يحكي التاريخ ما نُقل عن أهل المدن، بينما تُبين آثارها الباقية صحة القصص المتوارثة، وفي هذا المقال نسرد لكم ما وجده فريقنا البحثي في مدينة كَدم العمانية الواقعة في محافظة الداخلية والمحاطة بسور يمتد لحوالي 25 كيلومترا، ويتوسطه معبد ني صلت الذي يقدر العلماء بأنه يعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد.

وتوضح الآثار البارزة للجميع شعلة القائمين على المدينة آنذاك، والذين جعلوا منها مدينة حضارية، عرفت السياسة والفن والصناعة.

ولعل من العجائب التي وجدناها في هذه المدينة الأثرية الغنية أثناء أعمالنا التوثيقية مع والدي الباحث خميس العدوي رسمةً رمزيةً تجمع عدة رموز مختزلة في لوحة تفاعلية واحدة. في بادئ الأمر؛ كُنا نظن أنها تعبر عن الكتابة الأولى التي عرفها الإنسان الكَدمي أو عن مشهدٍ مباشرٍ نقله النَّاقشُ حينذاك، بيد أنه بعد البحث والتقصي، تبيَّن لنا أن هناك تفسيرا مختلفا وهو ما دفعني إلى كتابة هذا المقال.

ووفقًا للتقسيم الذي ذهب إليه والدي خميس العدوي لمدينة كَدم، يقع الرمز في أحد جبال المنطقة الدينية. وبرأيي؛ لم يكن وجوده هناك صدفة، كما سأوضح لاحقا. يتكون الرمز يتكون من أربعة عناصر وهي:

- الشمس أو المركز الدائري المشع: وهي في منتصف الرمز.

- الحيوانات: أربعة من الماعز أو الخراف، ومنقوشة بشكل دقيق.

- أشكال بشرية: رجل وامرأة يمسكان بأيدي بعضهما.

- أشكال هندسية: نصف دوائر مركبة فوق بعضها البعض.

وبمقارنة الرمز مع ما يشبهه من الرموز، أرى أنه يمثل المرحلة الأولى لظهور رمز يدعى بـ«المندالا».

ولا يوجد تعريف محدد للمندالا ومن الصعب أن يُحصر معناه في تعريف واحد، فكل صانع مندالا يعرّف صنعته حسب ما يُريد، إلا أن هناك جوانب مشتركة يتفق عليها الباحثون، وهي وجود المركز الدائري في منتصف كل مندالا، وتشابه الأشكال التي تدور حول مركزه. للمندالا تاريخ طويل، إلا أنني ركزت في مقالي على نشأته الحضارية استنادا للرمز الموجود في كَدم، ومقارنته مع ما يشبهه في حضارتي العراق وسوريا.

يذكر صالح الحكيم في كتابه «الحياة الدينية في المجتمع الأوغاريتي في الألف الثانية قبل الميلاد» عن المندالا قائلا: «هي الدائرة ذات المركز الموحد، والمقسمة إلى أجزاء متناظرة... تُرى هل هناك ما هو أقرب إلى الحسّ السليم لدى الإنسان الذي بلغ مرحلة معينة من التطور والارتقاء في الحقبة النيوليتية الزراعية، من أن يجعل الدوائر متناظرة الأجزاء رمزا للكون برمّته؟ فالنظر عندما يكون منفتحا على خط الأفق، تراءى له ذلك الخط دائريا، وإذا ما راقب السماء تراءت له أيضا كروية مقّببه، وينجلي فيها القمر الذي تكون الدائرة في اكتمال بدرا. فالمندالا تشير إلى حركة الوجود حول مركز واحد».

أستنتج من حديث الحكيم بأن للمندالا مركز دائري متمثل في جرم سماوي، قد يكون شمسا أو قمرا أو كوكبا. والمعنى من هذا الجرم هو التعبير عن رمزية الكون، وأن بقية الأجرام تدور حوله. ذكر الحكيم أن الحقبة التي ساد وتطور فيها المندالا هي حقبة دين النيوليتي الزراعي، أو بما يسميه العُلماء دين الفلاحين. وفي هذه الحقبة، يرى العلماء أن المعتقدات الدينية زادت بفعل الاستقرار الزراعي المتزايد لدى الإنسان. ومن مظاهر هذه الحقبة تقديس الحيوان وعبادته، وبداية ظهور تقديس العنصر النباتي، وظهور القرابين البشرية والنباتية والحيوانية.

وبمقارنة رمز مندالا كَدم مع حديث الحكيم، أجد نقاطا مشتركة متمثلة في وجود الشمس كمركز دائري في الرمز، وأيضا حقبة ظهور المندالا، إذ ذكرت سابقا بأن الرمز موجود في المنطقة الدينية لمدينة كَدم التي تعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد. وهذا متشابه مع ما ذكره الحكيم من حيث الحقبة التي انتشر فيها رمز المندالا.

كارل غوستاف يونغ في كتابه «الإنسان ورموزه» لديه نظرة أوسع عن المندالا، وبرأيي؛ أن قوله أكثر ملاءمة من حيث النشأة والبعد الحضاري لرمز مندالا كدم، إذ يقول: «المندالا هي دائرة تنقسم إلى أجزاء متناظرة تنشد كلها نحو المركز، أو تشع منه في تكوين جمالي متماسك، ولو عدنا إلى الأشكال الأربعة المذكورة في السواستيكا (الأشكال التي تدور حول المركز) لرأينا المندالا واضحة، حيث تنقسم الدائرة إلى أربعة أقسام ذات مركز جاذب، ومحاطة بزخارف خطية أو أشكال حيوانية تدل على حركة دائرية، وترمز المندالا إلى حركة الوجود حول مركز واحد، ويبدو لنا مركز المندالا كأنه المنطلق الذي تدور حوله التفاصيل، وسواء أظهر رمز الدائرة في عبادة الشمس البدائية، أم في الدين الحديث في الأساطير، أم في الأحلام في المندالات التي يرسمها رهبان التبت، أم في التصاميم الأساسية للمدن، أم في المفاهيم الكروية للفلكيين القدماء، فإنها تشير على الدوام إلى مظهر للحياة مفرد، وأعظم جوهرية في كليتها النهائية».

من حديث يونغ أستنتج البعد الحضاري الذي كان عليه المندالا في الحضارات القديمة، وكيف وصل الإنسان إلى التعبير عن الوجود برموز مادية الشكل وتجريدية المضمون. يونغ أعطى احتمالات متعددة حول مركز دوران المندالا، ومن ضمنها الشمس بوصفها عبادة بدائية. وقد يكون الإنسان الكدمي اتخذ من الشمس مركزا للمندالا، ربما للتعبير عن الفكرة ذاتها التي أراد يونغ إيصالها عن الرمز. ويرى والدي أن الأقرب بأن القمر هو المركز، بناء على أن العبادة السائدة في تلك الألفية كانت تقدس القمر، بحسب بحث الذي نشره في جريدة «عمان» بعنوان «قربان الأضحية في معبد ني صلت».

نفهم من حديث علماء الحضارة بأن المندالا قد يتغيّر مركزها بتغير المكان والزمان والدين والأسطورة والفن. فقد يكون المركز شمسا وسواستيكا ماعزا في عُمان، بينما في العراق يكون مركز المندالا قمرا وسواتيكا سمكا، وذلك انعكاسا للعبادة والأسطورة السائدة بينهما. وكذلك علينا أن نضع فسحة واسعة لمسار التطور الذي يخضع له الرمز، فهو يتطور بتطور معتقدات الناس.

برأيي؛ أن ناقش رمز مندالا كَدم كان يعبر عن فكرة شمولية حول نظرة الإنسان الكونية في نفسه وفيما حوله، وكل رمز من رموز مندالا يقصد به معنى ما. فإذا ما عدنا إلى كتاب خزعل الماجدي «المندالا المثلوجية في أديان وأساطير وادي الرافدين» نجد استفاضة عميقة في دراسة وتتبع مسار المندالا بشقيه الديني والأسطوري. ويلخص الماجدي بأن المندالا تنقسم إلى أربعة أقسام؛ هي: الخليقة والعمران والخراب والموت، بكونها تركيبة الحياة ككل. ولو أسقطنا الأقسام الأربعة على رمز مندالا كدَم، سأذهب بأن الخليقة تمثلت في الشمس، والعمران في الآدميين الممسكين ببعضهما، وربما راجع أمرهما بكونهما أول المعمرين في الحياة كقصة آدم وزوجه التي ذكرت في الشرائع المُنزلة. أما الموت فقد عُبّر عنه بحركة الماعز حول المركز، والخراب بالأشكال الهندسية المتعرجة.

عبدالرحيم بن خميس العدوي باحث في شؤون الآثار

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: تدور حول حول مرکز رمز من

إقرأ أيضاً:

كارثة أثرية: انهيار هرم عملاق وتحوله إلى أنقاض

شمسان بوست / متابعات:

سجل العلماء انهيار أحد أكثر الأهرامات شهرة على وجه الأرض، وتحول إلى كومة من الأنقاض، في مؤشر اعتبر بمثابة “نذير شؤم”.

وتضع الأحداث المناخية وارتفاع مستوى سطح البحر المواقع التراثية الثمينة في جميع أنحاء العالم في خطر.

وكشف العلماء عن انهيار أحد جانبي الهرم المصنوع من الطوب، وعمره 1100 عام، والذي يقع في منطقة إيهواتزيو الأثرية في ولاية ميتشواكان المكسيكية، بسبب هطول أمطار غزيرة في المنطقة.

ويعد الهرم، اليوم، أحد أفضل المعالم المحفوظة لحضارة مملكة ميتشواكان، ويقع في إيهواتزيو، وهو موقع أثري محفوظ بشكل ملحوظ.

وتقع منطقة إيهواتزيو الأثرية على بعد أربعة أميال جنوب تزينتزونتزان، وهي بلدة قديمة على ضفاف بحيرة باتزكوارو، يعتقد الخبراء أن المنطقة استوطنت لأول مرة قرب عام 900 ميلاديا، ووصل البوريبيتشا بعد نحو 300 عام، وتم بناء المنطقة الأثرية على هضبة مرتفعة بشكل مصطنع، وكانت في الأساس مكانا للعبادة، مع أرض احتفالية ومرصد فلكي.

وجاء في بيان صادر عن المعهد الوطني للأنثروبولوجيا والتاريخ: “تسببت درجات الحرارة المرتفعة، التي تم تسجيلها سابقًا في المنطقة، والجفاف اللاحق في حدوث شقوق ساعدت على ترشيح المياه إلى داخل المبنى الذي يعود إلى ما قبل العصر الإسباني”.

وفي الآونة الأخيرة، وجد علماء الآثار أن الرسوم الكهفية القديمة في أوقيانوسيا تتدهور مع تسارع تغير المناخ، بحسب مجلة “ساينس أليرت” العلمية.

وفي هذا العام فقط، وجدت دراسة أجريت على مواد البناء التراثية الثقافية في أوروبا والمكسيك أن زيادة هطول الأمطار بشكل كبير يعرض هذه المباني لخطر التلف.

مقالات مشابهة

  • «درة»: «وين صرنا» فيلم يحكي قصة حقيقية لأسرة فلسطينية عاشت ظروف الحرب ونقلتها بصدق
  • خبير آثار: مصر استردت 29 ألف قطعة أثرية في عهد الرئيس السيسي
  • تطوير وإدخال منتجات جديدة.. تفاصيل تعاون بين الإنتاج الحربى وشركة عمانية
  • مراسل سانا: أصوات الانفجارات التي سمعت في مدينة تدمر ناجمة عن عدوان إسرائيلي استهدف أبنية سكنية والمدينة الصناعية فيها
  • إشادة عمانية ببطولات مغاوير اليمن وتأييد صيني رسمي
  • الرجل الذي اشترى كل شيء.. ابن سلمان وانتهاكات الصندوق السيادي السعودي
  • الرجل الذي اشترى كل شيء.. hبن سلمان وانتهاكات الصندوق السيادي السعودي
  • الرجل الذي اشترى كل شيء.. بن سلمان وانتهاكات الصندوق السيادي السعودي
  • كارثة أثرية: انهيار هرم عملاق وتحوله إلى أنقاض
  • الوحدة.. آفة العصر التي تسبب أمراض القلب والسكري