حكاية رجل يحارب آثار زلزال المغرب بفناجين القهوة
تاريخ النشر: 18th, September 2024 GMT
تيبيضرت- عندما تقضي اليوم كله متجولا بين دواوير مشتتة هناك بجبال الأطلس الشاهقة، وتقفل راجعا عبر تلك الطريق الجبلية الضيقة الطويلة، تصادفك على مقربة من بلدة تحناوت (جنوبي مراكش) عربة صغيرة وسط فسحة تضم أشجار أوكاليبتوس باسقة، فيغريك ظلها وهواؤها الجبلي البارد المنعش بالتوقف للفوز بفنجان قهوة، وتنسّم عبق رياح باردة تغمر المكان.
وإن استطعت مقاومة نداء الكافيين، فبمجرد ما ترى عبوات الماء الباردة مرصوصة بالقرب من العربة ترفع راية الاستسلام، وتتوقف لتروي عطشك الذي يكون قد بلغ منك مداه.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2هنا إقليم الحوز المغربي.. هل تصدقون أن عاما مر على زلزال القرن؟list 2 of 2“الحوز خيمتنا.. الحوز نجمتنا”.. نريد بيتا يعيد لنا دفئا فقدناهend of listيستقبلك الرجل الستيني إدريس، صاحب العربة/المقهى ذو الشنب الكث بابتسامة عريضة، ويقدم لك كوب قهوة ورقيا بيد تظهر آثار أعمال شاقة خبرت دروب البناء والفلاحة، داعيا لك بأن ترافقك السلامة في رحلتك.
قهوة السفرفقد اعتاد إدريس على هذا النوع من الزبناء من مستخدمي الطريق الذين يتوقفون لابتياع فنجان قهوة وقنينة ماء، ثم ما يلبثون أن ينطلقوا مباشرة باتجاه المدن التي ينوون الذهاب إليها، وجلّهم يحتفظ بعلاقة طيبة مع هذا البائع الظريف الذي بدأ مشروعه في أبريل/نيسان الماضي فقط بحثا عن رزق بدلا من ذلك الذي دمره الزلزال.
العربة توجد بفسحة إلى جانب الطريق على بعد كيلومترات قليلة من بلدة تحناوت، تقابلها جبال صغيرة، وخلفها مباشرة تقع منازل وأراض فلاحية إلى جانب وادي غيغاية الذي يثير غضبُه مخاوف القرويين في الأيام المطيرة تحديدا.
يخبرنا إدريس بدارجة مغربية خفيفة تغلب عليها اللكنة الأمازيغية أن كلمة السر في هذه العلاقة الطيبة مع سائقي الطريق هي الأمن والأمان وجودة الخدمة المقدمة.
ويضيف أن المنطقة يغمرها الأمان ليلا ونهارا، وهو شعور لا يمكن إلا أن تعيشه مع القرويين في كل منطقة الحوز بدواويرها المختلفة، حتى ليخيل إليك أنه لا توجد مشاكل جنائية بمثل هذه الأماكن.
ولذلك، يفضل بعض الزبناء عدم الاكتفاء بفنجان قهوة، ويقررون مرافقة إدريس -أو أي من جيرانه- في جولة خفيفة بحدائق غنّاء قريبة تضم أشجارا مثمرة في مقدمتها أشجار الزيتون، ومغروسات ينعش منظرها القلوب والأبصار.
ومنذ عقود طويلة، يستغل القرويون بمثل هذه الدواوير، أي مساحة فارغة إلى جانب الوادي لزراعة أشجار مثمرة ومغروسات معيشية يبيعونها إما للسياح أو في الأسواق الشعبية القريبة، للاستعانة بها على مصاريف حياتهم اليومية.
وباتت الحاجة إلى مثل هذه الأنشطة التجارية البسيطة أكبر بعد زلزال العام الماضي الذي قضى على منازل القرويين وثروتهم الحيوانية، كما أثر سلبا بشكل كبير على التجارة البسيطة التي كانت مصدر رزق للكثيرين منهم.
وعند حديثنا إلى إدريس، التف حولنا بعض أصدقائه ومعارفه من أبناء الدواوير القريبة، وأكدوا لنا أن الأوضاع بعد الزلزال ليست على ما يرام، وأن القرويين يكافحون لأجل النهوض من تحت ركام الآثار السلبية للزلزال المدمر.
وعربة إدريس لبيع القهوة والماء البارد، هي متنفس تجاري بسيط هدفه تحقيق بعض الربح في انتظار عودة المياه إلى مجاريها التي ألفها القرويون قبل الثامن من سبتمبر/أيلول 2023.
وعندما تسأل صاحب هذا المقهى المتنقل عن مدى نجاح مشروعه الصغير يجيبك ضاحكا "إنها البركة، بالبركة يسير هذا المشروع البسيط، وببركته نواجه مصاعب الحياة".
وإذا كان الأمن والأمان من العوامل التي تساعد على جلب الزبناء وتحقيق تلك "البركة" فإن حرص إدريس على نظافة آلة صنع القهوة، والعربة نفسها، يشجع من يمرون بهذه الطريق على التوقف للفوز بفنجان قهوة نظيف.
ويشدد إدريس في حديثه إلينا على أن الجودة في تقديم الخدمة هي أمر لا تهاون بشأنه بالنسبة له، حتى إنه ليحرص على متابعة كل التفاصيل المرتبطة بها بنفسه.
ويتابع أنه برغم الظروف الصعبة، لا يستخدم نوعا عاديا من القهوة، وهو ما قد يتشجع على استخدامه آخرون بالنظر إلى أن الزبناء هم من مستخدمي الطريق، وغير مقيمين ولا يكادون يتوقفون إلا لأخذ فنجان القهوة الورقي ثم مواصلة السفر.
ويؤكد لنا أنه اتفق مع شركة متخصصة توزع أنواعا من القهوة ذات جودة عالية على المقاهي بالقرى والبلدات المجاورة، على التوقف عنده، وإعطائه نصيبه من تلك القهوة التي يقدمها للزبناء وفق شروط النظافة المطلوبة.
وكلما تشعب حديثنا مع سي إدريس وطال، ينضم إلى جلستنا ضيف جديد من أبناء الدوار، إذ بمجرد ما ينتهون من أعمالهم اليومية، يصعدون إلى فسحة "مقهى" سي إدريس، ليس فقط لارتشاف فنجان قهوة لذيذ، بل لتبادل أطراف الحديث في مواضيع مختلفة تهمهم في هذه المناطق النائية بجبال الأطلس.
ففي مثل هذه المناطق الجبلية البعيدة، تعد مثل هذه "المقاهي" أو "الحوانيت" المتواضعة البسيطة مكانا لتجمع شباب الدواوير وشِيبهم لتبادل الأخبار والأحاديث بشأن كل المواضيع التي لها علاقة بحياتهم اليومية، حتى إنك إن أردت "اقتناص" أحد أبناء الدوار في مثل هذه "الحوانيت" "تصطَد".
ومع هذه الرفقة الطيبة، تنسى تعب اليوم كله، وتغرق في أحاديث الأرض والفلاحة وطرائف الجار الفلاني، والزائر العلاني، ثم ما يلبث أن يمسك بيدك شيخ طيب ويصرّ على أن تذهب معه لتناول وجبة الغداء، ويغريك بأن الوليمة ستكون عبارة عن ديك بلدي أصيل.
لكن الوقت لا يرحم، ولابد من العودة إلى تحناوت. ويقف إدريس ومن معه مودعين ودعواتهم الطيبة تنزل بردا وسلاما على القلوب، وما يلبث أن يقول مبتسما "نتمنى أن ترجعوا لزيارتنا يوما ما، الخير قادم إن شاء الله".
تنطلق السيارة، والحديث لا يفتر عن طيبة وكرم تلك الرفقة التي تركناها خلفنا بـ"مقهى" إدريس، التي ويا للعجب وجدت لها مكانا على تطبيق خرائط غوغل، حيث تجدها رغم تزاحم مدن وبلدات المنطقة.
وإذا ما بحثت عنها ستجد غوغل يخبرك باسمها على الخريطة "مقهى إدريس"، لكن اعلم أنها مجرد عربة متنقلة، تضم فناجين قهوة ورقية وعبوات ماء باردة، مع رفقة طيبة ما تزال رائحة أخلاق الجبل تفوح منها زكية عطرة.
وأن تجد عربتك ضمن خرائط غوغل التي قد تتجاهل بلدات كاملة، فتلك مفاجأة جميلة، ربما هي البركة التي حدثنا عنها سي إدريس.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات مثل هذه
إقرأ أيضاً:
مقهى خارج الخدمة
ناصر بن سلطان العموري
nasser.alamoori@gmail.com
لم يظهر هذا المقال لحيز الوجود لولا تلك الصدفة التي قادتني للذهاب لمجمع بوشر التخصصي؛ ذلك المجمع الذي يعرفه القاصي والداني، يتم فيه تحويل المرضى من مختلف محافظات السلطنة؛ حيث يتواجد نخبة من الأطباء والاستشاريين والممرضين المهرة.
وأثناء ما كنت أهمُّ بدخول إحدى العيادات، إذا بي أتفاجأ بشخص في الستين من عمره، يسأل عن موقع المقهى، وقد بادر بسؤالي، ظنًّا منه أنني أحد موظفي المركز، فأشرت إليه نحو باب المقهى المدون عليه كلمة (كافتيريا)، وكأنَّه لا توجد كلمة مرادفة لها في باللغة العربية! ردَّ عليَّ أن المقهى قد أغلق أبوابه في وجه مرتاديه، وقلت له: بصراحة لا علم لديَّ بأسباب إغلاقه؟ ثم وجَّه لي سؤالًا عجزت عن إيجاد إجابة له: ومن يريد أن يشرب أو يأكل شيئًا وهو قد خرج من منزله منذ الصباح الباكر ماذا عليه أن يفعل؟!
أثناء الحوار سمعتنا ممرضة، وإذا بها تأتي مشكورة بقناني مياه سلمتهم له، وبادرني بعدها بابتسامة وِدٍّ، وذهب على عجلة من أمره ليُعطي زوجته ما حصل عليه بعد بحث وطول انتظار وصبر.
عرفتُ لاحقًا أنَّ المقهى مُغلق منذ أكثر من 4 أشهر، ومن يرغب بالتزود بالزاد، عليه أن يتجشم عناء المسير للمبنى الآخر! هذا من لديه القدرة الجسدية أو من كان برفقته مرافق يستطيع الذهاب، لكن ماذا عن كبار السن والعجزة والأطفال؛ بل والمرضى الذين هم من الأساس جلهم من المُراجِعين؟
سبب التأخير في إعادة افتتاح المقهى أن الموضوع ما يزال يدور في رُحى الإجراءات البيروقراطية مُتنقلًا بين مكتب مسؤول وآخر. موظفو المركز لم يقصروا بدورهم، فقد حرصوا على ملء برادات المياه المتواجدة في المجمع الطبي بقناني المياه، ولكن نتيجة لكثرة المُراجِعين والازدحام، كانت تنفد القناني بسرعة؛ بما لا تسمح لهم أعمالهم في الأساس من إعادة تعبئتها.
وزارة الصحة- والحقيقة تُقال- لم تقصر لا في تقديم الخدمات العلاجية ولا في تأهيل المراكز الصحية والمستشفيات والكادر الطبي والإداري ولا في الاهتمام بالمُراجِعين من المرضى وغيرهم. لكن يجب أن تكون هناك سرعة في الإجراءات، خصوصًا تلك المعاملات التي تتعلق بتوفير البيئة المثالية للمُراجِع وللمريض وتوفير كل سبل الراحة له، وأن لا تكون حبيسة الأدراج بانتظار من يفرج عنها.
وربما قد يعتقد البعض أن موضوع هذا المقال قد لا يستحق الاهتمام وتسليط الضوء عليه، لكنها قد تكون مسألة مُهمة عند امرأة مُسنة تحتاج إلى قارورة ماء أو طفل يطمح في وجبة طعام خفيفة، أو مريض بحاجة لطعام يُعينه على الأدوية التي يتناولها.. ويجب عدم التغافل عن الأفكار التي يراها البعض صغيرة، إذ قد تكون عند الآخرين أكثر أهمية؛ بل ومن الضروريات.
ومن الضروري متابعة مثل هكذا مواضيع تتعلق بالمُراجِعين، فحالهم ليسوا كلهم؛ سواء فمنهم المريض، وكبار السن والأطفال. ولا بُد من إعطاء الفرصة لأبناء البلد من رواد الأعمال لاستئجار مثل هذه المقاهي، مع تسهيل الإجراءات عليهم ودعمهم، أسوة بما هو حاصل من توجيهات بإعطاء الأولوية لأبناء البلد لا سيما في المناقصات الحكومية.
مِثل هذه المشاهد قد تتكرر في جهات حكومية خدمية أخرى، وعليها أن تدرك هنا أن رضا العميل والمُراجِع يجب أن يكون فوق كل اعتبار، وعلى كل مسؤول أن يُدرك أن نجاحه ليس من خلال شهادته أو منصبه؛ بل في نجاح مؤسساته المشرف عليها؛ فالعمل يجب أن يكون أمانة وتكليفًا لا تشريفاً.
*******
"خارج النص"
عزيزي القارئ.. هذا العمود هو صوتك ومرآتك وليس حكرًا على كاتبه، فإذا كان لديك ملاحظة أو وجهة نظر مُعينة أو نقد بناء يخدم الصالح العام، فلا تتردد في التواصل؛ فكلنا في خدمة عُمان فداءً.
رابط مختصر