بعد أن استعرضنا بتفصيلٍ في المقال السابق السبب الأول من الأسباب الخلفية للمعركة المشتعلة حول طاعة المرأة زوجها، والمتمثل في إخضاع النص الشرعي لفكرة "المساواة التامة" وفق المفهوم الليبرالي، وتحدثنا في مناقشة هذا السبب عن الإشكالات في منهجية التعامل مع النصوص الشرعية؛ نستكمل الحديث عن بقية الأسباب الخلفية لهذه المعركة التي يزكم دخانها الأنوف ويعمي أبصار وبصائر الكثيرين والكثيرات.

فروق طبيعية أم اجتماعية وثقافية؟

إنّ تبني فكرة المساواة المطلقة وفق المنظور الليبرالي أدى بشريحة من المسلمين والمسلمات من المتحدثين بقضايا المرأة إلى الذهاب بعيدًا حد نفي الفروق الطبيعية بين الرجل والمرأة من حيثُ النتيجة والمآل، والسخرية من كل متحدث عن الفروق الفيزيولوجية بين الجنسين، وهذا نتاج التشبع بنظرياتٍ تعد الاختلاف بين الجنسين محض بناءٍ ثقافي واجتماعي وقناعات صنعتها التربية المنزلية أو المدرسية أو المجتمعية لتكريس الهيمنة الذكورية، ولا علاقة لها بأية اختلافات حقيقية بين الرجل والمرأة.

وفي ذلك تقول الفيلسوفة النسوية الفرنسية سيمون دو بوفوار في كتابها "الجنس الثاني": "لا نولَدُ امرأة، ولكن نصيرُ امرأة"، وتقول في موضع آخر: "الأنوثة ليست جوهرًا ولا طبيعة؛ إنها حالةٌ خلقتها الحضارات انطلاقًا من بعض المعطيات الفيزيولوجية".

أما عالم الاجتماع الأميركي إرفنغ غوفمان فيقول: "إن الاعتقادات المتعلقة بالذكورة أو الأنوثة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بسلوك النوع"، وبناءً عليه فإن المهام الخاصة بالمرأة في هذه النظريات ما هي إلا نوع من انتهاك كرامة المرأة وتدمير لكينونتها، مثل "غريزة الأمومة المدمرة" كما تسميها الفيلسوفة الفرنسية إليزابث بادنتر وتعقب بقولها: "إن غريزة الأمومة المدمرة مزحة تهدف إلى إقناع النساء بأن من واجبهن القيام بالعمل القذر".

هذه النظريات وجدت طريقها إلى تفكير شريحةٍ من المتحدثات عن المرأة والتصدي للدفاع عن حقوقها في واقعنا الإسلامي، فغدون يتحدثن عمن يفرق بين الجنسين ويطالب بالعدالة أنه يريد أن يسحب من المرأة إنسانيتها وكرامتها البشرية.

العمل في المهن الشاقة أصبح واقعاً لكثير من النساء في البيئات غير المستقرة (الجزيرة) "هذا خَلقُ الله"

لقد غدت قضية طاعة المرأة زوجها غير مقبولة  عند الكثيرات والكثيرين ممن يتبنون هذا التوجه، كون المرأة والرجل متساويين في الصفات النفسية والفيزيولوجية، فالمطلوب هو تحقيق المساواة التامة بينهما في التشريعات والتكليفات والحقوق والواجبات التفصيلية، بينما يقوم التصور الإسلامي على إقرار هذه الفروق وأنها طبيعة بشرية؛ فالله تعالى خلق الكائنات الحية كلها على وفق ثنائية الذكر والأنثى، وهي فطرة الله تعالى في خلقه، وهو القائل جلّ وتعالى في سورة الذاريات: "وَمِن كُلِ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَكُمْ تَذَكَرُونَ".

لقد خلق الله تعالى الرجل والمرأة مختلفين تمامًا في الخَلق الجسدي، ومختلفين كذلك في الصفات النفسية والطباع العامة، وهذا الاختلاف هو عنوان التكامل بينهما وتحقيق الزوجية القائمة على التكامل بين الصفات المختلفة، وهذا الاختلاف أيضًا هو سببٌ رئيسٌ لانجذاب كل من المرأة والرجل إلى بعضهما، وكلما كانت المرأة أكثر شبهًا بالرجل شكلًا وصفاتٍ كان أكثر ابتعادًا عنها ونفورًا منها، وكذلك المرأة إذا كان الرجل أكثر أنوثةً وتخنثًا في شكله وصفاته كان ذلك سببًا في نفورها منه وابتعادها عنه، وكل من الرجل والمرأة يميل إلى الآخر بقدر شعوره بأنه يكمله، فالرجل شديد الاحتياج إلى أن يكمل نفسه بالمرأة والمرأة شديدة الاحتياج إلى أن تكمل نفسها بالرجل، وهذا الشعور بالاحتياج هو الذي يخلق التكامل ويبني الأسرة ويجعل الحياة بين الرجل والمرأة مستمرة معًا بانسجامٍ ومودة ورحمة.

أجل؛ هناك إرادة محمومة لفرض نفي وجود الفروق فرضًا، وإقناع الناس بها بالترهيب إن لم يقبلوها بالترغيب؛ يقول أستاذ علم مقاصد الشريعة الدكتور أحمد الريسوني: "القيم المسماة اليوم بالكونية -وهي قيم يتم فرضها وتغليبها وتعظيمها لأن صناعها وتجارها هم الغالبون- تريد اليوم إبطال كل الفوارق وكل التمايزات بين الرجل والمرأة؛ إنهم يريدون أن يجعلوا اثنين في واحد، فكل ما تتصف به المرأة يتصف به الرجل، وكل ما يتصف به الرجل تتصف به المرأة، وكل ما يفعله الرجل تفعله المرأة، وكل ما تؤديه المرأة يؤديه الرجل، وكل ما يلزم أحدهما يلزم الآخر، وكل ما يجوز أو لا يجوز لأحدهما، يجوز أو لا يجوز للآخر، حرفًا بحرف، وشكلًا بشكل".

إن نفي وجود فروق طبيعية ينتج عنها فروق نفسية في الرجل والمرأة يعود بالظلم والغبن على المرأة قبل أن يعود به على الرجل، لأن هذا يقتضي تكليف المرأة بما لا تطيقه من أعمال ولا ينسجم مع طبيعتها الجسدية أو النفسية باسم المساواة، فالمساواة في المشاق التي تطيقها بنية الرجل أكثر من بنية المرأة هي ظلم للمرأة وغبن لها تحت شعارٍ فارغٍ من المساواة، وهذا ما وجدت بعض المؤسسات الدولية التي تتبنى وترفع شعارات المساواة ونفي الفروق الطبيعية بين الرجل والمرأة نفسها مضطرة للقول به؛ بل إنها ذهبت إلى أبعد من ذلك، فبعدَ أن شجعت عمليات التحويل الجنسي وجدت نفسها مضطرة لاتخاذ قرارات تخالف ما ترفعه من شعاراتِ المساواة واندماج المتحولين؛ ففي مارس/آذار 2023، أعلن الاتحاد الدولي لألعاب القوى أن المتحولين جنسيًا من ذكرٍ إلى أنثى، لن يتمكنوا بعد الآن من المنافسة في المسابقات الخاصة بفئة السيدات، بسبب الأفضلية الجسدية التي يمتلكونها، من باب "العدالة الرياضية".

المطلوب هو تحقيق العدالة بتحقيق الفرص المتكافئة بين الجميع لا الفرص المتساوية (شترستوك) عدالة لا مساواة

وإنّ الشريعة في مبناها ومقاصدها قامت على أن الأصل بين الرجل والمرأة هو المساواة إلا في المواضع التي تتخلف فيها العدالة عند تطبيق المساواة، فتجب عندها العدالة لا المساواة، وفي هذا يقول العلامة محمد الطاهر بن عاشور في كتابه "مقاصد الشريعة": "وبناءً على الأصل الأصيل وهو أن الإسلام دين الفطرة؛ فكل ما شهدت الفطرة بالتساوي فيه بين المسلمين فالتشريع يفرض فيه التساوي بينهم، وكل ما شهدت الفطرة بتفاوت البشرية فيه فالتشريع بمعزل عن فرض أحكامٍ متساويةٍ فيه".

ثم يقول: "فالمساواة في التشريع أصلٌ لا يتخلف إلا عند وجود مانع، فلا يحتاج إثبات التساوي بين الأفراد أو الأصناف إلى البحث عن موجب المساواة، بل يكتفي بعدم وجود مانع في اعتبار التساوي، ولذلك صرح علماء الأمة بأن خطاب القرآن بصيغة التذكير يشمل النساء، ولا تحتاج العبارات من الكتاب والسنة في إجراء أحكام الشريعة على النساء إلى تغيير الخطاب من تذكير إلى تأنيث ولا عكس ذلك".

ثم يتحدث ابن عاشور عن موانع المساواة بعد أن يقسمها إلى أربعة أقسام: جِبلية وشرعية واجتماعية وسياسية، وكل هذه الموانع قد تكون دائمة أو مؤقتة؛ طويلة أو قصيرة؛ فيقول: "فأما الموانع الجِبلية الدائمة فكمنع مساواة المرأة للرجل فيما تقصر فيه عنه بموجب أصل الخلقة".

إن المطلوب هو تحقيق العدالة بتحقيق الفرص المتكافئة لا الفرص المتساوية، وتحقيق العدالة هو الفكرة المثلى التي جاءت بها الشريعة لتحقيق مبدأ المساواة في الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف مع مراعاة الفروق في الطبيعة البشرية.

إن حل هذا الإشكال الذي يتم ترسيخه في أذهان شريحة من النساء والرجال باستخدام خطاب المظلومية يسهم بشكلٍ كبير في إطفاء نيران المعركة المشتعلة حول قضية طاعة المرأة زوجها، وإننا ماضون بتفصيل القول في بقية الأسباب الخلفية للمعركة المشتعلة حول طاعة المرأة زوجها -بإذن الله تعالى- في المقال القادم.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات بین الرجل والمرأة الله تعالى وکل ما

إقرأ أيضاً:

«الوطن» تبرز الفروق في نسب تأييد ترامب وهاريس

عرضت «الوطن» مقطع فيديو عن الفروق في نسب التأييد للمرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأمريكية دونالد ترامب، والمرشحة الديموقراطية كامالا هاريس.

وسيصوت 48% من الناخبين في أمريكا لصالح هاريس وفقا لاستطلاعات الرأي، كما أنّ 47% من الناخبين سيصوتون لترامب وفقا لاستطلاعات الرأي أيضا.

#الانتخابات_الأمريكية.. 55% من الناخبين أعربوا عن ثقتهم بــ #هاريس.. 58% من أنصار #ترامب يؤيدونه في اتخاذه القرارات التنفيذية#الوطن pic.twitter.com/HnuIJljZWV

— بوابة الوطن (@ElwatanNews) November 5, 2024

79% من الناخبين من أصحاب البشرة السمراء يفضلون هاريس، و55% من الناخبين من أصحاب البشرة البيضاء يفضلون ترامب.

54% من الناخبين من أصحاب الأصول الإسبانية يفضلون هاريس، و62% من الناخبين الآسيويين يفضلون هاريس.

57% من الناخبين الذين يحملون شهادة جامعية يفضلون هاريس، و52% من الناخبين الذين لا يحملون شهادة جامعية يفضلون ترامب.

52% من الناخبين الذين تبلغ أعمارهم 50 عاما أو أكثر يفضلون المرشح الجمهوري ترامب، و50% من الناخبين الذين تقل أعمارهم عن 50 عاما يفضلون هاريس.

مقالات مشابهة

  • الشيخة فاطمة: الإماراتية شريكة الرجل في إعلاء صرح الوطن
  • رجل يهرب ويترك صديقته تتعرض للسرقة ..فيديو
  • «ملكات» أشباه الرجال!؟ لو أحبتك «٢»
  • ملتقى المرأة بالجامع الأزهر: العفة خلق إسلامي يحمي المجتمع من الفساد
  • برلماني: المُشرع مهتم بتحقيق المساواة بين الجنسين واتفاقية 190 تتصدى للعنف بكل أشكاله
  • مستشارة أسرية: المرأة إذا بغيت تقتلها اهجرها .. فيديو
  • أحمد بدوي: خلق الله الحريم ليصرفون أموال الرجال لأنها خُلقت للرفاهية .. فيديو
  • «الوطن» تبرز الفروق في نسب تأييد ترامب وهاريس
  • جيل ستاين.. المرأة التي قد تحدد الفائز بانتخابات الرئاسة الأميركية
  • حكم الحب العفيف بين الرجل والمرأة.. كيف يراه الشرع في عيد الحب؟