الجريمة مُزيفة.. والعقاب حقيقي!
تاريخ النشر: 18th, September 2024 GMT
معاوية الرواحي
إلى أي درجة كبشر نذهب في الدفاع عن موقفنا، وعن أخطائنا؟ تقدم التجربة العامة لجميع البشر في هذا الكوكب العجيب شكلًا متشابهًا من التجارب عندما يتعلق الأمر بالخطأ! ابتداءً من الموقف الواضح السهل. سين، يخطئ في حق صاد، يعتذر سين، يوضح أسبابه، ويتعهد بعدم تكراره، يطرح فكرة التعويض، ويوضحُ مسار الطريق الذي يصنع الطمأنينة في الطرف صاد.
سين يُخطئ في حق صاد، يبتكر صاد مختلف الأعذار، يأتي بهيئة معتذر لكنه حقًا لا يعتذر، وكأنه يقول لصاد، هذا أقصى ما لدي، تصرَّف واقبل حدود كبريائي التي تسمح لي بالاعتذار. لقد جئت (لأخبرك فقط) أنني سامحت نفسي على خطئي، وأنني أخطأت لأنني قررت ذلك، أما أنت فلا تلمني (أنا لا أُلام) وعليك أن تقبل هذا الوضع، فكرة أن يكون لصاد موقف مضاد تعني بالضرورة أنَّ أصبح فجأة مخطئا، وتتعقد المسألة كلما ذهب سين إلى تبرير الخطأ ولوم ردة الفعل وكأنه خطأ جديد في حد ذاته، وهكذا تفسد العلاقات بين الناس للأبد، طرفٌ يقول: "لقد اعتذرت، ما به هذا!" والطرف الثاني يقول: "هل حقًا يظن أنه اعتذر، ما به هذا" وفي غياهب الغموض، تصنع العداوات، وتفسد الصداقات ونتعلم كبشر تجارب الحياة المختلفة، وقد نكون مكان سين، أو نكون مكان صاد، ومن التجربتين سوف نتعلم.
عندما تخرج الأشياء عن كونها تحدث بين شخصين، إلى حدوثها في محيطٍ عامٍ كبير، هُنا يكون الكون طرفًا ثالثًا في الخصومة بين طرفين، الكون ممثلًا بالمجتمع، أو بالجنس البشري كاملًا، ممثلًا بعائلة، أو قبيلة، أو قرية، أو مدينة، أو جهة عمل، أو مؤسسة دراسية. يحدث الخطأ علنًا، يعلم عنه الجميع. طالبٌ يخطئ في حق معلمه، أو معلمٌ يخطئ في حق طالبه، يعتذر من أدرك خطأه، ويتقبل الطرف الثاني الخطأ، وتنشأ حكاية اجتماعية حقيقية: الفلانان قاما بحل الخلاف بينهما. زميلا العمل حلَّا الخلاف بينهما؟ ماذا حدث؟ أخطأ فلان، وأدرك خطأه واعتذر. ماذا فعل الطرف الثاني؟ قبل الاعتذار، وكما يقولون: سقط الحطب من سماء الكون وأصبح رمادا.
هل التعاملات البشرية تكون بهذه السهولة؟ ليت وألف ليت، وإلّا كُنَّا سنعيش حقًا في المدينة الفاضلة التي يحلم بها الفلاسفة والرومانسيون. عندما يكون المجتمع طرفًا ثالثًا في الخصومة بين طرفين، عائلتين، هُنا تبدأ حروب السرديات، والسرديات المضادة. سلوك شائع يقوم به الناس، وقد يقوم به الفرد الذي لم يحسم ملف خصومة معلَّقة. سردية الابن الضال، سردية الزوج المقصر، سردية الموظف الساخط، سردية جهة العَمل الظالمة، سردية السجَّان المخالف للقانون، سردية الخصم هو الذي بدأ. هُنا يأخذ صراع السرديات شكلا اجتماعيًا لا يخلو من الافتراء، والقبح، والمكابرة، والظلم؛ بل والصراع وتحطيم المصداقية، وقد يتجاوز ذلك إلى ما يتحول إلى معركة بقاء، نهاياتها مروَّعة في حالات كلها بدأت من خلاف عائلي تحول إلى مهرجان مسلح بين قبيلتين، والسبب في ذلك؟ صناعة السرديات التي تكفي لحرف مسار التاريخ المصغر لفردٍ أو عائلة، أو قبيلة!
صناعةُ السرديات سلوكٌ نفعله كأفراد، ونساق وراءه كأعضاء في جماعة، قد يفعله قائد جماعة يدير مصالحها، وقد يفعله فردٌ تجاه جماعة تنصل من مبادئها الجمعية. العالم مليء بالسرديات السياسية، ونحن أيضا لا نخلو من تصديق أحدها بشكلٍ ما أو بآخر. تُسمى السردية بذلك لأنها من شؤون السرد، من شؤون صناعة الحدث الخيالي، وهذا الحدث يأتي مع تفسيراته، هذا ما يحدث في العالم الكبير والمعقد، ماذا عن عالمنا الصغير؟ ألا نتقبل أحيانا صناعة سرديات صغيرة ترفع عنا الحرج الاجتماعي؟
تُقَصِّر في شأن حيوانٍ أليفٍ فيموت؟ تصنع سرديةً أنَّ كلاب الجيران قد هاجمته! يبدو كل ذلك بريئا أليس كذلك؟ نعم، حتى اجتماع جمعية الجيران، وتجدُ أحد جيرانك يلطمك بسرديتك، في حضور الجار صاحب الكلاب، وهنا تتعقد الأشياء، وتجد خصمًا شرسًا سيحاربك دائما، وتخسر جارَك لأنه أمام عينيه لا يراك إنسانا تدافع عن قطةً نسيت وضع الطعام لها، أو نسيت فتح الباب لها فماتت في الشمس، خطأ قد يحدث لأي إنسان، أنت هُنا جارٌ شانئ، يخترع الإشاعات، وكسبت دون أن تدري عداوة فقط لأن السردية التي أردت منها أن ترفع عنك حرج كونك مربي حيوانات أليفة رديء، أصبحت جارا رديئا كذابًا ولديه جار صاحب كلاب يكره رؤيته لأنه أشاع عنه أنه مربي كلاب غير مسؤول، وبهذه الطريقة، رميت اللوم على غيرك وأنت لا تعرف حجم المصائب التي صنعتها لنفسك ولصورتك الاجتماعية.
لعبة السرديات في العلاقات سلاحٌ خطر للغاية، وعندما يكون المجتمع طرفا ثالثا فيها، فهنا منشأ حروب. السردية البريئة التي تتمنى بها أن يخفف عنك اللوم، تصنع لك عداوة عنيفة وأنت لا تدري، والسردية المحكمة قد ترفع عنك عداوةً أخرى. جارك السكران، يخطئ فيصدم سيارتك، هل أنت ملزم أن تقول الحقيقة؟ جارك جاء، واعتذر، وصوت الاصطدام ليلا والجيران الذين أطلوا برؤوسهم من النوافذ عرفوا بالحادث، لم يعرفوا بتفاصيله. هل ستذهب وتفضحهم عند الجميع؟ سيخترع هو سردية أنَّ السيارة تعطلت، وأنت ستؤيد هذه السردية من باب الستر، وانتهى الكلام، من يهتم بصناعة نمائم اجتماعية من مكافح تالفة قادت لحادث بين جارين كلاهما تفاهم مع بعضه البعض، هكذا تُخمد التأويلات، والإشاعات، ويحدث الستر! وقد يحدث الموقف الغبي بتضاد السرديات فيعلم عقلٌ فضولي أنَّه ثمة خطبٌ بين الجارين، ولذلك يسمع أحدهما أشاعة أن جارًا حاول دهس جارٍ آخر، لا تصب بالدهشة أن الذي فعل ذلك إنسان بريء للغاية شعر أن تضارب السرديات بين الجارين معناه خطب جلل، وأكمل بخياله الباقي، وانتقلت حكاية الجار السكران الذي قام بإصلاح سيارة جاره إلى جارٍ يضمر الضغينة للجيران، وعندما تسير الإشاعة في تخوم القرية الصغيرة، يضرب الفرد الأخماس في الأسداس عن حب الناس للإشاعات! بعض الإشاعات ليست مبتكرة لأنها مستهدفة في حد ذاتها، بعضها نتيجة سرديات غير محكمة، وهذه نتائج التلاعب بالسرديات أمام العقول المُمحَّصة.
السردية الأخيرة التي بها عنوان هذا المقال، ما يحدث عندما يتم لصق تهمة اجتماعية بإنسان يتلقاها بصدر رحب، ربما ليدافع عن شخص آخر. نعرف كيف يدافع الإنسان عن نفسه بصناعة سردية تؤذي إنسانًا آخر، فما بالك لو كان هذا الشخص الآخر يساهم في صناعة هذه السردية، لأنه يبرِّئ ظالمه بشكل ما أو بآخر، الجريمة مُزيفة، والعقاب حقيقي، وثمّة شيء بنا كبشر يجعلنا نجتمع على عقاب شخص قررت الظروف أن سرديةً ما يجب أن تنسج بشأنه، الفتاة التي تلصق القسوة في أبيها، بينما الحقيقة أنها في حالة غضب قفزت عليه بسكين فضربها، أو العكس صحيح، الأب الذي صنع سردية الطفلة الضالة، والحقيقة أنه في حالةِ سكر هجم عليها بسلاح فضربته! هُنا تصنع السرديات المزيفة بإتقانٍ، وتقدم القرابين لأفواه الناس التي تحب أن تنهش هذه الأخبار، والعلوم، وما يمكن تداوله من أحكام عن حياة الآخرين الخاصَّة.
ما هدفي من هذا المقال عزيزي القارئ؟
هدفي أن أسلط الضوء على كائن سردي يتكاثر في العقول كالفيروس، أن تفسيرك وعذرك الذي يبدو لك بسيطًا ولا ينتقلُ، له نسخة أخرى في نسختك الجمعية في أذهان الآخرين. إن لم تستطع أن تحكم السرديات البيضاء، البريئة، كحكاية الجارين، قد تجد نفسك ظالمًا أو مظلومًا، ظالمًا في سردية تبتكرها أمام طرف أضعف منك، تصنع جريمة مزيفة عقوبتها حقيقية، أو مظلوما لأن السرديات تلاحقك من قبل طرف غاشمٍ لن يعترف أنه أخطأ، يحتاج إلى قربان يفسر ما حدث، قربان يفسر ردات فعله غير المنطقية، وهكذا تنتهي الحياة الاجتماعية لإنسان، بسبب سردية، وبسبب الطبيعة البشرية، فإن لم تكن قادرا على عيش حياة السرديات، والسرديات المضادة، عليك أن تدرك لماذا الصدق رغم صعوبته منجاة، هذه إحدى ملامح النجاة بالصدق، الذي رغم صعوبته، لا يصنع نسخا مزيفة عديدة من سرديات التأويل، أو إكمال النموذج الغائب، الوضوح حياة صعبة، الأصعب منها أن تكون شبحًا يصنع في سرد الغرباء وخيالهم، هذه حقا حياة لا تُطاق!
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
رئيس الوزراء: نحرص على تحقيق نجاح حقيقي في تنفيذ محطة الضبعة النووية
التقى الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، اليوم بمقر الحكومة بالعاصمة الإدارية الجديدة، إليكسى ليخانشوف، المدير التنفيذي لهيئة الدولة للطاقة النووية الروسية (شركة روسآتوم)، والوفد المرافق له، وذلك بحضور المهندس/ محمود عصمت، وزير الكهرباء والطاقة المتجددة، وأحمد كجوك، وزير المالية، واللواء أحمد العزازي، رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، والدكتور/ أمجد الوكيل، رئيس هيئة الطاقة النووية، والسفير/ شريف الجمال، نائب مساعد وزير الخارجية لشئون شرق أوروبا، ومسئولي الوزارات والجهات المعنية.
فيما حضر الاجتماع من الجانب الروسي كل من وجيورجي بوريسينكو، سفير روسيا الاتحادية لدى القاهرة، وأندري بيتروف، نائب المدير العام لوكالة روسآتوم، وعدد من مسئولي شركة روسآتوم.
واستهل رئيس الوزراء الاجتماع بالترحيب ب إليكسى ليخانشوف والوفد المرافق له، في القاهرة والعاصمة الإدارية الجديدة، بعد أشهر قليلة من آخر لقاء جمعهما في مدينة العلمين الجديدة.
وأكد الدكتور مصطفى مدبولي أهمية مشروع محطة الضبعة النووية الذي تُنفذه شركة روسآتوم الروسية ويُسهم في تنفيذه عدد كبير من الشركات المصرية بمشاركة آلاف العمال المصريين.
وأضاف رئيس الوزراء، في هذا الصدد، أن أهمية المشروع تتمثل في اعتبار الطاقة النووية مُكونا مُهما في إنتاج الكهرباء من الطاقة النظيفة، وهو ما يتماشى مع مستهدفات الحكومة المصرية لزيادة نسبة الطاقات النظيفة في مزيج الطاقة إلى 42% بحلول عام 2030.
وشدد على أن هناك توجيهات من الرئيس عبدالفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، بضرورة تنفيذ المرحلة الأولى من مشروع محطة الضبعة النووية دون أي تأخير، مؤكدًا التزام الحكومة بالتعاون مع الجانب الروسي بإنجاز المرحلة الأولى وفقًا للبرنامج الزمني المُحدد للمشروع الذي يُعد بمثابة هدف إستراتيجي ومحوري للدولة المصرية.
وتطرق الدكتور مصطفى مدبولي إلى المقترح الخاص بتوطين صناعة مكونات بعض المعدات والأجهزة التي تُستخدم في إنشاء محطة الضبعة النووية، في إطار توجه الدولة لتوطين العديد من الصناعات محليًا، مؤكدًا: نحرص على تحقيق نجاح حقيقي في تنفيذ محطة الضبعة النووية الذي يمثل شراكة إستراتيجية بالنسبة للدولة المصرية في ضوء العلاقات التاريخية بين القاهرة وموسكو، ونحرص على أن نسطر بهذا المشروع قصة نجاح جديدة في العلاقات المتميزة بين بلدينا.
وأكد رئيس الوزراء أنه يحرص على متابعة تنفيذ المشروع بشكل دوري، وأنه يعتزم زيارة موقع المشروع خلال الفترة المقبلة.
بدوره، أعرب إليكسى ليخانشوف، المدير التنفيذي لهيئة الدولة للطاقة النووية الروسية (روسآتوم) عن تقديره لحسن استقباله والوفد المرافق له في مصر، مشيرًا إلى أنه منذ اللقاء السابق له مع رئيس الوزراء قبل بضعة أشهر، تم تنفيذ عدد من الإجراءات المُهمة المُتعلقة بتنفيذ مكونات محطة الضبعة النووية.
وأكد " ليخانشوف" أن الرئيس فلاديمير بوتين، رئيس جمهورية روسيا الاتحادية، يحرص على تنفيذ مشروع محطة الضبعة النووية وفق البرنامج الزمني للمشروع، مضيفًا: الرئيس "بوتين" له تكليفات واضحة في هذا الشأن وروسآتوم ملتزمة بتنفيذ هذه التكليفات، ونعمل على تنفيذ المشروع دون تأخير يوم واحد.
وتابع: نحرص على أن يكون مشروع محطة الضبعة النووية مشروعًا ناجحًا من خلال التعاون بين الجانب المصري وروسيا الاتحادية وشركة روسآتوم، وسنكون عند حُسن ظنكم.
وأعرب عن تقديره للدعم المُقدم من الدكتور مصطفى مدبولي ووزيري الكهرباء والمالية لتسريع وتيرة تنفيذ المشروع، مشيرًا إلى أن مصر وروسيا تربطهما علاقات تاريخية وتعاون مشترك منذ عقود.
وفي غضون ذلك، استعرض المدير التنفيذي لهيئة الدولة للطاقة النووية الروسية مساهمات الشركات والعمالة المصرية المُشاركة في تنفيذ مشروع محطة الضبعة النووية، حيث يوجد العشرات من الشركات المصرية والآلآف من العمال المصريين الذين يعملون في المشروع.
وخلال الاجتماع، أكد وزير الكهرباء والطاقة المتجددة أن مشروع محطة الضبعة النووية يُعد مشروعًا إستراتيجيًا للدولة المصرية، في ضوء توجهاتنا لتنويع مزيج الطاقة، وزيادة نسبة الطاقة النظيفة به.
فيما أشار وزير المالية إلى أن هناك تواصلا ومشاورات دائمة مع الجانب الروسي بشأن جميع الأمور المالية المتعلقة بالمشروع، في ضوء الاستثمارات الضخمة التي يتم ضخها بمحطة الضبعة النووية، مشيدًا بما تم إنجازه بالمشروع حتى الآن.