أم درمان .. مدينة تقاوم القصف والجوع والغلاء والمرض
تاريخ النشر: 20th, September 2024 GMT
منتدي الاعلام السوداني : غرفة التحرير المشتركة
إعداد: مركز الألق للخدمات الصحفية
تقرير : سمية المطبعجي
” ام درمان :20 سبتمبر 2024 –
موت واصابات كل يوم، قذائف المدفعية تتساقط حولنا .. الوضع الصحي متردي وبتنا خائفين، تحاصرنا الملاريا والإسهالات وأمراض العيون بعد إنتشار البعوض والذباب نتيجة الأمطار .
. الغلاء المتزايد يوم بعد آخر ارهقنا وبتنا لا نقوى على مواجهته ..” .
هكذا تحدثت إلينا (نور. م) التي نزحت شمال المدينة، ضمن مواطني ام درمان القديمة الى محلية (كرري) طلباً للأمن، ليصبح حالها بعد عام على ذلك الوضع.
حال (نور) يلخص حال المدينة الأكثر أمناً نسبياً مقارنة مع مدن العاصمة السودانية الأخرتين.
تحت نيران القصف والنهب والجوع والغلاء والمرض تعيش ام درمان، فيما يحاول سكانها ممن لم يقووا على الخروج التعايش مع الوضع، تعايش يبدو مستحيلا على أرض الواقع لكن لا مناص.
وتقع معظم مناطق ام درمان، ثالث وأكبر مدن العاصمة السودانية الثلاث (الخرطوم، بحري، ام درمان)، تحت سيطرة الجيش، عدا أجزاء في جنوب وغرب المدينة تحت سيطرة قوات الدعم السريع. ودخل الجانبان الجيش والدعم السريع في حرب منذ 15 ابريل 2023 ، واجبر الدعم السريع سكان أحياء (ام درمان القديمة) التي تقع وسط المدينة في مساحة (614 كلم مربع) في أغسطس من العام الماضي، على ترك منازلهم قبل أن يستعيدها الجيش بعد أشهر، فيما ظل سكانها نازحين خارج أحيائهم
.
قصف ونهب الحماة
لا أمان مادمت هنا، العشرات يتساقطون بين قتلى وجرحى كل يوم جراء القصف العشوائي الذي زعم المواطنين والمراقبين بأن مصدره الجانب الشرقي من النيل الذي تسيطر عليه قوات الدعم السريع، فليس مستبعداً أن تكون هدفاً للقصف في أي لحظة. وعلى الأرض يتعرض المواطنون لعمليات السلب والنهب التي باتت منتشرة بشكل واسع. من تحدثوا إلينا حذروا من إيراد اسماءهم خوفاً من تعرضهم للخطر.
(م.ب) شاب في العشرينيات يقول ” التدوين والقصف العشوائي يقع كل يوم وفي كل مكان وعلى المستشفيات، الناس يتعرضون للموت والإصابات … وهناك أناس على دراجات نارية يحملون السلاح ويجوبون الطرقات داخل الأحياء بينهم عسكريين بالجيش ولصوص لنهب المواطنين .. ” .
تردي أمني واضح أكده المراقب والصحفي الناشط محمد الفاتح العالم الذي وصف الوضع بالخطير ” القذائف العشوائية تطلق على منازل المواطنين رغم عدم وجود منطقة عسكرية قربها.. انفجرت قذائف قرب منزلنا وتطايرت الشظايا واصابت المنزل عدة مرات .. السلاح اصبح منتشرا بشكل كثيف دون ضوابط بين المواطنين ولايمكن تمييز لأي جهة عسكرية رسمية ينتمون .. انتشرت حوادث السلب والنهب بشكل يومي وتكررت الإصابة بالرصاص الطائش الذي يطلق دون اسباب … ” .
شعور بعدم الأمان والحماية بات يسيطر على المواطنين دفع البعض للجوء إلى محاولة حماية أنفسهم في موقف أقرته الحكومة نفسها بإعلانها (الإستنفار) بتكوين قوة شعبية مسلحة من المواطنين،
زادت هذه الدعوة من تعقيدات الموقف الأمني الذي تحول لحالة من الفوضى على حساب المواطنين. (م.ب) كان ضمن من استجابوأ لحملة الإستنفار على طريقته وفق المبررات التي ساقها، ” إلتحقت بالاستنفار لأحمي نفسي، المسلحون ينتشرون داخل الأحياء، بينهم مستنفرين حملوا السلاح ضد المواطنين.. في الأسواق يتجول العسكريون سكارى يتهمونك بالإنتماء للدعم السريع، فإما أن تثبت لهم عكس ذلك أو تعطيهم نقودا، وإلا تعرضت للنهب وإطلاق الرصاص عليك”.
ويقدر عدد ضحايا الحرب في السودان منذ نشوبها في الخامس عشر من ابريل بأكثر من 18 ألف قتيل واكثرمن 33 الف جريج، وترجح منظمة الصحة العالمية (Who) أن أعداد الضحايا أكثر بكثير من ذلك، وان معظم الوفيات نتيجة لاستخدام الاسلحة الثقيلة في المناطق المكتظة بالسكان” ، وذلك وفقا لتقرير مكتب الامم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية (اوتشا) .
أحياء امدرمان القديمة التي أصابها دمار واسع، ظلت خاوية من سكانها حتى بعد إخراج قوات الدعم السريع منها . متطوعون من شبابها عملوا على استعادة الماء والكهرباء والقيام بعمليات نظافة واسعة ولكنها ظلت مثل مدينة أشباح عصفت بها أعاصير فما استبقت شيئاً، تتساقط عليها القذائف بين حين وآخر.
(نور .م) قالت… ” منازلنا في ام درمان القديمة أصبحت لا تصلح للعيش، دمرت واحرقت ونهبت، منزلنا تعرض لست قذائف ولازالت المنطقة تتعرض للقصف .. هنالك من حاولوا العودة ولكن عادوا ادراجهم لعدم الأمان .. الجميع شاركوا في النهب،… الجيش والدعم السريع وبعض أبناء الحي واللصوص، جميعهم “.
الخبير العسكري وخبير إدارة الأزمات والتفاوض بمركز الدراسات والبحوث اللواء د. أمين اسماعيل مجذوب فند الإتهامات ضد الجيش بشأن أعمال النهب والعنف على المواطنين وإن لم يستبعد وجود خروقات فردية، قائلاً ” تلك الإتهامات تدخل في دائرة الحرب الإعلامية ما بين القوات المسلحة والدعم السريع وتمثل ورقة ضغط من قبل الدعم السريع في الوسائط لتكون الإدانة للطرفين وليس للدعم السريع وحده .. وهذا لا ينفي وقوع أخطاء قليلة من بعض الأفراد ولكن ليس بذلك الإنتشار بما يوازي ما تقوم به قوات الدعم السريع .. المواطنين لا يميزون بين القوات المسلحة والعصابات ومن ينتحل شخصيات ترتدي الزي الرسمي للجيش .. وإذا كان هنالك مثل تلك الخروقات فلدى القوات المسلحة شرطة عسكرية واستخبارات قادرة على الحسم” . ويقول مجذوب بشأن تأمين المناطق المستعادة من الدعم السريع ” التأمين الأرضي للمناطق التي تم تحريرها موجود، فهناك ارتكازات للجش ومراكز شرطة، ومع ذلك لايمكن استعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الحرب فيما لاتزال الحرب مستمرة .. فمستحيل التأمين بقوات كبيرة لكل المناطق بحيث تغطي كل شارع ومنزل .. بالفعل توجد مشاكل نسميها ارتدادات أمنية، تتمثل في العصابات واللصوص وغيرها .. أما الحماية من القصف العشوائي الذي يأتي من الجانب الشرقي للنيل على مناطق امدرمان فالجيش يقوم بدوره بتدمير منصات المدافع شرق النيل “.
ويذهب الشاب (م.ب) للقول ” صحيح هنالك شرطة عسكرية تتمركز أحياناً، لكنها توجد في الشوارع الرئيسية فيما يحدث النهب وقطع الطرق داخل الأحياء والأسواق” .
فيما يقول الصحفي محمد المختار محمد “هناك اتهامات بالسرقة والنهب من الطرفين خاصة في ام درمان في مناطق سيطرة الجيش وهناك فيديوهات وصور موثقة.. يتعرض المدنيين في السودان بشكل عام إلى انتهاكات مختلفة في ظل استمرار الحرب وغياب القانون والقبضة العسكرية الأمنية، وهو ما أكده تقرير لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة والذي اتهم طرفي الحرب بارتكاب انتهاكات واسعة ضد المدنيين، رفضته حكومة بورتسودان وطالبت بعدم التجديد لبعثة تقصي الحقائق، فيما ابدت قوات الدعم السريع عدة ملاحظات حوله ودعت إلى تمديد ولاية البعثة
..
وضع صحي وبيئي كارثي
جثث آدمية وحيوانية مبعثرة هنا وهناك، ومدافن عشوائية امام المنازل وسط بعض الأحياء، ويأتي خريف هذا العام كثيفاً غزيرأً لتكتمل مأساة المدينة.
(ص.ع) عضو لجان المقاومة بام درمان القديمة والناشط في المجال الإنساني يقول ” الوضع الصحي للأسف في غاية التردي .. مناطق واسعة في ام درمان القديمة لم يتم تنظيفها من مخلفات الحرب، ولازالت الجثث والقبور وجثث الحيوانات تنتشر وسط بعض الأحياء .. وأتت الأمطار الغزيرة في ظل عدم فتح المجاري والجداول بسبب ظروف الحرب لتفاقم المشكلة لما يشبه بالكارثة البيئية. انتشار واسع للذباب والبعوض .. تفشت امراض الملاريا والكوليرا والعيون (فيما يسمى بالملتحمة) بشكل وبائي .. فالإحتياجات هائلة في وضع صحي بالغ السوء ” .
وأكد مدير عام منظمة الصحة العالمية تيدروس ادهانوم في مؤتمر صحفي في ختام زيارته للسودان الاسبوع الاول من سبتمبر ان الوضع الصحي في السودان (وصل إلى مرحلة الإنهيار..وأن 80% من المستشفيات بالبلاد خارج الخدمة. ) وأفاد مكتب (اوتشا) في تقرير أن منظمة الصحة العالمية اشارت الى إبلاغها ب (2895) حالة إصابة بالكوليرا في الفترة بين 22 يوليو – الأول من سبتمبر، بينها 112 حالة وفاة في خمس ولايات من بينها الخرطوم.
وعلى الرغم من ذلك التردي الصحي، فالمواطنون يجابهون في الغالب تلك المعاناة بالجهود االطوعية والشعبية. مجهودات اسفرت عن توفير الحد الأدنى من الإحتياجات العلاجية. (نور. م) قالت ” عدد منا في المنزل مصاب بأمراض مزمنة ، الضغط والسكر، الأزمة والقاوت.. نجد الدواء بالصيدليات، عدا دواء الروماتويد غير متوفر واستعين يالمسكنات والكورتيزون.. هناك مراكز صحية تقدم الرعاية للحالات الخفيفة والإصابات، لكن هناك خطورة لاستهداف بعضها بالقصف، مستشفيات النو والجزيرة سلانج ومجمع الرومي الطبي يتم استهدافهم دوما، وتم ضرب مستشفى الندى ابضا وكثير من الضحايا اطفال، ولكننا مضطرين للجوء إليها…ليس للمواطن بديل.. أما الحالات الصعبة فلا مجال لها إلا في مستشفيات عطبرة وشندي خارج العاصمة “. الصحفي الناشط محمد الفاتح العالم يوضح خلفية تسيير تلك المراكز العلاجية وتوفير الدواء ” انتظمت المدينة حملات ومجهودات شعبية وتطوعية لإغاثة المواطنين تعتمد على المساهمات وبعض التبرعات من داخل وخارج السودان .. فتم تأسيس وإعادة تشغيل المراكز الصحية والمستشفيات بواسطة لجان المتطوعين وتوفير معينات تشغيلها للحالات الطارئة والإصابات وتوفير العلاج والاحتياجات الصحية
..” .
غلاء وأزمة غذاء
غلاء طاحن يجابه المواطنين الذين يحاولون بالكاد الحصول على ما يسد الرمق، وسط إنعدام وسائل الرزق وفقدان سبل العمل، العديد من الأسر تعيش على دعم الأقارب والأصدقاء من الخارج، فيما يشكل الجهد الطوعي الأهلي العامل الأساسي في امداد معظم الأسر بالطعام .
محدثنا السابق الشاب (م.ب) جامعي من كلية مرموقة حكى لنا عن ظروف اسرته المعيشية ” هي مجازفات وتفعيل لعلاقات فنعمل في كل ما هو حلال، أخي الأصغر ((كمساري) أو محصل أجرة في عربة نقل ركاب…. وأنا أتاجر في أشياء صغيرة وبعض أشياء كانت لدي قبل الحرب وتوفير الاحتياجات لمن يريد .. اقلعنا عن المكيفات من سجائر وقهوة وغيره .. اسير راجلا في مشاوير لتوفير تكلفة المواصلات لمتطلبات المعيشة ..” .
(نور.م) قالت ” نواجه غلاء ومضاعفة اسعار كل يوم.. نعيش كأسرة من 14 شخصاً، على راتب مقتطع على قلته لاختي الموظفة بمؤسسة حكومية، ومعاش للأخرى المعلمة، وكلاهما غير منتظمين، وأنا محامية لكن اصبحنا جميعنا عاطلين .. احياناً تأتينا القليل من النقود من بعض الزملاء تدعمنا .. نسكن في منزل إبنة عمنا التي ذهبت الى مصر “.
جوع وغلاء يحاصر سكان المدينة فكان الجهد الأهلي والطوعي حاضرا ومغيثاً، الصحفي (العالم) يقول ” اجتاحت المنطقة موجة غلاء طاحنة لمختلف السلع التي تضاعفت اسعارها بشكل تصاعدي مستمر ،فكانت الكثير من الأسر غير مستطيعة لمقابلة احتياجاتها ولجأت للتسول وملاحقة مواقع (التكايا) للإعاشة والإطعام … قامت العديد من اللجان الطوعية ولجان المقاومة بتنظيم حملات لإسكان وإطعام المواطنين من مناطق النزوح المختلفة في المدارس والمنازل التي سافر سكانها .. وشكلت تجربة (التكايا) ومراكز توزيع الوجبات سندا كبيرا للأسر النازحة من تبرعات الخيرين وباتت تعتمد العديد من الأسر بشكل أساسي على تلك الوجبات .. ” .
إتهامات بإعاقة الإغاثة وبيعها
على الرغم من أن العاصمة الخرطوم من ضمن المناطق المستهدفة بالمواد والمساعدات الإنسانية والإغاثية، ولكن وفقا للمواطنين والمراقبين فإن المنطقة منذ اندلاع الحرب لقرابة العام ونصف العام لم تر ما يذكر من إغاثة، بل بعضهم أشار الى رؤيتها تباع في الأسواق . (م.ب) يذكر عن المواد الإغاثية ” ما يباع في الأسواق من سلع الكثير منها الإغاثات التي نسمع عنها ولا تصل للناس .. فلجان الأحياء ترفع للمحلية التي اصبحت مسؤولة عن التوزيع لعدد 500 اسرة مثلا، فتسلم 30 أو 40 كرتونة فقط، وغالبا ما يتم منحها حسب العلاقات .. المحلية اصبحت فقط مكان لجباية الرسوم من المواطنين..الحديث حول عدم وصول المساعدات الاغاثية للمواطنين يؤكده الصحفي (العالم) بقوله ” لم تشهد المنطقة عملا منظماً لتوزيع الإغاثات والمساعدات الخارجية أو الحكومية بشكل يعالج احتياجات المواطنين، خاصة النازحين الفارين من مناطق الاشتباكات والذين خرجوا بما عليهم من ملابس دون أي معينات أو نقود أو ممتلكات وحتى في الحالات القليلة التي يتم فيها توزيع إغاثة كانت متقطعة وقليلة بشكل لا يفي باحتياجات يوم واحد دعك عن مواجهة ظروف الحرب” .
وتتهم الأمم المتحدة والمجتمع الدولي طرفي النزاع في حرب السودان، الجيش والدعم السريع، بإعاقة وصول المساعدات الإنسانية للمحتاجين في مناطق النزاعات. واوردت اللجنة الدولية لتقصي الحقائق في تقريرها الذي صدر مؤخرا …. “زاد طرفا النزاع من الأزمة من خلال عرقلة وصول المساعدات الانسانية.. يعاني الشعب السوداني من مأساة يستحيل تصورها ، ويجب اعطاء الأولوية لوقف اطلاق النار المستدام لإنهاء القتال الذي علق به السكان المدنيون والسماح بإيصال المساعدات الانسانية للسكان المدنيين في مختلف الأماكن “.
وفيما ظل الطرفان يتبادلان الإتهامات بشأن إعاقة المساعدات.، أعلنت الأمم المتحدة أن أكثر من 25 مليون شخص في السودان يواجهون أسوأ مستويات إنعدام الأمن الغذائي الحاد في تاريخ البلاد في أكبر أزمة جوع في العالم، خاصة في المناطق المتأثرة بالحرب في دارفور وكردفان والخرطوم والجزيرة. ويقدر عدد النازحين الذين فروا من منازلهم جراء الحرب اكثر من 10 مليون شخص، فيما يقدر اللاجئين الى الدول المجاورة باكثر من 2 مليون
ينشر هذا التقرير بالتزامن في منصات المؤسسات والمنظمات الإعلامية والصحفية الأعضاء بمنتدى الإعلام السوداني
#ساندوا_السودان
#Standwithsudan
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: النزاع الفلسطيني الاسرائيلي أم درمان الجوع الخراب الدمار المرض
إقرأ أيضاً:
رفح.. مدينة منكوبة
رغم مضي أكثر من 60 يومًا على توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين الاحتلال وحركة حماس، ما يزال أحمد قشطة يقبع في خيمته الهشة بمواصي خان يونس، بعدما اقتلعته آلة الحرب الإسرائيلية من منزله في رفح قبل نحو 10 أشهر. يحدّق في الأفق الملبد بالغبار، حيث كانت تقف جدران بيته في حي تل السلطان، فلا يرى سوى الفراغ، وكأن الزمن توقف عند لحظة الانفجار الأخير.
صباح اليوم، في شهد صادم، شوهدت عائلات كاملة، أطفال ونساء وشيوخ، تسير نحو خانيونس مشيًا على الأقدام، هربًا من جحيم القصف. بعضهم كان يحمل أطفالًا على الأكتاف، وآخرون لم يستطيعوا حمل شيء من ممتلكاتهم، فتركوا خلفهم كل ما يملكون في محاولة يائسة للنجاة بأرواحهم
وحذرت المديرية العامة للدفاع المدني في قطاع غزة، من خطر كبير يهدد حياة أكثر من 50,000 مواطن في منطقة البركسات غرب محافظة رفح، بعد محاصرتهم من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي. وتحت وطأة القصف والاستهداف الإسرائيلي المكثف، نزح مئات المواطنين مجددًا من حي السلطان غرب مدينة رفح جنوب قطاع غزة، قاطعين مسافات طويلة سيرًا على الأقدام.
وأفادت مصادر محلية بأن طائرات الاحتلال ألقت في ساعة مبكّرة من صباح اليوم، منشورات تطالب سكان منطقة حيّ السلّطان غرب رفح بالنزوح من أماكنهم؛ بذريعة أنّها «منطقة قتال خطيرة». جاء ذلك تزامنًا مع تكثيف القصف المدفعي والغارات الجوية على المنطقة منذ فجر اليوم، بالإضافة لاستهداف الفلسطينيين أثناء نزوحهم.
وتحت إطلاق الرصاص والقنابل. وفي الحر الشديد، والصيام بدون سحور، ولعدة كيلو مترات كان النزوح الإجباري من رفح، إذ أجبر الاحتلال المواطنين على الخروج من تل السلطان غرب مدينة رفح عبر الحواجز العسكرية التي يقيمها.
يقول المواطن الفلسطيني بصوت مشبع بالأسى: «الوضع هنا كارثي. لا نستطيع العودة، ولا نستطيع البقاء. لا ماء يروي عطشنا، لا صرف صحي، لا شيء سوى الخيام المهترئة والسماء التي تمطر بردًا وألمًا. الركام يحيط بنا كأنه شاهد قبر عملاق، والأرض بالكاد تتسع لنا».
لم يكن الألم مقتصرًا على فقدان المنزل، فقد فَقَدَ المواطن قشطة خمسة من أبنائه تحت القصف، ويمسح دموعًا لا تجف وهو يروي مأساته لـ«عُمان»: «ثمانية أشهر من القصف المتواصل حولت رفح إلى مدينة منكوبة. لا مشافٍ، لا ماء، لا كهرباء، ولا حتى غطاء يحمي أجسادنا من البرد القارس. نحن نعيش بين الأنقاض، نحارب للبقاء، والليل يحمل معه نواح الأطفال الجوعى وصوت الرياح التي تصفع خيامنا المتداعية».
يشير المواطن الستيني، إلى ركام منزله الذي كان في حي تل السلطان، ويقول تنزف وجعًا: «بيتي كان ملاذنا، 15 فردًا كنا نلتف حول المائدة ذات يوم، أما اليوم، فقد تشردوا بين المخيمات. لا أدري أين هم، ولا أدري إن كنا سنعود يومًا إلى رفح أم ستظل مدينتنا ذكرى موؤودة تحت أنقاض الحرب».. فرغم اتفاق وقف إطلاق النار، لا يزال الجيش الإسرائيلي يمنع عودته، كما هو حال آلاف الأسر التي باتت مشردة بلا أمل في العودة القريبة.
البقاء في رفح: تحدٍ يومي وسط الاستهداف والدمار
رغم وقف إطلاق النار، لم يتوقف الاحتلال عن مهاجمة السكان الذين يحاولون العودة إلى منازلهم أو تفقد ممتلكاتهم. قتل وأصاب الجيش الإسرائيلي العشرات أثناء محاولتهم العودة، وحتى من وجدوا منازلهم قائمة لم يتمكنوا من العودة إليها بسبب المخاطر المستمرة من الاستهداف، وانعدام مقومات الحياة الأساسية.
محمود القاضي، مسن سبعيني، يتحدث بعينين غارقتين في الحزن: «ما زال أكثر من نصف مساحة مدينة رفح تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي، الذي لا يزال يمارس سياسة التدمير والنسف. عُدنا من المواصي وقعدنا هنا، لم نجد منازلنا. هذه داري قسمها جيش الاحتلال نصفين وأقام شارعًا في منتصفها. حتى جدرانها المهدمة ما زالت تحمل آثار قذائفهم».
يرفع صوته قليلًا، وكأنما يريد أن يصل صوته إلى العالم: «جيش الاحتلال، رغم وقف إطلاق النار، ما زال يطلق علينا الرصاص الحي. بالأمس كانت الطلقات تمر فوق رؤوسنا ونحن نحاول جلب بعض الماء. لا يوجد أكل ولا شرب، أهل الخير يأتون كل فترة ويوزعون على كل أسرة حزمة خبز بالكاد تكفي طفلًا».
ويتابع لـ«عُمان»: «الوضع صعب جدًا، وسيارات المياه التابعة للبلدية لا تأتي إلا كل ثلاثة أيام، وحين تأتي، يضطر الأطفال لحمل الدلاء والسير لمسافات طويلة لجلب الماء».
أما مهند عبدالعال، وهو مسن ستيني من حي الفرقان شمال غرب رفح، فيقف وسط الركام، مشيرًا إلى ما كان يومًا شارعًا حيويًا: «العديد من أهالي الحي تركوه لعدة أسباب؛ الخوف من الاحتلال، انعدام مقومات الحياة، وعدم وجود أماكن مناسبة لنصب الخيام بسبب الدمار الهائل. الركام يخفي حتى معالم الشوارع، ولم نعد نعرف أين كنا نعيش». مؤكدًا أن الاحتلال يطلق عليهم الرصاص والصواريخ يوميًا: «لا نشعر بالأمان ولو للحظة».
يمسح دمعة تسللت إلى وجنتيه قبل أن يضيف لـ«عُمان»: «هذه ليست رفح التي نعرفها. لقد دمر الجيش الإسرائيلي معالمها، وحاراتها، وشوارعها. كنا نعرف كل زقاق هنا، لكن الآن لا يمكنني حتى أن أجد الطريق إلى منزلي السابق. ومن دون انسحاب كامل من محور صلاح الدين، لا يمكن لسكان رفح العودة إلى مدينتهم، وإن عادوا، فعلى ماذا سيعودون؟ المدينة صارت أطلالًا».
التقييم الميداني: رفح مدينة منكوبة
وفقًا لمركز الميزان لحقوق الإنسان، فإن قوات الاحتلال الإسرائيلي استمرت في ارتكاب الجرائم ضد سكان قطاع غزة حتى بعد سريان اتفاق وقف إطلاق النار في 19 يناير 2025. يشير المركز إلى استمرار عمليات القصف وإطلاق النار، ما أدى إلى استشهاد وإصابة المئات، فضلًا عن تدمير البنية التحتية المتبقية في رفح. كما تم توثيق عرقلة متعمدة لدخول المساعدات الإنسانية، بما في ذلك منع وصول المعدات الطبية والخيام والمنازل المتنقلة والآليات اللازمة لإزالة الأنقاض.
ورغم إعادة انتشار قوات الاحتلال على حدود مدن قطاع غزة بموجب المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، فقد استمرت سيطرتها المطلقة على أغلب مناطق رفح للشهر العاشر على التوالي. لا تزال أصوات الانفجارات وأزيز الطائرات العسكرية تسمع في أنحاء المدينة، في وقت يواجه فيه السكان أوضاعًا إنسانية كارثية، حيث يبيتون في العراء وسط قطاع غزة وفي مواصي خان يونس.
ويؤكد مركز الميزان أن الاحتلال لم يلتزم بالمساحة المعلنة في الاتفاق، وما زال متمركزًا بعمق كيلومتر داخل أحياء رفح، وصولًا إلى منطقة الكراج الشرقي وعلى الحدود مع مصر. هذه المناطق أصبحت أشبه بمناطق عسكرية مغلقة، حيث يُستهدف أي شيء يتحرك باستخدام المدفعية، القناصة، والطائرات الحربية والمسيرة. ويشير المركز إلى شهادات سكان محليين أكدوا أنهم تعرضوا لإطلاق نار أثناء محاولتهم العودة لمنازلهم، فيما باتت العديد من المناطق غير صالحة للسكن بسبب القصف العشوائي المستمر.
الأرقام تتحدث: دمار شامل ومعاناة بلا نهاية
تشير إحصائيات بلدية رفح إلى أن 200,000 من سكان المدينة المقدر عددهم بحوالي 300000 مواطن، لا يزالون غير قادرين على العودة إليها، حيث يسيطر الاحتلال على 60% من مساحة المدينة، أي ما يعادل 60,000 دونم. فيما تجاوزت نسبة الدمار الكامل والجزئي 90%، طالت البنية التحتية والمنازل والطرق والمرافق الحكومية والخدماتية والصحية والاقتصادية.
دمرت ستة أحياء كاملة من أصل 15 حيًا، إضافة إلى 5 مخيمات للاجئين، وبلغ حجم الركام والأنقاض في المدينة 20 مليون طن، يُعتقد أن تحتها لا يزال العديد من الضحايا. دُمرت تسعة مراكز طبية، بما في ذلك مستشفى أبو يوسف النجار الحكومي، والمستشفى الأهلي الكويتي، والمستشفى الإندونيسي الميداني. كما دُمّرت 70% من مضخات شبكات الصرف الصحي والمياه، وأصيبت شبكات الكهرباء والاتصالات بدمار شبه كامل.
ومنذ بدء سريان وقف إطلاق النار، قتلت قوات الاحتلال 111 مواطنًا وأصابت 916 آخرين، وفقًا لوزارة الصحة في غزة. حوالي 40% من هؤلاء الضحايا سقطوا في رفح أثناء محاولتهم تفقد منازلهم أو أراضيهم الزراعية.
الحياة تحت التهديد المستمر
ورغم هذه الأوضاع المأساوية، يرفض كثيرون ترك مدينتهم، كما يؤكد مهند عبد العال: «لكننا لن نهاجر خارج قطاع غزة كما يريد ترامب. نموت ولا نترك أرضنا. هناك زيتونة نبتت في بيتي المدمر، إذا الزيتونة لم تطلع، كيف أنا أطلع؟».
بينما يستمر الاحتلال في حصار رفح وتجريدها من مقومات الحياة، تبقى المدينة شاهدًا حيًا على الإبادة المستمرة بحق سكانها، الذين ما زالوا يقاومون بصمودهم وإصرارهم على البقاء رغم كل الظروف القاسية.