موقع 24:
2025-07-09@10:05:28 GMT

هل يمكن للشِّعر أن يَنقِذ أمَّة؟

تاريخ النشر: 20th, September 2024 GMT

هل يمكن للشِّعر أن يَنقِذ أمَّة؟

النظام الداعي إلى اليقظة والانتباه للظلم والتمييز العنصري، شأنه شأن أي نظام ثوري، لن يُكتب له النجاح بتشجيع عددٍ كبير من الأمريكيين على التخلي عن أمَّتهم؛ بأن يزدروا أو ينسوا تاريخها وتقاليدها والهوية الأصلية التي نقلتها لهم.

لكنّ ديفيد غولدمان يرى أن هويتنا الوطنية لا يمكن محوها، إذ إنها تضرب بجذورها بعمقٍ في لغتنا اليومية، ومن ثمَّ في جوهر إنسانيتنا ذاته.

وينظر غولدمان إلى المجر وإسرائيل بوصفهما أمتَين حديثتَين احتضنتا تقاليدهما الشعرية، وفي الوقت عينه قاومتا التدهور الكبير الذي يجتاح الغرب.

يقول ديفية غولمان، في مقاله بموقع  “TomKlingenstein.com” الأمريكي المكرس لمناقشة وتحليل القضايا الاجتماعية والسياسية المعاصرة، مع

التركيز بشكل خاص على تأثير نظام الاستيقاظ (حصة المجموعة).في عالمٍ يموج بالعولمة وتأثيراتها، ما الذي يدعو أي إنسان لأن يكون ألمانيّاً أو فرنسيّاً أو إسبانيّاً أو مجريّاً؟ ليس قول "لا شيء مما سبق" بالإجابة الشافية عن مسألة الهوية الوطنية. إن هذه هي القضية الوجوديّة الكبرى للغرب. فالأمم حمَلَة لواء الاستمرارية الثقافية. وإذا انحسرَ الأمل في أن تتحدث الأجيال القادمة لغتنا وتسترجع ذاكرتهم نضالاتنا وكفاحنا وتَفْهَم صلواتنا وتواصل جهودنا، فسنفقد الدافع الذي يدفعنا دفعاً إلى الإنجاب. ثمة تهويدة بلغة الإسبرانتو، لكنها لم تساعد أي طفل على الخلود إلى النوم. فاللغة الوطنية حصراً، التي تضرب بجذورها في الثقافة الوطنية، هي التي يمكن أن تبني جسراً بين الماضي والحاضر والمستقبل.

دور الشعر في إحياء الماضي واستحضار المستقبل

وأضاف الكاتب: يؤدِّي الشعر دوراً لا غنى عنه في إحياء الماضي واستحضار المستقبل، لا في الأعمال الكلاسيكية الوطنية وحسب، وإنما في إطار الجهود الأدنى مرتبة للشعراء الشعبيين أيضاً. فقد حسبَ "البرجوازي النبيل" في مسرحية موليير أنه ظلَّ يتحدث نثراً لا شعراً كما ظنّ طيلة حياته. والعكس صحيح. فنحن لا يسعنا إلا أن ننطق شعراً في حياتنا اليومية، سواء كان ذك عن وعي منا أو دون وعي. إنَّ كل لغة وطنية ترِث تعبيراً شعريّاً فريداً من تقليدها الخاص. ويصقل الشعراء العظماء، والشعبيون أحياناً أيضاً، المحتوى الشعري للغة اليومية ويُعزِّزونه، مما يُفسِّر علة تردد أصداء الشعر بقوةٍ. فالشعر يُوقِظ بداخلنا بُعْداً من تفكيرنا يظل خاملاً في كلامنا اليومي ويجعلنا واعين بهويتنا مُدركين إياها.
وأضاف الكاتب: تتميز الهوية الوطنية اليهودية، على أي مقياس موضوعيّ، بصمودها الخاص على مدار العقود الثمانية الماضية. فلم يُعنَى اليهود وحسب بإحياء دولة وطنية اندثرت لأكثر من ألفي عام، واستعادة اللغة العبرية بوصفها لغةً منطوقة، وإنما أمست إسرائيل الدولة ذات الدخل المرتفع الوحيدة التي تتمتع بمعدل خصوبة يتجاوز بكثير احتياجات حفاظها على نموها السكاني. وتُظْهِر أنشودة وطنية شهيرة في إسرائيل بعنوان "قدس الذهب" قوة استحضار الشعر بوصفه حاملاً للواء الهوية الوطنية. وقبل الخوض في مناقشة الأنشودة، من الأهمية بمكان أن نبحث كيفية ارتباط اللغة والهوية بالشعر.
وتابع الكاتب: لا يقتضي الأمر قريةً لتنشئة طفلٍ واحد، بل أمَّة كاملة. ومن السذاجة افتراض أنَّ الأمم ما هي إلا تجمعات بسيطة من جماعات تربط بينها صِلات قرابة. فالعائلات تُشكِّل العشائر، والعشائر لَبِنَة القبائل، والقبائل تشكِّل الأمم. ورغم ذلك، فإن العائلات والعشائر هشَّة للغاية فلا تتحمل تقلبات الزمن واضطراباته. كانت القبائل في عصور ما قبل التاريخ ربما تتحدث 150 ألف لغة. وقد اندثرَت الغالبية العظمى من هذه اللغات دونما أثر. ومن بين بقايا عصور ما قبل التاريخ التي ما برحت حية بابوا غينيا الجديدة التي ينطق سكانها البالغ عددهم مليون نسمة أكثر من 800 لغة، أكثر من مائة لغة منها مُهددة بالانقراض أصلاً.
واستدرك الكاتب بقوله: على النقيض من ذلك، نشأت لغات أوروبا الحديثة بفضل أولى الدول الوطنية تحت إشراف الكنيسة الكاثوليكية التي عنيت عناية خاصّة بإضفاء الطابع الحضاري على الغزاة البربر الذين ورثوا أنقاض الإمبراطورية الرومانية، ومنهم القديس إيزيدور الإشبيلي والقديس غريغوري من تور، والقديس ستيفن من المجر، والقديسان كيرلس وميثوديوس. وتُعدُّ إسرائيل القديمة أولَ أمَّة، أيْ أول كيان سياسي، يصرُّ على أن جميع الناطقين باللغة نفسها والعابدين للإله نفسه يجب أن يلتزموا بالنظام السياسي نفسه. فلم يقترح أي يوناني شيئاً من هذا القبيل حتى ظهور إيسقراط بعد ألف عام من الخروج من مصر. وقد اتخذت الكنيسة مملكة داود مثالاً للملوك الكاثوليك.
ويرى الكاتب أن الوطنية والعقيدة الآن في أوروبا ينبثقان من جوهرٍ واحد. وقد كانت لهذه العلاقة تبعات مأسوية جسيمة في الحروب الدينية والوطنية الكبرى التي اندلعت خلال الفترة بين عامي 1618 و1945. لكن هذه المأساة لم تكن حتمية، ولم يكن تكرارها أيضاً حتميّاً.
ولفت الكاتب النظر إلى أنه في ظل معدل الخصوبة الثابت الذي يبلغ نحو 1.5 طفل لكل أنثى، من المتوقع أن يتراجع عدد السكان البالغين سن العمل في أوروبا إلى 264 مليون نسمة بحلول نهاية القرن بعد أن بلغ 442 اليوم، وسيدعم كل 10 من العاملين في أوروبا 7 متقاعدين بدلاً من 3 اليوم. ومن المتوقع أن ترتفع نسبة المتقاعدين إلى العاملين في الولايات المتحدة من 3:1 إلى 6:1. وكان معدل الخصوبة في أمريكا حتى عام 2006 عند مستوى الإحلال الذي يحافظ على النمو السكاني، ألا وهو 2.1. وبحلول عام 2023، تراجع إلى 1.6، وهو المعدل نفسه في أوروبا.

زوال الغرب

ومضى الكاتب يقول: إن الغرب يساهم في زوال نفسه بنفسه، إذ يزعم أكثر من نصف أبناء جيل الألفية والجيل الذي يليه مباشرةً أنهم سيحجمون عن الإنجاب، مما يشير إلى أنّ معدلات الخصوبة في الولايات المتحدة وأوروبا ستتراجع أكثر من ذلك.
وزاد الكاتب: ما من مأساة يمكن أن تحيق بالبشرية أكبر من انقراض أمَّة بأسرها. فكل أمَّة تملك روحاً قومية مميزة خاصّة بها، بحسب ما جاء على لسان هيغل. ويتجلى ذلك أيَّما تجلٍ عندما نضع في اعتبارنا المحتوى الشعريّ المميز للغات الوطنية. ففلاسفة اللغة لا جدوى منهم كبيرة في هذا السياق، إذ إن اهتمامهم باللغة عامٌّ، في حين أننا نهتم بما يجعل للغة خصوصية وتفرداً لشعبٍ محدد.
ويختلف الفلاسفة حول ما إذا كانت الأسماء مجرد مجموعات اعتباطية من الأشياء المختارة للتيسير علينا، أو ما إذا كانت تعكس واقعاً كامناً ينسِب الأشياء التي تحمل الاسم نفسه لعالمٍ مُتجسِد. ولقد تناولَ الجدلُ الأبرز حول طبيعة اللغة طبيعة الأسماء، إذ انحازَ المنطقيُّ سول كريبي إلى جانبٍ، وانحاز بتراند راسل إلى الجانب الآخر. هذا الجدل لا يعنينا كثيراً، لأننا نريد أن نعرف كيف تُعبِّر اللغة عن التغير والثبات، والتقدم والاستمرارية، والماضي والمستقبل. وهذا يعني أننا نود أن نتعرف على الأفعال. فالمنطق كافٍ لتفسير الأسماء، أما الأفعال فهي بحاجة إلى الشعر لفهمها واستيعابها.

كل لغة لها نمط تفكير

وأوضح الكاتب أن لكل لغةٍ نمط تفكير مميزٌ لها، لا لأن تصريفات الأفعال وبنية الجمل تختلف من لغة إلى أخرى، ولكن لأن قدرتنا على تكوين المفاهيم تعوِّل على الاستعارات المستمدة من تاريخ لغويّ فريد من نوعه مُدمج في التجربة الحية للناطقين بها. ولذلك من المستحيل التفكير بمعزلٍ عن اللغة.
إن الاستعارات التي نُسلِّم باستخدامها في استعمالنا اليومي للغة تصل إلينا بالتقليد.

ويتفق الناطقون بلغةٍ ما على استخدام استعارات معينة إلى حدٍّ ما لأنهم تعلّموا ذلك من كبار كتّابهم في الماضي، لكن التعبير الاصطلاحي له طابعه المبتكر الخاص. وقد لاحظ لايبنتز أولاً أنه من الصعب التعبير عن العلاقات السببية في اللغة إلا بالإشارة إلى العلاقات المكانية والزمانية. فيمكنني في اللغة الإنجليزية أن "أشجعك" (put you up) أو "أحبطك" (put you down) أو "أُنفِرك" (put you off) أو "أتحايل عليك" (put you on) مُستعيناً بالفعل (put) نفسه مضافاً إليه حرف جر.
ولا توجد قاعدة محدَّدَة سلفاً يغيِّر بها حرف الجر معنى فعل مثل "put"، لكننا رغم ذلك نفهم المعنى على الفور. والألمانية بها الظاهرة نفسها، لكن النتائج مختلفة. فالتعبير الإنجليزي "set aside" يعني في الإنجليزية شيئا واحداً (يطرح جانباً)، أما نظيره في الألمانية "beisetzen" فيعني حرفياً "يدفن جثماناً". وتنطبق هذه الظاهرة أيضاً على اللغات الرومانسية، اللهم إلا أنَّ تركيباتها متحجرة وجامدة (فالفعل "translate" في الإنجليزية يقابله الفعل "Übersetzen"، والذي يعني حرفيّاً "يضع شيئاً فوق شيء").
وتكثر تركيبات الفعل وحرف الجر في اللغات الهندو أوروبية. وتحوِّل العبرية التوراتية الفعل نفسه للتمييز بين أنواع مختلفة من الفعل، مع وجود عدة تصريفات للفعل الانعكاسي. فكلمة פָּלַל (بالال) تعني "يَتَوسَّط" أو "يحكم" أو "يشفع". والصيغة الانعكاسية "לְהִתְפַּלֵּל"، وتعني حرفيّاً "يحكم على نفسه"، كلمةٌ عبرية تعني "يصلي". إن السببية، وليس القياس المكاني، هي التي تحكم تعديل الفعل في العبرية.
وتوضِّح هذه الأمثلة البسيطة أنَّ اللغة تُبنى على الاستعارة، وأن هذه الاستعارات تنبع من الارتباط الشعري وليس المنطق البسيط. فكل لغة قومية لها استعاراتها ومجازاتها المميزة لها غير المحددة مسبقاً من الناحية المنطقية، وإنما هي من ابتكار الناطقين باللغة الذين ورَّثوها أحفادَهم. فلا إنسانية بلا لغة ولا لغة دون أمَّة.
ويستخدم الناطقون بلغةٍ ما استعارات صاغوها في الماضي السحيق دون تأمُّل وتدبُّر. وعلى النقيض من ذلك، يستحضر الشعر التأمليّ الذي يربط الماضي بالحاضر إحساساً ذاتيّاً بالهوية القومية، أي إنسانيتنا وما يجعلنا بشراً بطريقةٍ محددة في ظل ظروفنا الخاصة. إن الشعر الحي، أيْ الشعر الذي يعيد خلق الماضي لكل جيل جديد، هو عملة الأمَّة.
غالباً ما يكون الماضي غامضاً. فأصل كثيرٍ من الأمم الأوروبية مطمورٌ في الأساطير، محجوب بستار الزمن. ومن بين بدائل الشعر الوطني اقتباس تاريخ إسرائيل والاستحواذ عليه. حتى وقت قريب جداً، كانت الأنشودة الوطنية المعترف بها لإيطاليا هي ترنيمة "فا بينسييرو" المُستخلصة من أوبرا "نبوكو" لفيردي التي تضم إعادة صياغة للمزمور رقم 137 ("على أنهار بابل … بكينا أيضاً عندما تذكرنا صهيون. على الصفصاف في وسطها علقنا أعوادنا"). أما الأنشودة الوطنية الأكثر شعبية في بريطانيا فهي "أورشليم" للشاعر وليام بليك التي جاء فيها ("وهل وطأتْ تلك الأقدام في العصور الغابرة جبال إنجلترا الخضراء/وهل شوهدَ حمَل الرب المقدس على مراعي إنجلترا البهيجة!"). ويشير الأمريكيون أيضاً إلى الكتاب المقدس العبري، إذ تبدأ "ترنيمة المعركة" بالإشارة إلى عناقيد الغضب، وصورة إشعياء الرهيبة للرب وهو يدوس الأمم في وعاء خمر، وثيابه غارقة في دمائهم.

قصيدة قُدس الذهب

ومن الأمثلة الجديرة بالملاحظة على القصيدة الحديثة ذات الإيحاءات القديمة التي تبنَّتها الثقافة الشعبية قصيدة "قُدس الذهب" للشاعرة نعومي شيمير عام 1967، التي اشتهرت بمقولة "أنا قيثارة لكل أناشيدك". إن هذا التأمل الغنائي الشعبي المتواضع في جمال القدس وقدسيتها، وكذلك في خرابها، يقتبس البيت الأشهر ليهوذا اللاوي، أعظم شعراء العبرية في القرون الوسطى.
وفيما يلي القسم الأخير من الأنشودة:
ولكن حين آتي لأغني لكِ،
وأنسج الأكاليل لأجلكِ،
فأنا الصغرى بين أولادكِ،
والأخيرة في شعرائكِ،
ولأن الشفاه يلهبها اسمكِ،
كقُبلةِ الملائكِ،
لا تدعيني يا قدس أنساكِ،
يا من أنتِ ذهبٌ كُلّكِ.
والشاعِرَة وعاء لكل أناشيد أورشليم، بما في ذلك المزامير ورؤى الأنبياء. لكنّ استحضارها تلك الكلمات يبعث الحياة فيها، ويحيي المدينة القديمة. فالصور مُستمدة من الكتاب المقدس، لكنها قُدِّمَت في حلةٍ جديدة. وأمست أنشودة المطربةِ شيمير نشيداً غير متوقع خلال حرب الأيام الستة.
يبلغ عُمر أنشودة شيمير نحو ستين عاماً. وكانت هناك محاولات قليلة في الآونة الأخيرة لاستحضار الماضي الوطني في لغة شعبية. ومن بين الجهود الاستثنائية التي بُذلت العام الماضي مساعي الملحن المجري بالاز هافاسي الذي قدَّمَ لأول مرة "سيمفونية مجرية" تشمل تلاوة أربعة نصوص للشاعر الوطني المجري شاندور بيتوفي، بما في ذلك الأغنية الوطنية "Nemzeti dal" (أغنية وطنية) التي تُعدُّ نشيداً لثورة 1848 التي اندلعت في المجر.
كتبَ بيتوفي يقول: "لا يمكن لأسلافنا أن يرقدوا بسلامٍ في قبورهم وأمتهم مُستعبَدَة". والأنشودة أُلفَت على ألحان وطنية جريئة، تمزج ما بين الكلمة المنطوقة والمشهد الساحر. واختتمت بعرضٍ استعراضي للألوان الوطنية للدولة. وتمزج التعبيرات الاصطلاحية بين العناصر الكلاسيكية والموسيقى الشعبية ببراعةٍ منقطعة النظير. ولا يبقى سوى أن نرى ما إذا كانت ستصمد أمام اختبار الزمن لها، لكن استقبالها الحافل يبيِّن قوة الشعر في التوحيد بين الحاضر والماضي.

المجر خالة خاصة

وأكد الكاتب أنَّ المجر حالةٌ خاصّة. فهي تُخصِّص نحو عُشر ميزانيتها لدعم الأسرة، وقد أحرزت تقدماً كبيراً في قَلْب اتجاه التدهور الديموغرافي الذي أصابَ أوروبا بأسرها. وقد أبت أن تقبَل أعداداً كبيرة من المهاجرين من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حفاظاً على ثقافتها الفريدة، وحكومتها تفخر بوطنيتها وانتمائها المسيحي. وليس من قبيل المصادفة أنَّ المجر أفضلُ أصدقاء إسرائيل في أوروبا. فالمجر تنظر بإعجابٍ إلى نجاح إسرائيل الديموغرافي والاقتصادي وتودُّ أن تحاكيها في بعض النواحي. ومن الصعب أن نتخيل عملاً مثل "السيمفونية المجرية" في ألمانيا أو فرنسا أو إنجلترا. ورغم ذلك، فإنها الاستثناء الذي يثبت القاعدة.

المصدر: موقع 24

كلمات دلالية: تفجيرات البيجر في لبنان رفح أحداث السودان الانتخابات الأمريكية غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية ثقافة وفنون فی أوروبا أکثر من التی ت

إقرأ أيضاً:

عبد السلام فاروق يكتب: غزة نص شعري مفتوح

في قلب العاصفة التي تجتاح غزة، حيث تختلط أصوات القذائف بهمسات الأمل، تطل أنطولوجيا "غزة.. أهناك حياة قبل الموت؟" كشاهد على صمود الروح الإنسانية في وجه الدمار. 

هذا العمل، الذي أعده الشاعران المغربيان: عبد اللطيف اللعبي وياسين عدنان، ليس مجرد مجموعة قصائد، بل هو وثيقة شعرية تحول الألم إلى فن، والواقع المأساوي إلى بصيص من الجمال المقاوم.

وقد استلهمت الأنطولوجيا عنوانها من قصيدة الراحل مريد البرغوثي، الذي تساءل بمرارة: "أهناك حياة قبل الموت؟"، محولًا السؤال الفلسفي إلى صرخة تعكس واقعًا معيشًا. هنا، يعيد 26 شاعرًا وشاعرةً من غزة صياغة هذا السؤال عبر قصائد تمزج بين الحنين والألم، بين التفاصيل اليومية المدمرة وحلمٍ بمستقبل يليق بالإنسان. فالشاعر نور الدين حجاج، الذي قتِل في القصف، كتب:  "لا تكترثوا للمشهد الأخير... في غزة نحن نموت عدة مرات قبل هذا" .  
هذه الكلمات لا تسجل الموت فحسب، بل تجسد تكراره كجزء من الهوية الغزاوية.

الشعر: سلاح الذاكرة والهوية 

في زمن تختزل فيه غزة إلى أخبار عاجلة، تتحول القصائد إلى أرشيف حي. الشاعرة ضحى الكحلوت تقول: "الحرف مقصلة راضية، والذكريات قاض يعرف" ، بينما يصف ياسين عدنان الشعر بأنه "بلسم" في مواجهة الاكتئاب الناجم عن متابعة الحرب . لا يكتفي الشعراء بتوثيق الأحداث؛ بل يعيدون تشكيلها فنّيًا، كما في قصيدة رفعت العرعير الشهيد:  "إذا كان لا بد أن أموت... فليصبح حكاية" .  
هنا، يتحول الموت إلى سرد مقاوم، يخلد الذات الجماعيةَ في مواجهة النسيان.

تتحدث الأنطولوجيا بصوت الغزيين أنفسهم، متجنبة الخطابات الخارجية حتى لو كانت تعاطفيه. تقول المقدمة: "هذه الأصوات لا تحتاج إلى تحاليلنا المتعالمة... دعونا نتكلم" . هذا الاختيار يعيد للشعراء سلطةَ رواية حكايتهم، كما في قصيدة هند جودة:  "يا إلهي، لا أريد أن أكون شاعرة في زمن الحرب!" ،  
صرخة تفضح تناقض الكتابة تحت القصف، حيث يصبح الشعر ترفًا وضرورة في آن.
كما تبرِز الأنطولوجيا دور الشاعرات في كسر التابوهات، كتلك المتعلقة بالجسد والحرمان. الشاعرة نعمة حسن تنسج قصيدتها من تفاصيل يومية:  
"شاعرٌ كل يوم يرسم قمحًا على شجرته الميتة.. وتصدقه العصافير" .  
هنا، تحول المرأة الغزاوية الرمز الزراعي (القمح) إلى استعارة عن الاستمرارية، بينما تعلق الشاعرة رجاء غانم على ثنائية الحب والعنف المجتمعي بقسوة:  
"تمرّ يداك على نهديّ... أربعون جلدةً" .  

بين الترجمة والتضامن  
ولعل إصدار الأنطولوجيا بالعربية والفرنسية (بترجمة عبد اللطيف اللعبي) قد يخرِج صوت غزة من الحصار الجغرافي إلى فضاء عالمي . هذا الاختيار يذكر بمشاريع سابقة للشاعرين، مثل أنطولوجيا "أن تكون فلسطينيًا" (2022)، التي سعت لتجاوز الصورة النمطية للفلسطيني كـ"لاجئ" أو "مقاتل" . الشعر هنا ليس أداة تضامن فحسب، بل إعادة تعريف للهوية خارج إطار الضحية.

بالطبع هذه الأنطولوجيا، برغم ثقل موضوعها، تؤكد أن غزة ليست رمزًا للموت، بل فضاء للحياة المتجددة. قصائدها تشبه "زقزقة العصافير" التي وصفها ناصر رباح: تواصل الغناء حتى بعد انتهاء القصف . في هذا السياق، يصبح السؤال "أهناك حياة قبل الموت؟" تحديًا وجوديًا: نعم، هناك حياة تكتشف في الكتابة ذاتها، في القدرة على تحويل الركام إلى كلماتٍ تُضيء دربًا نحو عالمٍ أكثر إنسانية.
وفي قصائد الأنطولوجيا، يصبح الزمن كيانًا سائلًا: ذكريات الطفولة تتصادم مع لحظات القصف، وحلم المستقبل يشكل فوق أنقاض الحاضر. الشاعر يوسف القدرة يكتب:  
"كلّ صباحٍ أفتح نوافذ الذاكرة، فأرى غزةَ التي لن تعود" .  
هنا، لا يحاول الشاعر استعادة الماضي بل يوثق انزياحه تحت ضربات الحرب. الزمن الغزاوي، بحسب القصائد، ليس خطيا بل حلزوني: كل دورة جديدة تعيد إنتاج الألم مع بصيصٍ مختلف من المقاومة. الشهيد رفعت العرعير يلخص هذا الانزياح:  

"مات جدي تحت شجرة تين... وأنا أموت تحتَ طائرةٍ بلا طيّار" .  
الاختلاف في أدوات الموت لا يلغي التشابه في الجوهر: استمرارية الحياة رغم تغير أشكال الموت.  
في سياق تفرغ فيه الكلمات من معانيها (كـ"سلام" أو "عدالة")، يعيد الشعراء شحن اللغة بدلالات جديدة. قصيدة نور بعلوشة تقدم مثالًا:  
"الوطنُ ليس جغرافيا... بل حذاءٌ ممزقٌ يحمل طفلًا إلى لا مكان" .  

اللغة هنا تتحول إلى فضاءٍ مرنٍ يعيد تعريف المفاهيم المبتذلة. حتى كلمة "غزة" نفسها، التي صارت في الإعلام مرادفةً للصراع، تستعيد في القصائد بعدها الإنساني عبر تفاصيل كـ"رائحة القهوة في الصباح" أو "لهاث الأطفال خلف كرة بالية" (حسب أشرف فياض). هذه "المفردات اليومية المقاومة" تشكل ردا على محاولات تجريد المدينة من هويتها.
كذلك لا تحتفي الأنطولوجيا بالكلمات فحسب، بل بالصمت أيضًا. الشاعر حسام معروف يكتب:  
"أحيانًا... أفضل أن ألقي قصيدتي في بحرٍ من العتمة" ،  
في إشارة إلى عجز اللغة عن احتواء الفاجعة. لكن هذا الصمت ليس استسلامًا، بل احتجاجًا على ضجيج العالم الذي يناقش مصير غزة دون أن يسمعها. الشاعرة إيناس سلطان ترفع الصمت إلى مرتبة الشعر ذاته:  
"ما لم أقلهُ أثقلُ ممّا كتبته" .  
هنا يصبح الصمت لغة موازية، كتلك المساحات البيضاء في لوحة تشكيلية، ضرورية لفهم ما بين السطور. فالجسد الغزاوي، المحكوم بالحصار والمراقبة، يتحول في القصائد إلى استعارة مركبة. الشاعر حيدر الغزالي يدمج بين جسد المدينة وجسد الإنسان:  
"غزةُ تشبهني: كليهما يحمل ندوبًا لا تظهر في الأشعة" .  
أمّا الشاعرات، مثل كوثر أبو هاني، فيربطنَ بين حصار الجسد الأنثوي وحصار الأرض:  
"أحبس أنفاسي كي لا تُسرق الطائراتُ صوتَ أنثوي" .  
الجسد هنا ليس ضحيّةً سلبية، بل أرشيف حي للانتهاكات وأداة لإعادة إنتاج الذات.

الترجمة " عبور مضاعف!

اختيار النص الفرنسي بجانب العربي يطرح أسئلة عن دور الترجمة كجسر ثقافي. لكن المترجم عبد اللطيف اللعبي، بحكم تجربته السابقة في ترجمة شعر المقاومة الفلسطينية (كأعمال محمود درويش)، يدرك مخاطر "التمرير الثقافي" التي قد تهدر الخصوصية. الترجمة هنا ليست نقلًا حرفيًا، بل إعادة كتابة تلتقط روح النص. قصيدة آلاء القطراوي: 

"أكتب بالعربية كي أفهم، وبالفرنسية كي يسمعني من أعمتهم أصوات قنابلهم" ،  
تظهر وعي الشعراء بضرورة اختراق الحواجز اللغوية دون التنازل عن الهوية.

السؤال  الآن  هو: هل يمكن للشعر أن يغير الواقع؟  الأنطولوجيا لا تتجنب نقد الذات. الشاعر وليد الهليس يسأل:  
"لماذا نكتبُ شعرًا بينما الأطفال يموتون؟" ،  
سؤال يفضح التناقض الداخلي للشاعر الذي يحمل قلماً بدل حجر. لكن القصائد نفسها تجيب: الشعر هنا ليس بديلًا عن الفعل، بل تأكيد على أن الإبداع هو آخر حدود الحرية المتبقية. قصيدة ناصر رباح:  
"سأزرع قصيدتي في حقل ألغام... لعلّ الحروف تنفجرُ نورًا" ،  
تعيد الاعتبار لدور الفن كشكل من أشكال المقاومة الوجودية.

الأنطولوجيا، في مجموعها، تعيد تعريف غزة من "مكان محتضر" إلى "نص مفتوح" يكتب يوميًا. كل قصيدة هي إصرار على أن الحياة لا تسبق الموت فحسب، بل تتجاوزه. كما يكتب مصعب أبو توهة:  
"حتى الموتُ في غزة... يموت قبل أوانه" .  

هنا، حيث يعاد تشكيل الموت نفسه، يصبح السؤال الأصلي لمريد البرغوثي مجرد بوابة لتساؤلات أعمق: كيف نعيد اكتشاف الإنسان داخل ركام الحرب؟ وكيف يحول الشعر اليأس إلى إرادة للخلق؟  

هذه الأصوات الستة والعشرون لا تطلب من العالم أن ينقذها، بل أن يصمت قليلًا ليسمع هدير الحياة الذي ينبعث من تحت أنقاض الإجابات الجاهزة. لأن غزة.. النص الذي لا يختتم .
 

طباعة شارك غزة عبد اللطيف اللعبي ياسين عدنان الأنطولوجيا

مقالات مشابهة

  • فيضانات بجميع أنحاء العالم.. ما الذي يمكن فعله للتكيف؟
  • بين الهجرة وتحديات البقاء.. هل يمكن أن يتعافى لبنان وهو يفقد شبابه؟
  • تعرفة جديدة لقص الشعر والحلاقة تدخل حيّز التنفيذ في هذه المدينة التركية
  • ما هو كوبايلوت مايكروسوفت؟ وكيف يمكن استخدامه في واتساب؟
  • علي الحكماني: الشعر ليس القراءة فقط.. إنه فن الاستماع للآخر
  • مواعيد قص الشعر في شهر يوليو 2025
  • الدرقاش: الدبيبة واجه الجميع بحقائق دامغة ووضع اشتراطات لا يمكن التنازل عليها  
  • هل وضع جل الصبار على الشعر آمن؟
  • عبد السلام فاروق يكتب: غزة نص شعري مفتوح
  • هل يمكن للقراءة أن تكون علاجاً فعالاً للاكتئاب؟