الأعراس الباذخة.. الغواية في زمن الحرب
تاريخ النشر: 18th, September 2024 GMT
كتب الأستاذ الجامعي د.محمد عبد الحميد
لن يكون المرء سوداويا بحيث يطالب الآخرين بأن يوقفوا سير الحياة المعتاد من أعراس وعزاءات وميلاد وختان وغيرها من المناسبات الإجتماعية بذريعة الحرب.. فذلك أمر لا تقبله طبيعة الأشياء، فالحياة سمتها المسير ولن ترتهن بحالة حرب أو فوضى شاملة.
من الطبيعي والحالة هكذا أن تعتري الإنسان أطوار الحياة من فرح وكآبة.
ليس من الظلم بأي حال إذا زعم المرء أن المرأة التي تُحظى بالزواج من رجل ثري، قد تكون فريسة للغواية عندما تعتقد أنها حققت السعادة أو مهدت الطريق إليها بإقامة فرح باذخ، فذلك ضرب من ضروب الخداع الناجم عن الغواية.. وقد يكون الأمر نفسه منطبق على عريس يخادع نفسه بأنه قد ظفر "بالعروس الحسناء" لإتخاذها ذريعة إما لمجد مستعصي أو تتويجاً لثراء ناله في غفلة من الزمان. وفي كلٍ تتجلى الغواية في أتم تمظهراتها عندما يعتقد العرسان أنهم قد حققوا سعادتهم بإجراء مراسم عرس يظل حديث المجتمع لحين مقدر من الدهر، ويزاحم ما عداه من الأخبار في وسائط التواصل الاجتماعي بإعتبار ما أُنفِق فيه من أموال، أو مَن حضره مِن معازيم، أو مَن أحياه مِن المغنين. بينما الحقيقة التي لا مراء فيها أن كل حدث من هذا النوع ستجرفه تيارات النسيان في محيط الحياة اللجب.. لتظل أوهام السعادة منصوبة على أعواد الخيال المخادع، فكما يقول الأديب العالمي تلستوي(إن ميولنا نحو السعادة الإيجابية ليست مغروسةٌ في نفوسنا إلا لتبقى غير مُشبَعة وبالتالي لتعذبنا).. والحق أن السعادة لا تُدرك إلا في ظرف ينتفي فيه الحرمان عن الآخرين المحرومين من السعادة أو من أسبابها.
ففي واقع الحرب عادةً لا تُدرك السعادة الحقيقية، إلا بتقاسم هموم الآخرين الذين لم تبقِ لهم الحرب إلا شعرة بينهم وبين الجنون. إن أؤلئك التعساء - ضحايا الحرب- للمفارقة المحزنة ليسوا من الذين قضت عليه الحياة في إنتخابها الطبيعي فدمغتهم بميسمها المُسمى ب (الفقر). وإنما هم أناس من ذات مشرب مثل هؤلاء العِرسان المصابون بالغواية. أو إنهم بالأحرى أبناء نفس الطبقة من بُرجوازيي المُدن الذين صارت أسمى غايات سعادتهم في ظل الحرب تكمن في كسرة خبز، و جرعة ماء، أو لحاف للنوم، أو حبة دواء، أو سقف منزل آمن أو حتى ريح وطن كانوا في نعمائه فاكهين. فقد كان يعتقد أؤلئك البؤساء (برجوازية المُدن وأشباههم) من قبل أن سير الحياة الرُخاء لن تكدره حادثات الزمان مهما جارت عليهم، لأن تسهيلاتها كانت بالنسبة لهم في حكم المضمونة، وأن حريتهم كلها كانت رهينة بتلك التسهيلات.. فإذا بالحرب تعصف بتلك الأحلام البرجوزاية. ولذلك فإن إعجاز الناس بإقامة حفل عرس "إسطوري" يكشف عن كيفية تفكير لم يعِ الدرس مما حاق بأبناء طبقتهم الأقرب، وينم عن فهم عميق الضحالة، ونفسية منخلعة خبرت الثراء السريع كما خبر أبناء طبقتهم الفقر السريع.
د. محمد عبد الحميد
wadrajab222@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
السعادة والقراء
د. خالد بن علي الخوالدي
يسعدني جدًا عندما أكتب مقالي الأسبوعي أن أشاركه مع مُتابعيَّ على منصات التواصل الاجتماعي، وأكون أسعد حالًا عندما يتفاعل معي القراء بتعليقات إضافية أو مشاركات مفيدة حول الموضوع، ومن أكثر المقالات التي سُعدت بها مقال الأسبوع الماضي الذي حمل عنوان "لا ترفعوا سقف السعادة".
من أبرز التعليقات التي وصلتني تعليق معلمي ودكتوري وأستاذي الفاضل أحمد أبركان من المملكة المغربية الشقيقة، وهو مشرف رسالتي للدكتوراه؛ حيث قال: "حقيقة أعجبني المقال، لأنه وضع اليد على موضوع حساس للغاية، بتنا نعيشه ونلمسه في أبنائنا، كل شيء متوافر لديهم، ولا يحلمون بشيء يرغبون في الحصول عليه إلا وحققت أمنياتهم ورغباتهم ببساطة ويسر، لينقلبوا بعدها وبسرعة كبيرة إلى حالة من اليأس والاكتئاب الذي صرنا نعاينه في فلذات أكبادنا رغم حداثة سنهم، إذ سرعان ما تنقضي فترة انتشائهم بما اكتسبوه من رغبات، مادية في الغالب الأعم من الأوقات، وهذا والله هو موطن الداء، لذا يتوجب علينا تعويدهم على عدم الحصول على مبتغاهم في الحين، حتى يستشعروا حلاوة طول الانتظار، انتظار الحصول على المطلوب، لتطول بعدها حلاوة ونشوة الحصول على المُبتغى".
ومن أجمل التعليقات أيضًا تعليق الدكتور خليفة الفلاحي الذي قال: "مقال جميل ورائع، والإضافة أنَّ السعادة الحقيقية هي أن تعيش كما أنت، بدون تكلف ولا تصنُّع، أما ما تراه في المقاهي وما يقوم به الأشخاص من شراء القهوة الباهظة الثمن لأجل التصوير وإظهار هذه السعادة المتكلفة، أو شراء سيارة ذات قيمة عالية وهو ذو دخل بسيط، أو بناء منزل ضخم وهو لا يحتاج إلا النصف منه ذا القيمة العالية، هذه ليست سعادة، وهكذا الحال مع شراء الهواتف غالية الثمن لأبنائه وهم في الصفوف الدنيا لأجل إرضائهم ولأجل أن يكونوا سعداء أمام الجميع، وهو متكلف ماليًا، هذه ليست سعادة، وهناك الكثير من الأمثلة، وهذا على سبيل المثال وليس الحصر. الله تعالى يقول: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) [طه: 131]. القناعة مهمة لتكون سعيدًا، وتدريب النفس على ما هو موجود معك وبالطريقة المناسبة؛ فالسعادة هي سلوك تقوم به لتكون سعيدًا، الإيمان بالله والرضا والقناعة، وأن تعيش كما أنت وليس كما يريدون".
ردود كثيرة وصلتني، ولكن أذكر رد ثالث وأخير للأخ العزيز أحمد الشماخي؛ حيث قال: "ما شاء الله تبارك الرحمن، لقد أصبت كبد السعادة يا دكتورنا العزيز، فكم من قصور لا يدخلها ضيف وكم من خيام لا تخلو من الضيافة، المناظر أصبحت خداعة وبها الكثير من الكبرياء، ما يقتنيه الإنسان من مال وبيت ومركبة وجاه حتمًا سينسيه كيف يستغل ما حباه الله له، فالسعادة في المال الوفير أن يتصدق المرء به للمحتاج، وأن يعين من يقصده، وأن يتحسس القريب لإعانته قبل البعيد، والسعادة في البيت أن يشاطر أولاده حلقة الذكر والفكر والحوار الهادف ليسعد الجميع بقيمة البيت الكبير الذي يلم شتات الأفكار وغياب الأذكار، فكم من قارون في هذا الزمان يملك الذهب والفضة والمال وسعادته مغيبة، السعادة في هذا الزمان أستاذي العزيز، يعكرها المسؤولون، فلا تجد أبًا يسعى إلى امتلاك مركبة أو بيت أو أرض أو تجارة لإسعاد أبنائه إلا ويجد كل القوانين معقدة، فيتعقد معها فكرهم وينعكس ذلك في أبنائهم، ويزيد همهم وغمهم وهو يفكر كيف يسعدهم ويطور مستقبلهم، كل ما قد أتى زمن ستشتد فيه مطالب الناس وستضيق فيه السعة والمكسب، وحتمًا هناك من يجاري الأمور ويبحث عما يسعده، وهناك من يتعثر وتنضب سعادته، وهناك من يزداد غنى ولا تكفيه سعادته، ولكن نقول دائمًا الحمد والشكر لله".
هذه وجهات نظر نقلتها تقريبًا بشكل حرفي، وهي تدور في نفس سياق المقال الذي تطرقت فيه إلى أن بعض الناس قد رفعوا سقف السعادة إلى درجة كبيرة فلم يعد شيء يسعدهم، بينما السعادة في الأصل هي قرار يحدده الشخص نفسه، فربما جلسة مع حبيب أو صديق تكون مصدر للسعادة، كما هو حالي عندما أكون معكم ومع تعليقاتكم، ربي يجعل السعادة لا تفارقكم.
ودُمتم ودامت عُمان بخيرٍ.
رابط مختصر