فى الذكرى الـ 23.. د. عمرو عبد المنعم يكتب: لأول مرة قصة حياة «العقل الإلكتروني» لهجمات 11 سبتمبر
تاريخ النشر: 20th, September 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
فى الذكرى الثالثة والعشرين لأحداث الحادى عشر من سبتمبر نجد تشابها، إذ «تمر المنطقة العربية بأجواء شبيهة بأحداث الحادى عشر من سبتمبر التى تأتى ذكراها الثالثة والعشرون فى هذه الأيام.
ذلك الزلزال الكبير الذى هز العالمين العربى والإسلامى بأكملهما، ففرض علينا وعلى المنطقة العربية أجواء جديدة.
وهنا نستقرئ على ضوء الحدث رواية عمر، نجل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، وقصة ساعاته الأخيرة، بل وأنفاسه المعدودة قبل مصرعه. كما نلقى الضوء على شخصية محمد عطا، قائد هجمات الحادى عشر من سبتمبر، وكيف كانت توجهاته الفكرية والسياسية قبل انضمامه للقاعدة وبعدها. وأخيرًا، نستعرض قصة أهم فيلم جسد العملية الاستخباراتية التى نفذتها وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) لقتل بن لادن، وتحليل الشخصيات الحقيقية فى الفيلم مقارنة بالواقع.
محمد عطا الساجد.. قائد هجمات 11 سبتمبرالصدام الحضارى أثر فى تكوينه ووجدانهمحمد الأمير الساجد عطا، وُلد عام ١٩٦٨ فى محافظة كفر الشيخ، وترعرع فى حى العمرانية بالقاهرة. تخرج عام ١٩٩٠ فى كلية الهندسة قسم العمارة، بعد ان أتقن اللغة الألمانية بعد ذلك فى معهد "جوته" ثم انتقل لدراسة الهندسة فى جامعة هامبورج بألمانيا، حيث سجل كمواطن عربى الجنسية.
فى نوفمبر ١٩٩٢، بدأ عطا دراسة التخطيط العمرانى للمدن، وكان يحضر المحاضرات بهدوء، ويشارك فيها بشكل لافت للنظر.
فى عام ١٩٩٤، زار إسطنبول ومنها توجه إلى حلب، حيث درس تخطيط منطقة خارج باب النصر فى سوريا، كانت هذه الدراسة أساسًا لأطروحته للماجستير التى أتمها بعد خمس سنوات عن مساجد حلب وعمارتها.
فى العام التالي، ١٩٩٥، عاد عطا إلى هامبورج، وقد أطلق لحيته وبدت عليه مظاهر التدين بعد أن أدى فريضة الحج.
فى أغسطس ١٩٩٥، عاد إلى القاهرة لدراسة أحيائها القديمة، وبقى لمدة ثلاثة أشهر.
الواقع العربى والتحدياتكانت الظروف السياسية فى العراق متوترة بعد غزو الكويت، بينما كانت أمريكا تستعد لغزو العراق. الفلسطينيون ينتفضون فقد اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية بعد زيارة مثيرة للجدل قام بها الزعيم الإسرائيلى اليمينى المتطرف آرييل شارون للحرم القدسى الشريف فتعرض الفلسطينيون للعديد من المذابح، وهنا حدث تدمير المدمرة الأمريكية كول بعد تعرضها لانفجار قوى أثناء تزودها بالوقود فى ميناء عدن فى طريقها للانضمام للقوات الأمريكية المرابضة فى الخليج ورجعت عناصر من المارينز الأمريكى على النعوش إلى نيويورك وفى ألمانيا اشتدت الحركات العنصرية ضد العرب والمسلمين.
كان محمد عطا الساجد فى رحم الغيب فقد كان صغيرًا فى السن حينها، لم يستطع تغيير أى من هذه الأوضاع، فقرر البحث عن عالم جديد عالم مختلف به متغيرات ترضى بعض غرور ما أصاب امة العرب ربما ليس بشعور حقيقى فى البداية فتعمق أكثر فى المجتمع الألمانى بحكم إجادته للغة، واستقر فى هامبورج فى ٢٤ يوليو ١٩٩٢ ليبدأ رحلة مختلفة رحلة سوف تتعرف عليه الأجيال وتكون قدوة للكثيرين فى عوالم التطرف والإرهاب.
ألمانيا ذلك المجتمع العنصريفى عام ١٩٩١، قام "غونتر ديكيرت"، زعيم الحزب الوطنى الديمقراطى الألمانى (يمين متطرف)، بعقد محاضرة استضاف فيها محاضرًا أمريكيًا ادعى خلالها أن قتل اليهود بالغاز لم يحدث، فى مارس ١٩٩٤، حوكم ديكيرت وحُكم عليه بالسجن لمدة عام مع وقف التنفيذ، بالإضافة إلى غرامة خفيفة. هذا الحكم أثار غضب بعض القضاة الآخرين، ما دفع المحكمة الفيدرالية إلى إلغاء الحكم وإعادة المحاكمة.
فى أبريل ١٩٩٤، أعلنت المحكمة الدستورية الألمانية أن أى محاولة لإنكار حدوث الهولوكوست لا تتمتع بحماية حق حرية التعبير، مما دفع البرلمان الألمانى إلى سن قانون يجرّم إنكار الهولوكوست ويعاقب مرتكبيه بالسجن لمدة تصل إلى خمس سنوات.. كان محمد عطا يتابع عن كثب ما يجرى فى أوروبا والعالم العربي.
الصدام الحضارى
الجامعات فى ألمانيا كانت تروج لمثل هذه الأفكار، وكان محمد عطا يشارك فى مناقشتها بصحبة صديق له يدعى محمدو ولد صلاحى موريتانى الجنسية انضم للقاعدة عام ١٩٩٨م سُجِن فى قاعدة جوانتنامو العسكرية سنة ٢٠٠٢ إلى أن أُفرِج عنه فى أكتوبر ٢٠١٦م الذى كشفت وثائق ويكيليكس لاحقًا عن دوره فى دعوة عطا إلى الفكر الإسلامى المتشدد اثناء هذه المحاضرة او بعدها مستغلا ضعف تكوينه العلمى والشرعى وهذا ما ورد أيضا فى اعترافات المتهم احمد السيد النجار بقضية العائدون من ألبانيا.
لم يستطع عطا التوفيق بين الأفكار التى نشأ عليها فى كفر الشيخ ثم حى العمرانية وبين أفكار الغرب التى كانت تدعو إلى الصدام الحضارى والتساهل الفكرى مع عقيدته، وسرعان ما انغمس فى الفكر الذى كان أقرب إليه، وهو فكر تنظيم القاعدة.
حصل عطا على شهادة الماجستير فى تخطيط المدن، وكانت أطروحته حول منطقة خارج باب النصر فى حلب. وجاء فى مقدمة أطروحته الآية القرآنية الكريمة: "قُلْ إِنَّ صَلاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ".
فى الحادى عشر من أبريل عام ١٩٩٦، توجه محمد عطا، الذى كان يبلغ من العمر آنذاك ٢٨ عامًا، إلى مسجد القدس فى هامبورج لتوقيع وصيته، تضمنت وصيته أمورًا تتعلق بآداب الغسل والدفن، وفى هذا المسجد التقى عطا برفقاء الجهاد وفى أواخر ذلك العام، اختفى لأول مرة من هامبورج ليبدأ رحلته لكهوف الإرهاب فى توربورا وجبال كابول.
نشاطه فى القاعدةبعد تحوله إلى الفكر المتشدد، بدأ عطا ينشط فى الدعوة إلى الإسلام داخل المجتمع الألماني. تردد على المساجد وأصبح من أعضاء الجالية الإسلامية فى هامبورج يقول صديقه "محمد بلفاس" عربى الجنسية من الجالية العربية فى همبورج، الذى كان مشتبهًا فيه لدى الألمان لعلاقته بعطا، يقول "إن عطا كان يخفى أسرارًا عن عملية سبتمبر، وأنه رغم تردده على المسجد وحبه لتقديم الخدمات لأصدقائه، لم يكن يشارك فى الأنشطة الاجتماعية العلنية وكان دائم التكتم والسرية.
أما صديقه "نادر العبد"، الذى كان أيضًا على قائمة الاشتباه لمعرفته بأسرار هجمات سبتمبر، فقد طلب من عطا إقناع زوجته الألمانية بالدخول فى الإسلام. تقول الزوجة الألمانية إن عطا كان أفضل من تحدث إليها عن الإسلام، ولم يحاول تغيير رأيها أو دفعها نحو فكر الإسلام الحركي، بل أعطاها معلومات محايدة وأجاب على أسئلتها بصبر، فلم تمر شهور عديدة حتى أشهرت إسلامها.
معسكرات التدريبفى نوفمبر ١٩٩٨، سكن عطا مع شخصين هما سيد بهيجى "قائد معسكرات القاعدة" ورمزى بن الشيبة "يمنى الجنسية"، اللذان عُرفا لاحقًا بانتمائهما لتنظيم القاعدة، وكانا من المقربين من أسامة بن لادن.
تبلورت فى ذهن عطا فكرة الانتقام من الغرب الأمريكي، إذ تشرب فكر القاعدة والجهاد ودرس بعمق فكرة الاستبداد الشرقي، اعتقد عطا أنه لا مفر من مواجهة التحدى الغربى وتلقين أمريكا درسًا يهزم كرامتها وكبريائها، وفى عقر دارها. فى عام ١٩٩٩، التحق بمدرسة الطيران المدنى فى أمريكا، حيث بدأ التدريب.
زلزال ١١ سبتمبرلم يكن هدف "عطا" من تعلم الطيران المدنى مجرد الطيران، فقد كانت الفكرة تعليم الطيران فى المدارس الأمريكية من خالد أبوالدهب ابن أحد الطيارين الثلاثة الذين لقوا مصرعهم فى انفجار طائرة الإعلامية سلوى حجازى عام ١٩٧٣ بصاروخ إسرائيلي، ووقوف أمريكا حنيها لدعم الموقف الصهيونى تجاه ضحايا الطائرة المنكوبة.
كان الهدف اختطاف الطائرات وتحويلها إلى قنابل تنفجر فى مبانٍ ومؤسسات أمريكية. جاءت اللحظة الفارقة فى ١١ سبتمبر ٢٠٠١، عندما قاد "عطا" الطائرة التى اصطدمت بأحد برجى مركز التجارة العالمي، مما شكل زلزالًا غيّر خريطة المنطقة العربية والإسلامية، بل والعالم.
يذكر بعض المحللين الغربيين أن الفقر هو سبب ظهور التشدد الدينى والتطرف الإسلامى والفقر عامل اقتصادي، وهو سبب صالح اجتماعيًا لأن يفجّر الحركات السياسية الاجتماعية. ولكنه هنا لا يفسر اللجوء إلى التيار الدينى خاصة، ولا يفسر وحده وفى ذاته عملية الانتماء للتنظيمات المتطرفة بسبب تطرف الغرب بل والتطرف العلمانى ودعم التيارات الدينية، وهنا يثور السؤال لماذا يتجه الشباب إلى تيارات التطرّف العلماني؟ فى المقابل هنا يضيف المؤولون عاملًا نفسيًا، إذ حلّ الحجاب والجلباب مشكلة الملبس الغالي.
ولكن هذا العنصر النفسى يفسد المسألة، لأنه عنصر قد يفسّر وضعًا فرديًا، ولا يفسر ظواهر عمّت تتطلب الأسباب الاجتماعية والظاهرة الاجتماعية لا يصلح تفسّيرها بعمل واحد فقط، ونحن هنا لا نجد الفقر بحسبانه وضعًا اقتصاديًا، ولكن نجده باعتباره حالة نفسية، يراد بها أن تفسّر ظاهرة اجتماعية، وفى هذا خلط واضح.
ولكن لم يلتفت أحد إلى ما أسماه بعض الباحثين "وعاء السببية" وهو تحدى الغلو الحضاري، وتحدى الغلو العلمانى الذى ينتج عنه تطرف وتشدد دينى ينفجر فى الغرب الأوروبى والأمريكى فيما بعد ذلك الغرب الذى يكيل لقضايا العروب والمسلمين بمكيالين.
عمر نجل بن لادن يروى اللحظات الأخيرة فى حياة شقيقه ووالدهيروى هذه القصة والساعات الأخيرة فى حياة بن لادن عمر نجله، والتى حضر بعض وقائعها ورويت له الجزء الأخير منها أسرته وكان حاضرا فيها "عمار تقي" أحد رفقاء بن لادن أو عبد الله الكويتي، الذى تسبب فى كشف مكانه فى تروابورا بعد أن تم رصد اتصال هاتفى بقيادات القاعدة فى بعض الأماكن، وتتفق هذه الرواية مع ما روته القاعدة فى الذكرى الثامنة لأحداث الحادى عشر من سبتمبر، الشاب عمر كان قد أقر لوالده أسامة بن لادن برواية قصته، مبتدئًا الرحلة من بيشاور إلى لاهور، ثم روالبندي، وصولًا إلى كراتشى وكويتا، وأخيرًا إلى إيران حيث الاعتقال والسجن والأحداث الكثيرة الخشنة والمؤلمة. إلى أن عاد بنا مرة أخرى إلى والده فى أبوت أباد، واصفًا الجرائم التى ارتكبها الأمريكيون هناك. وقد رواها كما سمعها من أفراد الأسرة الذين عايشوها.. وفيما يلى الروية التى ذكرتها مؤسسة النازعات بعنوان " من تورابورا إلى أبوت أبات.. رواية نجل أسامة بن لادن":
الأنفاس قبل الأخيرة
فجر الثانى من مايو ٢٠١١، كان أسامة بن لادن يقيم فى الطابق الثالث من بيت مكوّن من ثلاثة طوابق يحتوى على حديقة فيها بيت للحارس. قبل الفجر سمع أصواتًا غريبة قادمة من الطابق الأسفل، فطلب من ابنه "خالد" أن ينزل ليتفقد الأمر، ولكن خالد لم يصعد إليه مرة أخرى.
الأصوات التى أقلقت بن لادن فى مضجعه كانت صادرة عن هجوم للقوات الخاصة الأمريكية على المنزل، فيما عرف بعملية"جيرونيمو" هو الاسم الحركى الذى اطلقته CIA على عملية قتل زعيم القاعدة أسامة بن لادن التى نفذها جنود من وحدة النخبة فى البحرية الأمريكية "نيفى سيلز"، و"جيرونيمو" هو أحد زعماء قبيلة الأباتشى أحد أشهر قبائل الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين الذين قاتلوا "الأمريكيين البيض" فى القرن التاسع عشر، فقد نفذوا إنزالًا بواسطة طائرات هليكوبتر، وهاجم الجنود من أعلى البيت ومن أسفله. الطائرات كانت خاصة ولا تصدر صوتًا عند التحليق، والأسلحة المستخدمة كانت مزودة بكاتم للصوت. لذا كانت العملية صامتة إجمالًا ولم تلفت انتباه أحد. الصوت الوحيد الذى سُمع فى المنزل والمنطقة المجاورة كان انفجار إحدى الطائرات المهاجمة بينما كانت العملية لا تزال دائرة داخل البيت أو قرب نهايتها، وقد استغرقت وقتًا قصيرًا.
عندما نزل خالد نجل بن لادن إلى الطابق السفلي، أطلق المهاجمون النار عليه وأردوه قتيلًا على الفور. ثم صعدوا إلى الطابق الثالث، ودخلوا وأطلقوا النار على والده فورًا، فسقط على الأرض.
لم يكن بن لادن يحمل سلاحًا وقتها هذه رواية عمر نجل بن لادن، أما رواية القاعدة فتقول كان يرتدى حزامًا ناسفًا وأطلق قذيفة الآر بى جى على الطائرة الأولى فحطمها بالكامل، وعندما قتل أسامة بن لادن فى هذه الأثناء أمسكت زوجته بسلاح الجندى المهاجم واشتبكت معه، فضربها وطرحها أرضًا، وأطلق عليها النار فأصاب ركبتها، وحتى الآن لا تستطيع ثنيها. جمع الجنود الأمريكيون النساء والأطفال فى غرفة واحدة، وضعوا وجوههم إزاء الحائط وقيّدوا أيديهم من الخلف. ثم أحضروا جثة بن لادن ومددوها خلفهم وطلبوا منهم الالتفات والنظر إليها، وسألوهم: "من هذا؟" فردوا عليهم قائلين: "هذا عبد الله". فقد كانت كنية بن لادن أبوعبد الله، فأمروهم بالنظر إلى الحائط مرة أخرى. ثم أخذوا الجثة وغادروا، تاركين جثة خالد فى مكانها.
حضر الباكستانيون وأخذوا النساء والأطفال والدة خالد قبل أن تغادر زوجته المصابة ضمت جثة ابنها وقبلته فى جبينه، ثم مضت.
فى فناء المنزل، كان هناك ملحق يعيش فيه الحارس وأسرته المكونة من زوجة وطفلين، وكان معهم ضيف من أقاربهم تلك الليلة. ذلك الحارس هو نفسه أبو أحمد الكويتى أو أبوعبد الله الكويتي أو عمار تقى روايات كثيرة عن اسمه قام المهاجمون وقتلوهم جميعًا ولم يتركوا خلفهم أحدًا من الأحياء. ثم غادروا بطائراتهم المتبقية، وبدأ المكان يتشح برائحة الدم والدمار.
انتهت رواية نجل بن لادن كما جاءت فى إصدار النازعات يونيو ٢٠٢٤.
تحليل رواية "من تورا بورا إلى أبوت أباد" لنجل أسامة بن لادن
رواية "من تورا بورا إلى أبوت أباد" تقدم رؤية نادرة من داخل الأحداث المتعلقة بأسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة، وذلك من خلال سرد ابنه عمر ويقال إن زوجته اليمنية نقلت له معلومات عن يوم مصرع زعيم القاعدة، هذا الإصدار الإرهابى يمثل شهادة شخصية على فترة زمنية حاسمة، تغطى الهروب المستمر من مطاردات القوات الأمريكية عقب أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ حتى الوصول إلى عملية اغتياله فى أبوت أباد، باكستان عام ٢٠١١. الإصدار ينقسم إلى عدة مراحل، تبدأ من تورا بورا حيث كان بن لادن يختبئ مع أفراد عائلته، وتنتهى فى أبوت أباد. خلال هذا السرد، تتناول الرواية:
١. الهروب والتخفي: يتم التركيز على حياة الهروب التى عاشها بن لادن وأفراد عائلته، متنقلين من مخبأ إلى آخر فى مناطق وعرة وسط ظروف قاسية، يبرز الكتاب القلق المستمر والخوف من القصف والمطاردات.
٢. العلاقات الشخصية والتوترات الداخلية: يكشف الكتاب عن العلاقات المعقدة داخل عائلة بن لادن ومع المحيطين بهم من المجاهدين الأفغان والشخصيات الأخرى مثل حكمتيار. يظهر التوتر والشكوك التى كانت تحيط بعلاقات بن لادن مع بعض هؤلاء الأفراد، مما يعكس انعدام الثقة فى البيئة المحيطة بهم.
٣. التأمل فى المصير والمقاومة: يقدم الكتاب أيضًا تأملات فى مصير تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن نفسه. هناك لحظات من الشك فى الاستراتيجية العامة، وحوارات تعكس التفكير فى الخيارات المتاحة وكيفية التعايش مع الضغوط الهائلة التى كانت مفروضة عليهم.
الرواية تعكس الأيديولوجية الجهادية المتطرفة من خلال عرض الحياة اليومية والتحديات التى واجهها بن لادن وأنصاره. هناك محاولات لتبرير العمليات الإرهابية ضد الأمريكان والجيش الباكستانى والتمسك بالنهج الذى كان يقوده بن لادن، حتى فى ظل الظروف الصعبة والضغوط الخارجية، فالإصدار يقدم بن لادن كقائد مضح، يؤمن بقضيته حتى النهاية، على الرغم من كل المصاعب. يوجهها وينسى ما تسببت فيه عمليته فى العالم الإسلامى بأسره.
إصدار "من تورا بورا إلى أبوت أباد" ليس مجرد سرد تاريخي، بل هو شهادة من الداخل على واحدة من أكثر الفترات اضطرابًا فى التاريخ تنظيم القاعدة الإرهابي، فالرواية تقدم مزيجًا من التأملات الأيديولوجية، والسرد الشخصي، والتجارب الإنسانية، مما يجعلها مصدرًا مهمًا لفهم البعد الشخصى والاستراتيجى لحياة بن لادن خلال سنواته الأخيرة.
30 دقيقة بعد منتصف الليل.. رواية CIA لمقتل بن لادن
يعد فيلم ٣٠ دقيقة بعد منتصف الليل "Zero Dark Thirty" روية CIA لعملية "جيرونيمو" أو الاسم الحركى الذى أطلقته القوات الأمريكية على عملية قتل بن لادن هو فيلم درامى أمريكى صدر عام ٢٠١٢، أى بعد عملية الاغتيال الفعلية فى مايو ٢٠١١م بما يقرب من عام الفيلم من إخراج كاثرين بيغلو وكتابة مارك بوال.
يحكى الفيلم قصة البحث الطويل الذى استمر لعشر سنوات عن زعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، بدءًا من هجمات ١١ سبتمبر ٢٠٠١ وصولًا إلى العملية العسكرية التى نفذتها القوات الخاصة الأمريكية لقتله فى مايو ٢٠١١.
تركز القصة على شخصية "مايا"، وهى محللة استخباراتية شابة تعمل لدى وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، والتى تكرس حياتها لتعقب بن لادن، وشخصية "مايا" قريبة الشبه جدا من شخصية شيريل بينارد (من مواليد ١٩٥٣) كاتبة وروائية أمريكية نمساوية الأصل وباحثة بمركز راند للدارسات الأمريكية، وهى زوجة زلماى خليل زاد سفير الولايات المتحدة السابق لدى الأمم المتحدة وأفغانستان والعراق، وبرنار التى تقوم بدورها "مايا" كانت تحضر التحقيقات بقاعدة جوانتنامو وسجن أبوغريب مع عناصر القاعدة.
يعرض الفيلم بشكل واقعى ومكثف عمليات التحقيق مع عناصر القاعدة، بما فى ذلك استخدام التعذيب، وكيفية جمع المعلومات الاستخباراتية وتحليلها، حتى التوصل فى النهاية إلى مخبأ بن لادن فى باكستان فى أهم عملية استخباراتية حدثت منذ عشرات السنوات.
الفيلم يمزج بين الحقائق والتشويق السينمائي، مما يجعله واحدًا من الأفلام المثيرة التى تقدم نظرة عميقة على عالم الاستخبارات ومكافحة الإرهاب، وقد أثار الفيلم جدلًا كبيرًا بسبب تصويره لعمليات التعذيب واستخدامها كوسيلة لاستخراج المعلومات، مما أدى إلى نقاش واسع حول القضايا الأخلاقية والقانونية المرتبطة بمكافحة الإرهاب، والتى انتهت بقبول الإدارة الأمريكية إقراره بالبراءة والذنب مقابل، مقابل عقوبات مخففة تصدر بحقّهم.
الفيلم عرض بعض الشخصيات الحقيقية مثل أبوعبد الله الكويتي، والذى تتبعته المخابرات الأمريكية ووصلت منه إلى بن لادن فى عملية بوليسية مشوقة ربما لم تكشف من قبل فى أى عمل روائى أو سنمائى أو حتى فى روايات ابن بن لادن التى قدمتها أو روية CIA فى شهادتهم عن الحادث الجلل الذى أصاب أمريكا.
كذلك شخصية الطبيب الأردنى همام خليل البلوى أبو دجانة الذى أوهم المخابرات الأمريكية بأنه يعرف مكان بن لادن وفجر نفسه فى القاعدة الأمريكية بمنطقة خوست الأفغانية قرب الحدود الباكستانية، والتى راح ضحيتها ثمانية أشخاص فى قاعدة أمريكية فى أفغانستان بينهم سبعة من عملاء الوكالة.
الغريب أن عملاء CIA اقتنعوا بأن البلوى عنده معلومات مهمة سوف يدلى بها إلى رجالاتهم وكانت "مايا" أو "شيريل بينارد" تدرس هذه المعلومات لتفاجأ بمقتل صديقتها التى كانت تتولى عملية الحصول على المعلومات فى تفجير قاعدة خوست العسكرية.
فيلم ٣٠ دقيقة بعد منتصف الليل "Zero Dark Thirty" هو فيلم أمريكى من إخراج كاثرين بيغلو وكتابة مارك بوال. يتناول الفيلم أحداث البحث عن زعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، والعملية التى قادت إلى قتلهم. يقدم الفيلم سردًا دراميًا يعتمد على أحداث واقعية، ولكنه فى الوقت نفسه، يثير العديد من التساؤلات المهمة:
تمجيد العمليات الاستخباراتية والعسكرية الأمريكية: الفيلم يقدم وكالة الاستخباراتية الأمريكية (CIA) كقوة فعّالة وضرورية فى مكافحة الإرهاب العالمي، ويروج الفيلم لفكرة أن هذه العمليات الصعبة، بما فى ذلك التعذيب، هى شر لابد منه من أجل حماية الأمن القومى الأمريكى الذى لا يوجد له حدود معروفة المعالم، هذا يعكس وجهة نظر أيديولوجية تعتبر أن أمريكا تبرر أى استخدام وأى وسيلة للوصول لأهدافها، بما فيها تلك التى قد تتعارض مع القيم الإنسانية أو الأخلاقية وأديان الشعوب الأخرى.
٢. التعذيب كأداة ضرورية: الفيلم يثير جدلًا كبيرًا حول استخدام التعذيب خلال التحقيقات مع المشتبه فيهم وهو ما تنفيه أمريكا دائما بأنها تسعى لحقوق الإنسان ودعم منظومتها العالمية، يُظهر الفيلم عدة مشاهد لتعذيب السجناء عرايا، مما يطرح سؤالًا حول ما إذا كان الفيلم يروج لفكرة أن التعذيب كان ضروريًا ومفيدًا فى الحصول على المعلومات التى قادت إلى بن لادن، هذا يمكن تفسيره كترويج غير مباشر لفكرة أن انتهاك حقوق الإنسان يمكن تبريره إذا كان يخدم هدفًا أسمى، وهو ما قد يتعارض مع المبادئ القانونية والأخلاقية الدولية.
٣. الرؤية الأحادية للصراع: الفيلم يقدم الصراع بشكل يكاد يكون أحاديًا، حيث يُنظر إلى الولايات المتحدة على أنها الطرف المحق الوحيد، بينما يظهر الآخر "تنظيم القاعدة" كعدو مطلق بدون استكشاف الأسباب العميقة التى دفعت إلى ظهور مثل هذه التنظيمات المتطرفة التى حذرت منها مصر فى العديد من المناسبات، وهذه النظرة قد تعزز من الأيديولوجية التى تبرر التدخلات العسكرية الأمريكية فى الخارج دون مناقشة التداعيات الأخلاقية والسياسية لهذه التدخلات.. أخيرا.. ٣٠ دقيقة بعد منتصف الليل هو فيلم يحمل فى طياته أبعادًا أيديولوجية قوية تمجد القوة العسكرية والأمنية الأمريكية، مع تهميش للمعايير الأخلاقية العالمية، يعكس الفيلم توجهات سياسية تدعم التدخلات العسكرية والاستخباراتية الأمريكية، فى أى مكان حول العالم، تحليل هذا الفيلم يبرز ضرورة التفكير النقدى فى الرسائل التى تقدمها السينما والدراما التلفزيونية، خصوصًا تلك التى تتعلق بالقضايا العالمية المعقدة مثل الإرهاب والأمن الدولى والشخصيات ذات التأثيرات العالمية.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: أحداث 11 سبتمبر أسامة بن لادن زعیم تنظیم القاعدة أسامة بن لادن ١١ سبتمبر التى کانت محمد عطا الذى کان
إقرأ أيضاً:
أزمة العقل السياسي المصري بين أسر الأيديولوجيا وعجز الواقعية
تعيش مصر منذ عقود أزمة سياسية مستحكمة، لم تكن في جوهرها أزمة أنظمة فقط، بل أزمة عقل سياسي أخفق في إنتاج بدائل حقيقية، وتَعثّر مرارا في تقديم مشروع وطني جامع يلبّي تطلعات الشعب، ويوازن بين المبادئ والمصالح، بين الإيمان بالهوية والانفتاح على التنوع.
ورغم تعاقب الانتكاسات والانقلابات والانفجارات الشعبية، لم تنجح النخب السياسية والفكرية في الخروج من هذه الحلقة المفرغة، وظلت تتعاطى مع السياسة من منطلقات ضيقة، يحكمها إما الولاء الأيديولوجي، أو التنازع الشخصي، أو التبعية للسلطة، أو العزلة عن واقع الناس.
تسعى هذه الدراسة إلى تفكيك أزمة العقل السياسي المصري، من خلال تحليل ملامح الاختلال في بنيته، وتتبع جذوره التاريخية، واستكشاف الإشكاليات الكبرى التي عطّلت نضجه، وعلى رأسها العلاقة المربكة بين الأيديولوجيا والسياسة، كما تقدم الدراسة تصورا أوليا لبناء عقل سياسي راشد، يعيد الاعتبار للسياسة كأداة للتغيير والبناء، لا كحلبة صراع أو ساحة استقطاب.
هذه المراجعة الفكرية ليست دعوة للوم الذات، بل محاولة لاستئناف التفكير من أجل المستقبل، ومن أجل وطن لا يستحق أن يُحكم بالعقل المعطوب، ولا أن يبقى رهينة نخبة عاجزة عن إدراك سنن التحول وشروط النهوض.
المراجعة الفكرية ليست دعوة للوم الذات، بل محاولة لاستئناف التفكير من أجل المستقبل، ومن أجل وطن لا يستحق أن يُحكم بالعقل المعطوب، ولا أن يبقى رهينة نخبة عاجزة عن إدراك سنن التحول وشروط النهوض
المحور الأول: تشخيص الأزمة.. ملامح اختلال العقل السياسي المصري
ظل العقل السياسي المصري على مدار العقود الماضية أسيرا لاختلالات بنيوية عميقة، حالت دون قدرته على إنتاج مشروع وطني جامع، أو قيادة تحول ديمقراطي حقيقي، أو حتى الاستجابة الفاعلة لتحديات الواقع المتغير. ويمكن رصد أهم هذه الاختلالات في ثلاثة ملامح رئيسية:
1- انفصال العقل السياسي عن واقع المجتمع
أول مظاهر الأزمة أن العقل السياسي في مصر، بمختلف تياراته، قد انفصل في كثير من الأحيان عن نبض الشارع ومصالح الناس الفعلية، وراح يشتغل في مساحات نظرية أو نخبوية، معزولة عن هموم الأغلبية. فبدلا من بلورة برامج سياسية واقتصادية تعالج مشكلات المواطن، مثل الفقر، والبطالة، والتعليم، والصحة، والحريات، وانشغل كثير من الفاعلين السياسيين بقضايا رمزية أو صراعات فكرية لا تهم الشارع العام.
وقد أدى هذا الانفصال إلى حالة من الاغتراب السياسي، حيث لم يجد المواطن نفسه ممثلا أو معبّرا عنه في أجندات القوى السياسية، سواء كانت معارضة أم في الحكم، وهو ما سهّل على السلطة الاستبدادية احتكار المجال العام، بحجة ضعف البديل أو غياب الجاهزية.
2- هيمنة الأيديولوجيا على حساب المصلحة العامة
العقل السياسي المصري عانى أيضا من الجمود الأيديولوجي، حيث تحوّلت كثير من القوى إلى أسر معتقداتها وأفكارها، دون القدرة على تطويرها أو مواءمتها مع تطورات الواقع. وبدلا من أن تكون الأيديولوجيا إطارا مرنا يُرشد الفعل السياسي ويوجه بوصلته نحو المصلحة العامة، أصبحت قيدا يعطل الفاعلية، ويُقصي المختلف، ويحول دون بناء التوافقات الوطنية الضرورية.
وقد دفعت مصر ثمنا باهظا لهذا الخلل، سواء في لحظات التحول (كما بعد ثورة يناير)، أو في سياق العمل السياسي اليومي، إذ أن عجز القوى السياسية عن تقديم خطاب جامع نابع من احتياجات الناس ومصالحهم، وفّر الأرضية لعودة الاستبداد واستئثاره بالمشهد السياسي، بل وصوّر الديمقراطية على أنها فوضى، والمعارضة على أنها خيانة او طمع في السلطة.
3- غياب المشروع الوطني الجامع
واحدة من أبرز نتائج انفصال العقل السياسي عن المجتمع، وهيمنة الأيديولوجيا عليه، هي العجز عن بلورة مشروع وطني جامع، تتقاطع فيه مصالح الجميع وتتسع مظلته لكافة الأطياف. لقد بقيت كل قوة سياسية تقريبا تدور في فلك مشروعها الخاص، أو تصورها الأحادي للدولة والمجتمع، دون إدراك أن أي مشروع للتغيير لا يمكن أن ينجح إلا إذا ارتبط برؤية وطنية شاملة، يتشارك فيها الجميع، وتراعي التعدد والتنوع وتقوم على قواعد مشتركة.
وهكذا، لم تُفلح أي من النخب السياسية في صناعة عقد اجتماعي جديد يعيد ترتيب العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ويضع أسسا عادلة لبناء دولة حديثة. وتُركت الساحة فارغة أمام منطق القهر والاستئثار، في ظل غياب العقل الجمعي الذي يُدير التنوع بدل أن يخافه، ويوجه الخلاف بدل أن يستثمره لصالح القمع.
خلاصة هذا المحور أن العقل السياسي المصري ظل عاجزا عن التوفيق بين القيم التي يؤمن بها، والمصالح التي يحتاجها المجتمع، وبين الرؤية والنزول إلى الميدان، وبين المثالية والواقعية. وقد ساهم هذا العجز، بشكل مباشر، في تمكين الاستبداد، وتبديد فرص التغيير، وتكريس الفشل السياسي، رغم وجود طاقات بشرية هائلة، وتاريخ نضالي طويل، وطموحات شعبية لا تنضب.
المحور الثاني: الجذور التاريخية لأزمة العقل السياسي المصري
لا يمكن فهم الأزمة الراهنة للعقل السياسي المصري بمعزل عن سياقها التاريخي الممتد، فقد نشأت هذه الأزمة وتعمّقت عبر مراحل متعاقبة، تراكمت خلالها عوامل الإقصاء والتأميم والاستبداد، مما أسس لنمط تفكير سياسي هش، لا يؤمن بالشراكة، ويعجز عن التفاعل المرن مع التحولات. ويمكن تتبع هذه الجذور في ثلاث محطات رئيسية:
1- تراكمات ما بعد ثورة 1952: احتكار المجال السياسي وإعادة تشكيل الوعي
أحدثت حركة يوليو 1952 قطيعة كبرى مع التعددية السياسية التي عرفتها مصر في الحقبة الليبرالية، حيث أُقصيت الأحزاب، وأُمّمت النقابات، وسُحقت الحركة الطلابية، وتمت هندسة الحياة العامة بالكامل لصالح سلطة فردية مركزية. وقد امتد هذا التأميم إلى العقل السياسي نفسه، إذ جُرّد من أدوات التفكير المستقل، وحُصر في قوالب الولاء، والشعارات التعبوية، والانصياع لـ"الزعيم الملهم".
وفي هذا السياق، نشأت أجيال من السياسيين والمثقفين على عقل خاضع، لا يرى التعدد قيمة، ولا المعارضة ضرورة، ولا التوافق قاعدة للعمل العام. وهو ما أدى إلى تحلل القدرة على بناء عقل سياسي حر، جمعي، نقدي، وشجاع.
2- حقبة الانفتاح وما بعدها: صعود الفردانية وتآكل المشروع العام
مع التحول الاقتصادي الذي بدأ في السبعينات، والذي عُرف بـ"سياسات الانفتاح"، تراجع ما تبقى من المشروع العام للدولة، وبدأت تتحول البنية السياسية والاجتماعية نحو الأنانية السياسية والمصلحية الضيقة. وتعمق ذلك في عهد مبارك، حيث أصبحت السياسة لا تُنتج الأفكار، بل تُدار عبر شبكات المصالح والفساد والتحالفات الأمنية.
في هذه المرحلة، تآكل الهمّ الوطني العام لصالح الحسابات الشخصية أو الحزبية الضيقة، وفقدت النخبة السياسية القدرة على التفكير الاستراتيجي أو العمل الجماعي. كما أن الصراع بين التيارات، خاصة بين الإسلاميين والعلمانيين، تحوّل من صراع مشروع إلى اقتتال رمزي وفكري مزمن، قضى على أي إمكانية لبناء كتلة وطنية متماسكة.
3- ما بعد ثورة يناير: الفرصة الضائعة وتكرار أنماط الفشل
أزمة العقل السياسي المصري ليست طارئة، بل هي نتاج مسار تاريخي طويل من القهر، والاختزال، والضعف المؤسسي، والتنازع الداخلي، وهي بحاجة إلى مراجعة جذرية وشجاعة تعيد الاعتبار للعقل الجمعي، وتُحرر السياسة من قبضة الاستبداد والإيديولوجيا المغلقة الجامدة
كانت ثورة 25 يناير 2011 لحظة استثنائية لكسر الجمود، وإعادة تشكيل العقل السياسي المصري على أسس جديدة: التعدد، والمشاركة، والشفافية، والمواطنة. لكن للأسف، سرعان ما تكررت أنماط الإقصاء والتنازع والاستئثار، وبرز عجز القوى المختلفة عن إدارة التنوع وتقديم مشروع وطني جامع.
انقسم المشهد بين تيارات ترى نفسها الأحق بالشرعية، وأخرى تتخوف من هيمنة الخصم، بينما ظل المواطن العادي يتطلع إلى حلول لمشاكله الحياتية دون أن يجدها في أي خطاب. وقد أدى ذلك إلى سقوط سريع في الفوضى والانقسام، ثم إلى عودة سريعة ومُحكمة لمنظومة الاستبداد، التي وجدت في اختلافات المعارضة وعجزها وقودا إضافيا لترسيخ سلطتها.
خلاصة هذا المحور أن أزمة العقل السياسي المصري ليست طارئة، بل هي نتاج مسار تاريخي طويل من القهر، والاختزال، والضعف المؤسسي، والتنازع الداخلي، وهي بحاجة إلى مراجعة جذرية وشجاعة تعيد الاعتبار للعقل الجمعي، وتُحرر السياسة من قبضة الاستبداد والإيديولوجيا المغلقة الجامدة.
المحور الثالث: نحو عقل سياسي راشد.. من الاستقطاب إلى البناء
إذا كانت المحاور السابقة قد شخصت أبعاد أزمة العقل السياسي المصري وجذورها، فإن هذا المحور يسعى للإجابة عن السؤال المركزي: كيف ننتقل من العقل السياسي المأزوم إلى عقل سياسي راشد؟ أي كيف نبني عقلا سياسيا يُجيد الموازنة بين المبادئ والمصالح، يُدير التنوع بدل أن يسقط أمامه، ويُقدّم مشروعا وطنيا جامعا يتجاوز الانقسام الأيديولوجي؟
1- ملامح العقل السياسي الراشد
العقل السياسي الراشد ليس عقلا "توفيقيا ساذجا"، بل عقل نقدي واقعي قادر على الجمع بين:
• القيم والمصالح: فهو لا يتخلى عن المبادئ، ولا يغفل احتياجات الناس، بل يدمج بينهما في صياغة الرؤية والموقف.
• الواقعية دون انتهازية: يُدرك موازين القوى ويتعامل معها، دون أن يُفرط في أهدافه أو يستسلم للواقع.
• البراغماتية الوطنية: يُراعي أولويات المجتمع وظروفه التاريخية، ويُعيد ترتيب الأولويات وفقا لمصلحة الوطن لا مصلحة التيار.
2- أدوات تجديد العقل السياسي
لكي يُولد عقل سياسي راشد، لا بد من توفير بيئة معرفية وتنظيمية وأخلاقية تُحفّز هذا التحول، من خلال:
• تجديد الخطاب السياسي داخل التيارات الكبرى: بمراجعة الذات، والانفتاح على النقد، وتطوير الخطاب من الشعارات إلى البرامج.
• بناء مؤسسات تشاركية: تتجاوز المركزية الفردية والزعامة الكاريزمية، نحو هياكل جماعية تشجع المشاركة وتداول الأفكار.
ما تحتاجه مصر اليوم ليس فقط تغيير النظام، بل تجديد العقل الذي يُنتج السياسة، ويصوغ البدائل، ويقود التغيير؛ عقل لا يرى في الدين خصما، ولا في التنوع تهديدا، ولا في السياسة مغنما شخصيا، بل مشروعا أخلاقيا ووطنيا وإنسانيا، يرتكز على العدالة، والكرامة، والمصلحة العامة
• تعميق فهم المجتمع وتاريخه وتحولاته: فالسياسة لا تُبنى على النصوص فقط، بل على وعي عميق بنبض الناس وطبيعة اللحظة.
3- من الأيديولوجيا إلى المشروع الوطني
التحول المفصلي المطلوب هو الانتقال من عقل يدور حول نفسه، إلى عقل يدور حول الوطن. وهذا يتطلب:
• أن تتحول الأيديولوجيا من هوية مغلقة إلى إطار مرجعي مرن يسهم في صياغة مشروع وطني أوسع.
• أن تُعاد صياغة مفردات الخطاب السياسي بلغة تتجاوز الجمهور الحزبي إلى المواطن العادي، تُخاطب حاجاته لا انتماءه فقط.
• أن تُبنى تحالفات وطنية عريضة على أساس المصالح العامة الجامعة لا الانتماءات الضيقة، وتُدار الخلافات ضمن آليات تضمن استمرار التعاون.
إن بناء عقل سياسي راشد ليس رفاهية فكرية، بل ضرورة وطنية لإنقاذ مصر من تكرار الفشل والانهيار.. فلا مشروع للتغيير بدون عقل يجيد رؤية الواقع، وقراءة الممكن، وبناء الثقة، وتقديم الحلول.. ولا نهضة حقيقية دون وعي سياسي يحرر نفسه من أسر الأيديولوجيا، دون أن يفقد بوصلة المبادئ، ويُنزل السياسة من سماء الشعارات إلى أرض الناس وهمومهم.
لقد كشفت التجربة السياسية المصرية، منذ منتصف القرن العشرين وحتى اليوم، عن فشل بنيوي في إنتاج عقل سياسي قادر على إدارة التنوع، وصياغة التوافق، وصناعة الأمل. وهو فشل لم يكن حتميا، لكنه كان نتيجة طبيعية لعوامل التهميش والاستبداد، والعجز عن تجاوز الأيديولوجيا المغلقة، والانفصال عن واقع الناس ومصالحهم الحقيقية.
وإذا كانت الأنظمة الاستبدادية تتحمّل القسط الأكبر من المسؤولية، فإن النخب السياسية والفكرية لم تكن بريئة من هذا العطب، إذ كثيرا ما اختارت الاستئثار بدل الشراكة، أو العزلة بدل التواصل، أو الشعارات بدل البرامج.
ما تحتاجه مصر اليوم ليس فقط تغيير النظام، بل تجديد العقل الذي يُنتج السياسة، ويصوغ البدائل، ويقود التغيير؛ عقل لا يرى في الدين خصما، ولا في التنوع تهديدا، ولا في السياسة مغنما شخصيا، بل مشروعا أخلاقيا ووطنيا وإنسانيا، يرتكز على العدالة، والكرامة، والمصلحة العامة.
هذه دعوة لإعادة التفكير من الجذور، ولصياغة عقل سياسي يليق بوطن بحجم مصر، ويؤمن أن الحرية لا تصنعها الشعارات، بل تصنعها العقول التي تملك الجرأة على المراجعة، والحكمة في البناء، والإخلاص في خدمة الناس.