية رسم خارطة العالم الجديد فصلها الأخير ومما زاد في تسليط الضوء على أحداثه هو تزامنه مع انعقاد القمة الروسية الإفريقية في العاصمة الروسية موسكو.

عمل الجنرال عبد الرحمن تشياني قائداً للحرس الرئاسي لمدة 12 عاماً، كما ويذكر أنه قد أحبط العديد من محاولات الإنقلاب وخاصة في العامين 2021-2022 وآخرها التي قادها عدد من العسكر قبيل الإنتخابات التي أوصلت الرئيس المخلوع إلى السلطة. إن الأسباب التي قادت تشياني ورفاقه العسكر إلى اتخاذ قرار الإنقلاب حسب تصريحاته هي تردي الوضع الإقتصادي والتراجع الأمني الذي تشهده النيجر، في الوقت الذي عزت عدد من الصحف الغربية أسباب الإنقلاب إلى تدهور العلاقات بينه وبين الرئيس بازوم وعزم الأخير على تغييره وتعيين مساعده كرئيس للحرس الرئاسي محاولين بذلك إضفاء سمة المصلحة الشخصية لا الوطنية للعملية الإنقلابية التي هدفت إلى إنهاء عهد التبعية والسير بركب شقيقاتها من دول إفريقيا نحو تحقيق السيادة التامة.

سارعت فرنسا إلى إطلاق تهديداتها المباشرة صوب المجلس العسكري مطالبة بالعودة إلى الدستور والسير بالعملية الديمقراطية التي أنتجت الرئيس بازوم المعروف بولاءه للغرب وسياساته التي أنهكت الإقتصاد النيجيري حتى بات من الدول الأشد فقراً، كما هددت بقطع جميع المساعدات المقدمة من قبلها إلى النيجر فضلاً عن تعليق عضويتها في التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب بما يتعلق بملف الإرهاب في إفريقيا ويذكر أن سجالاً جرى في أروقة الأمم المتحدة حول ضلوع فرنسا في عمليات دعم للإرهاب في إفريقيا .

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الإرهاب في الدول الأفريقية ازدادت هجماته خمسة أضعاف بعد إعلان فرنسا والولايات المتحدة مزاعم الحرب على الإرهاب. ولكن حقيقة الأمور تقول أنّ مقاربة فرنسا لمكافحة الإرهاب في أفريقيا أدت إلى تفاقم الأزمة الأمنية، وهذه المقاربة موجودة ضمن العديد من الاعترافات الغربية التي تداولها الإعلام الغربي سابقاً  رغم عدم وجود إشارة واضحة إلى المقاربة الفعلية، بل حصرها بعدم كفاية الدعم اللوجستي، وعدم سماح الولايات المتحدة لمجلس الأمن بالتدخل. وبذلك يقع اللوم على سياسة التقليل من قدرة المجتمع الدولي على مكافحة التطرف في غرب إفريقيا، وتقليص البنتاغون إمكانية وصول القوات الأمريكية التي تقاتل هناك، تقليصها إلى رحلات الإجلاء الطبي فقط. وبالطبع، سيتّهمون مقاربات روسيا والصين للأمن الإقليمي التي أدت أيضًا إلى تفاقم هذه المشكلة.

سارعت نيجيريا ومن خلال المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا (منظمة ايكواس) وهي عبارة عن تكتل اقليمي يضم 15 دولة من دول غرب افريقيا، سارعت الى اعلان تهديدها بالتدخل العسكري لكبح جماح “التمرد” على حسب قولهم والعودة الى الشرعية الدستورية، هذا وقد ايدتها كل من كوت ديفوار والسنيغال وبنين في ذات الوقت التي ساندت به بقية دول المجموعة المتمثلة بتشاد ومالي و غينيا وبوركينا فاسو المجلس العسكري في النيجر واعتبرت ما حدث هو عملية نضالية للتحرر من الاستعمار الغربي الذي انهك بلادهم واستعبدها لقرون كما واعلنوا عن استعدادهم لارسال قوات عسكرية الى جارتهم النيجر للوقوف بوجه اي عدوان عسكري على اراضيها. الجزائر البلد العربي في الشمال الافريقي اعتبر التدخل العسكري في النيجر تهديدا لامنها القومي.

لقد حددت ايكواس مهلة سبعة ايام امام الانقلابيين للعودة الى الشرعية واطلاق سراح الرئيس بازوم من اقامته الجبرية وعودة الامور الى وضعها الطبيعي ولكن مع انتهاء المهلة المقررة في 6 اب، حصل اخفاق واضح وذلك نتيجة لرفض مجلس الشيوخ في نيجيريا منح التفويض للحكومة لتحريك قطعات الجيش خارج نيجيريا مع تردد في الموقف السنيغال التي تواجه تحديات داخلية نتيجة اندلاع تظاهرات ولذلك اتخذت قرار بضرورة الابقاء على قطعات الجيش في الداخل لمواجهة اي مشاكل قد تحدث، مما يثير تساؤلا هل تراجعت ايكواس عن موقفها في استخدام القوة العسكرية ضد النيجر بعد انتهاء المهلة؟ وماهي السيناريوات المحتملة لحل الازمة؟

سيناريوات محتملة لانهاء الازمة في النيجر

الخيار العسكري

يرى محللون امنيون ان العملية قد تستغرق اسابيع طويلة وهي محفوفة بالمخاطر بما في ذلك الوقوع في خضم صراع طويل الأمد قد يؤدي الى زعزعة استقرار المنطقة بالكامل ولا يقتصر الامر على النيجر. في تقرير لرويتر وصف احد الباحثين في معهد للدراسات الامنية ” ان ايكواس سوف تفقد المصداقية ان لم تنفذ تهديداتها لانها وضعت خطوط حمراء” في اشارة واضحة الى حث الدول الرافضة للانقلاب باللجوء الى الخيار العسكري كسبيل وحيد للحل وهذه هي لعبة الغرب القديمة الجديدة اعتماد حروب الوكالة، هذا وقد أكد اكاديميون افارقة بان التدخل العسكري احتمال وارد ولكن حتما بالوكالة عبر تحريض دول الجوار للقيام بالمهمة. وتذكر وسائل الإعلام ان دول ايكواس تعتزم نشر ما يقارب 25000 جندي معظمهم من نيجيريا، في حال حدث تغير ما على الساحة ووافق مجلس الشيوخ النيجيري على ارسال قطعات الجيش الى خارج البلاد.

ولا شك ان التدخل العسكري سيتيح المجال امام الجماعات الارهابية المتطرفة المتواجدة في افريقيا للانتشار وزيادة عملياتها الارهابية في القارة السمراء التي ستكون مرتعا  لانتقال للارهابيين الفارين من مناطق الصراع في الشرق الاوسط الى مناطق بؤر صراع جديدة بعد ان انتفت الحاجة لوجودهم مع ضرورة التحول الى نسخ اخرى تحمل جينات تتناسب مع متطلبات المرحلة الحالية ان امكن الوصف.

المساعي الدبلوماسية

ان تصريح وزير الخارجية الامريكي انتوني بلنكن يشير ان الولايات المتحدة الامريكية تؤيد حل الازمة دبلوماسيا حيث ارسلت مساعدة وزير الخارجية فيكتوريا نولاند التي عرضت الوساطة الامريكية والتي قوبلت بالرفض من قبل المجلس العسكري الانتقالي مما دعاها الى التصريح بوصف المحادثات بالصريحة والصعبة وان اللغة التي يتحدث بها القادة العسكريون بعيدة عن الدستور، اذ لم يسمح لها بلقاء الرئيس المخلوع في مقر اقامته الجبرية وعلى ما يبدو كان هذا رداً على تهديدات مبطنة بقطع المساعدات والدعم  المقدم من الولايات المتحدة الامريكية الى النيجر في حال عدم التوصل الى اتفاق لاستعادة الديمقراطية.

خلق انقلاب مضاد

تسعى ايكواس الى الحصول على دعم استخباراتي من القوات الفرنسية والامريكية المتواجدة داخل قواعدها العسكرية في النيجر مما يرجح فرضية القيام بعملية استخباراتية سريعة وخاطفة لانقاذ بازوم واعادة حكومته، ولذلك استبق المجلس العسكري في النيجر الاحداث بامهال القوات الفرنسية المتواجدة على اراضي النيجر شهر واحداً لمغادرة البلاد وبخلافه سيعاملها كقوات معادية. وهنا نذكر باستراتيجية اميركا والغرب بالعمل على خلق واقع هش ليكون قابل للاشتعال ومن خلال خلق الازمات في ذلك الواقع تتدخل لتبسط نفوذها وتفرض سيطرتها.

اميركا والبحث عن فرص الانقلاب المضاد:

يتمحور الدور الامريكي في البقاع التي تعتزم التمدد وبسط النفوذ بها الى ارسال فرق عسكرية لتدريب قطعات الجيوش المحلية وهذا ما حدث في النيجر التي تمتلك فيها اكبر قاعدة للطائرات المسيرة بالاضافة الى عدد من الجنود يتراوح عددهم بين 1000-1500 جندي، وبالتاكيد لدى الجيش الامريكي رجل مفضل بين القوات التي دربتها وحتما سيكون العميد موسى صالح برمو الذي تشكل قواته افضل قوة قتالية في النيجر، يعد برمو محورا حيويا للاستراتيجية الاميركية، اذ مثل القناة الدبلوماسية للتواصل بين الامريكان من جهة والمجلس العسكري من جهة اخرى كما ويعد الافضل لاستعادة النفوذ الغربي في النيجر بحجة الحيلولة دون الوقوع في فوضى من شأنها جر البلاد الى ازمات اعمق.

وبالعودة الى الطبيعة الديموغرافية في النيجر فهو بلد كبير ومتعدد العرقيات وعلى الرغم من خروج مظاهرات كبرى داعمة للمجلس العسكري الا ان الامر لايخلو من معارضين قد يلجأ الغرب الى دعمهم واثارة الفتن والنزاعات الداخلية من خلالهم. هذا وتشير المصادر الى ان العميد برمو قد اجتمع لساعتين متواصلتين مع مساعدة وزير الخارجية فيكتوريا نولاد خاض معها محادثات وصفتها بالمحبطة ولكنها لعلمها بقربه للولايات المتحدة رغم معاداته لفرنسا، حثته بالتوسط لابرام اتفاق مع المجلس الانتقالي بمنع منح روسيا وقوات فاغنر موقعا جديداً في افريقيا.

استمرار العقوبات دون تدخل عسكري

كما اسلفنا في مستهل الحديث ان النيجر من اشد البلدان فقرا وان فرض عقوبات قاسية عليه حتما ستؤدي الى اضعاف اقتصاده فبعد اعلان فرنسا وقف الدعم المقدم من قبلها الى النيجر، اغلقت الدول الرافضة للانقلاب مجالها الجوي وعلقت جميع التبادلات التجارية فضلا عن قطع امدادات الكهرباء الواصلة من نايجيريا والبالغة حوالى 60% من حاجة النيجر للكهرباء. وهنا من المحتمل ان تلجأ اميركا الى محاولة استصدار قرار اممي ضد النيجر لادراجها ضمن البند السابع والذي حتما سيواجه بفيتو روسي- صيني مما يدفعها الى اتخاذ قرار العقوبات الاحادية لخنق النيجر اكثر ودفعها الى مقايضة مواردها بالغذاء والحاجات الاساسية للتخفيف عن حالة التردي الاقتصادي لديها وابعاد احتمال نشوء ازمات داخلية التي ستعمل ماكنة الاعلام الغربي على اثارتها ضد الجكومة الجديدة بالرغم من التأييد الشعبي المبهر لعملية التغيير السياسي.

استراتيجية هجينة

ان الاطاحة بالرئيس بازوم هو عملية اطلاق الرصاص على المصالح الفرنسية في النيجر والتي تعتبر اخر معاقلها في القارة السمراء، لذلك فان الصراع من اجل استعادتها حتما سيتخذ اسلوبا اكثر قسوة وشراسة فهو صراع من اجل البقاء، وان سيناريو الانقلاب المضاد ومحاولات الولايات المتحدة لكسب القادة العسكريين سيبقى هدفا محوريا وخاصة تجاه العميد برمو الذي اجرت معه صحيفة الوول ستريت جورنال حديثا ابلغها فبه ” ان كان قطع المساعدات ثمنا للسيادة … فليكن كذلك”. استمالة العسكر لتنفيذ انقلاب مضاد وبخلافه ستسعى الى توسيع رقعة العمليات الارهابية وتنشيط الجماعات المتطرفة في دول الساحل الافريقي مع فرض عقوبات احادية صارمة ربما سيعيد للغرب كرامته المهدورة على ايدي الشعوب التي تتنامى بنفوسها خالات السخط والعدائية تجاه سياسة التعالي وغطرسة الغرب البغيضة.

المصدر: وكالة الصحافة المستقلة

كلمات دلالية: الولایات المتحدة المجلس العسکری الرئیس بازوم فی النیجر

إقرأ أيضاً:

الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية

يأخذك الحديث وأنت تتأمل فيلم غيوم لمُزنة المسافر إلى التطور الفني والموضوعي في تجربتها، موضوعا التعددية الثقافية والعرقية في المجتمع العماني كمصدر ثراء غني، تتجه إليه مزنة في استقصائها الطويل، مزيلة وهم ما يفصل بيننا، عبر البحث عن ما يجمع بيننا ويأتلف في نسيج اجتماعي واحد. عبر هذا الثراء العرقي واللغوي نخلق تجانسنا الحقيقي، التجانس المميز لمجتمعنا منذ جذوره التاريخية البعيدة. فنيا يشكل فيلم غيوم تحولا نوعيا تخرج به مزنة عن الطرح الأفقي للتجربة، عن أحكام البداية فتتسلسل الأحداث وصولا إلى نهايتها. فيلم غيوم يخرج عن القوالب التقليدية في السينما منحازا إلى شاعريتها، الغائب والماضي والمفقود هم من يشكل وهج الأحداث، ويدفع بشخوصه إلى المحبة والأسى والفراق والندم، محكومة بالماضي الذي تسدل ظلال أحداثه على الحاضر والمستقبل معا. فنيا ينحاز السيناريو إلى الصورة السينمائية عنه إلى الحوار، الصورة خاصة في تجسيدها المباشر لملامح شخوص الفيلم، قادرة حقا على نقل عواطفهم واختلاجات قلوبهم، سينمائيا تضفي هذه اللغة الجمال السينمائي، الذي تريد مزنة إيصاله إلينا، ما لا يستطيع الحوار نقله عبر السينما.

اختيار مُزنة لطرح تجربتها جبال ظفار، عائدة بنا إلى عام ١٩٧٨م، أي بعد ثلاثة أعوام من نهاية حرب الجبل بعد حرب طويلة استمرّت عشرة أعوام. هذه الحرب هي الماضي الذي يثقل أرواح رعاة الجبل، الماضي الذي يسدل على الحياة مشاعر الفقدان والخوف من عودة الحرب ثانية. الحرب التي تركت في كل منزل قتيلًا، أو قريبًا لقتيل، أحرقت المراعي وفتكت بالإبل مصدر حياة سكانه، والأثقل أنها تركت روح الفرقة بين أبناء الجبل، نظرا لتغير مواقفهم من موقع إلى آخر، ذلك ما نقرأ ثقله في حياة بطل الفيلم دبلان الذي يتحول بعد الحرب إلى رجل منطو على نفسه، يرفض مشاركة الناس أفراحهم وأحزانهم ويقضي معظم وقته في العناية ببندقيته، وملئها بالرصاص حتى تكون جاهزة للقضاء على النمر في أي وقت تتكرر عودة الحرب ثانية إلى جبال ظفار.

مزنة في هذا الفيلم العميق والشاعري في آن تبتعد عن تقديم الرصاص والقصف والقتلى، كما أن المرأة القتيلة لم تظهر في الفيلم أبدا، رغم ظهور ذكراها المتواصل، كهاجس يومي يلازم حياة الأب وابنه عمر وابنته سلمى، المرأة ومقتلها الغامض هي السر المكتوم في الفيلم، ابنها عمر كل ليلة ينام في حضن أخته الكبرى، متخيلا والدته تنام على سحابة بعيدة في السماء، يراقب أباه يوميا أثناء تنظيف وتعمير بندقيته، محاولا أكثر من مرة خطفها منه، دون أن يتبين لنا السبب المباشر لذلك، حتى نجاح اختطافه البندقية في مشهد سينمائي أخاذ، يوجّه فيه عمر البندقية إلى صدر أبيه طالبا منه فك لغز اختفاء أمه، تكون الفرصة مؤاتية آنذاك للأب للاعتراف لابنه وابنته أن الأم قد توفيت برصاصة طائشة أثناء معارك الجبل، دون أن يحدد من أي طرف جاءت الرصاصة، ذكاء مزنة يوقف التجربة برمتها أمام تقييم جديد يكشفه التاريخ في مستقبل الأيام، والوقت ما زال باكرا لإدانة طرف ضد آخر، فقط الخوف من عودة الحرب ثانية، هي النمر الذي يستعد دبلان يوميا لمواجهته. وأخيرا لتعليم ابنه طريقة استخدام البندقية لقتل النمر وحش الحرب قبل وصوله إلى الجبال.

مصدر إيحاء غيوم هي مجموعة من الصور الوثائقية التقطها والدها الفنان موسى المسافر، الذي دون شك عاصر مرارة تلك الأحداث، تكشف لنا جانبا مهما من حياة أبناء الجبل في ظفار أثناء الحرب وبعد انتهائها. من تلك الصور الوثائقية استمدت مزنة هذا الإلهام المتدفق، وصاغت سيناريو فيلم غيوم، الذي يأتي ليس لإدانة طرف دون آخر، بل لإدانة الحروب البشرية برمتها، ذلك لأنها نظرت لنتائجها الوخيمة في عيني دبلان رب العائلة الذي مع خروجه حيا منها إلا أنه خرج مهزوما فاقد القدرة على الحياة، معذبا بالماضي الذي قدمته مزنة كنمر يفترس كل ما أمامه دون تمييز ورحمة.

مزنة تعي جيدا آثار الحروب على تغيير العلاقات الاجتماعية بين البشر، العلاقة بين دبلان وشيخ القبيلة بعد الحرب، ليست هي العلاقة إياها قبل الحرب، يتقدم شيخ القبيلة المتقدم في العمر لخطبة سلمى صبية دبلان، المرتبطة بعلاقة عاطفية مع سالم الصبي الجبلي من جيلها. يقف دبلان وهو راعي الإبل الجبلي موقفا متقدما عندما يرفض تزويج ابنته شيخ القبيلة الثري، مزوجا إياها الصبي الفقير مع مباركة الأب له بحبات من شجرة اللبان الأسطورية والتي تصل محبة أبناء الجبل لها إلى درجة التقديس، نظرا لارتباط استخدامها بطقوس دينية في معابد الأديان الهندية بل وفي معابد الأديان السماوية قديما.

الفيلم ناطق بالشحرية لغة رعاة الجبال بظفار، كان ذلك ضروريا، هذا ما أدركته مزنة، منذ بداية اشتغالها على المشهد السينمائي العماني، بما يحمله من تنوع عرقي وثقافي أخاذ منذ قديم الزمان. قبلها قدمت فيلم شولو الناطق بالسواحيلية وفيلم بشك الوثائقي الناطق بالبلوشية. هي السينمائية التي لا تعترف بفوارق وهمية بين أبناء الوطن الواحد، القادرة على اكتشاف النسيج الاجتماعي المخفي، الرابط أبناءه روحيا على أرض واحدة، وتحت سماء واحدة.

فيلم تشولو، تناقش مُزنة فيه تجربة الانتماء الوطني والحنين إلى الجذور البعيدة خلف البحار، تدور أحداثه في زنجبار، موطن أساسي لهجرة العمانيين عبر التاريخ لقرون مضت، يستقبل تشولو الصبي أخاه عبدالله القادم من عُمان، يعيشان معا توافق البحث عن جذورهم المشتركة، يتعرضان للاعتداء من رجال أفارقة بسبب انتماء عبدالله العربي الواضح في لونه، تتراءى عمان وطنا بعيدا مجهولا لتشولو، أرضا سحرية لن يعود إليها أبدا، يعود عبدالله مع أبيه ويظل تشولو ينظر إلى البحر، إلى السفن وهي تبحر عائدة إلى عمان التي لن يراها أبدا، هكذا تتكرر تجربة الماضي الساكن كقيد يرتبط به المرؤ. ولكن بشكل إيجابي في تشولو عنه في غيوم، مزنة تتجاوز تجربة الحنين النوستالجي إلى الماضي، في الفيلمين تنظر إلى الماضي كقيد يجب علينا كسره والانطلاق إلى المستقبل دون الالتفات إليه. خاصة في مرارة أحداثه كما هو في فيلم غيوم، حيث يبقى الدم الأفريقي العماني المشترك، تجربة حضارة مشتركة أيضا، تغذي النسيج الاجتماعي العماني بخصوبة العطاء في فيلم تشولو، أي أنها تنطلق من الإيجابي في ثراء الوجود العماني بشرق إفريقيا، الثراء الذي دفع بالأفارقة إلى ما هو مثمر، حيث حمل العمانيون معهم الأساليب الحديثة في الزراعة، وارتياد آفاق العمل التجاري، ونشر الدين الإسلامي وغيرها من الدلائل الحضارية المهمة، التي تؤكد إيجابية وجودهم المبكر في شرق إفريقيا. وحش الماضي الذي يصوب له دبلان وابنه عمر البندقية لمواجهته، يحتفظ له تشولو وأخيه عبدالله بمئة قطعة من المندازي الذي خبزته لهما جدتهم الإفريقية، يحشوان فم النمر المفترس بها حتى لا يكون قادرا على افتراسهما معا. ذلك دون شك مشهد طفولي ساحر يؤكد وحدة الأخوين ضد وحش الحرب المأساوية بين العمانيين والأفارقة، أي من المحبة المشتركة بينهما نخلق إمكانية التعايش المشترك والوحش الذي يطعمه الطفلان العماني والأفريقي المندازي، هي الحرب التي خلقت روح الكراهية بينهما، وآن لنا جميعا طي صفحاتها الدموية، نحو خلق عالم أجمل لأجيالنا القادمة.

مُزنة التي جاءت بعد ستين عاما على مأساة خروج العمانيين من شرق إفريقيا بطريقة مأساوية فقد فيها العمانيون الآلاف من أبنائهم ثم أنها جاءت بعد خمسين عاما أيضا بعد نهاية حرب الجبل بظفار، تنصت إلى أوراق التاريخ التي تحفظ لنا ما فقد وتم نسيانه، مؤهلة حقا للذهاب أبعد مستقبلا، نحو تقديم تجارب العطاء العماني المتدفق عبر التاريخ، ورفد السينما العمانية الناشئة بلغة شاعرية متميزة، ذلك حقا جوهر الفن الطليعي الجاد، يضيء كالنجوم ترشد المسافرين في ليل البحار إلى المجهول.

فيلم غيوم /روائي قصير /ناطق بالشحرية/ جائزة أفضل فيلم روائي قصير /المهرجان السينمائي الخليجي ٢٠٢٤م. إخراج مزنة المسافر.

فيلم تشولو/ روائي قصير/ ناطق بالسواحيلية /جائزة أفضل سيناريو /مهرجان أبوظبي السينمائي ٢٠١٤ م. إخراج مزنة المسافر.

سماء عيسى شاعر عُماني

مقالات مشابهة

  • مصدر سياسي:مقتدى كل دقيقة له “موقف”يختلف عن الدقيقة التي قبلها وسيشارك في الانتخابات المقبلة
  • ما هو صاروخ “بار” الذي استخدمه الاحتلال لأول مرة في غزة؟
  • “حسام شبات” الذي اغتالته إسرائيل.. لكنه فضحهم إلى الأبد
  • الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
  • مكتب “أوتشا” يعبر عن قلقه بشأن الغارات التي ضربت مركزًا لإيواء المهاجرين بصعدة
  • “أوتشا” يعبر عن قلقه بشأن الغارات التي ضربت مركزًا لإيواء المهاجرين بصعدة
  • شاهد بالفيديو.. حسناء الدعم السريع “شيراز” تستعرض بالزي العسكري للمليشيا داخل أحد الأسواق وساخرون: (أوه ماي قاد خوفتينا وأرعبتينا يا محطة غيار الزيت)
  • الشرع يحذر من دعوات “قسد” التي تهدد وحدة البلاد وسلامة التراب السوري
  • شاهد بالفيديو.. بالزي العسكري وعلى يدها “الطبنجة”.. فتاة سودانية تقتحم حفل غنائي وتقدم فواصل من الرقص
  • “الخارجية”: المملكة ترحب بالإجراءات الإصلاحية التي اتخذتها القيادة الفلسطينية