كان – صلى الله عليه وآله وسلم – يسير في الناس كأحد الناس، لا يميزه عنهم إلا ذلك الخُلق العظيم الذي أحدث ضجّة في الأرض، لفتت الأنظار، وحوّلت مجرى الليل والنهار، وذلك المنهج القويم الذي ربط به الأرض بالسماء، والماضي بالحاضر، والحاضر بالمستقبل، وقَرَن العمل بالجزاء، والدنيا بالآخرة، فشعر الإنسان بالطمأنينة والراحة، حينما وجد نفسه حراً طليقاً ومخلوقاً أنيقاً لا يعنيه من أمر دنياه إلا التنقل والتطور بين تلك النواحي المرتبطة ببعضها فكرياً وروحياً، فجعل ينظر في ملكوت السموات والأرض، ويأخذ من ماضيه لحاضره، ويعمل في دنياه لآخرته.
وكان – صلى الله عليه وآله وسلم – جديداً على الزمن، وحدثاً طارئاً علــى التاريخ وذلك بالنسبة للفترة الماضية التي توعك فيها العقل البشري بين جاهلية جهلاء، وعنجهية رعنــاء، لو نظر إلى خلفه لم يجد وراءه آثارةٌ مــن علـــم أو أثراً لرسول.
وكان – صلى الله عليه وسلم – عنصراً لطيفاً خارقاً للمألوف البشري وهو من جنسه وعنصره، لأنه كان قلباً لهذا الكون مليئاً بالرحمة والجبروتية يساومه القوم بدعوته فلا ينحني، ويقاومونه فلا ينثني.
وكان – صلى الله عليه وآله وسلم – يخطو فــي حياتــــه الأولــــى خطــوات موجــزة لم يعرف لها تفصيلاً من بعد إلا فــي حياة الرسالة.
وكان – صلى الله عليه وآله وسلم – فـي جميع مواقفه الحرجة وظروفه القاسية وفي مجتمعه العاتي العنيد مرفوع الرأس مهيب الجانب محاطاً بالعناية الإلهية التي تركت حباً فـي قلوب أنصاره ورعباً في قلوب خصومه وأعاديه فلم يقف يوماً من الأيام موقفاً مهيناً، أبداً قط، لأن موقفه مع ربه أكبر من موقفه مع نفسه، وموقفه مع نفسه أخطر من موقفه مع الناس.
وكان – صلى الله عليه وآله وسلم – هو الواسطة العظمى التي لا ينال الإنسان سعادة الدنيا والآخرة إلا به، لأنه كان في المجتمعات البشرية بمنزلة الرأس من الجسد فلا تستقيم حياته إلا به، ولا يتلقى أغذيته الروحية والجسدية إلا منه.
وكان – صلى الله عليه وآله وسلم – واقفاً بدعوته إلى الله بين أمرين خطيرين إجبارياً محضاً، واختيارياً بحتاً، وهما الوحي والتبليغ، يتلقى العلوم الإلهية من عالم الغيب بصورة إجبارية {اقْرَأْ} قال: ما أنا بقارئ؟
ثم يفضي بها إلى عالم الشهادة بطريقة اختيارية {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} فيبلغ ما تلقاه من الوحي الإلهي المنقسم بمقتضى الحكمة الإلهية أقساماً ثلاثة: (منطقياً، وإلهامياً، وفطرياً).
فالوحي المنطقي هو : {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ }.
والإلهامي هو: عناية الله التي تنير آفاق القلب، فيتدارك ما فاته أن يقول، أو يلزمه أن يفعل.
والفطري: مراعاة أذواق الأمم ومخاطبتها بقدر ما تفهم.
وكان – صلى الله عليه وآله وسلم – ينقل بدعوته للأرض تحيات السماء، ويعلن للعالمين ذلك البيان الخالد والقول الفصل، الذي نراه اليوم في صفحات الأيام سطوراً وضاءةً وحروفاً نيّرة، ونسمع منه في أفواه الطبيعة نغمات أزلية، وأهازيج قدسية تهتز لها مشاعر النفوس، وتخشع لها القلوب التي في الصدور.
وكان _صلى الله عليه وسلم _يعالج بنفسه المشاكل الاجتماعية، ويعمل وحده أعمالاً جذرية، فيقلع من وجه الأرض جميع الشرور والآثام، ويبذر فيها هذه الغروس اليانعة التي نتفيأ اليوم ظلالها، ونجني ثمارها وأزهارها.
وكان_ صلى الله عليه وآله وسلم_ يقود بسياسته الحكيمة جموع البشرية بين ذلك الظلام الحالك، وتلك الزوابع الطائشة، فنجا من كوارثها قومه، وسلم من زوابعها مصباحه حتى وصل بهم إلى فجر السلامة والنور الذي نجد منه اليوم في جميع الحركات والخواطر دليلاً قاطعاً ومصباحاً لامعاً.
وكان صلى الله عليه وسلم يرسم في حياته لبني الإنسان المناهج الواضحة في دينهم ودنياهم والتوجيهات القيمة التي نسير عليها اليوم بعقائد صحيحة لا يطرأ عليها الشك، ولا تجد الأوهام إليها سبيلاً.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يمر بدعوته بين تلك الصفوف البغيضة المعادية، ويلاقي منهم كل يوم أنواع المتاعب والمهازل، وضروب المكايد والمؤامرات في جو مليء بالتناقضات العقلية والفكرية، وحروب مع الأهواء والغرائز والطبائع ونزاع الصفوف وقراع السيوف، فأحبط كل ما دبروا، وأحرز في كل خطوة من خطواته هذا الانتصار الرائع الذي لم تسكت ولن تسكت الأفواه والأقلام عن مدحه والإشادة به والتنديد بخصومه ومناوئيه حتى ظهر دينه على كل دين ورسخ حبه في كل قلب إلى أبد الآبدين.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يفاجئ الدنيا كلها بتاريخها الكامل الممتد بين الأزل والأبد، ليدخل بالإنسان من أوسع أبوابه، فيخبر عن الماضي، ويتنبأ للمستقبل ثم يحاول أن يأخذ في نفس الوقت من أخبار الأمم الغابرة، وأنباء الأجيال القادمة، بما يدفع أمته تلقائياً إلى توحيد سلوكهم، وتطوير مجتمعهم والنهوض بهم إلى هذا المستوى الذي نعيش فيه اليوم هانئين مغتبطين مؤمنين بالغيب متفائلين بالسعادة الأبدية، نسير في ركبه وإلى رضى ربه.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يصارع التاريخ الذي وقف موقفاً مضاداً، فيتخوله أحياناً بالموعظة والحكمة، ويتوعده تارةً بالعذاب والنقمة، حتى بهره بحكمته وقهره بسطوته، فخاطبه وجهاً لوجه، وألقى في أذنه من هداية الله ما ألقى في أذنه، وأفرغ في روعه من خوف الله ما أفرغ في روعه، ونفش في صدره من الأسرار والحكم، ولم يضن عليه بشيء مما أوحي إليه أو يعامله بشيء مما وجهه من اللوم عليه، لأنه حريص على إسعاده، وبالمؤمنين رؤوف رحيم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله ومن أهتدى بهديه إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
علي جمعة: قارون أعظم مثال ضربه الله للمعاندين في القرآن الكريم وكان مصيره الخسف
قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ان الإنسان ضعيف ويلجأ إلى الله في الشرق والغرب على ما يدعيه من إلحاد، ومن موت الإله، ومن خرافة الأديان، يظهر ذلك اللجوء إلى الله عند الفزع والخوف والضرر، قال تعالى : (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ) [الزمر :8]، فعندما شاع الإيدز في بلاد الغرب قالوا : إنها لعنة السماء، وتكلموا عن اصطدام الإنسان بحائد القدر، يعني صرحوا بالعجز مع الله، هم يسمونها (حائط القدر) وربنا يسميها المعاجز.
واضاف جمعة، في منشور له عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، ان من أكبر الأمثلة التي ضربها الله في كتابه للمعاجزين (قارون) الذي ظن أنه ما به من قوة ومال هو استحقاق له، وأنه على علم عنده، وأنه لا يمكن أن يزول، فنسى الله، فأنساه الله نفسه، قال تعالى : (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِى القُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِى الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِى الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ* قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ }.
فماذا كانت عاقبة ذلك المعاند ؟ قال تعالى : (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكَافِرُونَ* تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًا فِى الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
(أوتيته على علم عندي) لم تكن هذه مقالة قارون وحده، وإنما هي مقالة كل إنسان مغرور بالدنيا وبما آتاه الله منها، قال تعالى : (فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ).
فالمعاجزة إذن حالة وهمية يتوهم فيها الإنسان المغرور أمورًا منها : أنه له قوة أصلا وله ملك ذاتي، ولا يعلم أن القوة جميعا لله، وأن الله المالك وحده، ثم يتوهم أن ما يظهر عليه من قوة هي من الله، ومن ملك هو لله، توهم أن ذلك لا يمكن أن يزول منه، ويتوهم أنه قادر على إبقائه وحراسته، ثم يتوهم بعد ذلك أن هذه القوة التي توهم أنها ذاتية وأنها باقية أنها تقوى على معاندة أمر الله.