ستارمر وتدريس الهولوكوست: إحياء التاريخ أم تجميل الإبادة؟
تاريخ النشر: 20th, September 2024 GMT
خلال مشاركته في مأدبة عشاء أقامها «صندوق تعليم الهولوكوست» في لندن، ألقى رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر خطبة أعلن خلالها عزم حكومته على جعل تدريس الهولوكوست مادّة إلزامية في المدارس؛ بحيث تصبح «جزءاً أساسياً وضرورياً من هوية كلّ طالب».
وكما «قاتل» ستارمر لتخليص حزب العمال من العداء للسامية، حسب تشخيصه، فإنه سيقاتل لإبعاد بريطانيا عن «هاوية معاداة السامية».
الأمر، مع ذلك، أكثر تعقيداً من مجرّد أمانى التزلف للجالية اليهودية في بريطانيا عموماً، ولهذا الصندوق/ مجموعة الضغط المناصرة لدولة الاحتلال خصوصاً؛ ليس على أصعدة تربوية وسيكولوجية وتاريخية وثقافية، تخصّ شرائح الأعمار والحساسيات لتلامذة وطلاب المدارس، فحسب؛ بل في السياق الراهن من الوقائع السياسية، حين يكون نقاش حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة في صدارة سجالات قانونية وحقوقية وتربوية تعمّ بريطانيا مثل سائر العالم.
وأن تُدرّس الكوارث التي حاقت بيهود أوروبا في إطار الهولوكوست، وفي الآن ذاته يُغضّ النظر عن مجرّد تغطية (وليس تدريس!) الكوارث التي حاقت وتحيق بالفلسطينيين، هذه الأيام وعلى مدار 76 سنة؛ خيار قائم اصلاً على تناقض منطقي ومعرفي وأخلاقي.
بيد أنّ عروض ستارمر في التقرّب من الجالية اليهودية البريطانية، ومن دولة الاحتلال قبلئذ وبعدئذ، ليس جديدة ولا تحمل طارئاً مختلفاً، حتى إذا شهدت هذا الطراز أو ذاك من التنويع والتحويل والتحوير. فمنذ بدء حرب الإبادة، وكان يومها زعيم حزب العمال، لم يتوقف ستارمر عند الاصطفاف التام خلف حكومة بنيامين نتنياهو ومساندة جرائم الحرب الأشنع انتهاكاً للقانون الدولي والتشريعات الكونية الخاصة بالحروب؛ بل اختار مناهضة مبدأ وقف إطلاق النار، ولم يتورّع أيضا عن تبرير لجوء الاحتلال إلى قطع الغذاء الماء والكهرباء عن قطاع غزّة.
صحيح أنه سعى لاحقاً إلى المداورة والجنوح إلى التبرير الواهي، غير أنه أبى سحب ذلك التصريح أو الاعتذار عنه.
ففي مطلع تشرين الأول (أكتوبر) 2020 أعلن ستارمر تأييده «بكلّ الجوارح» لإقامة مركز مخصص لذكرى الهولوكوست على مقربة من مجلس العموم، وكان المرء سيعتبر ذلك الحماس مفهوماً وإنسانيّ الحوافز، لولا أنّ ستارمر استغلّ المناسبة لإصلاح العلاقات بين مجموعات الضغط اليهودية وقيادة «العمال» كما تولاها بعد التآمر على جيريمي كوربن والإطاحة به على خلفية اتهامه بتشجيع تيارات العداء للسامية داخل صفوف الحزب.
ومنذئذ، مستبقاً ما سيعلنه بعد 4 سنوات و11 شهراً على حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، قال ستارمر إنّ «من الهامّ اليوم قبل أي وقت آخر، تدريس الأجيال الراهنة والمقبلة حول أهوال الإبادة والاضطهاد».
وفي أواسط كانون الثاني (يناير) من العام الحالي شارك ستارمر في ملتقى عقده «صندوق تعليم الهولوكوست» داخل مجلس العموم، وألقى خطبة مشبوبة مسرحية النبرة، تعهد خلالها بعدم تكرار الهولوكوست، معتبراً أنّ هذا الالتزام يكتسب اليوم نبرة خاصة أكثر ميلاً إلى «التحدّي» بالنظر إلى أنّ العداء للسامية يتخفى تحت ذريعة الدفاع عن الحقوق الفلسطينية. وختم بمخاطبة مستمعيه (من يهود بريطانيا، خاصة): «ليس في وسعنا أن نكون مكانكم فنفهم تماماً ما تعيشونه من قلق، وذلك العبء الرهيب من التاريخ، ولكننا نستطيع السير معكم، ولسوف نسير معكم، ولن نسمح لهذا البلد أو للعالم بأسره أن يكون غير آمن لكم».
ومن نافل القول إنّ إحياء ذاكرة الهولوكوست ضرورية تربوياً وأخلاقياً، لكنها لا يمكن إلا أن تكون مشروطة بمقدار أقصى من النزاهة تجاه هولوكوستات الإنسانية جمعاء، من جانب أوّل؛ وبمقدار لا يقلّ احتراماً لحقوق الضحايا أياً كان العرق والجنس والديانة والمقام، من جانب ثانٍ يكون هذه المرّة واجب الحدّ الأدنى تجاه الاجتماع الإنساني والتاريخ.
واختلال التوازن في هذه المعادلات، الحساسة لأنها تربوية وأخلاقية وحقوقية في آن معا، يذهب بها إلى فارق حاسم وصارخ بين الوفاء لذاكرة أولى وإحياء كوارثها، وبين طمس ذاكرة ثانية ووأد ما انطوت عليه من جرائم حرب وفظائع أقرّت بها مؤسسات القانون الدولي ومحاكمه العليا.
وقد يصحّ إرجاء الحكم على مشاريع ستارمر لتدريس الهولوكوست إلى حين، أي حين تأخذ نواياه صفة التطبيق الفعلي في المناهج الدراسية، وما يمكن أن تسفر عنه التجربة من محاسن ومساوئ؛ إذا حدث أنها طُبّقت بالفعل، ولم تتعثر أو تتعطل في المهد.
وحتى يأزف زمن تمحيص التجربة على أرض الواقع، في وسع المرء أن يستأنس بمبادرة أخرى في فرنسا، جارة بريطانيا؛ سعى إليها الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي قبل 16 سنة.
وتلك حكاية بدأت من تناقض صريح، لعله كان مخجلاً أيضاً على عادة غالبية مواقف ساركوزي وخياراته في ميادين شتى؛ إذْ كان، من موقع المرشح للانتخابات الرئاسية، مطلق الحماس لتبرئة الأمّة الفرنسية من كلّ الآثام الكبرى التي شهدتها أوروبا على امتداد القرن العشرين: «أنا من الذين يعتقدون أنّ فرنسا ليس لديها ما تخجل منه في تاريخها، إنها لم ترتكب الإبادة. إنها لم تبتكر الحلّ النهائي. إنها ابتكرت حقوق الإنسان، وهي البلد الذي ناضل أكثر من الجميع دفاعاً عن الحرّية».
أمّا بعد انتخابه، فلم يتوقف ساركوزي عند إلقاء اللائمة على الشعب الفرنسي بأسره جرّاء قسط المسؤولية الذي تتحمّله فرنسا إزاء الهولوكوست، فحسب؛ بل خصّ أطفال فرنسا، تلاميذ المدارس الابتدائية والمتوسطة، بعبء من طراز ثقيل ورهيب: إلزام كلّ طفل حيّ بإحياء ذكرى طفل قضى في المحرقة، على نحو أقرب إلى تقمّص الحيّ للميت.
وعلى غرار ستارمر أمام عشاء «صندوق تعليم الهولوكوست» البريطاني، ألقى ساركوزي خطبة أمام العشاء السنوي للمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية الفرنسية، الـ CRIF، والذي يتسابق كبار ساسة فرنسا على حضوره والخطابة فيه؛ للتقرّب من هذه المؤسسة الأهمّ على صعيد تنظيم حياة، واستثمار قوى وطاقات، نُخَب الفرنسيين اليهود.
وبين أبرز هؤلاء كانت السيدة سيمون فاي، الناجية من المحرقة، والتي يراها الكثيرون أيقونة ترمز إلى الهولوكوست، وربما إلى معظم عذابات اليهود الفرنسيين، فضلاً عن كونها وزيرة سابقة في أكثر من حكومة، وصاحبة القانون الشهير الذي يجيز الإجهاض. «للوهلة الأولى تجمّد الدم في عروقي» هكذا وصفت فأي ردّ فعلها الغريزي حين استمعت إلى اقتراح ساركوزي؛ قبل أن تضيف إنّه «لا يُحتمل، دراماتيكي، وغير عادل في المقام الأول (…) لا نستطيع أن نلقي بهذا العبء على كاهل أطفال صغار في سنّ العاشرة. هذه الذاكرة أثقل من أن يحملها أحد.
حتى نحن، الذين كنّا في عداد المرحّلين للمحرقة، واجهنا بعد الحرب صعوبات كبيرة في الكلام، حتى مع أقربائنا، عمّا شهدناه».
ويبقى من الجوهريّ التذكير بأنّ ثقافة استذكار الهولوكوست ليست ملكاً خالصاً للضحايا بصفة حصرية، حتى إذا كان حقّهم فيها أعلى وأكثر وجاهة؛ وهي، استطراداً، لم تعد رهينة الذاكرة وحدها، وباتت تاريخاً تجب دراسته واستخلاص الدروس منه.
الأهمّ من هذَين الاعتبارَين، أنّ الاستذكار والإحياء والتعليم والتعلّم ليست حكراً على دولة الاحتلال، خاصة حين تنخرط في إعادة إنتاج الهولوكوست على ضحايا من غير اليهود؛ ومن الفاضح أن يسهم في تعميم احتكارها ساسةٌ أمثال ستارمر وساركوزي، على تواطؤ مع جلاد منقلب إلى ضحية، إذا لم يكونوا شركاء معه.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه ستارمر الاحتلال غزة الاحتلال الإبادة الجماعية ستارمر مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة من هنا وهناك سياسة تفاعلي سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
لائحة إحياء شحيم تنطلق لخوض الانتخابات البلدية
أعلن ظهر اليوم، في احتفال أقيم بصالة "فرساي" في بلدة شحيم، عن تشكيل لائحة "إحياء شحيم" لخوض الانتخابات البلدية المقبلة.
وضمت اللائحة الأسماء التالية: سامي أحمد عبدالله، زيان عبد الكريم عويدات، غسان أديب شعبان، يحيى سعد الدين نجيب عبدالله، بلال أحمد الحاج، وليد حسن الحجار، نجيب علي عبد اللطيف، يحيى كامل تراوي، يحيى محمد كيوان، محمد زهير يونس، عماد حمود يونس، سمير أحمد الحجار، محمد يوسف شعبان، حسين توفيق نجم، محمد ديب حسين، محمد عبد نمر فواز. مواضيع ذات صلة الاعلان عن لائحة "إهمج بالقلب" لخوض الانتخابات البلدية Lebanon 24 الاعلان عن لائحة "إهمج بالقلب" لخوض الانتخابات البلدية 01/05/2025 15:55:51 01/05/2025 15:55:51 Lebanon 24 Lebanon 24 لائحتا "نبض عين الدلب" و"حالات الغد" تنطلقان نحو الانتخابات البلدية Lebanon 24 لائحتا "نبض عين الدلب" و"حالات الغد" تنطلقان نحو الانتخابات البلدية 01/05/2025 15:55:51 01/05/2025 15:55:51 Lebanon 24 Lebanon 24 إعلان لائحة "روح المينا" للانتخابات البلدية Lebanon 24 إعلان لائحة "روح المينا" للانتخابات البلدية 01/05/2025 15:55:51 01/05/2025 15:55:51 Lebanon 24 Lebanon 24 إعلان لائحة "همة يحشوش" للانتخابات البلدية Lebanon 24 إعلان لائحة "همة يحشوش" للانتخابات البلدية 01/05/2025 15:55:51 01/05/2025 15:55:51 Lebanon 24 Lebanon 24 قد يعجبك أيضاً بالأسماء... هؤلاء هم المرشّحون للإنتخابات البلديّة في مدينة الميناء Lebanon 24 بالأسماء... هؤلاء هم المرشّحون للإنتخابات البلديّة في مدينة الميناء 08:40 | 2025-05-01 01/05/2025 08:40:00 Lebanon 24 Lebanon 24 تحية من الرئيس عون لعمّال لبنان: أوفياء رغم الشدائد Lebanon 24 تحية من الرئيس عون لعمّال لبنان: أوفياء رغم الشدائد 08:30 | 2025-05-01 01/05/2025 08:30:45 Lebanon 24 Lebanon 24 اطلاق مشروع ترميم قصر العدل Lebanon 24 اطلاق مشروع ترميم قصر العدل 08:18 | 2025-05-01 01/05/2025 08:18:59 Lebanon 24 Lebanon 24 قرار لوزير الداخليّة... ممنوع سير المواكب السيارة خلال الأعمال الإنتخابية Lebanon 24 قرار لوزير الداخليّة... ممنوع سير المواكب السيارة خلال الأعمال الإنتخابية 08:16 | 2025-05-01 01/05/2025 08:16:30 Lebanon 24 Lebanon 24 هذا جديد لائحة "القوّات" في زحلة Lebanon 24 هذا جديد لائحة "القوّات" في زحلة 07:55 | 2025-05-01 01/05/2025 07:55:27 Lebanon 24 Lebanon 24 الأكثر قراءة أطلت بالأبيض ممسكةً بيد حبيبها.. نجمة "ستار أكاديمي" تعلن خطوبتها (صورة) Lebanon 24 أطلت بالأبيض ممسكةً بيد حبيبها.. نجمة "ستار أكاديمي" تعلن خطوبتها (صورة) 09:27 | 2025-04-30 30/04/2025 09:27:36 Lebanon 24 Lebanon 24 مفاجأة الطقس في لبنان خلال الساعات المقبلة.. هذا ما سيحصل Lebanon 24 مفاجأة الطقس في لبنان خلال الساعات المقبلة.. هذا ما سيحصل 13:53 | 2025-04-30 30/04/2025 01:53:25 Lebanon 24 Lebanon 24 على الرغم من طلاقها من كميل ابي خليل.. خطوة غير متوقعة من ماريتا الحلاني (صورة) Lebanon 24 على الرغم من طلاقها من كميل ابي خليل.. خطوة غير متوقعة من ماريتا الحلاني (صورة) 04:15 | 2025-05-01 01/05/2025 04:15:06 Lebanon 24 Lebanon 24 بالصورة.. الموت يُؤلم نانسي عجرم: "بزعل كتير لما الناس اللي بحبن يفلّوا فجأة" Lebanon 24 بالصورة.. الموت يُؤلم نانسي عجرم: "بزعل كتير لما الناس اللي بحبن يفلّوا فجأة" 09:30 | 2025-04-30 30/04/2025 09:30:47 Lebanon 24 Lebanon 24 فيديو لحريق ضخم في بيروت.. الرياح توسع امتداد النيران! Lebanon 24 فيديو لحريق ضخم في بيروت.. الرياح توسع امتداد النيران! 15:48 | 2025-04-30 30/04/2025 03:48:51 Lebanon 24 Lebanon 24 أخبارنا عبر بريدك الالكتروني بريد إلكتروني غير صالح إشترك أيضاً في لبنان 08:40 | 2025-05-01 بالأسماء... هؤلاء هم المرشّحون للإنتخابات البلديّة في مدينة الميناء 08:30 | 2025-05-01 تحية من الرئيس عون لعمّال لبنان: أوفياء رغم الشدائد 08:18 | 2025-05-01 اطلاق مشروع ترميم قصر العدل 08:16 | 2025-05-01 قرار لوزير الداخليّة... ممنوع سير المواكب السيارة خلال الأعمال الإنتخابية 07:55 | 2025-05-01 هذا جديد لائحة "القوّات" في زحلة 07:29 | 2025-05-01 إلى سالكي أوتوستراد حالات وعمشيت غدًا.. إليكم هذا الخبر فيديو مزقت شعار وسيلة إعلامية وشقيقتها طردت المُراسل.. شاهدوا ماذا فعلت دنيا بطمة (فيديو) Lebanon 24 مزقت شعار وسيلة إعلامية وشقيقتها طردت المُراسل.. شاهدوا ماذا فعلت دنيا بطمة (فيديو) 04:57 | 2025-05-01 01/05/2025 15:55:51 Lebanon 24 Lebanon 24 جحيم في الجبال.. إسرائيل تستنجد لإخماد حرائق القدس (فيديو) Lebanon 24 جحيم في الجبال.. إسرائيل تستنجد لإخماد حرائق القدس (فيديو) 12:08 | 2025-04-30 01/05/2025 15:55:51 Lebanon 24 Lebanon 24 إعلامي شهير يشن هجوماً عنيفاً على بسمة بوسيل.. هذا ما قاله عنها (فيديو) Lebanon 24 إعلامي شهير يشن هجوماً عنيفاً على بسمة بوسيل.. هذا ما قاله عنها (فيديو) 04:00 | 2025-04-30 01/05/2025 15:55:51 Lebanon 24 Lebanon 24 Download our application مباشر الأبرز لبنان خاص إقتصاد عربي-دولي بلديات 2025 متفرقات أخبار عاجلة Download our application Follow Us Download our application بريد إلكتروني غير صالح Softimpact Privacy policy من نحن لإعلاناتكم للاتصال بالموقع Privacy policy جميع الحقوق محفوظة © Lebanon24