د. صبري محمد خليل/ أستاذ فلسفة القيم الاسلامية في جامعة الخرطوم

sabri.m.khalil@gmail.com

التمييز بين الشعب الأمريكى والسياسات الإمبريالية الأمريكية : بداية يجب التمييز بين أمريكا كشعب،وأمريكا كنظام امبريالي، اى كقائدة للنظام الرأسمالي، الذي نشأ في أوربا وأصبحت أمريكا قائدته في مرحلة لاحقة، و امتد إلى كل أطراف الأرض، فارضا إرادته على إرادة الشعوب والأمم بالسيطرة العسكرية والاقتصادية والثقافية.



امريكا والاتحاد السوفيتي : اختلاف البدايات الايديولوجية واتفاق النهايات السياسية:
اولا: البداية الايديولوجية والصراع:كانت البداية الايديولوجية لكل من امريكا كدولة والإتحاد السوفياتى مختلفه لدرجه التناقض، فقد نشات امريكا كدوله تتبنى النظام الاقتصادى الراسمالى ،الذى يلزم منه- موضوعيا--ستغلال الشعوب وقهرها،وتحولت لاحقا الى قائده للنظام الراسمالى العالمى كما ذكرنا اعلاه . اما الاإتحاد السوفياتي فقد نشا كدولة تتبنى الاشتراكية فى صيغتها الماركسية،وترفع شعارات تحرير الشعوب من كافة أشكال القهر.
ثانيا: النهاية الايديولوجية والاشتراك " الموضوعى ": غير ان النظام السياسى فى الاتحاد السوفياتى تحول (بفعل ظواهر سالبة اصابته كالإستبداد والبيروقراطية والنزعة الامبراطورية الروسية التاريخية...) الى نظام سياسى يلزم منه موضوعيا الاستبداد بالشعوب وقهرها- وهو ما اعترف به العديد من المفكرين الماركسيين من دعاه تجديد الماركسيه" اليسار الجديد" - وهنا إشترك كل الولايات المتحدة الأمريكية و الاتحاد السوفيتي – موضوعيا- في قهر الشعوب. غير أن تنافسهما على الإستبداد بالأمم والشعوب والدول كان يتيح للمستضعفين -الذين هم كل البشر- ثغرة لكسب قدر من الحرية، في مقابل أن يكونوا تابعين لأحدهما. إلى أن انسحب الاتحاد السوفيتي من حلبة المنافسة، فشل الذراع الأيسر لقهر الأمم والشعوب .فلما شل الذراع الأيسر ضعف الذراع الأيمن الولايات المتحدة الأمريكية. اى اصبح وحده اضعف من ان يتحكم فى كل اممم وشعوب العالم.
ومن مؤشرات ومظاهر هذا الضعف :
تفاقم المشكلة القومية فى امريكا: أمريكا ليست دولة قومية، اى ليست أمة واحدة ، بل دولة متعددة الإثنيات، فكل نفر من سكانها ينتمي إلى أمة أو شعب خارجها. فهي معرضه دائما إلى خطر التمزق كدولة إلى عدد من دول كل منها قومية، و قد قامت على أساس أن يتولى البيض الأنجلوسكسون البروتستانت" الواسب" صهر "تذويب" بقية القوميات فيهم لغة و حضارة و مصيرا. ولكن هذا الأساس لقي معارضه متكررة من هذه الجماعات الاثنيه.
المشكله العنصريه: وتمثل هذه المحاولة لتذويب هذه القوميات احد جذور المشكلة العنصرية فى اممريكا ،والتى تخرج للسطح كل فتره، عند حدوث حادث عنصرى معين .

الإرهاب " الحرب العالمية الثالثة": كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي التي بدأت وأعلنت الحرب العالمية الثالثة ،ممثله في يمكن تسميته بحرب الإرهاب عام 1984، فضلا عن انها اسهمت فى إنشاء- أو على اقل تقدير تغاضت عن نشاتها- كثير من التنظيمات الارهابيه " القاعده، داعش..." لتوظيفها في تحقيق مصالحها المنطقة، وأهمها التفتيت الطائفى لها . لكن تأثيرها على هذه التنظيمات بدأ فى التلاشى ، عندما قويت شوكة هذه التنظيمات، بل وضربتها فى العمق ، واصبحت خطر يهدد مصالحها .مما إضطرها لضربها عسكريا.بغرض تحجيمها - وليس القضاء النهائي عليها - و هذه الحرب انتهكت الولايات اقتصاديا ، وفيها عجزت عن استخدام أسلحتها المتطورة ،وفى ذات الوقت اتيح لخصمها امكانيه الانتصار ، باستخدام أبسط أدوات التدمير.

الأزمات الاقتصادية المتعاقبة: ترجع جذور الأزمات الاقتصادية المتعاقبة إلى صميم النظام الاقتصادي الرأسمالي، المستند إلى الليبرالية كمنهج والمستند إلى فكره القانون الطبيعي،اى النظام الاقتصادي القائم على عدم تدخل الدولة كممثل للمجتمع ، وهو ما أثبت واقع المجتمعات الاوربيه ذاته خطاه. وكان تجاوز هذه الأزمات بتدخل الدولة مؤشر على انهيار النظام الراسمالى على المستوى النظري، كما أن ضخامة حجم هذه الأزمات وتقارب فتراتها . مؤشر على بدايه نهايه انهيار النظام الرأسمالي على المستوى العملي .

تنامى النزعة الأمريكية للعزله عن العالم:فقد تنامت النزعة الأمريكية للعزله عن العالم ومن مظاهرها انسحابها من الكثير من الاتفاقيات العالمية.

تنامى نزعه مناهضة السياسات الامبرياليه الامريكيه: سواء خارج امريكا او داخلها"فالعديد من الشخصيات والجماعات والمنظمات الأمريكية ترفض تعارض هذه السياسات.

تمدد محور الدول الرافضة للخضوع للسياسات الامبرياليه الامريكيه : ومن مظاهره التنامي المتسارع للقدره النوويه لكوريا الشماليه ،و الغزو الروسى لاوكرانيا. وتولى أحزاب يسارية الحكم فى العديد من الدول ،وخاصه أمريكا اللاتينية، وتبنيها سياسات مناهضه للسياسات الامبرياليه الامريكيه.

تعاظم دور الدول والنظم المتحالفه معها - او التابعة لها- : وذلك نتيجه لضعف قدرة الولايات المتحده فى تحجيمها .

تنامى الرفض الشعبى العالمى لانحياز الولايات المتحده الامريكية المطلق للكيان الصهيونى .

تغيير أسلوب التحكم بالشعوب : فقد تخلت عن أسلوب التدخل العسكرى المباشر ، ولجات إلى أسلوب الحروب بالوكالة. وتخلت عن التدخل المنفرد ، ولجأت إلى أسلوب التدخل عبر تحالفات واسعه. وتخلت عن أسلوب استخدام الجيوش والقوه العسكرية ، ولجات إلى أسلوب استخدام المخابرات ، و الإعتماد على النخب السياسية - المعارضة أو الحاكمة- العميلة. وتخلت عن اسلوب تغيير الواقع السياسى للدول الأخرى لما يحقق مصلحتها، إلى استغلال هذا الواقع السياسى القائم لما يحقق مصلحتها.

فشل مشروع الشرق الأوسط الجديد "الامبريالي الصهيوني" وضعف قبضة أمريكا على المنطقة العربية: فقد فشل هذا المشروع في الغاء الإرادة الشعبية العربية، رغم نجاحه في تعطيلها. فقد نجح في الارتداد بالنظام السياسي العربي خطوات تجاه التفتيت على أساس طائفي، لكنه فشل في تحكم القوى التي تقف وراءه - وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكيه- في هذا الارتداد ، فافرز عدد من الظواهر،التي تجاوز تأثيرها السلبي النظام السياسي العربي إلى هذه القوى ، من هذه الظواهر : ظاهره الإرهاب وتدفق اللاجئين على الغرب، والفوضى الناتجة من إسقاط الولايات المتحدة لبعض النظم العربية، ومحاولاتها المستمره لاجهاض ثوره الشباب العربي بموجتيها الاولى والثانيه ، وافراغها من مضمونها ، وتحويلها من مسارها الاصلى" الطببعى "الجماهيري السلمي ،إلى مسار اخر مصطنع " طائفي او عنيف او تابع للخارج او فوضوى .."، مما اضعف مقدره الولايات المتحدة ذاتها على فرض إرادتها السياسية على النظم السياسية العربية التالية لإسقاط أو سقوط هذه النظم .

تحقق مرحله الشلل التام "التعطيل النهائي" مرهون بنضال الشعوب: أما الشلل التام" التعطيل النهائي" لقدره هذا الذراع على قهر الشعوب فمرهون بسعي هذه الشعوب إلى استرداد حريتها، وإلغاء القهر الممارس عليها، بالتدريج، وحسب الإمكانيات المتاحة لها، وبمزيد من التضامن بين هذه الشعوب- بما فيها الشعب الامريكى المضلل اعلاميا والمقهوراقتصاديا-

خفاء بدايه شلل الذراع الايمن لقهر الشعوب على النظم ودور الشعوب فى بيان ذلك: ورغم وضوح مؤشرات بدايه شلل الذراع الأيمن لقهر الشعوب للشعوب، إلا إنها خافيه على النظم السياسية ، وهنا نشير إلى تشبيه الدكتور عصمت سيف ألدوله للنظم السياسية العربية في عدم إدراكها لحقيقة ضعف الولايات المتحدة الامريكيه ،ومن ثم خضوعها التام لها، بالجن الذين لم يعلموا بموت سليمان (عليه السلام)، إلا بعد أن أكلت الدابة مِنْسَأَتَهُ كما في الايه ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14: سبإ) .

اليات التعطيل النهائى لقهر الشعوب: لذا فانه على الشعوب وطلائعها المثقفه توعيه أنظمتها بذلك ، وهو ما يضمن عدم وقوفها في وجه التوجه الشعبي المعارض للسياسات الامبريالية لأمريكا، في كل أنحاء العالم بما فيها أمريكا ذاتها ، والذي سيكون له دور فاعل في الانتقال من مرحله بدايه شلل – او التعطيل الجزئي- للذراع الأيمن لقهر الشعوب "الضعف"، إلى مرحله الشلل التام " او التعطيل النهائي" له " بالقضاء على السياسات الامبريالية للولايات المتحدة"،وذلك من خلال التزامه بالعديد من الآليات أهمها:
• كشف السياسات الامبريالية الامريكيه، وخطرها على الشعوب والحكومات أيضا......
• مقاطعة السلع والبضائع والمنتجات الأمريكية.
• مقاومة التغريب الثقافي الامريكى، الذى يحاول تصوير نمط الحياة الامريكى"الممعن فى الفرديه"الأنانية " والمادية والنزعة الاستهلاكية والبراجماتية "النفعية " وتمجيد العنف..." وكانه نمط الحياه المثالى ، الذى يجب على كل امم وشعوب العالم اتباعه، مستخدمة فى ذلك كل تقنيات الاتصال والاعلام المتقدمه التى تملكها،ومتوسله فى ذلك بكافة المجالات الثقافية ، ومنها الفنون والآداب " السينما والغناء والموسيقى وغيرها".
• التضامن بين شعوب العالم فى مواجهة السياسات الامبرياليه العالميه.
• السعى لتحقيق نظام عالمي متعدد الأقطاب.
• العمل على نقل الاقتصاد الوطني من علاقة التبعية الاقتصادية- من خلال فك ارتباطه بالنظام الرأسمالي العالمي ومؤسساته " البنك الدولى صندوق النقد الدولي منظمة التجارة العالمية ..." – ومن ثم ضمان عدم تاثره بازماته الدوريه - إلى علاقة التعاون الاقتصادي من خلال اقامة علاقة تبادل اقتصادي بين دول العالم، قائم على أساس المصالح المتبادلة.
• تفعيل مناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني،للارتباط الوثيق بين الصهيونية والامبريالية الامريكيه، فامريكا هى حارس الكيان الصهيوني ، والصهيونية تهيمن على المفاصل الأساسية للنظم السياسية والاقتصادية والإعلامية...الأمريكية.
• الحفاظ على الهوية الحضارية - والدينية " والاجتماعية " للمجتمعات العربية -الإسلامية ، وتطويرها بما يتيح استيعاب إيجابيات الحضارة الغربية ،مع رفض سلبياتها ،اى بدون انغلاق او اجتثاث لجذورنا الحضاريه

- للاطلاع على مقالات أخرى للدكتور صبري محمد خليل يمكن زيارة العنوان (http://drsabrikhalil.wordpress.com).  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الولایات المتحدة

إقرأ أيضاً:

الإنتاجية هي كل شيء.. لماذا تغفل السياسات الاقتصادية ما يهم حقًا؟

ماثيو ج سلوتر وديفيد ويسل

تمر الولايات المتحدة بأوقات عصيبة؛ فالأمريكيون يشعرون بضيق اقتصادي شديد، رغم أن المؤشرات الاقتصادية تبدو جيدة: البطالة منخفضة، والتضخم في تراجع، والبلاد تظل الأكثر ثراءً في العالم. ومع ذلك، تُظهر استطلاعات الرأي المتتالية أن غالبية الأمريكيين غير راضين عن وضع الاقتصاد اليوم أو مستقبله، إذ لا يرى سوى ربعهم أنه جيد أو ممتاز. ويعرب نحو 80% عن عدم ثقتهم في أن أطفالهم سيعيشون حياة أفضل مما يعيشونه.

على مدى سنوات، ناقش المحللون التحديات الفريدة التي تواجهها البلاد، بدءًا من شيخوخة السكان التي تفاقم عجز الميزانية الفيدرالية مع اصطدام الإنفاق الاستحقاقي بالنفور من زيادة الضرائب، مرورًا بالتهديد المتصاعد لتغير المناخ وما يفرضه من ضرورة لإصلاح قطاع الطاقة، ووصولًا إلى اتساع فجوة الثروة والدخل في اقتصادنا المتغير. كما أعربوا عن قلقهم إزاء المستبدين الأجانب الذين يهددون أمن الولايات المتحدة.

لكن المناقشة العامة غالبًا ما تغفل عاملًا مشتركًا وراء كل هذه التحديات، وهو العامل الذي سيحدد قدرة الولايات المتحدة على مواجهتها: إنتاجية العمل. ويُقاس هذا العامل عادةً بكمية السلع والخدمات التي ينتجها كل عامل، وهو المحدد الرئيسي لمتوسط مستوى المعيشة في أي دولة ونجاحها الاقتصادي العام. فالنمو في الإنتاجية بمرور الوقت هو ما مكّن الأمريكيين اليوم من استهلاك مزيد من السلع والخدمات مقارنة بأجدادهم، رغم عملهم لساعات أقل. كما يغذي نمو الإنتاجية ارتفاع الأجور والأرباح، مما يولّد مزيدًا من الإيرادات المالية، ويمنح واشنطن القدرة على بناء دفاعات هائلة. كذلك، يعزز نمو الإنتاجية القوة الناعمة للبلاد، حيث يعكس مكامن القوة في مجتمع ديمقراطي موجه نحو السوق.

شهدت إنتاجية العمل في الولايات المتحدة نموًا سريعًا بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها تباطأت بشكل ملحوظ منذ عام 1973. فعلى مدى نصف القرن الماضي، تراوح معدل النمو السنوي بين 1.4٪ و3.0٪، لكنه ظل في المتوسط أقل مما كان عليه في العقود السابقة. ورغم التقلبات خلال الجائحة، فإن البيانات الأخيرة مشجعة، لكن من المبكر اعتبارها اتجاهًا مستدامًا. لهذا التباطؤ آثار كبيرة، حيث قدّرت تقارير سابقة أن دخول الأمريكيين كان يمكن أن تكون أعلى بنسبة 58٪ لو استمر النمو بمعدلاته السابقة. ورغم أن جميع الاقتصادات المتقدمة شهدت تباطؤًا مماثلًا، فإن ذلك لا يعني أن الإنتاجية الأمريكية تنمو بما يكفي، خاصة مع تسارع نمو الإنتاجية في الصين وتحولها إلى منافس اقتصادي وجيوسياسي رئيسي.

لتحقيق نهضة في الإنتاجية، تحتاج الولايات المتحدة إلى سياسات تدعم البحث والتطوير، والاستثمار في التعليم والتدريب، والانخراط في الاقتصاد العالمي عبر الهجرة والاستثمار عبر الحدود، كما يجب تجنب السياسات التي تعوق تدفق الأفكار ورأس المال، أو تقوض التحالفات الدولية، أو تخفض الاستثمار الحكومي في البحث لصالح الإنفاق على الاستحقاقات، ورغم أن تحسين الإنتاجية لن يحدث بين عشية وضحاها، فإن التزام واشنطن بهذه الأدوات سيعزز النمو الاقتصادي، ويمهد لحل العديد من التحديات الداخلية والعالمية.

تعد الإنتاجية عنصرا أساسيا في رفع مستويات الدخل والرفاهية الاقتصادية، وقد شدد الاقتصاديون على أهميتها لعقود. فزيادة الإنتاجية تتم عبر تعزيز رأس المال المتاح لكل عامل أو من خلال الابتكار، الذي يشمل تطوير سلع وخدمات جديدة وتحسين أساليب الإنتاج. ويعتمد الابتكار على عوامل مثل التعليم، والبحث والتطوير، والانفتاح على المنافسة العالمية.

أثبتت الأبحاث أن الابتكار كان المحرك الرئيسي لنمو الإنتاجية في الولايات المتحدة خلال القرن الماضي. فقد أظهرت دراسة لروبرت سولو أن معظم الزيادة في الناتج المحلي الإجمالي للفرد بين 1909 و1949 جاءت من التغير التكنولوجي، بينما أكدت دراسة أخرى أن 80٪ من نمو الناتج بين 1948 و2013 ارتبط بتطوير الأفكار المبتكرة.

ويُظهر التاريخ الاقتصادي الأمريكي كيف ساهم الابتكار في تحسين الإنتاجية، خاصة في الزراعة. فإنتاج 100 بوشل من الذرة كان يتطلب 344 ساعة عمل عام 1800، لكنه انخفض إلى 147 ساعة بحلول 1900، ثم إلى ثلاث ساعات فقط في 1980. وقد تحقق هذا بفضل التقنيات الحديثة والآلات المتطورة، مما سمح للعمال بالانتقال إلى قطاعات صناعية أخرى.

كما أدّت عوامل أخرى دورًا حاسمًا في تعزيز الإنتاجية، مثل تحسين التعليم وزيادة الهجرة وتدفقات رأس المال الأجنبي. وكانت الولايات المتحدة رائدة في نشر التعليم الثانوي عبر «حركة المدارس الثانوية» الممولة من الضرائب. ففي 1910، لم يكن سوى 9٪ من الأمريكيين بعمر 18 عامًا حاصلين على شهادة الثانوية، لكن بحلول 1940 أصبح معظم الشباب يكملون تعليمهم الثانوي، مما أدى إلى نمو الإنتاجية وتقليل فجوة الدخل بين الفئات المختلفة من العمال.

وشهدت الولايات المتحدة طفرة في الإنتاجية بعد الحرب العالمية الثانية بفضل استثمارات ضخمة في البحث والتطوير والتعليم والتجارة العالمية، مدفوعة بالمنافسة مع الاتحاد السوفييتي. ولكن بحلول السبعينيات، تباطأ هذا النمو بسبب صدمات أسعار النفط، وتراجع الإنفاق الفيدرالي على البحث والتطوير، وضعف النظام التعليمي، وتزايد الحواجز التجارية.

في منتصف التسعينيات، شهد الاقتصاد الأمريكي انتعاشًا مؤقتًا بفضل تكنولوجيا المعلومات، حيث ساعدت العولمة والاستثمار في التقنيات الرقمية على زيادة الإنتاجية وتحقيق فوائض في الميزانية. لكن هذه الطفرة انتهت بعد عام 2005 بسبب توقف التخفيضات الجمركية وضعف الابتكار، مما أدى إلى تباطؤ النمو الاقتصادي وزيادة التفاوت في الدخل والعجز المالي.

في المقابل، شهدت الصين طفرة إنتاجية غير مسبوقة منذ الإصلاحات الاقتصادية في 1978، حيث تحرر الاقتصاد من سيطرة الدولة، وزادت الاستثمارات الأجنبية والصادرات، وارتفع الإنفاق على البحث والتعليم. بين 1979 و2019، نمت إنتاجية الصين بمعدل 7.5% سنويًّا، مما جعلها قوة اقتصادية عالمية. ورغم تباطؤ هذا النمو مؤخرًا بسبب الشيخوخة السكانية وتعزيز سيطرة الدولة، لا تزال الصين تبتكر وتوسع إنتاجيتها، خاصة في مجالات التكنولوجيا النظيفة. وفي ظل تبني واشنطن لسياسات أكثر حمائية، تسعى بكين لبناء نظام تجاري عالمي جديد من خلال مبادرات مثل الحزام والطريق.

قد تكون التوقعات بعودة النمو السريع والمستدام للإنتاجية في الولايات المتحدة مفرطة في التفاؤل، حيث تشير التوقعات الرسمية إلى نمو سنوي متواضع لا يتجاوز 1.4% حتى عام 2054. ومع ذلك، يمكن للولايات المتحدة تعزيز الإنتاجية من خلال زيادة الاستثمار في البحث والتطوير والتعليم المبكر.

ينبغي مضاعفة التمويل العام للبحث والتطوير ليصل إلى 2.2% من الناتج المحلي الإجمالي، مع توزيع الإنفاق على قطاعات متعددة لتعزيز الابتكار. كذلك، يجب توفير برامج تعليمية عالية الجودة للأطفال الصغار، رغم التكلفة العالية، نظرًا للفوائد الاقتصادية والاجتماعية بعيدة المدى.

مع ذلك، تواجه هذه الاستثمارات تحديًا بسبب العجز الفيدرالي المتزايد وارتفاع الدين العام، مما يستدعي تمويل هذه النفقات عبر سياسات ضريبية أكثر كفاءة، مثل إلغاء تخفيضات الضرائب لعام 2017 بدلًا من تمديدها.

إضافةً إلى ذلك، يجب أن تركز السياسة المالية على تقييم تأثير التشريعات المختلفة على الإنتاجية، مع مراعاة العوامل المؤثرة مثل دور المهاجرين الموهوبين في تعزيز الابتكار. كما ينبغي أن ترافق أي سياسات تقيد السوق، مثل فرض قيود على تيك توك أو دعم الطاقة النظيفة، أهداف واضحة تعوض عن التأثيرات السلبية على الإنتاجية.

تواجه الولايات المتحدة تحديات في تحديد السياسات التي تحفز نمو الإنتاجية. فرغم أن المنافسة تعزز الابتكار، فإن تأثير سياسات مكافحة الاحتكار غير واضح. لكن من المؤكد أن الانفتاح على التجارة والاستثمار والهجرة يعزز الإنتاجية، حيث تستفيد الاقتصادات المنفتحة من الابتكارات العالمية.

في 2022، شكلت الشركات الأجنبية أقل من 1% من الشركات الأمريكية، لكنها ساهمت بـ12% من إنفاق الأعمال على البحث والتطوير، و16% من الاستثمار في المصانع والمعدات، و23% من إجمالي الصادرات. كما وظفت أكثر من 8.3 مليون عامل بمتوسط رواتب 89296 دولارًا، أي أعلى بنسبة 22% من متوسط القطاع الخاص.

المهاجرون أيضًا أدوا دورًا كبيرًا في الابتكار، حيث يشكلون 14% من السكان لكنهم يمثلون 38% من الحائزين على نوبل في الكيمياء والطب والفيزياء، و36% من إجمالي الفائزين بها في العقدين الماضيين، و24% من الحاصلين على جائزة «عبقرية» ماك آرثر منذ 2000.

لكن الولايات المتحدة تتجه نحو سياسات أكثر انغلاقًا، حيث رفعت القيود على الاستثمار الأجنبي، وتدرس فرض قيود على الاستثمارات الخارجية. كما هدد الرئيس السابق ترامب بفرض تعريفات جمركية تصل إلى 60% على الواردات من الصين، و20% عالميًّا، مما قد يضعف الإنتاجية. إضافةً إلى سياسات هجرة مقيدة، تشمل ترحيل العمال الأقل مهارة وتقييد تأشيرات العمال ذوي المهارات العالية.

في أبريل 2023، تلقت الولايات المتحدة 758,994 طلبًا للحصول على 85,000 تأشيرة

H-1B فقط، ما يعكس النقص الكبير في العمالة الماهرة. في المقابل، استغلت كندا الفرصة، حيث قدمت في يوليو 2023 برنامجًا لجذب 10,000 من حاملي تأشيرات H-1B الأمريكيين الذين فقدوا وظائفهم، وتم ملء جميع الشواغر خلال يومين فقط.

نشأت الحمائية الأمريكية بسبب فشل السياسات في التعامل مع تبعات العولمة، حيث خسر بعض الأمريكيين وظائفهم وثرواتهم، مما أدى إلى فقدان الثقة بالبلاد. «صدمة الصين»، التي أدت إلى فقدان مليوني وظيفة بين 1997 و2011، أبرزت هذا التأثير السلبي. ومع تزايد أتمتة الوظائف بسبب الذكاء الاصطناعي، قد تتكرر هذه الأزمة، حيث تقدر دراسة أن ثلثي الوظائف الأمريكية معرّضة للخطر. في 2024، توقع رئيس تاتا أن تختفي مراكز الاتصال في عام واحد بسبب الذكاء الاصطناعي.

القلق العام من الذكاء الاصطناعي واضح، كما ظهر في إضراب هوليوود 2023. إذا لم يتم تعويض العمال المتضررين، قد يتكرر الاستياء كما حدث مع «صدمة الصين». لذا، على واشنطن ضمان استفادة الجميع من مكاسب الإنتاجية عبر سياسات مثل إعفاء ضريبي بقيمة 10,000 دولار للعمال النازحين أو فرض «ضريبة الذكاء الاصطناعي» على الشركات التي تستبدل الوظائف بالخوارزميات.

لتحفيز الإنتاجية دون الإضرار بالعمال، ينبغي تعديل الضرائب لدعم الاستثمار في البشر وليس فقط في التكنولوجيا. السياسات الناجحة في البحث والتطوير والانفتاح العالمي ضرورية لمواجهة التحديات الأمريكية الداخلية والخارجية، مما يسهم في خلق اقتصاد أكثر استدامة وعالم أكثر استقرارًا.

ماثيو ج سلوتر أستاذ إدارة الأعمال الدولية في كلية تَك للإدارة الأعمال في دارتموث

ديفيد ويسل صحفي وكاتب أمريكي

نشر المقال في Foreign Affairs

مقالات مشابهة

  • قائمة بالجنسيات.. السلطات الأمريكية تخطط لمنع مواطني دول عربية من دخول الولايات المتحدة
  • في إنتظار السفير الجزائري…ترامب يطرد سفير جنوب أفريقيا من الولايات المتحدة الأمريكية
  • من مقر الأمم المتحدة بنيويورك: الرابطة تُسمع العالم صوت الشعوب المسلمة في يوم مكافحة “الإسلاموفوبيا”
  • خبير: الولايات المتحدة لا تزال تفرض هيمنتها على العالم
  • تباطؤ التضخم في الولايات المتحدة يدعم مؤشرات وول ستريت
  • الكويت ترحّب باستضافة المملكة محادثات بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوكرانيا
  • قطر ترحب باستضافة المملكة محادثاتٍ بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوكرانيا
  • الإمارات ترحب باستضافة السعودية محادثاتٍ بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية أوكرانيا
  • الإنتاجية هي كل شيء.. لماذا تغفل السياسات الاقتصادية ما يهم حقًا؟
  • الأردن يرحب باستضافة السعودية محادثاتٍ بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوكرانيا