دور الصحافة الصفراء في هدم الدولة السودان
تاريخ النشر: 18th, September 2024 GMT
محمود عثمان رزق
09/17/2024
الصحافة الصفراء هي تلك الصحافة الرخيصة في قيمها ولذلك تجدها تفتقر إلى المصداقية والدقة في نقل الإخبار، ودوماً تراها تميل إلى نقل الإشاعات والخرافات والأخبار الكاذبة والمحرفة والمختلقة، وهي تعمل أيضاً في مجال تھويل الأخطاء والمشاكل ونفخها والمبالغة فيها من أجل استغلالها سياسياً.
وبسبب الإثارة يكون الإقبال على الصحيفة كبيراً وبالتالي الإعلانات فيها تكون غالية وكثيفة مما يجعل دخل الصحف الصفراء عالياً وكذلك يكون دخل الصحفي فيها تباعاً. وهذاء الجزاء الوافر يجعل الصحفيين العمالين في الصحف الصفراء يلهثون ليلاً ونهاراً وراء فضائح الأفراد والمؤسسات في كل الميادين وخاصة السياسية والإقتصادية والرياضية والفنية منها. وهذا النوع من الصحفيين هم أقل الناس ثقافة وفكراً وقيماً، وكل ما يعرفونه في الحياة هو جمع المال عن طريق نشر الأخبار المثيرة التي تجذب العوام وتشغل الرأي العام عن جادة الطريق. إذا كان الخبر صحيحاً فيجري تضخيمة والمبالغة في تقييم أثره ليكون مثيراً، وإذا لم يكن صحيحاً من أصله يساعدون في نشره بطرق ملتوية من غير أن يتورطوا قانونياً في شأنه، ولكنهم لا يسعون أبداً لنفيه أو التحقق من صحته عمداً منهم.
إذن مفھوم الصحافة الصفراء مفهوم يعكس تلك الممارسات اللاأخلاقية القائمة على أساس الإبتزاز في العمل الصحفي بتحريف الكلام عن مواضعه بقصد الإثارة على حساب سمعة الغير لتشويه صورهم أمام الرأي العام. وللأسف قد أبتلي وطننا السودان بهذا النوع من الصحافة السيئة منذ فجر الإستقلال وحتى هذه اللحظة، وقد لعبت الصحافة السودانية الصفراء دوراً كبيراً في إزكاء نيران الفتن الإجتماعية والسياسية في البلاد بنشرها الإكاذيب ضد الحكومات والقادة والأحزاب والسياسيين والمفكرين والأثرياء ورجال الدين والقبائل والجهات، وهلم جرا. ولعل الشاعر المفكر التيجاني يوسف بشير قد تنبه لهذه الظاهرة الصحفية الخطيرة وخطورة كُتَّابها الخواء من الفكر منذ وقت مبكر (بالضبط قبل قرن من الزمان)، فكتب مقالاً بعنوان "القيادة الفكرية فى السودان" يقول فيه:
"الواقع أنّ السودان اليوم على رغم ما يروجون عنه من دعاية للفكر كاذبة، ليس هو إلا بلداً لا سلطان للفكر فيه بحال، وليس يألف – إن اتفق له من هذه الحياة (الفكرية) شيء- إلا أخفّها على العقل وأيسرها على النفس." ويواصل قائلاً: و"الحق أنّ المكلفين بقيادة الفكر فى هذا البلد قومٌ لا يقودون إلا أنفسهم الى الناس فى ألوان من الكتابات ليس لها من القيمة ما يهيئ لها النفوس ويستلفت لها النظر." ثم يتحسر على حال السودان قالئلاً: "ومن العجيب ألا يكون للمذاهب الفلسفية أو الأدبية على كثرتها أثر فى هذا البلد. والنضال الذى يحتدم ويستعر فى بطون المؤلفات وعند انصار رأى واشياع آخر، ودعاة مذهب واتباع آخر ، يصرخ بعيداً عن عالمنا هذا. وحتى الذين يقبسون لنفوسهم شيئاً من هذا القبس الفكرى، لم يُوجد لديهم الإيمان القوى بأنّ الترويج بهذه المذاهب والاراء والنظريات يصح ان يتقدم بالحياة هنا خطوة واحدة. ولهذا فانك غير واجد عند أحدهم ايماناً صحيحاً أو مناصرةً حقيقية لما قرأ من مذاهب او شدا من أفكار".
ثم يلتفت التيجاني للكُتّاب ناصحاً لهم: " والكاتب إن لم يفن فى الحياة ويدن (يقترب) الى الأمة فيما يحمل لها من صور وآراء، ويضع فيها نفوذه الشخصي، وإيمانه وحريته ودم قلبه وآثار روحه فى صدق النبيين، وإخلاص المجاهدين، قاصراً كل قواه على ان يثير فيها من الشؤون والأفكار ما هي مؤمنة به لا محالة، عاملة له من غير تردد، فإنّه (إن لم يفعل ما ذكرنا) لن يكون في إنتاجه لها إلا منسياً أبداً مستنفذاً جهده فى غير ما طائل من ذكرى أو أثر.
وتلك هى الحقيقة التى يقع تحتها كل كتّاب هذا البلد على قلة من نعنى باسم الكتّاب، وإنّ الواحد منّا ليكتب كثيراً، ولكن إن رجع إلى كل ما كتب ليقيس مدى ما ترك من أثر فى تحويل الفكر أو توجيهه أو تلقيحه باللقاح الذى يقدر له أن يخلق فى نفوس قرائه ما كان يقصد به إليه، لم يلقَ إلا كتابات تطول وتقصر على محض كلام هو كل ما لا حاجة ببلدنا إليه، لأن أصحابه يزورونه على نفوسهم وختلقونه إختلاقاً محاولين أن يصبحوا به من طبقة الكاتبين لا غير,
هذا وإنّهم ليخطئون جداً فى محاولة الوصول الى لقب الكاتب أو المصلح أو المفكر من وراء هذه المحاولات، وما هى بمحققة من ذلك شيئاً إلا أن تنعكس دليلاً على أنا نجهل طبيعة الفكر الذى يقود، وخصائص الكاتب الذي يصلح (أن يكون مفكراً)، ونغرر بأنفسنا ونستخف بقرائنا ونخادعهم عن حقيقة ما نحمل في أنفسنا من خواء، فلا نطلب إليهم أن يلتمسوا بأيديهم أثر الفكر الحي فيما عند غيرنا من حياة. ولو فعلنا هذا ونفضنا أيدينا عن الكتابة لأعنّا هذا البلد على بلوغ ما يدفع عنه الكسل والفتور والموت الفكري الذي جنيناه عليه."
ثم يختم قائلاً :"ولكن مع هذا فلا بد لنا من قيادة فكرية محلية تدفع فينا الحياة، وتبعث فينا القوة، وتروضنا على حرية الفكر، وتسلك بنا فى حياة أدبية رافهة الصور مملؤة بالسحر والجمال. ولا شك أنّ هذه القيادة لن تخلق خلقاً ولن يُقلدها عضوٌ واحدٌ من هؤلاء الناس، وإنّما هى عملٌ وكفاحٌ ومنافحة وسلطان تكوّنه شتى عوامل (من عوامل) اليقظة الفكرية، من فرد أو أفراد تميزوا بهذه اليقظة، واتصلوا بالوجود اتصال فهم ومعرفة وتفسير، وأفرغوا فى رؤوسهم نفسية الأمة، وعقلية الشعب كله، وأخلصوا له الولاء وأصدقوه العمل. ويومئذ يقودون الأمة مرغمة أو غير مرغمة إلى مثلهم وغاياتهم، ويصرفونها على مختلف الأوجه مؤثرة فيهم متأثرة بهم بالغين بها المرفأ الأمين من مرافئ الحياة التى يصنعها الفكر ويتأله فيها بسلطانه. وإذن فلا مطمع فى هذه القيادة لمن لا يعرف أولاً كيف يقرر سلطانه الفكرى ويدل على مواضع الحياة والقوة والقهر منه (أى من الفكر): فماذا أعددنا لهذا من وسائل وأساليب؟"
لقد لعبت الصحافة الصفراء دوراَ كبيراً في هدم الأخلاق السودانية البسيطة المحافظة بنشرها المتكرر للإشاعات والأخبار الكاذبة والظنون المريضة التي أدمن عليها المجتمع. وكذلك هدمت الدولة وقادتها وقادت لعدم الإستقرار وذلك عن طريق شيطنة كل الحكومات من دون فرز، وبالجري وراء توافه الأمور وجعل الحبة قبة. إنّها صحافة غير مسؤولة لا تحمل بين طياتها حلولاً لمشاكل المواطنين، صحافة ينتظر كُتّابُها الأحداث والأخبار للتعليق عليها ليملأوا بها أعمدتهم الخاوية. كتاب لا يصنعون الحدث وإنّما ينتظرون الحدث للتعليق عليه وكفى وكأنّ القراء عاجزين عن ذلك. هؤلاء الكتاب للأسف، لا الأمر لديهم بواضح ولا الطريق لديهم بمعروف وبهم يشقى جليسهم في بلادهم.
أمّا الصحافة الحقيقية فهي صدق في القول والنقل والنشر.
وهي عبقرية تجد الحلول لأصعب المسائل.
وهي مباحث تكشف أعقد الألغاز.
وهي صحافة محايدة ليست حزبية تدور مع الحق والقرار الصحيح والمسؤول الصحيح حيث كان، همها الوطن أولاً ثمّ الحزب.
وهي تأنّي في نقل الخبر خيراً كان أو شراً، ودراسة أثره على المجتمع قبل نشره.
والصحافة الحقيقية هي حارسة الأمن القومي لا تبيع وطنها أبداً ولا تستقوى بالخارج لحل مشاكل الداخل.
والصحافة الحقيقية هي التي تحارب الإشاعات بنشر الحقائق وتدعو للعدل والعفو والفضيلة.
والصحافة الحقيقية تصلح ذات البين وتحبب الناس لبعضهم وتقرب وجهات النظر السياسية من أجل المنفعة العامة.
والصحافة الحقيقة هي التي تحترم العلماء ورموز الأمة في كل مجال وحقل وتدافع عنهم وتدعو الناس لإحترامهم.
وأخيراً، نسأل الله أن يهبنا الرشد كله، رشداً في الصحافة والسياسة والإقتصاد والإعتقاد وفي كل شيء إنّه نعم المولى ونعم المجيب.
morizig@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الصحافة الحقیقیة هذا البلد
إقرأ أيضاً:
"لغة القرآن".. انعقاد ملتقى الفكر الإسلامي بمسجد الحسين
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
انعقد ملتقى الفكر الإسلامي عقب صلاة التراويح بمسجد الإمام الحسين رضي الله عنه في القاهرة، في الليلة الثالثة عشرة من رمضان، تحت عنوان “لغة القرآن في شهر القرآن”، والذي ينظمه المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
وذلك برعاية الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف ورئيس المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وبإشراف الدكتور محمد عبد الرحيم البيومي، الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
وشهد الملتقى أجواء روحانية وعلمية مفعمة بالإيمان والمعرفة، وذلك ضمن جهود وزارة الأوقاف لنشر الفكر الوسطي وتعزيز الوعي الديني خلال الشهر الفضيل.
وحاضر في الملتقى كل من: الدكتور حسني التلاوي، وكيل كلية الدراسات الإسلامية والعربية سابقًا، والدكتور عبد الكريم جبل، أستاذ اللغة العربية بكلية الآداب جامعة طنطا ووكيل الكلية الأسبق.
وافتتح اللقاء بتلاوة قرآنية مباركة للقارئ الشيخ محمود عبد الباسط الحسيني، وقدم للملتقى الإعلامي حسن الشاذلي، المذيع بقناة النيل الثقافية، وذلك بحضور فضيلة الدكتور محمد عبد الرحيم البيومي، الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ولفيف من قيادات الوزارة ومديرية أوقاف القاهرة والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وجمع غفير من الحضور.
واستهل الدكتور عبد الكريم جبل كلمته بتوجيه الشكر للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية على دعوته لهذا الملتقى، مؤكدًا أن اللغة العربية قد سبق في علم الله أنها ستكون وعاء لدينه الخاتم، فاختصها بخصائص مميزة جعلتها قادرةً على استيعاب القرآن الكريم.
وأوضح أن اللغة العربية تتميز بتنوع مخارج الأصوات، حيث تشمل جميع الأصوات التي يمكن أن تصدر عن الجهاز الصوتي البشري، بدءًا من الحنجرة وانتهاءً بالشفتين، إضافة إلى احتوائها على أصوات تنفرد بها، كالأصوات المفخمة.
وأشار إلى أن بنية الكلمة العربية تتسم بمرونة الاشتقاق، إذ تصاغ وفق أنماط محددة، مما يجعلها قادرة على توليد معان جديدة دون فقدان دلالتها الأصلية، كما تتميز بمرونة التركيب، حيث يمكن تقديم وتأخير مكونات الجملة على عكس بعض اللغات التي تلتزم بترتيب ثابت.
وأكد أن اللغة العربية تعد من أغزر لغات العالم من حيث عدد المفردات، حيث تمتلك اثني عشر ألف جذر، تتولد منها اشتقاقات تصل إلى ربع مليون كلمة، مشيرًا إلى أن المفردات التي تعود إلى جذر واحد تدور حول معنى مشترك، مما يمنح اللغة ترابطًا دلاليًا فريدًا.
وشدد على أهمية تعزيز مكانة اللغة العربية في نفوس أبنائنا، ووسائل الإعلام، باعتبار ذلك واجبًا قوميًّا ودينيًّا، لافتًا إلى أن الله تكفل بحفظها من خلال حفظه للقرآن الكريم، مصداقًا لقوله تعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ".
وفي كلمته، ثمن الدكتور حسني التلاوي جهود الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف، في نشر الفكر الإسلامي الوسطي، مشيدًا بحسن اختيار العلماء المشاركين في هذا الملتقى العلمي المبارك.
وأكد أن تعلم اللغة العربية عبادة، لأنها وسيلة لمعرفة الله تعالى وفهم أوامره ونواهيه، وأوضح أن فهم اللغة العربية فرض واجب، إذ لا يمكن استيعاب القرآن الكريم والسنة النبوية دون إتقانها، مشيرًا إلى أن معرفة وجه إعجاز القرآن الكريم متوقف على إدراك قواعد اللغة العربية.
وشدد على أن القرآن الكريم معجز بلغته التي نزل بها، داعيًا جميع العاملين في المجال الدعوي إلى إتقان اللغة العربية؛ حتى يتمكنوا من فهم القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ونقل معانيهما إلى الناس بصورة دقيقة.
واختتم الملتقى بفقرةٍ من الابتهالات الدينية قدمها الشيخ يسري معتوق، وسط تفاعلٍ من الحضور وأجواء إيمانية مباركة.
FB_IMG_1741868508103 FB_IMG_1741868506078 FB_IMG_1741868503784 FB_IMG_1741868501728 FB_IMG_1741868499065 FB_IMG_1741868497075 FB_IMG_1741868492761