شبكة اخبار العراق:
2025-04-26@03:01:18 GMT

ما مصير التجارب المبكرة في الحداثة؟

تاريخ النشر: 19th, September 2024 GMT

ما مصير التجارب المبكرة في الحداثة؟

آخر تحديث: 19 شتنبر 2024 - 1:30 مجمال العتابي ما كان ليوميات جواد سليم أن تستقبل صفحات أخرى لم يكتبها بقلمه أو يصغها بعباراته العفويَّة البسيطة، لولا أننا نجد أنَّ تاريخ هذا الفنان قادر على استضافة الجديد الذي غبرت عليه السنون، ولم تفقده بريقه الحي ذاكرة أو قلم. “مسابقة دولية في النحت”، تحت هذا العنوان نشرت مجلة “الأسبوع”* التي كانت أوائل الخمسينات خبراً عن مسابقة دولية لنصب تذكاري للسجين السياسي المجهول، يقيمها معهد الفنون المعاصرة في لندن.

طلب المعهد من المشاركين إرسال مصغّر للنموذج مع صور لأعمالهم السابقة كشرط، وخصّص 80 جائزة لأفضل الأعمال، بلغ مجموعها 11 ألف باون إنكليزي تبرّع بها أحد محبّي الفنون الجميلة الذي أصرّ على عدم إعلان اسمه.شارك ما يقرب من الـ 3500 فنان من مختلف دول العالم، ودُعي كبار النقّاد ومدراء المتاحف العالميّة لاختيار الأعمال الفائزة التي عُرضت في لندن من عام 1953، أربع دول عربيّة شاركت في المسابقة من بين 56 دولة، كان الشاب جواد سليم أستاذ النحت في معهد الفنون الجميلة المشارك الوحيد من العراق. أربعة فنانين من بلدان “إنكلترا، فرنسا، إيطاليا، الولايات المتحدة” نالوا الجوائز الأولى، ووزعت 62 جائزة أخرى كان جواد سليم من ضمن الفائزين إذ حاز على واحدة منها.أثار هذا الحدث الفني كثيراً من الجدل حول الجوانب السياسية والفنية والفلسفية التي اخترق بها جواد الحاجب التقليدي لفن ذلك الزمان. أغلبها راحت تتحدث عن مغامرته في المشاركة، وجرأته في منافسة الفنانين العالميين في وقت مبكر من تجربته الفنية لتقديم عمل امتاز بحسّ الحداثة والتجريد مع الاختزال المكثف، وضمّنه خصائص محليَّة، استطاع فيه الجمع بين الأسلوب الفني الحديث، واستلهام بعض العناصر الشعبية المحلية بانسجام تام، حين عمد الفنان إلى الكشف عن الجوهر في الأثر الفني.  لم يكن التمثال حدثاً عابراً كذلك، إلا بمقدار ما يمنحه من صفة الديمومة، وإغنائه بالخبرات والمعاني، ليمنح المتلقي قدراً من الإثارة للإحساس به والانفعال بمعانيه، فالشاب الذي يحمل بين جانحيه موهبة فنان، وطموح مثقف، قدّم عمله كمثل في الاستغراق والتأمل، كان خلاصة لبحثه الدؤوب في المنجز النحتي العالمي، وشغفه في متابعته، وتأثره خلال مراحل دراسته بتجارب فنانين كبار، قادته إلى استلهام تجاربهم بعيون مفتوحة تتجاوز التقليد، بل البحث في الأصول وتلمس العمق فيها، يأتي “بول كلي، وجياكوميتي” في مقدمة هؤلاء، لعلّه الدرس الأهم في خلق لغته الخاصة التي نأى بها بعيداً عن مواقع الكثير من الفنانين، فهناك إشارات واستدلالات هي تاريخ الفنان وشهادة حرفيته الرصينة المحكمة.   نظرة متأمّلة في “السجين السياسي” تأخذنا الى هذا الحوار المتسق مع خطوط “بول كلي” الرشيقة المستقيمة والمتعامدة والمتقاطعة، فضلاً عن رهافتها، وأساليبه الموزعة بين الحقيقة والخيال، بين التجريد والرمز، تلك الخطوط شكلت الأرضية التي بنى عليها جواد تجريده. كما تمكن من أن يتمثل هنا أسلوب جياكوميتي في النحت، ويستخلص روحيته التجريديَّة، وأشكاله الموغلة في النحافة، والإنسان الموغل في الغياب في منحوتاته التي تستطيل وتعانق الفضاء لتترك المتلقي محمّلاً بعمق التساؤلات، فمنح عمله الرشاقة التي لها ما يبررها في النظرة إلى سمو الإنسان، والاستطالة التي أعطت النصب بعده الفلسفي والجمالي.  هاتان التجربتان أتاحتا لسليم إمكانات العمل والتجريب، بعد أن نضجت شخصيته الفنيّة، وأدرك مكانه في عالم النحت. وثمة خيط سري غير منظور في الأسلوب والأفكار يوصل لعملين عند “جياكوميتي” هما “القفص”، يبدو على الأرجح أن سليم تأثر بهما حين أراد التعبير عن معاناة “سجينه” فوجد في القفص مبتغاه حين تضيق الأسوار بساكنها الأخير ويذهب إلى قدره المحتوم. ولعل جدارته تكمن في هذا التأليف والمجانسة، والعودة إلى الينابيع، وقدرته على إحلال التواتر والتماثل، وهذا في حد ذاته سر اكتشاف الخيط الذي نسج مفرداته ومتضاداته معاً، ليفرغ في النهاية بالتشكيل الذي يمثل شخصيته وأسلوبه. ليس السجين السياسي المجهول هو الدلالة الصريحة للقيد الحديدي الذي سوف يغلّ اليد والزنزانة التي ستحتويه، ولا حتى حبل المشنقة أو الرصاصة التي سترديه، بل هو الرمز المفعم بالتمرّد الذي يكابده المناضل، فسليم في تعبيره يجمل لنا مشكلة أزليَّة تتجسّد في موضوعه عن “السجين”، وكأي أثر فني تشكيلي قدّم عملاً يتّسم بالانسجام والحركة، تقمّصهما (سجينه) كي يشاركه المتلقي في مشاهدة المأساة الدامية في قالب جمالي فني محكم بفكرة أو موضوع، حين أراد التعبير عن معاناة السجين بشكل تجريدي، وجد له الكثير من المسوغات ليصبح في وضع يقنع الآخرين بأنّه إنّما يفعل ذلك ليشركهم معه في فرحة الخلق. كان التمثال عبارة عن أحاجي ورموز مستعصية لا بدَّ من حلّها، فثمّة أعمدة وأقواس وكرة ترتبط بأربعة أسلاك من جهات عدّة، ليس ثمة أثر لإنسان أو أغلال. كان بمثابة الألم الذي أثارته آلام الآخرين، فالسجين السياسي لم يكن ممثلاً بجسده ولا بقيده ولا بكفاحه الداخلي الخفي، ولكن بكل مظاهره، ولم يكن الأمر أمر أقواس وأعمدة وكرات موضوعة بانتظام وانسجام، فليست القضية تختصر في ترتيب الخطوط والكتل فحسب، وليس الأمر هو ما إذا كان سليم المولع بالأهلّة والأقواس قد انتهى إلى شيء، فالمحنة أمامه تظل أزليَّة، وكذلك الحياة ومعناها، فالتمثال يتقمّص الصراع بعنصرين متناقضين: السكون وحب الحركة، هناك كرة صغيرة هي جوهر الموضوع، تتصل بثلاثة أعمدة راسخة تعبّر عن الانطلاق والتسامي، والرسوخ والالتصاق بالأرض في الوقت ذاته، وهلال واسع عريض يحتضن الكرة برشاقة كما يحتضن الفنان تمرّده. خلال هذا يلين الحديد وتتحرّك أنامله ما بين الانحناءات والاستقامة، كيما ينطق الجماد عن مزيج من الرقّة والصلابة، من الطيش والحكمة، من التمرّد والطاعة.لجأ النحّات إليه لأنّه يُوحي بالصلابة والقدرة على التحليق، هو بطبيعته جملة من رموز، فهو مادة الكفاح، وحلقات القيد، ومع ذلك هو الطراوة والليونة والرشاقة التي تشعّ من الهلال الحديدي المقوّس. جعل من الأشياء المألوفة قطعة فنيّة تستحث الرغبة في إثارة الأسئلة حول تلك العاطفة الإنسانيّة المشحونة بالتداعيات، لتغدو في النهاية تشكيلات تحمل هويتها الخاصة. إنَّ في استقامة ثلاثة أعمدة تتصل ببعضها لتطبق على كرة صغيرة، وهلال واسع ينفذ في أعماقه سهم حاد، ما يؤكد صورة لسجن لا يقع على هذه الأرض ولا تحدّه حدود، يحاول الفنان فيه أن ينتزع الرموز من موضوع زاخر بشتّى الدلالات، فلا بدّ لأية ضحية من آلة حادة مستقيمة تخترقها، ولا بدَّ لنهاية السجن من حبل المشنقة أو سكين المقصلة، ولا بدّ لهذا السجين المجهول من سجن مجهول أيضاً، المتلقي يكاد يشعر أن النصل يطعن الفضاء في الصميم، بينما يعبر مثلث منقبض كنهاية المفتاح عن قسوة سكين المقصلة تكاد تهوي على رقبة المحكوم عليه بالإعدام نحو الأرض.كان سليم قد عالج موضوعه بجمالية خالصة من نفس مفعمة بالثقافة، لأن الفن الحقيقي انعكاس لتلك المفاهيم المكتنزة بمعاني الحب والحياة والإنسان، وأراد بهذا الأثر أن لا ينفصل عن تاريخ الفن ذاته، إذا استطعنا أن ندلل على العلاقة بين تاريخه الشخصي، وبين آثاره الإبداعيَّة التي تؤلف فصول حياته. لكن يبقى السؤال الأهم عن مصير الأنموذج بعد سبعين عاماً من المشاركة في المعرض، إذ لا تتوفر لدينا أيّة معلومة حول مآله، ولا الجهات المتخصصة بإمكانها الإجابة، لكن المؤكد أن لقاءً مع الفنان نزار سليم “شقيق جواد” نُشر في إحدى المجلات العراقيَّة الصادرة منتصف السبعينات أشار فيه الى أنه يحتفظ بالتمثال لديه، بعد أن كان مؤمناً لدى الفنان سعيد علي مظلوم كأمانة للفنانة “لورنا” زوجة جواد. من بمقدوره الآن أن يدلّنا على هذا الأثر الفني الوطني العراقي؟. 

المصدر: شبكة اخبار العراق

كلمات دلالية: ة التی

إقرأ أيضاً:

سوق الشنيني... حرف وبضائع تراثية تقاوم الحداثة

يمتاز سوق الشنيني الذي يقع شمالي مدينة تعز القديمة باليمن في موازاة شارع الجمهورية، وتحديداً بين ثلاثة من أشهر أبواب المدينة هي؛ باب موسى، والباب الكبير، وباب المخلولة، بأنه أشهر أسواق المدينة وأقدمها، وهو يحافظ على طابعه التقليدي القديم الذي يقاوم كلّ موجات المدنيّة والحداثة في كلّ أرجائه، وهو ما يحرص على فعله أصحاب المحلات من خلال الحرص على عرض منتجات وسلع خاصة مصنوعة يدوياً، وتعكس التمسك بالتقاليد والتراث والتفرد بعرض منتجات خاصة لا تتواجد في أماكن أخرى.

 

يُرجع باحثون نشأة السوق إلى ما قبل مجيء السلطان الأيوبي توران شاه إلى اليمن عام 569 هجري، وازدهر في عهد الدولة الرسولية (626- 828 هجري). وقبل أربعة قرون كان السوق يفتح أبوابه يومَي الاثنين والخميس فحسب مثل عادة أسواق اليمن التقليدية التي تعمل أياماً محددة وتسمى بأسماء هذه الأيام، ثم تحوّل لاحقاً سوقاً دائماً خلال فترة الأئمة من بيت آل حميد الدين الذين حكموا اليمن بين عامَي 1918 و1962.

 

يحافظ السوق على نمط المحلات التجارية بشكلها الأول الذي بُنيت عليه من دون أن يطاولها أي تغيير، وأيضاً على طريقة عرض البضائع التي يوضع نصفُها داخل المحل ويُفرش نصفها الآخر أمامه داخل شوالات، ولا تزال معظم المحلات في السوق تتعامل بالكثير من الأوزان والأحجام القديمة، مثل القدح والثمنة ونصف الثمنة وربع الثمنة والأوقية.

ويستقبل السوق الزوار بروائح عطرية وبهارات مميزة، تعلَق في الذاكرة، وتُفصح عن هويته التاريخية الموغِلة في القِدم، باعتباره يحافظ على شكله القديم وبضائعه ومحلاته منذ عشرات السنين.

 

في مدخل السوق تفوح رائحة الجبن البلدي من محلات تقع على الجانبين، وتعرض جميع أنواع الجبن المصنوع محلياً بطرق بدائية وتقليدية، مثل العوشقي، والعرفي، والقاحزي، والهاملي، والضبابي، والقمهري، والكدحي، والعرفي، والقمهري، والعوب.

 

وحين يتجاوز الزوار بائعي الجبن البلدي تقعُ عيونهم على محلات وحوانيت تبيع جميع أنواع البهارات والبخور والعنبر والمنتجات الزراعية المحلية، مثل البُن والحلبة والحلقة والثوم والفول والفاصوليا، وأنواع الحبوب مثل الذرة والذرة الشامية والشعير إضافة إلى الوزف، وهو سمك سردين صغير ومجفّف.

 

ويوصف الوزف بأنه لحم الفقراء في اليمن، لذا يزداد الإقبال عليه من مختلف المحافظات، ولا يقتصر بيعه على المواطنين، بل يشمل شركات أجنبية تستخدمه عادة لتغذية الدواجن والجمال أثناء بيعه بسعر رخيص، لأنه يزيد إنتاج الحليب كونه ذا قيمة غذائية عالية.

 

تبيع محلاتٌ أيضاً العطارةَ والأعشاب الطبية التي لا يزال بعض كبار السّن في القرى يستخدمونها للتداوي من الأمراض، وأشهر هذه الأعشاب نبتة المرامية، وعين الديك، وعرق السوس، وزهرة البابوند، والشمار وغيرها، كما تتخصّص محلات في بيع أوانٍ فخارية مصنوعة من المدر، مثل الكيزان والفناجين والحَرِض، وتنور صناعة الخبز الذي يُعرف محلياً باسم مأفي، إضافة إلى البواري (رأس المداعة)، والمباخر وغيرها.

 

ويحتوي السوق على محلات قديمة للحدادة، خاصة بصناعة المستلزمات الزراعية لحراثة الأرض، مثل المحفر (المعول) والعطيف (الفأس) والمجارف والمضمد الخاص بحراثة الأرض باستخدام الثيران، إضافة إلى أدوات تستخدم في البناء مثل المطرقة والمفرص والشرنيم. وتتخصّص محلاتٌ ببيع التنباك (التبغ) والمدائع بكل مكوناتها من المداعة والقصبة التي تكون مزينة بغلاف من الخيوط المحاكة يدوياً، ومحلات أخرى لبيع الأدوات المصنوعة من سعف النخل، وحياكة المعاوز.

 

يقول أحمد الزغروري الذي يملك محل عطارة في السوق، لـ"العربي الجديد": "كان السوق في تسعينيات القرن العشرين قِبلة للسياح القادمين إلى تعز، وحصل انتعاش كبير في حركة السوق نتيجة الإقبال الكبير عليه، لكن بسبب الحرب والظروف التي أنتجتها، وأيضاً بسبب انتشار المحلات خارج السوق، انخفض الإقبال كثيراً، وحالياً معظم رواد السوق من أبناء الريف، خصوصاً الفلاحين وكبار السن الذين ارتبطوا روحياً بالمكان الذي ألفوه منذ طفولتهم، لكنه لا يزال يملك خصائص تميزه، إذ يحتوي على سلع ومنتجات لا يمكن إيجادها في أيّ أماكن أخرى خارج أسوار سوق الشنيني، مثل الأعشاب الطبية والمنتجات العطرية والمنتجات الفخارية، وهذا ما جعل السوق يواجه كل التحديات ويبقى قائماً، إضافة إلى تعلّق أصحاب المحلات هنا بمحلاتهم، كأنهم لا يستطيعون الحياة خارج هذا السوق".


مقالات مشابهة

  • اكتشاف هياكل عظمية لنساء تكشف عن حياتهن الصعبة خلال العصور الوسطى المبكرة
  • حزنت جدا للمصيبة التي حلت بمتحف السودان القومي بسبب النهب الذي تعرض له بواسطة عصابات الدعم السريع
  • هاني رمزي: «لام شمسية» من أعظم الأعمال الدرامية التي قدمت على مدار التاريخ
  • سوق الشنيني... حرف وبضائع تراثية تقاوم الحداثة
  • في ذكرى رحيله.. محمود مرسي "عتريس" الذي خجل أمام الكاميرا وكتب نعيه بيده
  • عنقاء الحداثة
  • أسعار النفط ترتفع في التعاملات المبكرة والبرميل يسجل 66.18 دولار
  • 16 شهيداً في مجازر جديدة ونسف مباني للعدو الصهيوني في رفح
  • العدوان متواصل: 16 شهيداً في مجازر جديدة ونسف مباني في رفح
  • مصير طائرة طيران الهند التي بيعت العام الماضي بعد تلويحة الوداع.. فيديو