التدخل الحكومي.. هل هو الحل لإنقاذ الاقتصاد الأوروبي؟
تاريخ النشر: 19th, September 2024 GMT
الاقتصاد نيوز - متابعة
يشهد الاقتصاد العالمي تحولات عميقة، دفعت بالعديد من الدول إلى إعادة تقييم سياساتها الاقتصادية، وفي قلب هذه التحولات، تبرز أوروبا التي تواجه تحديات اقتصادية متزايدة، بدءاً من المنافسة الشديدة من الاقتصادات الناشئة، ووصولاً إلى تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية.
وفي ظل هذا المشهد المتغير، هل يمكن لأوروبا أن تجد مخرجاً من أزمتها الاقتصادية من خلال التوجه نحو اقتصاد موجه، كما تفعل الولايات المتحدة؟ يدعو ماريو دراجي، أحد أبرز الاقتصاديين الأوروبيين، (الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي ورئيس الوزراء الإيطالي السابق) إلى زيادة التدخل الحكومي في الاقتصاد كحل محتمل.
في مقال نشرته صحيفة (وول ستريت جورنال) واطلعت عليه سكاي نيوز عربية، تحت عنوان "لماذا تتبنى أوروبا النموذج الأميركي الجديد للنمو الاقتصادي؟"، يؤكد الكاتب جون سيندرو، أن اتباع نهج الولايات المتحدة يتطلب تدخلاً حكومياً أكبر في السياسة الصناعية والتجارية.
وشهدت سياسات الاتحاد الأوروبي اهتزازاً الأسبوع الماضي بعد أن نشر ماريو دراجي، الذي يُنسب إليه الفضل في إنقاذ منطقة اليورو في عام 2012، تقريره حول كيفية وقف الركود الاقتصادي الذي تفاقم بسبب المنافسة التي فرضتها الصادرات الصينية ونهاية حقبة الطاقة الروسية الرخيصة، حيث قوبل اقتراحه بإصدار المزيد من الديون المشتركة بالمعارضة من قبل ألمانيا، وهو أمر ليس جديداً على الساحة السياسية، بحسب المقال.
ويقول كاتب المقال: "النقطة الأساسية في التقرير هي أنه يجب على الاتحاد الأوروبي أن يسعى للتقارب مع نموذج الولايات المتحدة فيما يتعلق بنمو الإنتاجية والابتكار، ماذا يعني الاقتراب أكثر من نموذج الولايات المتحدة؟، يؤكد دراجي على أهمية قطاع التكنولوجيا، مشيراً إلى أنه مسؤول عن كل النمو الزائد في الإنتاجية الأميركية على مدى العشرين عاماً الماضية. ويجادل بأن أوروبا لا تستطيع تحمل البقاء عالقة في الصناعات القديمة".
ويوضح أن هذا التركيز "العمودي" على قطاع واحد يشكل ابتعاداً كبيراً عن الوضع الراهن الذي ساد بعد الثمانينيات من القرن الماضي والذي روج للأسواق الحرة وروح المبادرة والسياسات "الأفقية" الهادفة إلى تعزيز الاقتصاد الأوروبي بأكمله مثل تعليم القوى العاملة وبناء البنية التحتية. هذا النهج متأصل في الأساس القانوني للاتحاد الأوروبي، معاهدة ماستريخت لعام 1992.
ويتساءل كاتب المقال.. لماذا الولايات المتحدة أكثر إنتاجية؟ ليجيب على التساؤل بنفسه: "هذا سؤال قديم طرحه ألين يونج، رئيس قسم الاقتصاد الأميركي في كلية لندن للاقتصاد، في عام 1928. وفي خطاب له، نفى أن تكون الفجوة ناتجة عن إدارة أفضل للشركات الأميركية. ما يعني أن الأساليب الإنتاجية التي تعتبر اقتصادية ومربحة في أميركا لن تكون كذلك في أماكن أخرى".
ويؤكد أن "الشركات لن تقوم إلا باستثمارات كبيرة لتعزيز الإنتاجية إذا كانت تعمل في قطاعات نمو حيث يكون ذلك منطقياً. وهذا هو سبب وجود فجوة في أوروبا في معدلات الاستثمار غير الإنشائية مقارنة بالولايات المتحدة فقد ظل أكبر ثلاثة منفقين على الأبحاث في الآونة الأخيرة من شركات تصنيع السيارات التي تعمل بالبنزين. على النقيض من ذلك، كان كبار المنفقين على البحث والتطوير في الولايات المتحدة في مجال السيارات والأدوية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ثم في مجال البرمجيات والأجهزة في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ومؤخرا في التطبيقات الرقمية، ولكن الدول لا تستطيع الانتقال بسهولة إلى هذه القطاعات الأكثر تعقيدًا، لأن العوائد المتزايدة مع الحجم تخلق حاجزاً طبيعياً ضد أي منافس ناشئ".
وفي الواقع، لا يمكن تفسير عالم اليوم المليء بـ "شركات رابح واحد" والاختلالات التجارية الراسخة والتكتل في عدد قليل من المناطق الحضرية بالكامل عن طريق المزايا النسبية، أو حتى تأثير أسعار الصرف غير المتوازنة وتدفقات رؤوس الأموال، ولا يمكن تفسير التاريخ أيضاً لأي دولة حاولت اللحاق بالركب اقتصادياً على الإطلاق. على الرغم من سجلها في سياسة عدم التدخل، فقد كانت الولايات المتحدة خلال مرحلة اللحاق بالمملكة المتحدة في القرن التاسع عشر، مستخدماً متحمسًا للسياسات الحمائية في الصناعة.
ويضيف كاتب المقال "كانت الولايات المتحدة بطلة التجارة الحرة متعددة الأطراف في النصف الثاني من القرن العشرين، وكان لديها حوافز كافية للقيام بذلك حتى وقت قريب جدًا. استخدمت شركات وادي السيليكون التابعة لها، التي ولدت جزئياً من خلال الاستثمارات العسكرية السابقة، اقتصادات الشبكات لتصبح بطلة العالم، ولكن أميركا بدأت تغير رأيها مع تحول الصين إلى منافس مباشر. تساعد الدعم الصناعي والسوق المحلي الواسع الصين الآن في إغراق الأسواق العالمية بالسيارات الكهربائية واللوحات الشمسية وغيرها من التقنيات المتقدمة بسعر لا يمكن تحقيقه للمنافسين الغربيين ذوي الحجم الأصغر".
جاء الرد أولاً من خلال تعريفة دونالد ترامب، ثم قانون الرقائق والعلوم وقانون خفض التضخم الذي تبناه الرئيس بايدن، والذي قدم أموالاً فيدرالية لصناعات أشباه الموصلات والسيارات الكهربائية والطاقة النظيفة المحلية. على الرغم من الصعوبات النامية، كما تظهر مشاكل شركة إنتل، فقد أدت إلى طفرة في بناء التصنيع، ولكن الاتحاد الأوروبي فشل في الرد بنفس القدر، بحسب سيندرو.
فوائد التدخل الحكومي
في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" قال الخبير الاقتصادي علي حمودي: "أعادت الدعوات الأخيرة لمزيد من التدخل الحكومي في اقتصاد أوروبا والتي تعكس الرؤى التي عبر عنها رئيس البنك المركزي الأوروبي السابق ماريو دراجي، إشعال نقاش طويل الأمد، هل يمكن لنهج أكثر تدخلاً، ربما يشبه النموذج الأميركي، أن ينقذ الاقتصاد الأوروبي من أزماته الحالية؟".
ويرى حمودي أن الحجة لصالح التدخل الحكومي تتجلى في:
معالجة إخفاقات السوق، حيث يتعقد المؤيدون أن التدخل الحكومي ضروري لمعالجة إخفاقات السوق، مثل الافتقار إلى الاستثمار في التكنولوجيات الخضراء والبنية الأساسية وشبكات الأمان الاجتماعي غير الكافية.
تشجيع الإبداع، حيث يمكن للمبادرات التي تقودها الحكومة أن تحفز الإبداع والبحث، وخاصة في قطاعات مثل الطاقة المتجددة والتصنيع المتقدم.
معالجة التفاوت، حيث يمكن لنهج أكثر تدخلاً أن يعالج التفاوت في الدخل من خلال تمويل التعليم والرعاية الصحية والبرامج الاجتماعية، وخلق مجتمع أكثر إنصافاً.
السيطرة على التضخم، إذ يمكن للحكومات استخدام أدوات السياسة المالية، مثل زيادة الإنفاق وخفض الضرائب المستهدفة، لإدارة التضخم وتحفيز الطلب أثناء فترات الركود الاقتصادي.
مخاطر الاقتصاد الموجه
ولكن الخبير الاقتصادي حمودي أشار إلى مخاطر الاقتصاد الموجه وفقاً لما يلي:
انخفاض الابتكار والكفاءة، يمكن للتدخل الحكومي المفرط أن يخنق الابتكار والكفاءة في القطاع الخاص، مما يخلق اقتصاداً أقل ديناميكية وتنافسية.
زيادة البيروقراطية، حيث يمكن أن يؤدي توسيع مشاركة الحكومة إلى زيادة البيروقراطية، وبطىء اتخاذ القرار، وتقليل المرونة في الاستجابة لظروف السوق المتغيرة.
إزاحة الاستثمار الخاص: يمكن للإنفاق الحكومي المفرط أن يزاحم الاستثمار الخاص، حيث قد ترى الشركات بيئة أقل ملاءمة للنمو.
الخطر الأخلاقي، ويمكن أن يؤدي الاعتماد المفرط على التدخل الحكومي إلى خلق خطر أخلاقي، حيث تصبح الشركات والأفراد معتمدين بشكل مفرط على الدعم الحكومي، مما يقوض الاعتماد على الذات.
محاكاة النموذج الأميركي
ورداً على سؤال فيما إذا كانت أوروبا تستطيع أوروبا محاكاة النموذج الأميركي قال حمودي: "للولايات المتحدة تاريخ طويل من التدخل الحكومي في اقتصادها، وأبرزها في الأزمة المالية عام 2008. ومع ذلك، فإن النموذج الأميركي ليس خالياً من المنتقدين، الذين يزعمون أنه ساهم في عدم المساواة وتراكم الديون. إن محاكاة النموذج الأميركي في أوروبا يتطلب تحولاً كبيراً في المواقف الثقافية والسياسية تجاه التدخل الحكومي".
وأضاف: لقد حث دراجي، المعروف بأفعاله الجريئة أثناء أزمة منطقة اليورو، على تدخل حكومي أكبر لمعالجة التحديات الاقتصادية التي تواجه أوروبا، بما في ذلك تغير المناخ، والابتكار التكنولوجي، والتفاوت الاجتماعي. وتسلط حججه الضوء على الحاجة إلى نهج أكثر استراتيجية واستباقية لضمان القدرة التنافسية لأوروبا وقدرتها على الصمود في المشهد العالمي المتغير بسرعة".
ويرى الخبير الاقتصادي حمودي أن المناقشة حول التدخل الحكومي في أوروبا لم تستقر بعد. وفي حين أن زيادة التدخل يمكن أن تعالج بعض إخفاقات السوق وتعزز العدالة الاجتماعية، فإنها تحمل مخاطر انخفاض الكفاءة، وزيادة البيروقراطية، والتشوهات المحتملة في ديناميكيات السوق.
وأكد أن المفتاح يكمن في إيجاد التوازن بين الأسواق الحرة والتدخل الحكومي. وهذا يتطلب دراسة متأنية للتحديات المحددة التي يواجهها الاقتصاد الأوروبي، وفهما ًواضحاً للمخاطر والفوائد المحتملة للتدخل، والالتزام بالشفافية والمساءلة في الإجراءات الحكومية. ويتطلب المسار إلى الأمام نهجاً دقيقاً يعالج التحديات الفريدة التي تواجه أوروبا ويعزز النمو المستدام والرفاهة لمواطنيها، لافتاً إلى أن مستقبل الاقتصاد الأوروبي سوف يعتمد في نهاية المطاف على قدرته على التعامل مع التفاعل المعقد بين قوى السوق والتدخل الحكومي، مع الحفاظ على التركيز على النمو المستدام والشامل.
الإنتاجية والابتكار
بدوره، قال الخبير الاقتصادي حسين القمزي في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "نحن نتحدث عن نظام اقتصادي يعتمد على زيادة التدخل الحكومي في السياسات الصناعية والتجارية، وهو الأمر الذي يواجه حالياً نقاشاً صعباً حول فعاليته في معالجة التحديات الاقتصادية الخاصة بأوروبا".
وأضاف: "يعتقد ماريو دراجي، في تقريره لعام 2024 حول القدرة التنافسية الأوروبية، أن التدخل الحكومي المكثف ضروري لتعزيز الإنتاجية والابتكار في أوروبا، خاصة في قطاعات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والطاقة النظيفة وهي قطاعات تتخلف فيها أوروبا مقارنة بالولايات المتحدة والصين. ويشير دراجي إلى ضرورة ضخ استثمارات كبيرة في هذه المجالات لكي تتمكن أوروبا من المنافسة مع الولايات المتحدة والصين".
إحدى التوصيات الرئيسية لدراجي هي زيادة الاستثمارات بنحو 800 مليار يورو سنوياً، وهي خطوة تواجه مقاومة من دول مثل ألمانيا وهولندا. وتعتبر هذه الاستثمارات ضرورية لتحديث القاعدة الصناعية القديمة في أوروبا ودعم الابتكار. ومع ذلك، فإن التحديات السياسية داخل الاتحاد الأوروبي، مثل الانقسامات بين الدول الأعضاء، قد تعرقل تحقيق هذا الهدف، بحسب تعبيره.
بالإضافة إلى ذلك، اقترح دراجي إصدار ديون مشتركة بين دول الاتحاد الأوروبي وتخفيف القواعد المتعلقة بالمنافسة للسماح بإنشاء "أبطال أوروبيين" يمكنهم التنافس على الساحة العالمية، لكن هذه الاقتراحات لاقت معارضة سياسية كبيرة.
ويرى القمزي رؤية دراجي بأن أوروبا بحاجة إلى تركيز استثماراتها على تقنيات محددة وإنشاء مراكز ابتكار عالمية لمواكبة التطورات في قطاعات مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة، تتطلب التغلب على تحديات سياسية وهيكلية كبيرة لضمان نجاحها.
المصدر: وكالة الإقتصاد نيوز
كلمات دلالية: كل الأخبار كل الأخبار آخر الأخـبـار الاقتصاد الأوروبی التدخل الحکومی فی الاتحاد الأوروبی الولایات المتحدة الخبیر الاقتصادی فی أوروبا فی قطاعات من القرن من خلال
إقرأ أيضاً:
كيف يمكن للولايات المتحدة التعلم من إخفاقات سياستها أثناء الربيع العربي؟
أحيت المشاهد المبهجة الأسبوع الماضي في دمشق آمال الحرية في مختلف أنحاء العالم العربي، لكنها تعيد إلى الأذهان ذكريات مؤلمة أيضا من بغداد وتونس والقاهرة وطرابلس وصنعاء والخرطوم، نظرا لأن صور مماثلة ظهرت في عواصم عربية أخرى على مدى العقدين الماضيين، ولكن حتى الآن لم تنته أي من هذه القصص على خير.
وقال الصحفي ديفيد كيركباتريك في مقال نشرته مجلة "نيويوركر": إن "الاحتمالات القاتمة للهروب من الاستبداد أو الحرب الأهلية لا تقتصر على العالم العربي، ذلك أن عصر نهاية التاريخ السعيد، السنوات التي أعقبت الحرب الباردة عندما بدا ذات يوم أن مسيرة الديمقراطية الليبرالية إلى الأمام لا يمكن إيقافها، انتهى تقريبا في وقت الغزو الأميركي للعراق في عام 2003".
وأضاف كيركباتريك أنه منذ ذلك الحين، أصبح عدد الديمقراطيات في مختلف أنحاء العالم ـ ذات المؤسسات الحاكمة الدائمة، والتناوب السلمي للسلطة، وبعض مظاهر القانون ـ ثابتا تقريبا، والواقع أن التحولات الديمقراطية الناجحة، وخاصة بعد فترات من الصراع المسلح، أصبحت نادرة للغاية.
وأوضح أنه "قبل ما يقرب من عقد من الزمان، ومع انزلاق ثورة الربيع العربي في سوريا إلى حرب أهلية طائفية، قدم توماس كاروثرز، وهو باحث أميركي بارز في التحولات السياسية في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، تفسيرا لسبب توقف الاضطرابات السياسية في جميع أنحاء العالم عن الاتجاه نحو الديمقراطية".
وذكر "لا يزال صناع السياسات في الولايات المتحدة يصورون أنفسهم وحلفائهم الغربيين باعتبارهم الجهات الفاعلة الرئيسية التي قد تمد يدها من الخارج لتشكيل مستقبل البلدان المضطربة، للأفضل أو الأسوأ، لكن الكثير من اللاعبين الآخرين دخلوا اللعبة - دول أصغر وأقل قوة على ما يبدو والتي تسعى إلى تعزيز مصالحها الخاصة من خلال رعاية الفصائل السياسية أو الجماعات المسلحة داخل هذه البلدان. كان بعض هؤلاء المتدخلين أعداء، مثل إيران في العراق بعد الغزو، أو روسيا في الاتحاد السوفييتي السابق".
وبين "لكن العديد منهم كانوا عملاء أو حلفاء أميركيين ظاهريين، مثل ممالك الخليج ، التي مارست نفوذها عبر البحرين ومصر وليبيا وأماكن أخرى، في بعض الأحيان بالقوة العسكرية المباشرة، ولكن في الوقت نفسه، كانت هناك دول أخرى ينظر إليها صناع السياسات الغربيون عادة باعتبارها حالات خيرية أو مشاريع لتعزيز الديمقراطية، على النقيض من المفسدين الذين كانوا منخرطين في الوقت نفسه في مؤامرات خفية لتقويض التحولات الديمقراطية خارج حدودهم ــ كما فعلت باكستان في أفغانستان، أو كما فعلت مصر في ليبيا والسودان".
وأشار إلى أنه "لم يكن أي من هؤلاء المتطفلين الجدد يضاهي قدرات أو موارد الولايات المتحدة، لكنهم كانوا يهتمون كثيرا، أكثر كثيرا من أي شخص في واشنطن، بأهداف تدخلهم، وفي هذا العصر الجديد، كتب كاروثرز، مع مؤلفه المشارك أورين ساميت مارام، "لا ينبغي تأطير المناقشات حول الدور الذي ينبغي للغرب أن يلعبه في بلد معين على النحو التالي: هل ينبغي لنا أن ندعم الديمقراطية؟ وكأن الاختيار بين مشاركة الدول الغربية أو تقدم البلد المعني سياسيا بمفرده". والسؤال الأكثر ملاءمة هو "ما إذا كان ينبغي للغرب أن يشارك أو بدلا من ذلك يترك المجال خاليا للجهات الفاعلة الخارجية الأخرى".
وأكد أن "سوريا هي الحالة النموذجية، ومنذ بداية ثورات الربيع العربي في أوائل عام 2011، كانت الحركة من أجل الديمقراطية في سوريا من بين أقل الحركات نجاحا، فقد كان الأمر صعبا بما يكفي لدرجة أن قرونا من الاستعمار وعقودا من الدكتاتورية الوحشية تركت عداء عميقا بين مجموعاتها العرقية وطوائفها الدينية العديدة، ولكن الأسوأ من ذلك أن سوريا كانت أيضا محاطة بقوى خارجية مفترسة ــ بما في ذلك إيران، والممالك العربية في الخليج وروسيا وتركيا وإسرائيل، وكانت جميعها مستعدة لاستغلال هذه الانقسامات من خلال دعم وكلاء داخليين في معركة ضد بعضهم البعض، أو حتى التدخل بالقوة العسكرية".
وقال إنه "على الرغم من بعض الخطابات النبيلة للرئيس باراك أوباما حول حقوق الإنسان والخطوط الحمراء، ظلت الولايات المتحدة بعيدة عن الأمر إلى حد كبير، تاركة سوريا تحت رحمة دول أخرى في المنطقة، واندلع أكثر من عقد من الفوضى. ومؤخرا، قال كاروثرز إنه يرى سوريا "حالة شديدة الخطورة" من تدويل الصراع المدني الذي وصفه قبل ما يقرب من عشر سنوات. ولكن من الممكن أيضا أن يكون ذلك "مثالا واضحا على ما سيصبح عليه العالم" عندما تصبح أي نقطة ساخنة مهمة مركزا لصراع دولي متعدد الأطراف".
كان روبرت فورد، السفير الأميركي في سوريا في بداية الربيع العربي، من بين أولئك الذين توقعوا المتاعب القادمة، وبحلول بداية عام 2014، بعد عامين من بدء الانتفاضة السورية ــ في البداية كموقف سلمي من أجل الديمقراطية ــ ألقت إيران بثقلها خلف رئيس النظام بشار الأسد في حين كانت دول الخليج الغنية بالنفط "تقدم الشيكات للجهاديين السنة بين معارضيه بغض النظر عن طائفيتهم أو تطرفهم".
وقال كيركباتريك إنه "في الوقت نفسه، اقتصرت الولايات المتحدة على توفير أسلحة وتدريب محدودين لقوة صغيرة فقط من الألوية المتمردة الليبرالية إلى حد ما والتي تم فحصها بعناية، وفي شباط/ فبراير من ذلك العام، استقال فورد بسبب إحباطه من الفتور وعدم فعالية السياسة الأميركية، وفي العاشر من حزيران/ يونيو، حذر في مقال رأي في صحيفة نيويورك تايمز من أن "المزيد من التردد وعدم الرغبة في الالتزام بتمكين مقاتلي المعارضة المعتدلة من محاربة الجهاديين والنظام بشكل أكثر فعالية من شأنه ببساطة أن يعجل باليوم الذي يتعين فيه على القوات الأميركية التدخل ضد تنظيم القاعدة في سوريا".
وبعد تسعة عشر يوما، استولى تنظيم "داعش" على جزء كبير من سوريا وأعلن عن "خلافة" جديدة تمتد عبر الحدود إلى العراق، وفي آب/ أغسطس، بدأت القوات الأميركية في قصف مقاتلي داعش في سوريا، كما توقع فورد، ويبقى حوالي تسعمائة جندي أميركي في سوريا لمنع عودة التنظيم.
وفي عام 2012، بادر فورد، بصفته سفيرا، إلى تصنيف فصيل مرتبط بالقاعدة كان يُعرف آنذاك باسم جبهة النصرة كـ"إرهابي"، وفي مقابلة أجريت معه الأسبوع الماضي، قال إنه كان لدى الولايات المتحدة "معلومات استخباراتية جيدة" حول "الروابط العضوية للمجموعة مع القاعدة في العراق، وأردنا أن نقطع علاقة المعارضة السورية بجبهة النصرة في مهدها".
ومع ذلك، قال إن القضاء على جبهة النصرة أصبح "أحد إخفاقاتنا العديدة"، ونفس المجموعة، التي انفصلت علنا عن القاعدة في عام 2017، اندمجت في نهاية المطاف مع مجموعات أخرى لتشكيل هيئة تحرير الشام، وتسائل كيركباتريك "لكن هل كان هذا هو الحال؟ لقد سيطرت الهيئة إلى حد ما على محافظة إدلب السورية على مدى السنوات العديدة الماضية، وفي الأيام الأخيرة قادت عملية الاستيلاء الخاطفة على حلب وحماة وحمص ودمشق التي أطاحت بالأسد".
ومع ذلك، قال فورد، الذي يعرف مثل أي شخص آخر إخفاقات السياسة الأمريكية في سوريا والربيع العربي، أنه كان يأمل في أن تتمكن الولايات المتحدة، من خلال التعلم من تلك الأخطاء، من مساعدة السوريين على الحصول على فرصة جيدة للحكم الذاتي المستقر.
وزعم أن انهيار الأسد المفاجئ قد فتح فرصة نادرة، "عندما يكون للمقاربة الدبلوماسية أكبر الأثر"، ولكن هل من الممكن أن يكون الدبلوماسيون الغربيون قادرين على توجيه السوريين على الأرض؟ يقول فورد إن الدبلوماسيين الغربيين لن يكونوا "موجهين" للسوريين على الأرض، ولكنهم مع ذلك قادرون على لفت انتباه الثوار الذين يديرون دمشق الآن إلى أمثلة لما نجح وما لم ينجح في التحولات السياسية الأخرى.
ويرى فورد أن على أمريكا أن تخبر حلفاءها الأكراد بأن "الأمور تغيرت وأن هذا هو الوقت الذي تحتاج فيه إلى تقديم بعض التنازلات"، مضيفا: "من المعقول أن نطلب من الحكومة الجديدة في دمشق تقديم بعض التنازلات في المقابل، وأن نطلب من الأتراك تقديم بعض التنازلات، ولكنهم بحاجة إلى الانخراط في المساومة، وبناء الإجماع".
واكد فورد أن على الدبلوماسيين الأميركيين البدء في التحدث إلى العديد من اللاعبين الآخرين الجالسين على الطاولة - من الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا إلى الفصائل الصغيرة مثل الجيش السوري الحر في درعا إلى قادة هيئة تحرير الشام، أقوى القوات المسلحة العديدة العاملة الآن في سوريا.
والسبت الماضي، قال وزير الخارجية، أنتوني بلينكين: إن "الولايات المتحدة أجرت اتصالات مع هيئة تحرير الشام، مما يشير إلى أن إدارة بايدن قد تختبر البراغماتية التي أبدتها الهيئة".
وحذر فورد من أن الولايات المتحدة، في "فتح الاتصالات مع مختلف الجهات الفاعلة السورية غير المرغوب فيها، يجب أن تتعلم من تجربتها في العراق من خلال تبني توقعات واقعية ومطالب بالمساءلة، وعندما ترتكب قوات الأمن فظائع - وهو ما أعتقد أنه أمر مؤكد تقريبا في حالة سوريا - يجب ألا نقول فقط، لا، لقد قلنا لهم ألا يفعلوا ذلك! نحن بحاجة إلى أن نقول للقادة".
وأكد "هذا غير مقبول.. متى ستكون المحاكمة ومتى ستعلن عنها؟' وبالطبع ستكون علنية، لذلك هناك عنصر من التسمية والتشهير، وإذا كان التاريخ مؤشرا، فإن العديد من زعماء الميليشيات المتمردة ربما يركزون الآن على مناصب رسمية في الحكومة الجديدة ــ كوزراء، أو أعضاء في البرلمان، أو سفراء، ربما ــ مما يعطيهم مصلحة في تعزيز مصداقيتهم".
ومع ذلك، أقر فورد بأن العقبة الأكبر قد تكون خارج حدود سوريا: "التدخل من جانب القوى الإقليمية، وخاصة تلك التي رعت بالفعل فصائل داخلية أو نفذت عمليات عسكرية - تلك التي غذت أكثر من عقد من الحرب، وإن كبح جماح مثل هذا التدخل الخارجي هو الخطوة الثالثة الضرورية".
وأشار فورد إلى أن "إيران وروسيا، الخصمان الواضحان للولايات المتحدة اللذان شاركا في سوريا، يبدو أنهما تراجعا، مما أدى إلى إزالة العوائق المحتملة أمام المساهمة الأمريكية. ومن الواضح أن الجارتين الأكثر نفوذا هما تركيا، التي دعمت هيئة تحرير الشام، وإسرائيل، التي ساعدت بشكل غير مباشر في دفع الأسد عن السلطة من خلال شل حلفائه المدعومين من إيران. وقد أجرت إسرائيل بالفعل عمليات عسكرية لتدمير الكثير من الجيش السوري المتبقي واحتلال ما كان بمثابة منطقة عازلة في مرتفعات الجولان".
وذكر أنه "في البداية، برر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو هذه الإجراءات باعتبارها ضربة استباقية لإبقاء الأسلحة والأراضي بعيدة عن أيدي المتطرفين الإسلاميين، ثم أصدر بيانا منتصرا من أعلى جبل الشيخ، في الأراضي السورية التي تم الاستيلاء عليها حديثا، مشيرا إلى أن إسرائيل تنوي إنشاء قاعدة هناك - وهي الخطوة التي من المؤكد أنها ستثير ردود فعل عنيفة في دمشق وأنقرة. كما تعاونت إسرائيل تاريخيا مع القوات الكردية في العراق، مما أثار الشكوك في دمشق بأن إسرائيل قد تعقد الآن تحالفا ملائما مع الأكراد السوريين".
وقال فورد إن تركيا وإسرائيل، "القوتين الصاعدتين" على جانبي سوريا، "تعملان انطلاقا من شعور عميق بالتفوق الأخلاقي والشرعية التاريخية ولكن أيضا الخوف الحاد، ولتحقيق الاستقرار، يجب على أي حكومة سورية جديدة ضمان أمن إسرائيل من الهجمات عبر الحدود من قبل المقاتلين الإسلاميين وضمان أمن تركيا وسلامة أراضيها ضد الانفصاليين الأكراد. لكن تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي، وإسرائيل حليفتان للولايات المتحدة، مما يضع الولايات المتحدة في موقف يسمح لها بالتوسط في المفاوضات والحث على ضبط النفس".
وجاء في نهاية المقال إنه "من بين كل المفسدين الإقليميين المحتملين، يرى فورد أن أول من يجب التحدث معهم هم الأتراك والإسرائيليون. يجب عليك أيضا التحدث مع الإماراتيين وعليك التحدث مع السعوديين والأردنيين والعراقيين والروس.. وستكون المحادثات مع الإيرانيين مفيدة أيضا ولكنها تتطلب وسيطا، ربما من خلال العراق".