ما موضع برنامج إيران النووي في عقيدتها الدفاعية؟
تاريخ النشر: 21st, September 2024 GMT
طهران- رغم أن إيران تُصرّ على أن برنامجها النووي ذو طبيعة سلمية بحتة، فإن سياستها النووية تعد واحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل في منطقة الشرق الأوسط والعالم، ويُعتبر برنامجها النووي جزءا لا يتجزأ من العقيدة الدفاعية، إذ تسعى الجمهورية الإسلامية من خلاله إلى تحقيق أهداف متعددة تتعلق بالأمن القومي والسيادة والردع، وذلك ضمن معادلة القوة والتوازن الإقليمي.
ويدرك القادة الإيرانيون أن برنامجهم النووي يوفر لإيران ورقة ضغط إستراتيجية، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، ومع أنها تبدي عدم نيتها تصنيع أسلحة نووية، إلا أن القدرات التقنية والعلمية التي تطورها في هذا المجال تمنحها نفوذا يمكن استخدامه ضمن الردع الشامل، في وجه التهديدات المحتملة من قِبل الخصوم الإقليميين والدوليين.
وبدأ البرنامج النووي الإيراني خمسينيات القرن الماضي بتعاون إستراتيجي بين طهران والدول الغربية، لكن هذا التعاون انتهى بعد انتصار الثورة الإيرانية عام 1979، فانسحبت الشركات الغربية من المشاريع النووية، وتجمّد البرنامج لفترة قصيرة.
ومع تصاعد الحرب العراقية وامتناع دول عن تزويد إيران بالأسلحة، تغيرت مواقف قيادة الثورة وسمحت باستئناف البحوث النووية، وخلال التسعينيات، بحثت إيران عن حلفاء جدد، فتعاونت معها روسيا، لكن الوكالة الدولية للطاقة الذرية كشفت عام 2003 عن منشآت نووية غير معلنة، وهو ما صعّد الخلافات بين إيران والغرب.
تعتمد إيران بشكل كبير على مفهوم الردع في صياغة عقيدتها الدفاعية، وتقوم فلسفة الردع الإيراني على عدة عوامل، منها القدرة على اتخاذ ردود فعل قوية في حال تعرضها لأي عدوان، باستخدام قدراتها الصاروخية المتطورة أو عبر حلفائها الإقليميين، ويعد البرنامج النووي جزءا من هذه المنظومة، رغم أن إيران تؤكد باستمرار أنها لا تسعى لتطوير سلاح نووي.
ويرى كثير من المحللين أن وجود البرنامج النووي الإيراني في حد ذاته، حتى وإن كان سلميا، يُعد أداة ردع إستراتيجية هامة. وتساهم التهديدات المحتملة من خصومها، مثل إسرائيل أو الولايات المتحدة، في تعزيز رغبة إيران في تطوير قدرات نووية تمكنها من التفاوض، إذ إن مجرد القدرة على تطوير التكنولوجيا النووية هو في حد ذاته أداة سياسية لردع الهجمات أو الضغوطات الخارجية.
وأكد مستشار الفريق الإيراني المفاوض محمد مرندي أن البرنامج النووي الإيراني سلمي، ولا توجد نية لتغيير ذلك في ظل الظروف الراهنة، وأن إيران رفعت نسبة تخصيب اليورانيوم من أجل الضغط في المفاوضات على الجانب الغربي، مضيفا أنه في الوقت الراهن لا يوجد أي تموضع في الشق العسكري، لكن زيادة نسبة التخصيب بحد ذاتها لها موضع في الردع والضغط على الغرب.
وتابع في حديثه للجزيرة نت أنه "في حال شعرنا بتهديد قد نضطر إلى تغيير الأمر، ولا يوجد شك بأن إيران بلد نووي متقدم بالتكنولوجيا النووية"، مضيفا أنه يجب أخذ تصريحات كمال خرازي مستشار المرشد الأعلى على محمل الجد، والتي قال فيها "إن طهران ستضطر إلى تغيير عقيدتها النووية إذا تعرضت لتهديد وجودي من قبل إسرائيل".
كما يوضح الباحث في الأمن الدولي عارف دهقاندار أنه "بالنظر إلى الفترة الانتقالية في النظام الدولي، والطبيعة الفوضوية له، والبيئة الفوضوية في الشرق الأوسط، والتهديدات المتزايدة باستمرار من جانب إسرائيل، فإن إيران قد تبنت إستراتيجية الردع النووي الكامن، أي أن تكون الدولة لديها من المعرفة والعلماء والتكنولوجيا واليورانيوم ما يلزم لصناعة الأسلحة النووية".
ويضيف في حديثه للجزيرة نت أن هذه الخطوات تكون لأسباب سياسية أو دينية أو اقتصادية أو أمنية ومعلوماتية، لكن إيران ليست بصدد صنع أسلحة نووية، كما أن هذا النوع من الردع يمنح الدول القدرة على البدء في إنتاج أسلحة نووية في أسرع وقت ممكن، والحصول على قنبلة ذرية إذا تعرضت للتهديد أو الهجوم.
ويوضح الباحث أن امتلاك "الردع النووي الكامن" لا يتعارض مع القانون الدولي، وأن إيران التي حققت هذه القدرة بموجب معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، تواصل تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتستمر في أنشطتها النووية.
ويشير دهقاندار إلى فتوى المرشد الأعلى علي خامنئي بشأن تحريم إنتاج والاحتفاظ واستخدام الأسلحة النووية، موضحا أن إيران لا تسعى إلى صنع أسلحة نووية في الوضع الحالي، بل إنها تعتزم السيطرة على سلوك إسرائيل العدواني، والحصول على مزيد من التنازلات من الغرب في المفاوضات المستقبلية المحتملة مع الولايات المتحدة الأميركية، باستخدام إستراتيجية "الردع النووي الكامن".
ويضيف أن سعي إيران لهذه الإستراتيجية بدأ بعد تاريخ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لكنه أصبح أكثر حدة نتيجة الصراع المحدود بين إيران وإسرائيل في أبريل/نيسان الماضي، إذ كان لتهديدات إسرائيل تأثير كبير على اهتمام مسؤولي إيران بإستراتيجيتها.
الأمن الوطني والإقليميمن جهة أخرى، يقول أستاذ السياسة برهام بور رمضان إن برنامج إيران النووي سلمي بحت، ويمكن وضعه في سياق الأمن الوطني والمصلحة الوطنية، كما أنه يتعلق بشكل أو بآخر بالأمن الإقليمي، ويطمح لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة عن طريق السلام، وفق رأيه.
ويضيف في حديثه للجزيرة نت أن إيران لديها برنامج نووي سلمي، لكن في حال تغيرت الأوضاع الإقليمية والدولية وذهبت إيران إلى وضع برنامجها النووي في سياق العقيدة الدفاعية، فيجب أن تقرر حينها كيف يكون ردعها النووي، هل سيكون إقليميا فقط أم سيكون عاما ودوليا.
ويوضح أنه "عند التحدث عن الأوضاع الإقليمية، نقصد العدوان الإسرائيلي على فلسطين، والقضايا الجيوسياسية بين إيران وجيرانها وتحديدا دول الخليج، لكن هذه الأمور لن ترقى إلى مستوى تهديد بالنسبة لإيران، فالتهديد الحقيقي هو الحرب الإقليمية مع إسرائيل، مما قد يجعل إيران تفكر بتغيير عقيدتها الدفاعية".
لكن الباحث استبعد أن تغيّر إيران عقيدتها الدفاعية في المستقبل القريب، نظرا للأوضاع الداخلية وكذلك الإقليمية والدولية، إضافة إلى أن إيران تمتلك أدوات ضغط جيدة على الصعيد الدبلوماسي يمكنها أن تتجاوب مع أي ظرف، مضيفا أنه "إذا خُيرت إيران بين استمرار الوضع الحالي والحرب الإقليمية، فإنها ستختار البقاء بالوضع الحالي مع بعض الملاحظات".
ويرى عديد من المحللين أن البرنامج النووي الإيراني يتجاوز حدود السياسة والردع إلى مستويات أكثر تعقيدا، إذ يمثل تطورا تقنيا ورمزا للقوة والاستقلال الوطني، ويعتبره كثير من الإيرانيين، سواء في السلطة أو في الشارع، دليلا على أن إيران قادرة على تحقيق التقدم العلمي والتقني رغم العقوبات المفروضة عليها.
ويشكل هذا البعد الوطني جزءا مهما من خطاب النظام الإيراني، الذي يستخدم البرنامج النووي لتعزيز شعبيته الداخلية والترويج لفكرة أن إيران قوية وغير قابلة للخضوع للضغوط الخارجية، ويستخدمه كسلاح غير عسكري، لكنه فعّال في تعزيز قوة إيران في مواجهة التهديدات، وتحقيق أهداف إيران الإستراتيجية والداخلية على السواء.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات البرنامج النووی الإیرانی أسلحة نوویة أن إیران
إقرأ أيضاً:
الهند- باكستان- إيران.. كيف توزّع واشنطن صكوك الشرعية النووية؟
منذ نشأة النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، سعت القوى الكبرى إلى فرض معايير محددة للشرعية في امتلاك السلاح النووي، فكانت معاهدة حظر الانتشار النووي (NPT) حجر الزاوية في ضبط التسلح العالمي، لكن مع مرور العقود، بدا واضحاً أن الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، لا يتعامل مع هذا السلاح الفتاك بمنطق قانوني أو أخلاقي موحد، بل بمنطق المصالح، التحالفات، والخطاب السياسي الانتقائي. هذا التحيّز تجلّى بوضوح في طريقة تعامله مع ثلاث دول نووية في آسيا: الهند، باكستان وإيران.
رغم أن الهند فجّرت أول قنبلة نووية في عام 1974م فيما عُرف باختبار “بوذا المبتسم”، في تحدٍّ مباشر لمعاهدة حظر الانتشار التي لم توقّع عليها أصلاً، فإن رد الفعل الدولي لم يتجاوز حدود الإدانات الرمزية. وبحلول الألفية الجديدة، تحوّلت الهند من دولة نووية “مارقة” بنظر الغرب إلى حليف استراتيجي موثوق، خاصة بعد توقيع الاتفاق النووي المدني مع الولايات المتحدة عام 2008م، هذا الاتفاق منح الهند شرعية شبه رسمية للوصول إلى تكنولوجيا نووية دولية، دون أن تلتزم بتخفيض ترسانتها النووية أو الانضمام لـNPT.
في حين كان جاء التبرير الغربي: الهند “أكبر ديمقراطية في تلك المنطقة”، وتلعب دوراً مهماً في موازنة نفوذ الصين. وهكذا، غُلّبت الجغرافيا السياسية على القانون الدولي.
باكستان من جهتها، دخلت النادي النووي من باب الردع المضاد بعد التجارب النووية الهندية. لكنها لم تصل إلى هذه القدرة عبر سباق علمي داخلي وحسب، بل عبر اختراق استخباراتي وعلمي نفّذه العالم الباكستاني عبدالقدير خان، الذي حصل على تصميمات الطرد المركزي من أوروبا، وأنشأ شبكة تهريب نووية خدمت لاحقاً إيران وليبيا وكوريا الشمالية.
فيما كان الرد الغربي عبارة عن عقوبات مؤقتة أعقبت التجربة النووية عام 1998م، سرعان ما رُفعت بعد أن أصبحت باكستان شريكاً ضرورياً في “الحرب على الإرهاب” بعد أحداث 11 سبتمبر عام 2001م، ومع أن واشنطن والغرب يشككون في قدرة الدولة الباكستانية على تأمين ترسانتها النووية وسط تنامي “التطرف الداخلي” على حد تعبيرهم، اختاروا التغاضي الحذر بدل المواجهة، خشية تفجير توازن الردع مع الهند أو زعزعة استقرار جنوب آسيا.
أما إيران، فكانت مثالاً عن النفاق الغربي بأوضح صوره، على عكس الهند وباكستان، إيران وقّعت على معاهدة حظر الانتشار النووي، وخضعت لعقود من التفتيش المكثّف من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولم يصرّح مسؤولوها مرة عن قرار إيراني ببناء سلاح نووي. ومع ذلك، فإن الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، فرض على إيران أحد أقسى أنظمة العقوبات في التاريخ الحديث، مدّعياً أن برنامجها السلمي ليس سوى غطاء لطموحات عسكرية.
الاتفاق النووي الإيراني عام 2015م، كان فرصة لنزع فتيل الأزمة، لكنه انهار عملياً بعد انسحاب إدارة الرئيس دونالد ترامب منه عام 2018م، في خطوة نالت مباركة إسرائيلية وعارضها الحلفاء الأوروبيون. لم تُجدِ التقارير الإيجابية من الوكالة الدولية نفعاً، ولا الانفتاح الجزئي الذي أبدته طهران مرات عديدة، وذلك، لأن إيران عدو استراتيجي لحلفاء واشنطن في المنطقة، خاصة كيان الاحتلال، ولذلك فامتلاكها أي قدرة نووية مرفوض تماماً.
إن هذا التعامل المزدوج يعيد صياغة مفهوم “الشرعية النووية” من أداة لضبط انتشار السلاح إلى أداة للهيمنة، فحين يُسمح لدولة كالهند بتطوير سلاح نووي وتُكافأ بالتكنولوجيا، ويُتسامح مع باكستان رغم سجلها في الانتشار، بينما تُخنق إيران اقتصادياً وسياسياً قبل حتى أن تُنتج قنبلة واحدة، لا يمكن الحديث عن نظام عالمي عادل، بل عن منظومة هيمنة بغطاء قانوني.
في الواقع، إن الاستمرار بمثل هذه السياسات يعني أمرين: فقدان الثقة في النظام الدولي، وخاصة في معاهدة NPT، التي باتت تبدو كمجرد أداة للسيطرة على بعض الدول دون غيرها، وتشجيع دول أخرى على السعي لامتلاك السلاح النووي خارج الأطر الرسمية، إدراكاً منها أن الردع الحقيقي لا يأتي من التوقيع على الاتفاقيات، بل من امتلاك القنبلة نفسها.
مع تصاعد التوترات الجيوسياسية في آسيا والشرق الأوسط، ومع تخبّط السياسة الخارجية الأمريكية بين التحالفات والمصالح، يبدو أن العالم يتّجه إلى مرحلة تفكّك تدريجي للمنظومة النووية التقليدية، فكلما شعرت دولة أن الاتفاقيات لا تحميها، وأن الغرب يستخدم القانون كعصا انتقائية، كلما زادت فرص أن ترى في السلاح النووي الضمانة الوحيدة لوجودها.
في هذا السياق، لا يمكن قراءة البرنامج النووي الإيراني، ولا حتى الطموحات التركية أو السعودية المحتملة، خارج هذا الإطار، فحين يصبح النووي مسموحاً لدول معينة رغم خروقاتها، ومحرّماً على أخرى رغم التزامها، فإن قاعدة اللعبة تصبح “من يملك النفوذ، يملك النووي”.
*صحفية لبنانية