غزة-مدلين خلة - صفا لم يُصدق قلبها ولا عقلها بأن وحيدها محمد على أربع بنات اُستشهد، بل كانت تنتظر أن يدخل عليها من باب المستشفى، كي يُخبرها بأنه ما زال على قيد الحياة. بدأت تقول في قرارة نفسها: "هذا الذي داخل كيس الموتى ليس ابني محمد، ابني حلو، وأخذت تسأل كل من تراه هل رأيت ابني؟، لكن الإجابة كانت كالصاعقة عليها، محمد كان في الدار التي قُصفت".

حرب اندلعت في عقل وقلب أم محمد جبريل، وهي تتساءل "هل حقًا انتهى خوفي عليه هنا، ولم أعد أراه يخرج من باب البيت وأنا أودعه بأعلى صوتي..(انتبه على حالك، الله يرضى عليك ويبعد عنك أولاد الحرام)، هل قرر التمرد على مداراتها له والرحيل دون عودة، لا تريد أن تصدق بأن وحيدها ذهب دون عودة نهائية". واستشهد الشاب محمد جبريل (20 عامًا)، بعد استهداف الاحتلال الإسرائيلي منزلهم في مخيم البربج وسط قطاع غزة.  ألم وحزن فتحت أم محمد مقدمة الغطاء دون النظر إلي ابنها، لكن لسان حالها يقول "هذا ليس ابني محمد، لا يشبهه، ابني حلو".  كان جثمانه أول الجثامين التي وصلت للمستشفى، عقب استهداف المنزل، ظلت ترقب باب المشفى تأمل دخوله على قدميه راضية بكل شي، دون أن يتركها وشقيقاته إلى ما لا نهاية، تسأل كل دخيل، هل رأيت وحيدي؟، لكن الإجابة واحدة، النظر إلى الأرض دون رد سوى "ربنا يصبر قلبك".  اختفت آثار القادمين، أصبح الباب الذي تنظر له خالٍ إلا من نور أشعة الشمس التي تسللت داخل قلبها وذهبت بها بعيدًا تستذكر لحظاتها وخوفها عليه، كأنها أرادت الهروب من الواقع إلى جمال ذكرياتها مع صغيرها. أخذت تتذكر يوم ولادته وذهابه للمدرسة، وأن يكون في مقدمة المتفوقين دراسيًا وخلقًا ودينًا، جال أمامها سهرها الطويل جانب رأسه، انتظارها عودته، حلمه الذي بدأ بتحقيقه بحصد الجيد جدًا في أول فصل دراسي جامعي، لا تريد أن تصدق أن كل هذا اختفى لم يعد موجود. تذكرت يوم ميلاده وخوفها الشديد من أن تستبدله أي من الممرضات، فأخبرت زوجة عمه بأن تبقى بجانبه، تحكي أم محمد لوكالة "صفا": "محمد وحيدي على أربع بنات، كنت أخاف عليه من النسمة الطائرة، أخاف أن يذهب إلى الشارع كي يأخذ أطباعه، وأخاف أن يبقى في البيت ويُصبح معه توحد، فتركته يلهو مع أولاد الحي، إلا أن خوفي عليه يجعلني أعيده للمنزل سريعًا". وتضيف "كنت حريصة أن يكون محمد من الأوائل والمتفوقين، فتحملت وجع الولادة القيصرية لأخته الأصغر منه، وجلست أدرسه بعد أربعة أيام من العملية، لا أريد أن يذهب عنه أي شي أو أن يلتهي". وتتابع "كبر محمد وكبرت معه آمالي، فبدأت أُخطط لمستقبله، لأنني أريد أن أراه مستقرًا ذو شأن رفيع، لا أريد شيئًا آخر إلا أن يبقى بخير، وأن تكون دراسته على أكمل وجه، فكان يُثابر ليثبت جدارته ويتفوق دراسيًا وخلقًا وأدبًا". "فاقت من شرودها، متحاملة على نفسها فتح الكيس أمامها، لا يوجد مجال للإنكار فكل من كان فى المكان المستهدف تمت الصلاة عليه، ولم يبق غير ابنها، تشقق قلب الأم المكلومة عندما رأت قدم وحيدها ممدة بجانبه، شدها إليه ثغره المبتسم وتلك العلامة على مقدمة سنه، والتي تعرفها جيدًا.. "هذا محمد" تتحدث لنفسها وتتحامل على نفسها هول الصعقة التي خشيت كثيرًا حدوثها. حكاية وجع تسلل لذاكرتها ما كان ينطق به في آخر أيام له، "من أحب لقاء الله أحب الله لقاؤه"، أيقنت وقتها أن حبه لله كان أكبر من حبها له، صدق الله فصدقه الله. أخذت تفتح الكيس على كامل جسده فوجدته يرتدي قميصه المفضل، صمتت لبرهة ثم انفجرت عينيها بالبكاء الذي حبسته طويلًا فخانها صمودها وأعلن العصيان لتودع وحيد قلبها، التي احتفظت بأجمل صوره بذاكرتها. لم تنظر أم محمد إلى شعره المحروق ووجهه المتهشم نصفه، ترى وحيدها بجماله المعتاد وعطره الفواح تلمس وجهه برفق خشية أن تخرب تسريحة ذقنة، تُداري شعرة أعلنت التمرد على صاحبها لتعيدها إلى "شليش" صغيرها، ترى ضحكته وأناقته المعتادة، انتهت هذه جميعًا بإغلاق الكفن. صمت خيّم على صالة المشفى، فالكل عاجز أمام وجع الأم المكلومة، كسرته بقولها، "شيلوا ابني عن الأرض، بكفي قد ما يضل على الأرض ببرد جسمه"، وطبعت آخر قبلة لها على جبينه وودعته شقيقاته وأقاربه بجنازة كبيرة، وذهب جثمانه أول مرة عن دفء نظراتها وحراستها له حتى بلغ 20 عامًا. تواسي ألمها بحسن خلق صغيرها الذي سيذكره الناس به، وأن الله اصطفى وحيدها شهيدًا كما تمنى، قائلة: "لقد فاز محمد بالشهادة، والآخرة وبالدنيا مع بعض، الحمد لله وحيدي شهيدًا، لم أعد أخاف عليه بعد اليوم". ذهب محمد إلى غير رجعة تاركًا خلفه قلب أم استوطنه الحزن، يُرثيه بكل دقيقة يحكي عنه للناس كافة حتى يعلموا أن ابنها ليس رقمًا، بل قصة أم تروي حكاية وحيدها على مدونتها الشخصية في موقع "فيسبوك"، والذي كان وسيلة الأم المكلومة بإخبار العالم أجمع، من يكون محمد؟.

المصدر: وكالة الصحافة الفلسطينية

كلمات دلالية: طوفان الأقصى حرب غزة محمد جبريل أم محمد

إقرأ أيضاً:

الخاسر الذي ربح الملايين !

رغم مرور أيام على النزال الذي أقيم فـي تكساس بالولايات المتحدة بين الملاكم الشهير مايك تايسون ومنافسه الملاكم واليوتوبر، جيك بول، إلّا أنّ تداعياته ما زالت تشغل وسائل الإعلام، وقد تعرّض تايسون لانتقادات كونه دخل نزالًا خاسرًا سلفًا، فقد بلغ من الكبر عتيّا، بينما منافسه يصغره بأكثر من «31» عامًا، وجيك بول صانع محتوى وممثل، والأمر بالنسبة له زيادة أعداد متابعين، وشهرة وثراء، وخوض هذا اليوتوبر النزال يعني أنّ صنّاع المحتوى قادرون على دخول مختلف المجالات، لِمَ لا؟ وسلطة الإعلام الجديد بأيديهم! النزال، وها هو يوتوبر يعيد بطلًا من أبطال العالم للملاكمة لحلبة النزال بعد انقطاع بلغ «19» سنة!

والواضح أن تايسون دخل ليس بنيّة الفوز، بل لكسب المال، بعد أن مرّ بأزمات عديدة، وتراكمت عليه الديون، خصوصا أن هذه النزالات تدرّ على المتبارين مبالغ طائلة، يجنونها من أرباحها، ويكفـي أنّ سعر تذكرة كبار الزوار بلغت مليوني دولار، ولنا أن نتخيّل الأموال التي كسبها القائمون على هذا النزال الذي أعاد إلينا أمجاد الملاكم محمد علي كلاي وهناك عدّة نقاط تشابه، بين كلاي وتايسون، فكلاهما من ذوي البشرة السمراء ونشآ فـي ظروف صعبة بمجتمع عنصري، وكلاهما أعلن إسلامه وانتماءه لقضايا كبرى، فكلاي رفض انضمامه للجيش الأمريكي أيام حرب فـيتنام عام 1967م ودفع ثمن موقفه غاليا، فقد أُنتزع منه لقب بطل العالم للوزن الثقيل، وكان نجمه قد لمع بدءًا من عام 1960 عندما حصل على ذهبية الوزن الثقيل فـي دورة روما الأولمبية 1960، فـيما لف تايسون جسمه بعلم فلسطين، وكلاهما عاد ليجرب حظّه بعد توقف، مع اختلاف النتيجة، فكلاي عاد للملاكمة فـي 30 أكتوبر 1974، فـي زائير (جمهورية الكونغو) بعد انقطاع عن خوض النزالات والتدريب استمرّ سنوات، ليخوض نزالًا أمام جورج فورمان الذي يصغره بسبع سنوات (فورمان ولد عام 1949م فـيما ولد كلاي عام 1942م)، وصار النزال حديث الناس، فأسمته وسائل الإعلام «قتال فـي الغابة»، وُعدّ أعظم حدث رياضي فـي القرن العشرين، شاهده حوالي مليار مشاهد، فـي وقت لم تكن به فضائيات ولا وسائل تواصل اجتماعي، وحقّق إيرادات بلغت 100 مليون دولار فـي ذلك الوقت، لكن نهاية النزالين كانت مختلفة، فقد انتهت مباراة مايك تايسون (58 عامًا) مع جيك بول الملاكم واليوتوبر (27 عامًا)، بهزيمة تايسون بالنقاط، فـي الجولة الثامنة، فـيما تمكّن محمد علي كلاي من إلحاق الهزيمة بفورمان بالضربة القاضية فـي الجولة الثامنة، فـي مباراة أبهرت العالم، يقول فورمان: إنه كاد أن يحقّق الفوز لولا أن كلاي همس بأذنه «أهذا كل ما لديك؟» فأثار فـي نفسه الرعب، وتغيّرت موازين المعادلة، فقد هزمه نفسيا قبل أن يهزمه على حلبة النزال، فكسب القتال، واستعاد اللقب وصار حديث الناس ومنهم الشعراء، ومن بينهم الشاعر محمد مهدي الجواهري الذي كتب فـي عام 1976 م قصيدة عنوانها «رسالة إلى محمد علي كلاي»:

شِسْع لنعلِك كلُّ موهبةٍ

وفداء زندك كلُّ موهوبِ

كم عبقرياتٍ مشت ضرمًا

فـي جُنح داجي الجنْحِ غِربيب!

يا سالبًا بجماع راحتيه

أغنى الغنى، وأعزَّ مسلوبِ

شِسْعٌ لنعلِكَ كلُّ قافـيةٍ

دوّت بتشريق وتغريبِ

وشدا بها السُّمار ماثلةً

ما يُفرغُ النَّدمان مِن كوبِ

وفـيها سخرية من العالم الذي يمجّد القوّة، ولا يرعى الموهوبين، فالجواهري، كما يقول الباحث رواء الجصاني: كان يحسب ألف حساب فـي كيفـية تسديد إيجار شقة صغيرة فـي أثينا، وكان لا يملك الكثير لتسديد الإيجار وفجأة يقرأ أن كلاي ربح الملايين من الدولارات لأنه أدمى خصمه»!

أمّا تايسون، فقد عاش سنوات المجد، فـي شبابه، وحمل لقب «الرجل الأكثر شراسة فـي التاريخ، الذي لا يهزم «كما وصفه زملاؤه الملاكمون، وحين عاد، عاد كهلا حتى أن منافسه أشفق عليه وصرّح أنه كان يستطيع أن يوجّه إليه لكمات موجعة لكنه خشي أن يوجّه إليه مثلها ويحتدم الصراع! وهذا يعني وجود اتفاق ضمني بأن يستمر النزال ثماني جولات وتحسم نقاط الفوز.

وإذا كان العالم قد تذكّر كلاي بعد أن اعتزل الملاكمة، وأصيب بمرض باركنسون (الشلل الرعاش)، فأسند إليه إيقاد الشعلة الأولمبية فـي دورة أتلانتا 1996 وعاد ثانية ليحمل العلم الأولمبي فـي دورة لندن 2012م، فقد كاد أن ينسى تايسون، فعاد لحلبة النزال ليذكّر العالم بنفسه، ولو بهزيمة وخسارة ثقيلة فـي نزال استمرّ لدقائق ربح خلالها (20) مليون دولار، وبذلك بطل العجب.

مقالات مشابهة

  • مصرع عامل سقطت عليه حمولة من القمح أثناء عمله في أكتوبر
  • حكم من مات وعليه ديون وماله محجوز عليه.. الإفتاء توضح التصرف الشرعي
  • رحل محمد حسن وهبه، وما الذي تبقى من زيت القناديل؟
  • بسبب خوفها من روسيا.. ميركل تدلي باعتراف خطير في مذكراتها المقبلة
  • كيفية إحسان الصلاة على سيدنا النبي عليه السلام
  • مفتاح الجنة: عبادة بسيطة تقربك من رسول الله صلى الله عليه وسلم
  • الخاسر الذي ربح الملايين !
  • محمود فتح الله يوجه رسالة لـ حسام حسن: عليه تقليل التصريحات بعد المباريات
  • صحبه خلص عليه.. كشف لغز العثور على جثة أربعيني داخل مزرعة بالدقهلية
  • نهال عنبر: "حسام ابني بعد ربنا نجاني من الموت"