لجريدة عمان:
2024-12-26@18:39:32 GMT

الرياضة والصحة النفسية

تاريخ النشر: 18th, September 2024 GMT

في المقالة السابقة، تحدثت إلى أصدقائي وإخوتي طلبة الكليات والجامعات، ناصحًا إياهم بما فاتتنا معرفته، وكيف يمكن الاستفادة من أدوات العصر في تحقيق أهدافهم قصيرة المدى، أو تلك الأهداف التي يسعى المرء ويفني حياته في سبيلها؛ وهذه الأهداف تتحول إلى أسلوب حياة، يلزم المرء نفسه بتحقيقها وتكون جائزته السعي في سبيلها، وَصَلَ أم لم يصل؛ فالمتعة في الطريق كما يقولون.

تفطّن القدماء إلى أمور اعتبروها بداهية لا ضرورة للتنبيه عليها أو الإشارة إليها، ومع مرور الزمن، صرنا نبحث عن البديهي ونعتبر الوصول إليه أو معرفته كشفا ينبغي الاحتفاء به والتنبيه عليه؛ وذلك لأننا أهملناه ردحًا من الزمن، حتى ظهرت العلل التي كان يخفيها، والنتائج التي كان السد المنيع أمامها، ومن هذه الأمور، هي الرياضة والصحة النفسية كذلك.

كان الإغريق أصحاب النشأة الأولى لكثير من الرياضات والعلوم الفلسفية العقلية في آن، ثم تبنت الحضارات التي جاءت بعدهم كثيرا من رؤاهم وأسلوب حياتهم النافع، ومنها الحضارة الإسلامية، ومن الأقوال المنسوبة إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الخليفة الإسلامي الثاني قوله: «علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل»، ولا يعني قوله هذا الاقتصار على تعليم النشء هذه الرياضات دون تعليمهم العلوم الأخرى؛ بل ليتعلموها جنبًا إلى جنب مع العلوم الشرعية والعقلية على السواء. مرت عقود طويلة على هذا القول، وعلى أقوال أخرى لكثير من الفلاسفة والأدباء والمفكرين والشعراء، الذين حظوا على ممارسة الرياضة بجانب اكتساب المعرفة والعلوم، وبعدما تطورت الحضارة وصار الإنسان في رفاهية مقارنة بما عاشه أسلافه؛ انزوى يبحث عن الملذات ويبتعد رويدًا عن كل ما يمكن أن يسبب له أدنى شعور بالتعب والمشقة، ومِن ذلك الرياضة. فمن ذا الذي يضحي بالنوم بعد صلاة الفجر مقابل المشي الطويل أو الركض بالقرب من مسكنه، أو السباحة في الوادي أو البحر؟ قليل جدا. ولكنَّ هذه القلّة مدفوعة بأحد أمرين؛ إما لأن الرياضة وسيلة للحد من توغّل مرض ما، وتثبيته في موضع ما لا يتجاوزه إلى مرحلة الخطر، كالسكري أو السمنة. وإما لأن الذي مارس الرياضة تجلّت له فتوح عقلية روحية تبعث فيه شغفا للحياة والعمل والتفكير.

رافق تطور الحضارة والرفاهية ظهور مشكلات نفسية عديدة، ولأن علم النفس -كتخصص- يعتبر حديثا؛ فقد كانت وسائل الرصد والعلاج وليدة أيضا، وتتطور بتقدم الزمن وتكرار التجارب والبناء عليها. كالعادة؛ بدأ الإنسان استعمال علم النفس في الحروب، وكعادته أيضا، طوّر هذا العلم في الحروب كذلك. وبعد أن أَشبَعَ الطرف الآخر قتلا وتدميرا، التفت إلى ما يمكن تحويله إلى شيء نافع، ربما ليغسل عنه درن الكارثة!. أصبح الضجر والاكتئاب رفيقين متلازمين لكثير من الشباب، ولحسن الحظ فقد رصد علماء النفس والأدباء كذلك هذه المسألة مبكرا، فصدرت كثير من الكتب التي تتحدث عن ما كان بديهيًا يوما، وأصبح ضرورة ملحة اليوم، وهو رسم المعالم التي يعتمد عليها المرء في حياته ليصل بنفسه إلى بر الأمان. كوضع الأهداف، وما ينبغي تقديمه وإيلاؤه الأهمية، وأهمية تحريك تلك الكتلة الجسدية ليتحرك عقله أولا، وروحه ثانيا. ومن هذه الكتب التي تحدثت عن الأمر «ما أتحدث عنه حين أتحدث عن الجري» للروائي الياباني هاروي موراكامي، و«قاعدة الثواني الخمس» للمؤلفة الأمريكية ميل روبنز وغيرها من الكتب الكثيرة التي تبدأ بمعالجة موضوع الحركة الجسدية وارتباطها بالصحة النفسية، ولا تنتهي بتحليل أثر النوم على الإنسان وكيفية التغلب على منغصات نومه ككتاب فانغ شوي «معالجة منغصات النوم» الصادر عن دار الحوار.

«إن الحركة الجسدية هي الجزء الأكثر أهمية في قاعدة الثواني الخمس؛ لأن فسيولوجية جسدك تتغير عندما تتحرك، فيتبعها عقلك». فحتى «تتمكن من تغيير أية عادة سيئة، عليك أن تستبدل النمط السلوكي الذي تكرره». هكذا تتحدث ميل روبنز في كتابها الذي كتبته من تجربة ذاتية مريرة مرّت بها وصقلتها وخرجت منها بهذه القاعدة التي تعلمها كثير من الشركات والجهات حول العالم لموظفيها، ويطبقها أناس عاديون في تغيير حياتهم البائسة إلى شيء يسعون لتحقيقه حقا. أما ذلك الياباني العبقري، فقد اتخذ من الجري عادة غيرته على مدى الأعوام، فنراه يذكر في كتابه خلاصته الذاتية أيضا: «إن كنت تنوي أن تعيش سنواتك بسعادة، فالأفضل أن تحياها بأهداف واضحة وأن تكون حيًّا بمعنى الكلمة على أن تحيّاها مشوش الفكر. وأنا أؤمن أن ممارسة الجري تساعدك على ذلك». فما يهم حقا «هو ما لا تستطيع رؤيته لكنك تشعر به في قلبك»!.

أستطيع أن أقتبس كثيرا من العبارات من هذين الكتابين الرائعين، وهي عبارات حقيقية ومجرّبة؛ لكن المسألة ليست فيما نتعلمه فحسب، بل فيما نطبقه من ذلك التعليم. فبطبيعة الحال يمكنني التحدث عن أهمية الرياضة وما تفعله بأرواحنا قبل أجسادنا وعقولنا، ويمكنني أن أصف طراوة الأرض ورطوبتها في الشاطئ الممتد، وأن أصف أشعة الشمس في الصباح الباكر وهي تداعب الغيوم كأمٍّ حانية تمشّط شعر طفلتها قبل ذهابها للمدرسة؛ يمكنني ذلك كله. لكن ما متعة التخيّل أمام متعة العيش؟ ما متعة القراءة عن البحر دون السباحة أو الغوص فيه؟ ما متعة هذا كله أو ما فائدته كله؟ إن أقصى ما أتمناه -وخصوصا من الشباب الجامعي- أن يجربوا ممارسة الرياضة والنوم بانتظام، ليروا أثر ذلك في نفوسهم وفي دراستهم كذلك، كما أن أصحاب الهمم العالية من الباحثين عن عمل والذين يتعرضون لضغوطات أرجو أن تنجلي عنهم عاجلا، يمكنهم تجربة الرياضة للتخفيف من وطأة البطالة وأنيابها. فإذا كنا نمتلك القدرة على عيش التجربة، فلماذا لا نجربها؟ فلنجربها اليوم أو غدا، ولننظر تأثيرها في حياتنا..

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الصحة النفسية في عصر الرقمنة: تحديات وحلول في عالم متصل

في عصر الرقمنة الذي نعيشه اليوم، أصبحنا نعيش في عالم متصل بشكل غير مسبوق، حيث تسهم التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل حياتنا اليومية، بينما تقدم هذه التطورات فوائد لا حصر لها في تسهيل حياتنا العملية والاجتماعية، إلا أنها تطرح أيضًا تحديات كبيرة للصحة النفسية.

 فقد أصبح تأثير هذه البيئة الرقمية جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، من جهة تحسين القدرة على التواصل والمعرفة، ومن جهة أخرى مفاقمة العديد من المشكلات النفسية التي كانت أقل ظهورًا في الماضي.

الذكاء الاصطناعي وسوق العمل.. ثورة تقنية بين التحديات والفرص الذكاء الاصطناعي وتأثيره على سوق العمل التأثيرات السلبية للصحة النفسية في العصر الرقمي

1. القلق والاكتئاب:
  تزايد الاستخدام المفرط للهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي ارتبط بشكل مباشر بزيادة مشاعر القلق والاكتئاب. 

العديد من الأشخاص، وخاصة الشباب، يجدون أنفسهم تحت ضغط مستمر لمواكبة الحياة المثالية التي تُعرض على المنصات الاجتماعية، مما يسبب لهم شعورًا بعدم الرضا عن حياتهم الشخصية.

2. العزلة الاجتماعية:
  بالرغم من أن التكنولوجيا تساعد في التواصل بين الأشخاص، إلا أن العديد من الأفراد يعانون من العزلة الاجتماعية بسبب الاعتماد المفرط على العلاقات الرقمية. 

تصبح هذه العلاقات سطحية ولا توفر الدعم الاجتماعي العاطفي الحقيقي الذي يمكن أن يُقدم في التفاعلات الشخصية.

3. الإرهاق الرقمي:
  يتعرض العديد من الأشخاص لإرهاق ذهني وجسدي بسبب التفاعل المستمر مع الأجهزة الرقمية. هذا الإجهاد الناتج عن الإفراط في استخدام التكنولوجيا يمكن أن يؤدي إلى مشاعر الإرهاق العقلي وزيادة مستويات التوتر، مما يؤثر سلبًا على الإنتاجية والصحة النفسية بشكل عام.

4. اضطرابات النوم:
  الإضاءة الزرقاء المنبعثة من الشاشات تؤثر بشكل كبير على جودة النوم، حيث تعيق إفراز هرمون الميلاتونين، مما يؤدي إلى صعوبة في النوم وأحيانًا الأرق المزمن. 

هذا الأمر له تأثيرات كبيرة على الصحة النفسية، حيث إن النوم الجيد يعد من الأسس الضرورية للصحة العقلية السليمة.

الصحة النفسية في عصر الرقمنة: تحديات وحلول في عالم متصل الفرص والتحديات في العصر الرقمي

على الرغم من التأثيرات السلبية، فإن التكنولوجيا تقدم العديد من الفرص لتعزيز الصحة النفسية:

1. الاستشارات النفسية عبر الإنترنت:
  أصبح بإمكان الأفراد الوصول إلى خدمات العلاج النفسي بسهولة من خلال الاستشارات عن بُعد. هذا الأمر يساعد في التقليل من العوائق مثل المسافة أو التكاليف، ويجعل الدعم النفسي متاحًا بشكل أكبر للناس في مختلف أنحاء العالم.

2. تطبيقات الصحة النفسية:
  هناك العديد من التطبيقات التي تقدم تمارين استرخاء، تأمل، وتقنيات لتحسين الحالة المزاجية، هذه التطبيقات أصبحت جزءًا من روتين الكثيرين، خاصة في ظل التوتر والضغوط اليومية.

3. التوعية والموارد المتاحة عبر الإنترنت:
  الإنترنت يوفر مجموعة ضخمة من الموارد التثقيفية التي تعزز الوعي بالصحة النفسية وكيفية التعامل مع الضغوط والمشاكل النفسية، من خلال هذه الموارد، يمكن للعديد من الأشخاص أن يتعلموا كيفية إدارة مشاعرهم وتحسين رفاههم العقلي.

أستاذ تكنولوجيا: التعلم المستمر سر النجاح.. والمهن الإبداعية عصية على الذكاء الاصطناعي أستاذ هندسة: الذكاء الاصطناعي يستطيع قلب موازين الانتخابات بألمانيا كيفية الحفاظ على الصحة النفسية في العصر الرقمي

لتجنب التأثيرات السلبية والتفاعل بشكل صحي مع العالم الرقمي، يمكن اتباع بعض الاستراتيجيات:

1. إدارة الوقت الرقمي:
  من المهم وضع حدود زمنية لاستخدام الأجهزة الرقمية وتخصيص أوقات للابتعاد عنها، يمكن تخصيص فترات من اليوم تكون خالية من أي تكنولوجيا لتعزيز التفاعل الاجتماعي الحقيقي وتحقيق التوازن في الحياة.

2. ممارسة الرياضة والتأمل:
  النشاط البدني والتأمل هما من أفضل الطرق للتخفيف من الضغوط النفسية الناتجة عن استخدام التكنولوجيا، ممارسة الرياضة بانتظام يمكن أن تحسن من المزاج وتقلل من مستويات التوتر.

3. التفاعل الاجتماعي الواقعي:
  يجب أن نحرص على بناء علاقات قوية ومساندة في حياتنا اليومية بعيدًا عن الشاشات، التفاعل الاجتماعي الواقعي مهم لدعم الصحة النفسية، حيث يساهم في تقوية الروابط العاطفية والشعور بالانتماء.

4. تنظيم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي:
  من الضروري أن نكون واعين للأثر النفسي لوسائل التواصل الاجتماعي، وأن نحد من التفاعل مع المحتوى الذي يسبب لنا مشاعر سلبية، يمكننا اختيار الحسابات والمحتويات التي ترفع من معنوياتنا وتدعم رفاهنا العقلي.

مقالات مشابهة

  • التحريات: الصغوطات النفسية وراء إنهاء طالب لحياته بالجيزة
  • الضغوط النفسية
  • إطلاق أكبر مستشفى خاص للتأهيل والصحة النفسية في الشارقة
  • عواقب الصدمات النفسية على ضحايا الحرب في دول الجوار
  • ابتكار روسي لجهازا لتقييم الحالة النفسية للأشخاص
  • حظك اليوم برج الأسد الخميس 26 ديسمبر 2024.. تجنب الضغوط النفسية
  • الإدمان على تيك توك.. تهديد حقيقي لصحة الشباب النفسية
  • الصحة النفسية في عصر الرقمنة: تحديات وحلول في عالم متصل
  • فاكهتان تحميانك من الأمراض وتطيلان عمرك
  • فاكهتان تحميانك من الأمراض وتطيل عمرك