هل انتهى التاريخ عند الليبرالية الديمقراطية ؟!
تاريخ النشر: 18th, September 2024 GMT
بعد انهيار المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي في مقدمتها، التي كانت تتبنى النظام الشمولي من خلال الحزب الواحد، ومركزية القرار السياسي والاقتصادي الموحد من خلال هذا الحزب، دون وجود تعددية من أحزاب أخرى مثلما هو في الأنظمة الليبرالية الديمقراطية، وفي عام 1991 حصل بما يشبهه البعض بالانقلاب الداخلي السياسي والاقتصادي للاتحاد السوفييتي التي قام بها الرئيس السوفييتي الأسبق ـ آنذاك ـ « ميخائيل جورباتشوف»، والتي كان هدفها الاصلاحات الداخلية للنظام الاشتراكي المتراجع في بنيته الاقتصادية والعسكرية عن المعسكر الليبرالي المنافس له.
لكن هذه الإصلاحات التي سميّت بـ(بيريسترويكا)، كانت نذير شؤم للنظام السوفييتي كله، الذي كان يعيش أزمات سكونية داخلية متراكمة خاصة في أوضاعه الاقتصادية والسياسية، وجموده السياسي على النظرية الماركسية/ اللينينية، ما عجّل بسقوط رأس النظام الاتحاد السوفييتي، ثم تتابع سقوط دول المعسكر الاشتراكي أيضا التي كانت تطبق النظام الشمولي نفسه، المنضوية في حلف «وارسو» الذي يتزعمه الاتحاد السوفييتي نفسه، وكذلك انهارت الحرب الباردة التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية، والتي استغلت من قبل المعسكرين المتنافسين، لإثارة الحروب والصراعات بين الدول الصغيرة، التي تنتمي لهذين المعسكرين بين الكتلة الغربية والكتلة الشرقية، حيث يتم بيع السلاح لهذه الدول -دول العالم الثالث كما يسمّى- ومع ذلك فإن هذه الدول الكبرى خسرت كثيرًا من سباق التسلح في الحرب الباردة، وخاصة الاتحاد السوفييتي، ما أدى إلى انهياره مع المعسكر الذي ينتمي إليه كما أشرنا آنفًا.
وهلل نسور الرأسمالية الليبرالية بهذا السقوط الكبير لهذا المعسكر، واعتبر ذلك انتصارا لليبرالية الديمقراطية في الغرب الرأسمالي والسوق الحرة، وأن التنافس انتهى عند هذه الفلسفة الليبرالية الديمقراطية كما قالوا، وأن التاريخ توقف عند هذه النظرية.
وأصدر المفكر الأمريكي الياباني في عام 1992 «فرانسيس فوكوياما» أطروحته الشهيرة (نهاية التاريخ وخاتمة البشر)، والتي تحولت إلى كتاب بعد ذلك، واعتبر في هذه الأطروحة أن انهيار النموذج الاشتراكي في المعسكر الشرقي الشمولي، هو انتصار للفلسفة الرأسمالية الديمقراطية الغربية، بالتالي نهاية النهايات لكل فكر منافس لهذه الفلسفة الليبرالية، ولكل فكر مغاير ومختلف عن النظام، وبعدها سيتم إغلاق التاريخ تماما، ولا شيء بعد ذلك سيستمر غير هذا النموذج الذي هو الخلاص النهائي لكل الأمم والشعوب والحضارات، وبحسب تعبير فوكوياما، الذي قال في هذه الأطروحة ما خلاصته: «الديمقراطية الرأسمالية هي النموذج النهائي للتطور البشري الإيديولوجي للإنسانية، وهي نهاية التاريخ لكل النظم والفلسفات والأيديولوجيات، ولن يكون هناك نقيض خارج النظام الرأسمالي بفلسفته الليبرالية، بعد سقوط النظم الفاشية والاشتراكية». لكن البروفيسور «صموئيل هنتجتون» صاحب نظرية: (صراع الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي) المثيرة للجدل، انتقد زميله في أطروحته (نهاية التاريخ وخاتمة البشر)، قال ما خلاصته: الصراع المقبل سيكون صراع حضارات، وتنبأ أن القوى الصاعدة التي ستشكل خطرًا على الغرب ستكون من التحالف بين الحضارة الإسلامية والكونفوشية الصينية!
وهذا معناه -كما يعبر هنتجتون- أن التاريخ لن يتوقف عند الديمقراطية الليبرالية بل سيبدأ من جديد في صراع آخر ليس أيديولوجيا هذه المرة كما كان سابقا، بل سيكون بين حضارات وهويات وثقافات.
وقد ناقشت في كتابي (الإسلام والغرب)، تلك النظريات والفلسفات المتناقضة باستفاضة، وخاصة نظرية «صدام الحضارات» و«نظرية نهاية التاريخ»، ويرى «هنتنجتون» أن رؤية نهاية التاريخ تعني الخمول والسكون لدى الغرب، وهذا قد لا يفيده مستقبلاً قوة عسكرية وتكنولوجية، فقد تتغير الحضارات وتحقق لها قوة صناعية وعسكرية، وتكنولوجية، لذلك فإن مقولة صراع الحضارات والخطر القادم ضرورية للاستعداد للنزال مع القوى الصاعدة، ولابد من الاستعداد لعدو، حتى ولو نخترعه من جانبنا، لكن نهاية التاريخ تعني تخديرا للغرب، وسكونا لحركته وتفوقه، وأن سقوط الخطر الأحمر لا يعني انتهاء كل شيء، ويرى «هنتنجتون» أن الخطر الأخضر الإسلامي ربما سيكون هو البديل المقبل بعد سقوط الخطر الأحمر بسبب صعوده وانتشاره، وسيكون المواجه للحضارة الغربية بالتحالف الحضارة الكونفوشية الصينية كما أشرنا. فالغرب لا يريد أن يتنازل عن مكانته وتفوقه وريادته، وبالتالي فإن الافتراضات التي وضعها «هنتنجتون» ليست صحيحة من الناحية
التحليلية الاستقرائية للواقع والتاريخ بل إن ما قاله هو إعادة «شحن بطارية» الغرب الروحية التي بدأت في النفاد كما يعتقد البعض، ولذلك فإن مقولات «الصدام المقبل» قد تعني أن شيئا ما ينتظره وما إذا كان باستطاعة الغرب أن يقود الحضارة في القرن القادم أم لا؟ وهذا أيضًا يقود إلى افتراضين:
الأول: مراكز القرار فوجئت بصدور الكتاب الذي أصدره فرانسيس فوكوياما (نهاية
التاريخ وخاتمة البشر) الذي قال فيه ما خلاصته أن النظام الليبرالي هو أقصى ما
يمكن أن يبلغه المجتمع السياسي.. فالديمقراطية الليبرالية انتصرت ولن ننتظر
الجديد بعد الآن، فهذا القول وإن كان يدعو إلى الفخر والزهو ببلوغ النظام الرأسمالي الحر انتصاره في الحرب الباردة بعد انهيار الماركسية إلا أن هذا الطرح قد لا يفرح مؤسسات صناعة القرار في الغرب التي يهمها افتعال الصراع وافتراض الصدام القادم وهذا ما أتت به أطروحة «صدام الحضارات» للبروفيسور هنتنجتون في 1993م.
ثانيا: أن يكون التخوف الغربي في محله، والسبب أن تصاعد بعض الحضارات تقنيًا وثقافيًا ربما يعني أن الغرب سيتراجع عن الصدارة والمكانة الدولية وهذا نذير غير سار للحضارة الغربية التي تعاني في الأساس من التراجع الروحي والأخلاقي.
والحقيقة أن مقولة (نهاية التاريخ)، ليست جديدة، فقد سبق وأن تحدث عن نهاية التاريخ «فريدريك هيجل» في بعض مؤلفاته وقبل ذلك في بعض محاضراته، وهو أحد الممثلين للفلسفة المثالية المعاصرة في الغرب الليبرالي، فبعد قيام الثورة الفرنسية، وحروب «نابليون» في أوروبا وخارجها، وخاصة انتصاره في حربه مع بروسيا، «اعتبر فريدريك هيغل» إن انتصارات نابليون، هو نهاية التاريخ لقيم الليبرالية وفلسفة الحرية، وقيام الدولة الليبرالية المنتصرة، التي لا محيد عنها لفرض قوتها وإنهاء التناقضات في النظام الرأسمالي. وأيضًا استعار «كارل ماركس» من هيجل الحتمية الجدلية، وإنهاء التناقض في المجتمع في النظام الجديد الذي أقامه لينين بعد الثورة البلشفية عام 1917، والتي سينتهي تعطيل التاريخ، وقيام المرحلة الأخيرة من الصيرورة التاريخية، بانتهاء الطبقية وانتهاء الدولة والوصول إلى المرحلة الشيوعية وهي نهاية التاريخ عند هذا النظام الشيوعي. وفرانسيس وفوكوياما أيضًا أخذ من النظرية الهيجلية نهاية التاريخ، واعتبر أن الصراع بين الليبرالية والماركسية انتهى بانتصار الرأسمالية الديمقراطية، لكن ما جرى للمعسكر من انهيار، ليس بسبب الصراع بين النموذجين الليبرالي والشيوعي، ولا بسبب سباق التسلح بين المعسكرين، كما الذي يحلو للبعض تفسير هذا السقوط المفاجئ للنظام الاشتراكي.
ويرى البعض أن الأمر يتعلق بالفكرة الاشتراكية وتطبيقاتها الداخلية، وغياب الحريات العامة وغياب التعددية السياسية والفكرية التي حددت بالنموذج الواحد لحد الجمود، أحد أهم أسباب الانهيار إلى جانب سباق التسلح مع الغرب خاصة الولايات المتحدة في المراحل السياسية.
كما أن مقولة نهاية التاريخ مقولة هلامية، وليست مقولة علمية رصينة وواقعية، والفكرة الموضوعية الأمينة، كما يقول د. مصطفى محمود: «لا تقول بأكثر من الترجيح والاحتمال، فالقوانين الإحصائية كلها قوانين احتمالية وكلها ترجيحات لا ترتفع للمستوى أو على الأصح إلى مرتبة الحتمية أو الإطلاق، ثم أن الإنسانيات لا تجوز فيها الحتمية لأن الناس ليسوا كرات (بلياردو)، تتحرك بقوانين فيزيائية، لكنهم مجموعة ارادات حرة تدخل في علاقات معقدة يستحيل فيها التنبؤ من خلال قوانين مادية». وهذا ما وقع فيه فوكوياما. وقد تراجع فوكوياما في بعض كتاباته ومقالاته في مناسبات عدة في السنوات الماضية، عن تراجعه عن هذه الاطروحة عند الليبرالية الديمقراطية كحتمية تاريخية، بصورة قاطعة، لكنه لا يريد أن يعلن فشل هذه الفكرة الهلامية التي قالها في أواخر القرن الماضي، لكنه يريد أن يقصيها دون أن يناقشها مرة أخرى، لاعتبارات كثيرة منها أنه يريد أن يطرح مفاهيم جديدة تقول: « فكرة نهاية التاريخ لنظرية معينة غير محسومة أو نهائية، لكنها مراحل تجري لتبرز حضارة أو ثقافة في بعض حقب التاريخ وتتراجع في محطات معينة». وهذه هي مقولة العلامة ابن خلدون عن صعود وسقوط الحضارات، وتلك فكرة مقبولة ومعقولة تجهض أطروحة مقولة نهاية التاريخ من أساسها، وهذا ما عبر عنه في مقالته من أنه ليس مع القول بالمطلق، بأن «الدولة ومن أجل أن تنمو، لا بد أن تكون ديمقراطية، لأنه وقبل أن تحصل على ديمقراطية لا بد لك أن تحصل على حكومة ودولة قائمة يكون بوسعهما تقديم الأمن والأساس الاقتصادي لشعبها»، وذلك بالالتزام بالفلسفة الليبرالية دون غيرها من الفلسفات والهويات الأخرى، وهذه آراء جاءت نتيجة انتقادات ونقاشات وكذلك الواقع في أحداث كثيرة، لم تكن الليبرالية هي التي تحظى بالقبول في الكثير من الدول خاصة في رؤاها الطائشة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: اللیبرالیة الدیمقراطیة نهایة التاریخ یرید أن فی بعض
إقرأ أيضاً:
الحرب على غزة وتجديد الإمبريالية
ارتبط مصطلح الإمبريالية بمراحل التحرر الوطني ومقاومة الاستعمار، وظل اليسار الراديكالي يستعمله حتى الآن. لم تعد الإمبريالية شائعة في الخطاب السياسي العربي، لذا فإننا نحتاج إلى تذكير القارئ بمدلولها.
الإمبريالية هي سياسة تهدف إلى توسيع نطاق حكم دولة ما على حساب دول أخرى وشعوبها، وذلك بغرض زيادة نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري والثقافي.
ارتبطت الإمبريالية تاريخيًا بنشأة وصعود الدولة القومية الأوروبية والصراع فيما بينها، لكن ما نشهده في عالم اليوم، ومنذ عقد من السنين، هو إعادة تشكيل المنافسة على المصالح الاقتصادية والجيوسياسية (والتعاون بشأنها) باعتبارها منافسة بين "دول حضارية" لا قومية.
اللافت أن الإمبريالية تعود سيرتها الأولى، وتستعيد تقاليد الغزو المباشر واحتلال الأراضي، وطرد أو تهجير السكان، كما يجري في أوكرانيا الآن، وكما يتطلع ترامب لضم بنما وغرينلاند. أما غزة فالمطروح لها ليس ضمها لإسرائيل وبناء المستوطنات من جديد، ولكن تهجير سكانها واحتلال أرضها بالاستثمارات العقارية.
لكن ما المقصود بالدولة الحضارية التي تحل بالتدريج محل الدولة القومية التي نشأت منذ معاهدة وستفاليا (1648)؟ وما موقع الحرب على غزة من إعادة تشكيل طبيعة الصراعات العالمية؟
إعلان هجوم دولة الحضارةفي تقديري، إن الدولة الحضارية لها سمات أربع تميزها عن الدولة القومية التي بدأت بنظام وستفاليا:
1- تجاوز مفهوم الدولة القوميةوهو المفهوم الذي فصل الهوية الثقافية عن السياسة، والمصالح عن القيم، أو لنقلْ إنه صنع هوية جديدة، قوامها المواطنة. أساس الصراع في الدولة القومية هو الأفكار السياسية والمصالح الوطنية والقومية، وليس الاختلافات الدينية أو الثقافية.
مفهوم الدولة الحضارية يتأسس– كما يرى ماسيس وزير الدولة البرتغالي للشؤون الأوروبية سابقًا – على: "أن الدول القومية اختراع غربي، وهي بطبيعة الحال عرضة للتأثير الغربي. أما الحضارات فهي بديل للغرب".
إن إدارة مودي، من خلال التأكيد على أن الهند حضارة، تحيل المعارضة – المؤتمر الوطني الهندي – إلى قوة غربية عازمة على قياس نجاح الهند بمقياس نظام أجنبي.
والواقع أن أفكار العلمانية والعالمية، التي كانت سمة لصيقة تاريخيًا بحزب المؤتمر الوطني الهندي، يُنظر إليها الآن باعتبارها واردات ثقافية يتعين على الهند أن تحرر نفسها منها.
المشاريع العسكرية والسياسية التركية في جنوب القوقاز والشرق الأوسط لها صدى تاريخي، فهي دليل على عظمة تركيا، وتُظهر أن تركيا ستكون حيثما يقول الرئيس رجب طيب أردوغان إنها يجب أن تكون.
2- انتفاء القيم العالميةوهي القيم التي كان جوهرها بعد الحرب الثانية، هو النظام الليبرالي الغربي. يقول المدافعون عن الدولة الحضارية: "إن البحث عن القيم العالمية قد انتهى، وإننا جميعًا يجب أن نقبل أننا نتحدث فقط نيابة عن أنفسنا ومجتمعاتنا".
تقاوم روسيا فلاديمير بوتين والصين شي جين بينغ المطالبات العالمية للنظام العالمي الليبرالي. وهذا الرفض، بدوره، يدفع الغرب أيضًا إلى تصور وجوده في العالم من منظور حضاري.
يناشد بوتين الروس ألا يتبعوا أغنية الغرب المتمثلة في التعبير الفردي عن الذات، بل أن يساعدوا بدلًا من ذلك في جعل روسيا عظيمة مرة أخرى.
إعلانويتحدّث الرئيس الصيني بنبرة مماثلة عن مشروع الصين العظيم للتجديد الوطنيّ، والذي يحتفل بالثقافة الصينية باعتبارها متميزة عن الفردية الغربية. أما الرئيس التركي فيرفض القيم الغربية فيما يخصُّ قضايا المرأة، ويدعم الأسرة الطبيعية.
حاول البعض أن يصوّر الحرب على الإرهاب – التي بدأت عام 2001، وكان مسرحها العالم الإسلامي، أو ما أطلق عليه الشرق الأوسط الكبير- باعتبارها صراعًا حضاريًا بين الغرب والإسلام، إلا أنه سرعان ما تم التراجع عن هذا الوصف. نُظر إليها باعتبارها نشرًا لقيم الديمقراطية.
بذل جورج دبليو بوش قصارى جهده مرارًا وتكرارًا للتأكيد على أن الحرب العالمية ضد الإرهاب وتغيير النظام في العراق تتم وفقًا لشروط نهاية التاريخ – أي هيمنة النظام الليبرالي، وليس منطق صراع الحضارات – كما أعلن هنتنغتون.
صرّح بوش الابن (2001- 2009) قائلًا: "عندما يتعلق الأمر بالحقوق والاحتياجات المشتركة للرجال والنساء، فلا يوجد صراع بين الحضارات"، كما قال: "إن متطلبات الحرية تنطبق بالكامل على أفريقيا وأميركا اللاتينية والعالم الإسلامي بأسره. إن شعوب الدول الإسلامية تريد وتستحق نفس الحريات والفرص التي يتمتع بها الناس في كل دولة. وينبغي لحكوماتها أن تستمع إلى آمالها".
حملت الحرب على الإرهاب – بالتأكيد – أبعادًا ثقافية؛ إلا أن جوهرها كان صراعًا تُختبر فيه القوى الدولية المختلفة توازنات القوة فيما بينها في ظلّ امتزاج شديد للمصالح والتغيرات الجيوسياسية بالأبعاد الثقافية والقيمية للصراع.
منذ 11 سبتمبر/ أيلول؛ استخدمت واشنطن قوتها لإضعاف القيود المفروضة على استخدام القوة. أدت الحرب على الإرهاب بعد عام 2001 إلى تآكل النزعة الدولية، حيث استخدمت الولايات المتحدة تفوقها لإرغام الدول أو إقناعها أو تملقها للانضمام إلى حملاتها العسكرية، مع القليل من الاهتمام بكيفية إلحاق تصرفات واشنطن الضرر بالعلاقات الأميركية مع العالم غير الغربي.
إعلانمنذ الأزمة المالية العالمية في عام 2009 على الأقل، أصبحت القوى الصاعدة في الجنوب العالمي، وهي مجموعة من البلدان التي يمكن تعريفها تقريبًا على أنها "تلك البلدان التي تعتقد أن النظام القائم على القواعد هراء"، صريحة بشكل متزايد في إحباطها بشأن النفاق في قلب النظام العالمي.
لم تقدم السرديات الروسية والصينية المضادة للغرب سوى المفردات لدول الجنوب العالمي لوصف ما شعرت به منذ فترة طويلة: أن النظام القائم على القواعد كان مجرد غطاء أخلاقي للقوة والسيطرة والمصالح الغربية.
3-صعود الدولة الحضاريةوباعتبارها مرتبطة بحضارة، فإن الدولة لديها مهمة أساسية تتمثل في حماية تقاليد ثقافية محددة. ويشمل نطاقها جميع المناطق التي تهيمن عليها تلك الثقافة.
الدولة الحضارية منظمة حول الثقافة وليس السياسة أو الحدود. إن دولة بحضارة ما، تقع على عاتقها المهمة الأساسية المتمثلة في حماية تقاليد ثقافية محددة، وبالنسبة لدولة حضارية، فإن الروابط الثقافية قد تكون أكثر أهمية من مجرّد الوضع القانوني للمواطنة.
انطلقت الولايات المتحدة في معظم حروبها من مقولات وأهداف ذات صبغة ثقافية لا لبس فيها؛ كنشر القيم الديمقراطية (الأميركية)، أو نشر الثقافة الرأسمالية، ولكنها كانت تحرص على أن تطرح هذه الشعارات كأهداف محايدة ومنافع عامة، وليس كتبريرات ثقافية تناسب بعض الشعوب فيما تتعارض مع أخرى.
الجديد مع عالم ترامب، ووفق مشروع 2025 الذي يعد منفيستو حكمه، فإن المطلوب هو استعادة روح أميركا التي قامت على عدد من الأسس أهمها: إحياء التقاليد اليهودية المسيحية – استعادة الأسرة الطبيعية المكونة من ذكر وأنثى باعتبارها محور الحياة الأميركية، والدفاع عن سيادة الأمة وحدودها ومواردها ضد التهديدات العالمية.
كان ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014 بمثابة قطيعة صريحة، ورفض ظاهري لإحدى الركائز الأساسية للنظام الدولي الليبرالي، ألا وهي أن حدود الدول القومية لا ينبغي إعادة رسمها بالقوة.
إعلانومن اللافت للنظر أن بوتين برر تحرّكه على أسس "حضارية" صريحة، بحجة أن شبه جزيرة القرم كانت دائمًا جزءًا من "العالم الروسي". لكن اللافت في هذا الصدد أن روسيا الأرثوذكسية ضد أوكرانيا الأرثوذكسية أيضًا، وليس ضد تركيا المسلمة، كما جرى تاريخيًا، وهذا يعني أننا لسنا بخطوط صدع ثقافية أو دينية جامدة، كما قال صاحب مقولة صراع الحضارات.
وعلى نحو مماثل، كانت إزاحة ناريندرا مودي وحزب بهاراتيا جاناتا لحزب المؤتمر التعددي في عام 2014 في إطار أيديولوجية الهندوتفا، التي قدمت الهند كدولة حضارية قائمة على الديانة الهندوسية (بغض النظر عن مئات الملايين من الهنود غير الهندوس).
ظهر شي كزعيم أعلى مهتم بشكل متزايد بالمواجهة الأيديولوجية المباشرة مع الغرب، ومتطلع لوحدة الأراضي الصينية- كما جرى في هونغ كونغ، وما يسعى إليه في تايوان.
في فبراير/ شباط 2025، انضم حزب الليكود الحاكم في إسرائيل، بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو – كعضو مراقب – إلى التحالف اليميني المتطرف: الشراكة من أجل أوروبا (Partnership for Europe).
برزت الأحزاب اليمينية المتطرفة كثالث أكبر مجموعة سياسية في الانتخابات البرلمانية الأوروبية في يونيو/ حزيران 2024. بموجب هذا المنطق الجديد، سيصبح اليهود والأوروبيون ضحايا "للإسلام الفاشي" الصاعد، مما يؤدي إلى تشكيل تحالف جديد بين إسرائيل واليمين المتطرف في أوروبا لمواجهة هذه التهديدات المزعومة.
4- دور الدولة الجديدةإن التعريف الحقيقي للدولة الحضارية، هو تعزيز أسلوب حياة واحد والدفاع عنه في مواجهة كلّ البدائل.
كانت المشكلة في العولمة الغربية مزدوجة، على حد قول رئيس تحرير مجلة NOEME:
أولًا، بدت القيم الغربية في نظر العديد من الناس الذين يعيشون في آسيا أو أفريقيا مجرد بديل واحد بين بدائل أخرى عديدة. وكان الوعد بالحفاظ على أساليب الحياة التقليدية في مجتمع ليبرالي مجرد وهْم قاتل. إعلانفإذا استوردت تركيا أو الصين أو روسيا المجموعة الكاملة من القيم والقواعد الغربية، فإن مجتمعاتها سرعان ما ستصبح نسخًا طبق الأصل من الغرب وتفقد استقلالها الثقافي.
ورغم أن هذه العملية كانت تُعد الثمن الضروري للتحول إلى مجتمع حديث، فإنه في الآونة الأخيرة، تزايدت الشكوك حول ما إذا كان من الضروري حقًا تقليد الدول الغربية من أجل اكتساب كل فوائد المجتمع الحديث.
وكانت هناك صعوبة ثانية: إذ لا تزال القيم والمعايير الغربية في حاجة إلى تفسير وتنفيذ، وكانت الدول الأكثر قوة في الغرب تستولي على هذه المهمة على الدوام.في ظلال الدولة الحضارية؛ فإن العالمية هي أيديولوجية الغرب لمواجهة الثقافات الأخرى. وبطبيعة الحال، فإن كل شخص خارج الغرب، كما زعم هنتنغتون، ينبغي له أن ينظر إلى فكرة العالم الواحد باعتبارها تهديدًا. وحينئذ فلماذا يمتنع الآخرون عن فعل الشيء نفسه؟ ولماذا يمتنعون عن بناء دولة حول مفهومهم الخاص للحياة الطيبة، دولة تدعمها حضارة كاملة؟
في هذا العالم، تتسم الحضارات المختلفة بأنها عالمية في الممارسة العملية؛ إن لم تكن في الطموح، وقد تتنافس فيما بينها على القوة العالمية، ولكنها تنتمي جميعها إلى مشهد سياسي واقتصادي مشترك ومتكامل على نحو متزايد، وهو ما من شأنه أن يغير طبيعة صراعات المستقبل، وهو ما يستحق المتابعة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline