هل تستطيع العولمة الصمود في ظل الشِّقَاق الأمريكي الصيني ؟
تاريخ النشر: 20th, September 2024 GMT
منذ بداية عولمة حقبة ما بعد الحرب الباردة استثارت سلسلةٌ من الصدمات تنبؤاتٍ قاتمة بزوالها. فهجمات الحادي عشر من سبتمبر والأزمة المالية العالمية وإغلاقات كوفيد-19 وحرب أوكرانيا اقترنت كلها بمخاوف من تحوّلها إلى عائق أمام حركة التجارة الدولية.
لكن في كل مرة كان نظام التجارة ينجو بل يزدهر فسلاسل التوريد استمرت في التمدد وتطويق العالم.
الآن تواجه التجارة العالمية أكبر تحدٍّ لها. إنه تنافس القوى العظمى بين الولايات المتحدة والصين. رئيس وزراء استراليا السابق كيفن رود استعرض في حديث له عام 2019 مخاطر تقليص الروابط الاقتصادية بين البلدين. قال: «التفكيك التام لروابط العالم سيقوض افتراضات النمو الاقتصادي العالمي خلال الأربعين عاما الأخيرة وينذر بعودة الستار الحديدي بين الشرق والغرب».
بعد خمس سنين لاحقا ها هو التنافس الأمريكي الصيني يشكل تهديدا حقيقيا للعولمة. فبكين وواشنطن تستخدمان الدعومات (الإعانات المالية) والرسوم الجمركية وضوابط التصدير لكي تتنافسان على المعادن الحيوية والميزة التقنية في قطاعات تمتد من أشباه الموصلات والطاقة النظيفة والاتصالات اللاسلكية إلى السيارات الكهربائية والذكاء الاصطناعي وحوسبة الكوانتم.
في يوليو قالت نجوزي أوكونجو-ايويلا المدير العام لمنظمة التجارة العالمية «هذه أوقات مزعجة للتجارة الدولية. وسط التوترات الجيوسياسية وعلى خلفية أزمة المناخ نحن نشهد ازدياد الحمائية». وأضافت قائلة بعد سنوات من الحديث عن فك الارتباط «ربما بدأت التجارة في التشظي على أسس جيوسياسية».
ويشعر واضعو السياسات في الولايات المتحدة الآن بضغوط تدفعهم إلى المزيد من التشدد وقطع الروابط الاقتصادية.
تسييس قواعد التجارة
التصدعات تبدو في الاقتصاد العالمي مع التسييس المتزايد لشبكات نقل البضائع والسلع والمعلومات وهي القواعد التي ترتكز عليها التجارة الدولية.
لكن على الرغم من هذه الضغوط السياسية أثبتت التجارة الدولية مرونتها على نحو مدهش. لقد أكدت عدة دراسات أن الأدلة غير قاطعة على وجود تصدع جذري في الاستثمار والتجارة حتى مع التحول إلى الحمائية في الولايات المتحدة وحروب الرسوم الجمركية مع الصين.
يقدر خبراء منظمة التجارة العالمية بعد تقسيمهم البلدان إلى كتلتين جيوسياسيتين تتمركزان حول الولايات والصين أن تجارة السلع منذ نشوب حرب أوكرانيا شهدت نموا أقل بنسبة 4.2% بين الكتلتين مقارنة بمعدل نموها داخلهما. كما وجدت دراسات صندوق النقد الدولي أيضا معدلات تجارة واستثمار أجنبي مباشر أقل نسبيا بين الكتلتين الجيوسياسيتين مقارنة بالمعدلات داخلهما. لكن هذه الدراسات تشير إلى أن الاختلافات حتى الآن صغيرة نسبيا.
يقول سيمون افينيت أستاذ الجغرافيا السياسية والاستراتيجية بمدرسة الأعمال التابعة للمعهد الدولي للتنمية الإدارية في سويسرا «مدى تشاؤمك تجاه العولمة يعتمد بقدر كبير على المقياس الذي تستخدمه». لقد تعافت تجارة السلع الدولية من صدمة كوفيد. وأداء تدفقات البيانات عبر الحدود والخدمات، خصوصا الخدمات الميسرة رقميا، ظل جيدا.
تعود تلك المرونة إلى عاملين هما القدرة السلسة على التكيف من جانب الشركات متعددة الجنسية والحكومات البراجماتية التي امتنعت حتى الآن عن الانحياز إلى أحد الطرفين. ففي وجه العواصف الجيوسياسية المتزايدة شكلت بلدان عديدة وخصوصا البلدان متوسطة الدخل عامل ثبات ضد مزيد من الاضطراب. فقد توصلت أبحاث صندوق النقد الدولي إلى أن «مجموعة من البلدان غير المنحازة خلافا للسنوات المبكرة في حقبة الحرب الباردة تتسارع أهميتها وتؤدي دور الجسر الذي يربط بين الكتلتين. كما رجحت أبحاث الصندوق أن ظهور هذه البلدان الرابطة جلب المرونة للتجارة والنشاط الدوليين».
بالنظر إلى التوترات المتزايدة بين واشنطن وبكين يثور السؤال التالي: إلى متى يمكن أن تستمر هذه المجموعة من البلدان غير المنحازة في معظمها في منع مركز التجارة العالمية من التصدع؟
في الوقت الحالي يتخذ تنافس القوى العظمى شكل صراع أقل مستوى في مجموعة من القطاعات المهمة استراتيجيا.
مجالات التنافس
تدور إحدى المعارك المستمرة لفترة طويلة حول تقنية الجيل الخامس للهاتف المحمول والتي ضغطت فيها الولايات المتحدة على الحلفاء لاستبعاد شركة هواوي الصينية من شبكاتها خشية من احتمال استخدامها لأغراض التجسس. لقد تفاوتت ضغوطها بين النجاح والفشل. فأستراليا واليابان حظرتا هواوي تماما. وبريطانيا التي كانت في البداية متحمسة تجاه هواوي غيرت موقفها وحذت حذوهما على الرغم من أنها حددت لحظرها موعدا نهائيا بعيدا هو عام 2027. وسمحت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والبلدان الآسيوية بإدخال تقنية هواوي في أنظمتها بدرجات متفاوتة.
السيارات الكهربائية مصدر آخر للتوتر. فمن خلال رسوم جمركية ودعومات مالية ضخمة حاولت إدارة بايدن إيجاد سوق مستقلة للسيارات الكهربائية في أمريكا الشمالية.
في الشهر الماضي خضعت كندا لضغوط دبلوماسية من واشنطن وأعلنت أنها ستفرض رسوما جمركية بنسبة 100%. وهي نسبة الرسوم نفسها الأمريكية على السيارات الكهربائية الصينية.
المواد الحيوية مجال ثالث للشجار بين الصين والولايات المتحدة. لقد أوجد التحول إلى الطاقة الخضراء تدافعا جيوسياسيا لتأمين الإمدادات بما في ذلك المعادن النادرة والليثيوم والنيكل. والصين هي الأشد شراسة والأفضل استعدادا في هذه المعركة.
إندونيسيا على سبيل المثال هي أكبر مصدر للنيكل في العالم. وكان المستثمرون الكنديون أول من شرع في استخراجه من الأجانب. لكن الصين كانت لديها القدرة على الاستثمار بكثافة في معالجته وتكريره ثم شراء المنتج النهائي. تنخرط الولايات المتحدة الآن في معركة بسط النفوذ بعرض إعفاءات ضريبية للنيكل الإندونيسي طالما لا تسيطر الشركات الصينية على إنتاجه.
تستخدم بكين أيضا ضوابط التصدير لتعزيز موقفها. ففي يوليو الماضي أعلنت الصين عن فرض قيود على مبيعات الغاليوم والجيرمانيوم وهما معدنان نادران يستخدمان في أشباه الموصِّلات. أعقب ذلك الإعلان ارتفاع حاد في أسعارهما العالمية.
الاتحاد الأوروبي لديه أدوات أضعف من تلك التي لدى بكين أو واشنطن لكنه وقّع اتفاقيات إمداد بالمعادن مع البلدان المصدرة بما في ذلك اتفاقية أبرمها مؤخرا مع صربيا.
في حالة شيلي والتي تنتج الليثيوم سعت بروكسل إلى إرضاء الحكومة بتعديل اتفاقية تجارية لتمكين بيع بعضه بسعر رخيص داخل البلد تشجيعا لمعالجته محليا.
لكن تظل قوى السوق والحكومات البراجماتية قوى صلبة ضد تشظي التجارة العالمية.
القوى التجارية تتحوط وتتخذ قراراتها لكل قضية بمفردها. ففي موضوع السيارات الكهربائية على سبيل المثال يريد الاتحاد الأوروبي التعاون مع الشركات الصناعية الصينية بدلا من إقصائها كما تفعل الولايات المتحدة. لقد فرض رسوما جمركية مؤقتة وبالغة التدني على السيارات الكهربائية الصينية ويشجع الشركات الصينية على الإنتاج في أوروبا. وبلدان الدخل المتوسط (الهند وإندونيسيا والبرازيل) كثيرا ما تتودَّد إلى استثمارات السيارات الكهربائية.
مؤخرا استحدثت العديد من بلدان الدخل المتوسط (الهند وإندونيسيا والبرازيل) رسوما على واردات من الصين في قطاعات كالصلب والأقمشة، فيما أبقت على تكاملها مع سلاسل توريد السلع الأخرى التي تهيمن عليها الصين. وأستراليا رغم أنها حليف قوي للولايات المتحدة في سياستها الخارجية استأنفت مبيعات الفحم الحجري للصين بعد رفع الصين الحظر على صادراتها.
أما المعادن الحيوية، فمن الصعب محاصرة إمدادات سلعة ما بشكل دائم خصوصا السلع شديدة التقلّب. لقد تسبب التدافع العالمي على الليثيوم في زيادة العرض وانخفاض الأسعار وحفز على إجراء أبحاث على بطاريات أيونات الصوديوم المنافسة. كما انهارت أيضا أسعار النيكل وقلل ذلك من الدور المحوري لأنشطة الصين في إندونيسيا.
يلاحظ جاك بيدير مدير شركة معلومات سوق المواد الحيوية «بروجيكت بلو» أن قيود الصين على تصدير الغاليوم أعقبتها زيادات سريعة في إنتاج المعدن في الصين وصادراته من فيتنام، مشيرا بذلك إلى أن المنتجين الصينيين ربما يتجنبون هذه القيود، فيقول: «على المستوى الوطني قد يهتموا بالخطاب السياسي المتبادل بين بكين وواشنطن لكنهم محليا أكثر اهتماما بإيجاد الوظائف». قوى السوق أيضا تقاوم تفكك سلاسل التوريد. يقول رايان بيترسون الرئيس التنفيذي لشركة الشحن والتخليص الجمركي «فليكسبورت» هذه الصناعة تتعلم التكيف مع التغيرات الجيوسياسية،
لقد أصبحت بلدان مثل المكسيك وفيتنام «وسيطة» بين الولايات المتحدة والصين مع ما ينطوي عليه ذلك من تقليل للكفاءة ولكنه يحافظ على جدوى طرق الإمداد. لقد تدنت واردات الولايات المتحدة من الصين لكن وارداتها من البلدان التي تعتمد على مدخلات صينية شهدت ارتفاعا.
تقول اميلي كيلكريز وهي زميل أول بمركز الأمن الأمريكي الجديد «سيكون هنالك المزيد من الازدواجية في سلاسل التوريد، لكن من الممكن أن يعني ذلك المزيد من التنافس، وهذا جيد».
الكابلات البحرية
المجال الآخر الذي تتجلى فيه التوترات الأمريكية الصينية يتمثل في البنية التحتية التي تربط أجزاء الاقتصاد العالمي. فشبكات التجارة والاتصالات التي كانت محايدة نسبيا في وقت ما مثل ممرات النقل البحري وخطوط أنابيب النفط والغاز وكابلات البيانات تحت البحر والأقمار الصناعية اجتاحتها السياسة. يقول ادريان كوكس محلل الأسواق بمصرف دويتشه بانك «الحكومات تدرك باطراد أن الأمن يمتد من قعر البحر إلى عنان السماء. والبنية التحتية (كطرق النقل وخطوط أنابيب الطاقة وشبكات الاتصالات) التي تحيط بنقاط ضعف الاقتصاد العالمي (كسلاسل التوريد وتدفق الطاقة والاتصالات) تكون في العادة نائية وعابرة للحدود وهشة ماديا ويصعب الوصول إليها وتصعب صيانتها ولا يكاد يوجد تنظيم لها أو إشراف قانوني عليها».
تشعر الحكومات بقلق متزايد من الاعتماد على بلدان أجنبية معادية وشركات خاصة متقلبة في مجال الاتصالات تحت البحر أو في الفضاء. ومع ازدواجية سلاسل التوريد يمكن أن يوجد تشييد أنظمة اتصالات متعددة سعة احتياطية ومرونة. وهذا هو الجانب الإيجابي. تمثل كابلات الألياف البصرية تحت الماء الشرايين العالمية لشبكة الإنترنت. إنها بسماكة خراطيم ري الحدائق وتتكون من أكثر من 400 نظام بطول 1.4 مليون كيلومتر ومعظمها يوجد مكشوفا في قاع البحر. وهنالك مخاوف منذ فترة طويلة من تعرضها للقرصنة أو التلف. لكن عندما تتعرض للقطع دون قصد بمراسي السفن يمكن لمقدمي البيانات الحفاظ على الخدمة عبر تحويل الحِزَم إلى مسارات أخرى.
التهديد من المنافسين الجيوسياسيين أكثر جذرية. يذكر تقرير بحثي من مركز الأبحاث «مؤسسة هاينريش» أن منظومة الكابلات البحرية تتفرع إلى مجالات نفوذ أمريكية وصينية. يقول اليكس كابري معدّ التقرير والمحاضر بمدرسة الأعمال التابعة لجامعة سنغافورة الوطنية «تطوير شبكة الكابلات البحرية العالمية أحد الأمثلة لعالم تُوجِد فيه الضرورات الجيوسياسية أنظمةً تقنية مزدوجة».
تتولى شركات من بينها جوجل ومايكروسوفت مهمة تركيب الكابلات وصيانتها. لكن هذه الشركات تتعرض لضغوط مكثفة من حكومة الولايات المتحدة كي لا تتعامل مع الشركات الصينية كشركة «اتش إم إن تكنولوجيز» والتي كانت تملكها هاواوي سابقا.
أحد أكبر مشروعات الكابلات في العالم هو مشروع منظومة كابلات «جنوب شرق آسيا- الشرق الأوسط - أوروبا» والتي تمتد من سنغافورة إلى فرنسا مرورا ببلدان مثل ماليزيا والهند وباكستان وبتكلفة 600 مليون دولار. تحت ضغط دبلوماسي مكثف من الولايات المتحدة اختارت الحكومات التي تقع بلدانها على طول مسار هذه المنظومة الشركة الأمريكية «سبكوم» لتنفيذ المشروع بدلا عن شركة «اتش أم ان تيكنولوجيز» الصينية. بعد ذلك انسحبت اثنتان من أكبر شركات الاتصالات في الصين هما «شاينا تيليكوم وشاينا موبايل» من المشروع. مع ذلك تنفذ اتش أم إن تكنولوجيز وشركاء صينيون آخرون منظومة كابلات منافسة على طول مسارات شبيهة ما يعني أن هنالك منظومتين لربط الاتصالات بدلا عن واحدة.
الأقمار الصناعية
أنظمة الأقمار الصناعية يجري أيضا تسييسها واستنساخها. لقد اعتمد العالم لعقود عديدة على النظام الأمريكي العالمي لتحديد المواقع. لكن الصين (بيدو) وبلدان الاتحاد الأوروبي (جاليليو) وروسيا (جلوناس) شيدت الآن أنظمتها الخاصة بها. وتنشئ اليابان والهند أيضا أنظمة لكي تغطي كل منها منطقتها. وحفز على المشروع الهندي رفض الولايات المتحدة استخدام الهند نظامها أثناء نزاع كارجل مع باكستان في كشمير عام 1999.
فيما يخص الأقمار الصناعية التي تقدم خدمة الإنترنت، الحكومات لم تعد راغبة في الاعتماد كثيرا على مجموعة أقمار «ستارلنك» التي يديرها ايلون ماسك. ففي الولايات المتحدة تنشئ أمازون نظام شبكة ضخمة للأقمار الصناعية تحت مسمى كايبر. ولدى الصين ثلاثة أنظمة منفصلة قيد التطوير، وأطلقت أول دفعة من مجموعة أقمار نظام كيانفان (سبيس سيل) الذي تدعمه الدولة في شهر أغسطس. ويقول أنطوان جرينيير أحد شركاء ميسون أناليسيس الاستشارية «موضوع (أنظمة الأقمار الصناعية) شديد الارتباط بالاستراتيجيات الجيوسياسية في المدى البعيد. بناء أحد هذه الأنظمة مثل إيجاد جيش احتياط، إنه باهظ التكلفة وقد لا تحتاج إليه، لكنه تحت سيطرتك وأكثر أمانا». ويضيف الرجل قائلا: «تكلف أنظمة الأقمار الصناعية هذه عشرات البلايين بعد كل أعوام قليلة، هذا مبلغ كبير لكن دفعه مستحَق على الأرجح. سيلزم القوى الوسيطة استخدام أجهزة وأنظمة متوافقة مع مزودي خدمة متعددين، وهذه نتيجة غير مرضية، لكن نسبيا لا بأس بها».
لقد اتجه الاتحاد الأوروبي نحو إيجاد أسطول (شبكة) أقماره الصناعية الخاصة به ( ايريس)، لكن تنفيذه تباطأ بسبب الجمود المؤسسي المألوف للاتحاد. وتقول ألمانيا إن المشروع باهظ التكلفة ويخضع لمصالح صناعة الفضاء الفرنسية. ويقول جرينيير أوروبا حاليا تعكف على مراجعة مشروع ايريس ولم تنته من ذلك بعد.
نظام واحد أم تكتلات تجارية؟
مع احتدام التنافس الأمريكي الصيني تتعرض أنظمة الحوكمة الحالية لإجهاد حاد. هل لا يزال من الممكن أن تتعاون الحكومات لفرض الضوابط القانونية التي تمنع النظام العالمي من التشظي؟ أم أنها في الواقع تسرِّعه بإيجاد تكتلات تجارية منفصلة؟ الإجابة المختصرة ربما لا هذا ولا ذاك، فالتعددية ضعيفة، والولايات المتحدة تقوض منظمة التجارة العالمية بالحديث عن وجود ثغرة «أمن قومي» لكي تنتهك القواعد وقتما تشاء. لقد كسب الاتحاد الأوروبي قضية ضد إندونيسيا حول حظر تصدير النيكل لكن نظام تسوية النزاعات المختل الخاص بمنظمة التجارة العالمية أجَّل تنفيذ الحكم. هذا لا يعني أن التكتلات التجارية الإقليمية أو الجيوسياسية ستبدأ في وضع قوانين التجارة بدلا عنها.
ما تقوله الولايات المتحدة عن بناء التحالفات شيء جيد، لكن الأجواء السياسية المؤذية التي تحيط بالاتفاقيات التجارية في واشنطن (مثل الحمائية والقومية الاقتصادية) تحول بينها وبين فتح الأسواق الأمريكية لحفز البلدان الأخرى على الانضمام إلى هذه التحالفات. فاتفاقية الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادي وهي المبادرة الرئيسية للولايات المتحدة في هذه المنطقة تعتبر كلها وعلى نطاق واسع «عصاة بدون جزرة».
هنالك المزيد من المجموعات غير الرسمية بما فيها مجموعة السبع التي تهيمن عليها الولايات المتحدة وتضم البلدان الغنية ومجموعة بلدان الدخل المتوسط (البريكس) بقيادة الصين. لكن بخلاف بعض القضايا المحددة مثل عقوبات مجموعة السبع على روسيا لا يمكن لبلدانها الوصول إلى توافق كاف لاتخاذ إجراء جماعي.
حول موضوع المواد الخام أوجدت بلدان الاقتصادات المتقدمة والمتماثلة في النظرة شراكة حول المواد الحيوية بعضوية 15 بلدا لمحاولة ضمان إمداداتها. لكن جاك بيدير مدير شركة بروجيكت بلو يقول ليس هنالك دليل يذكر حتى الآن على فعالية هذه الشراكة.
يبدو أن المستقبل في الأجل المتوسط قد يتحدد كصراع بين واشنطن وبكين من أجل الغلبة أو على الأقل المرونة (القدرة على التكيف مع الأوضاع المتغيرة) والذي يهدد دائما بتغليب الأمن القومي على الكفاءة الاقتصادية. وستتمثل القوة الموازنة لهذا الصراع في الامتناع عن اتخاذ موقف جيوسياسي من جانب الحكومات والقدرة غير المحدودة لمديري سلاسل توريد الشركات متعددة الجنسية على إبداع الحلول. هذه الضغوط الموازنة والمحررة للتجارة تغلبت في الماضي، لكن القوى المركزية الطاردة والتي تفكك النظام التجاري لا تزال، إلى حد بعيد، خصمها الأشد شراسة حتى الآن.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: السیارات الکهربائیة الولایات المتحدة الاتحاد الأوروبی التجارة العالمیة الأقمار الصناعیة سلاسل التورید المزید من حتى الآن
إقرأ أيضاً:
تداعيات معارك ترامب.. الولايات المتحدة تواجه خطر فقدان نفوذها في القارة مع توسّع نفوذ الصين
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق فيتنام وتايلاند وماليزيا تتجه إلى بكين للتعاون الاقتصادى والشراكات الأمنية.. وواشنطن تبدو أقل التزامًا بنظام إقليمى مستقرإصرار الرئيس الأمريكى على ربط الإنفاق الدفاعى بالاتفاقيات التجارية أفقد الثقة فى البيت الأبيض كشريك أمنى موثوق
فى عهد الرئيس دونالد ترامب، انحرفت السياسة الأمريكية تجاه آسيا إلى اتجاه غير متماسك وغير مُجدٍ، ما أدى إلى تفاقم التحديات التى تدفع المنطقة نحو الصين. هذا التحول، الذى اتسم بالرسوم الجمركية والعزلة الاقتصادية الذاتية والسياسة الخارجية غير المتوقعة، يهدد بتقويض الأمن والقيادة الاقتصادية للولايات المتحدة فى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وهى منطقة كانت دائمًا حجر الزاوية فى النفوذ الأمريكي.
لأكثر من سبعة عقود، اعتمدت منطقة آسيا والمحيط الهادئ على الولايات المتحدة كضامن أمنى وشريك اقتصادى رئيسي. ومع ذلك، فى السنوات الأخيرة، تعطلت هذه الديناميكية. فالصعود السريع للصين كقوة اقتصادية جعلها الشريك التجارى المهيمن للعديد من دول المنطقة، ما قلل من نفوذ الولايات المتحدة. لقد ساهم فرض ترامب تعريفات جمركية صارمة على الصين، وخطابه "أمريكا أولًا"، وانسحابه من اتفاقيات تجارية رئيسية مثل اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP)، فى تسريع هذا التراجع الأمريكى. وبحلول نهاية عام ٢٠٢٤، حلت الصين محل الولايات المتحدة كشريك تجارى رئيسى لمعظم الدول الآسيوية، حيث نمت التجارة البينية إلى ما يقرب من ٦٠٪ من إجمالى التجارة فى آسيا.
فى حين أن سياسات ترامب التجارية تهدف إلى كبح هيمنة الصين وإعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة، إلا أن هذه الجهود كانت غير متسقة وغير فعالة إلى حد كبير. كان الهدف من التعريفات الجمركية هو الإضرار بالصين، لكنها عطّلت أيضًا الأعمال التجارية فى جميع أنحاء آسيا، وخاصة فى دول مثل فيتنام وتايلاند وماليزيا، التى أصبحت وجهات مهمة لإعادة التصنيع إلى الوطن فى إطار مبادرة "الصين +١". وبينما تكافح هذه الدول للتكيف مع المشهد التجارى المتغير، يتجه الكثير منها إلى الصين للتعاون الاقتصادى والشراكات الأمنية، حيث تبدو الولايات المتحدة أقل التزامًا بنظام إقليمى مستقر.
السياسة الأمنية
فيما يتعلق بالتعاون العسكري، لا تزال السياسة الأمنية الأمريكية جزءًا أساسيًا من علاقتها مع حلفائها الآسيويين. تواصل الولايات المتحدة دعم اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين فى جهودها لمواجهة ما تسميه "التدخل الصيني"، لا سيما فى بحر الصين الجنوبى وعلى طول محيط تايوان. ومع ذلك، فإن دمج سياسات ترامب الاقتصادية مع التزاماته الأمنية خلق انطباعًا بعدم الاتساق.. على سبيل المثال، أرسلت مطالبات ترامب لليابان بزيادة نفقاتها الدفاعية، مع الضغط عليها فى الوقت نفسه بشأن التجارة، إشارات متضاربة. كما أدت التوترات مع كوريا الجنوبية بشأن تكلفة تمركز القوات الأمريكية وقضية الإنفاق الدفاعى إلى تصدعات فى العلاقات بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية.
علاوة على ذلك، فإن إصرار ترامب على ربط الإنفاق الدفاعى بالاتفاقيات التجارية، والذى تجلى مؤخرًا فى نهجه تجاه اليابان، قد قوّض الثقة فى الولايات المتحدة كشريك أمنى موثوق. مع تزايد الضغوط الصينية على القوى الإقليمية، يتضاءل ثقتها بالدعم الأمريكي، لا سيما فيما يتعلق بمخاوف وجودية مثل أمن تايوان. ويزيد عدم القدرة على التنبؤ بسياسة ترامب الخارجية من حالة عدم اليقين.
كما أدى نهج ترامب إلى تراجع كبير فى القوة الناعمة الأمريكية فى المنطقة. ويشير تفكيك وكالات مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) وإذاعة صوت أمريكا، اللتين دأبتا على الترويج للقيم والثقافة الأمريكية، إلى تراجع فى القيادة العالمية. وقد ترك هذا الانسحاب فراغًا تسعى الصين جاهدةً لملئه، مستخدمةً مبادرة الحزام والطريق وغيرها من الجهود الدبلوماسية لكسب النفوذ فى آسيا وخارجها.
كان التأثير النفسى على الحلفاء عميقًا. فعلى سبيل المثال، أعرب وزير الدفاع السنغافورى عن أسفه لتحول الولايات المتحدة من "محرر" إلى "مُخرب كبير"، بينما أعرب رئيس الوزراء الأسترالى السابق مالكولم تورنبول عن مخاوفه من أن قيم الولايات المتحدة لم تعد تتوافق مع قيم أستراليا. تتزايد شيوع هذه المشاعر فى منطقة كانت تعتبر الولايات المتحدة شريكًا لا غنى عنه.
تنظيم الصفوف
ردًا على تحوّل دور الولايات المتحدة، تتجه العديد من الدول الآسيوية نحو الصين للتجارة والاستثمار، حتى أن بعضها يناقش اتفاقيات تجارية جديدة قد تستبعد الولايات المتحدة. ويُعدّ سعى الصين للانضمام إلى اتفاقية الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ (CPTPP)، وجهودها للتنسيق مع كوريا الجنوبية واليابان بشأن اتفاقية تجارية ثلاثية، من المؤشرات الرئيسية على هذه الديناميكية الإقليمية الجديدة. إن النفوذ الاقتصادى للصين، إلى جانب توسع نفوذها العسكري، يضعها فى موقع اللاعب الأهم فى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، مما يُبقى الولايات المتحدة مهمّشة بشكل متزايد.
بالإضافة إلى ذلك، فإن تزايد احتمالية التخلى عن الدولار الأمريكى فى التجارة الدولية يُقوّض الهيمنة المالية العالمية للولايات المتحدة بشكل أكبر. ومع سعى البلدان إلى إيجاد بدائل للدولار، وخاصة فى تعاملاتها مع الصين، فإن نفوذ الولايات المتحدة فى آسيا قد يتضاءل بشكل أكبر.
عواقب استراتيجية
أحدثت سياسات ترامب مفارقة فى آسيا. ففى حين أن موقف إدارته المتشدد ضد الصين قد زاد من حدة التنافس بين الولايات المتحدة والصين، إلا أنه دفع أيضًا العديد من الدول الآسيوية إلى التقارب مع الصين اقتصاديًا ودبلوماسيًا. ومن خلال تقويض العلاقات التجارية والقوة الناعمة، ومطالبة حلفائها بالمزيد من الإنفاق الدفاعي، أضعف ترامب، دون قصد، مكانة الولايات المتحدة فى المنطقة. ومع استمرار الصين فى تعزيز نفوذها، تُخاطر الولايات المتحدة بالتهميش فى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، حيث يتزايد عدم اليقين بشأن دورها كشريك اقتصادى وأمنى رائد.
لكى تستعيد الولايات المتحدة مكانتها فى آسيا، يجب عليها إعادة تقييم نهجها، والانتقال من التعريفات الجمركية والمواجهة إلى استراتيجية أكثر توازنًا تُعيد إشراك المنطقة من خلال التعاون الاقتصادي، والاتفاقيات التجارية متعددة الأطراف، والالتزامات الأمنية الثابتة. إذا لم يحدث هذا التحول، فقد تجد الولايات المتحدة نفسها فى دور متضائل، مع هيمنة الصين الراسخة على مستقبل آسيا.
*فورين بوليسى