مندالا كَدم «رمز التاريخي يحكي أسرار مدينة عمانية أثرية»
تاريخ النشر: 18th, September 2024 GMT
يحكي التاريخ ما نُقل عن أهل المدن، بينما تُبين آثارها الباقية صحة القصص المتوارثة، وفي هذا المقال نسرد لكم ما وجده فريقنا البحثي في مدينة كَدم العمانية الواقعة في محافظة الداخلية والمحاطة بسور يمتد لحوالي 25 كيلومترا، ويتوسطه معبد ني صلت الذي يقدر العلماء بأنه يعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد.
وتوضح الآثار البارزة للجميع شعلة القائمين على المدينة آنذاك، والذين جعلوا منها مدينة حضارية، عرفت السياسة والفن والصناعة.
ووفقًا للتقسيم الذي ذهب إليه والدي خميس العدوي لمدينة كَدم، يقع الرمز في أحد جبال المنطقة الدينية. وبرأيي؛ لم يكن وجوده هناك صدفة، كما سأوضح لاحقا. يتكون الرمز يتكون من أربعة عناصر وهي:
- الشمس أو المركز الدائري المشع: وهي في منتصف الرمز.
- الحيوانات: أربعة من الماعز أو الخراف، ومنقوشة بشكل دقيق.
- أشكال بشرية: رجل وامرأة يمسكان بأيدي بعضهما.
- أشكال هندسية: نصف دوائر مركبة فوق بعضها البعض.
وبمقارنة الرمز مع ما يشبهه من الرموز، أرى أنه يمثل المرحلة الأولى لظهور رمز يدعى بـ«المندالا».
ولا يوجد تعريف محدد للمندالا ومن الصعب أن يُحصر معناه في تعريف واحد، فكل صانع مندالا يعرّف صنعته حسب ما يُريد، إلا أن هناك جوانب مشتركة يتفق عليها الباحثون، وهي وجود المركز الدائري في منتصف كل مندالا، وتشابه الأشكال التي تدور حول مركزه. للمندالا تاريخ طويل، إلا أنني ركزت في مقالي على نشأته الحضارية استنادا للرمز الموجود في كَدم، ومقارنته مع ما يشبهه في حضارتي العراق وسوريا.
يذكر صالح الحكيم في كتابه «الحياة الدينية في المجتمع الأوغاريتي في الألف الثانية قبل الميلاد» عن المندالا قائلا: «هي الدائرة ذات المركز الموحد، والمقسمة إلى أجزاء متناظرة... تُرى هل هناك ما هو أقرب إلى الحسّ السليم لدى الإنسان الذي بلغ مرحلة معينة من التطور والارتقاء في الحقبة النيوليتية الزراعية، من أن يجعل الدوائر متناظرة الأجزاء رمزا للكون برمّته؟ فالنظر عندما يكون منفتحا على خط الأفق، تراءى له ذلك الخط دائريا، وإذا ما راقب السماء تراءت له أيضا كروية مقّببه، وينجلي فيها القمر الذي تكون الدائرة في اكتمال بدرا. فالمندالا تشير إلى حركة الوجود حول مركز واحد».
أستنتج من حديث الحكيم بأن للمندالا مركز دائري متمثل في جرم سماوي، قد يكون شمسا أو قمرا أو كوكبا. والمعنى من هذا الجرم هو التعبير عن رمزية الكون، وأن بقية الأجرام تدور حوله. ذكر الحكيم أن الحقبة التي ساد وتطور فيها المندالا هي حقبة دين النيوليتي الزراعي، أو بما يسميه العُلماء دين الفلاحين. وفي هذه الحقبة، يرى العلماء أن المعتقدات الدينية زادت بفعل الاستقرار الزراعي المتزايد لدى الإنسان. ومن مظاهر هذه الحقبة تقديس الحيوان وعبادته، وبداية ظهور تقديس العنصر النباتي، وظهور القرابين البشرية والنباتية والحيوانية.
وبمقارنة رمز مندالا كَدم مع حديث الحكيم، أجد نقاطا مشتركة متمثلة في وجود الشمس كمركز دائري في الرمز، وأيضا حقبة ظهور المندالا، إذ ذكرت سابقا بأن الرمز موجود في المنطقة الدينية لمدينة كَدم التي تعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد. وهذا متشابه مع ما ذكره الحكيم من حيث الحقبة التي انتشر فيها رمز المندالا.
كارل غوستاف يونغ في كتابه «الإنسان ورموزه» لديه نظرة أوسع عن المندالا، وبرأيي؛ أن قوله أكثر ملاءمة من حيث النشأة والبعد الحضاري لرمز مندالا كدم، إذ يقول: «المندالا هي دائرة تنقسم إلى أجزاء متناظرة تنشد كلها نحو المركز، أو تشع منه في تكوين جمالي متماسك، ولو عدنا إلى الأشكال الأربعة المذكورة في السواستيكا (الأشكال التي تدور حول المركز) لرأينا المندالا واضحة، حيث تنقسم الدائرة إلى أربعة أقسام ذات مركز جاذب، ومحاطة بزخارف خطية أو أشكال حيوانية تدل على حركة دائرية، وترمز المندالا إلى حركة الوجود حول مركز واحد، ويبدو لنا مركز المندالا كأنه المنطلق الذي تدور حوله التفاصيل، وسواء أظهر رمز الدائرة في عبادة الشمس البدائية، أم في الدين الحديث في الأساطير، أم في الأحلام في المندالات التي يرسمها رهبان التبت، أم في التصاميم الأساسية للمدن، أم في المفاهيم الكروية للفلكيين القدماء، فإنها تشير على الدوام إلى مظهر للحياة مفرد، وأعظم جوهرية في كليتها النهائية».
من حديث يونغ أستنتج البعد الحضاري الذي كان عليه المندالا في الحضارات القديمة، وكيف وصل الإنسان إلى التعبير عن الوجود برموز مادية الشكل وتجريدية المضمون. يونغ أعطى احتمالات متعددة حول مركز دوران المندالا، ومن ضمنها الشمس بوصفها عبادة بدائية. وقد يكون الإنسان الكدمي اتخذ من الشمس مركزا للمندالا، ربما للتعبير عن الفكرة ذاتها التي أراد يونغ إيصالها عن الرمز. ويرى والدي أن الأقرب بأن القمر هو المركز، بناء على أن العبادة السائدة في تلك الألفية كانت تقدس القمر، بحسب بحث الذي نشره في جريدة «عمان» بعنوان «قربان الأضحية في معبد ني صلت».
نفهم من حديث علماء الحضارة بأن المندالا قد يتغيّر مركزها بتغير المكان والزمان والدين والأسطورة والفن. فقد يكون المركز شمسا وسواستيكا ماعزا في عُمان، بينما في العراق يكون مركز المندالا قمرا وسواتيكا سمكا، وذلك انعكاسا للعبادة والأسطورة السائدة بينهما. وكذلك علينا أن نضع فسحة واسعة لمسار التطور الذي يخضع له الرمز، فهو يتطور بتطور معتقدات الناس.
برأيي؛ أن ناقش رمز مندالا كَدم كان يعبر عن فكرة شمولية حول نظرة الإنسان الكونية في نفسه وفيما حوله، وكل رمز من رموز مندالا يقصد به معنى ما. فإذا ما عدنا إلى كتاب خزعل الماجدي «المندالا المثلوجية في أديان وأساطير وادي الرافدين» نجد استفاضة عميقة في دراسة وتتبع مسار المندالا بشقيه الديني والأسطوري. ويلخص الماجدي بأن المندالا تنقسم إلى أربعة أقسام؛ هي: الخليقة والعمران والخراب والموت، بكونها تركيبة الحياة ككل. ولو أسقطنا الأقسام الأربعة على رمز مندالا كدَم، سأذهب بأن الخليقة تمثلت في الشمس، والعمران في الآدميين الممسكين ببعضهما، وربما راجع أمرهما بكونهما أول المعمرين في الحياة كقصة آدم وزوجه التي ذكرت في الشرائع المُنزلة. أما الموت فقد عُبّر عنه بحركة الماعز حول المركز، والخراب بالأشكال الهندسية المتعرجة.
عبدالرحيم بن خميس العدوي باحث في شؤون الآثار
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: تدور حول حول مرکز رمز من
إقرأ أيضاً:
استهداف الدعم السريع للتراث التاريخي والثقافي جريمة حرب وسنلاحق المنهوبات عبر الإنتربول
قالت الحكومة السودانية، إنّ استهداف المليشيا وراعيتها “للتراث التاريخي والثقافي” للسودان، تشكل جرائم حرب بموجب المادة 8 من نظام روما الأساسي، واتفاقية لاهاي 1954 لحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات، واتفاقية اليونسكو للعام 1970 بخصوص حظر الإتجار في الممتلكات الثقافية. كما تماثل سلوك الجماعات الإرهابية في استهداف الآثار والتراث الثقافي للمجتمعات.
ونبّهت وزارة الخارجية السودانية إلى ما اعتبرته تدمير متعمد للمتحف القومي السوداني، ونهب مقتنياته التي تلخص حضارة 7 آلاف عام، مع استهداف جميع المتاحف الموجودة في العاصمة الكبرى، وهي متحف بيت الخليفة ومتحف الإثنوغرافيا، ومتحف القصر الجمهوري، ومتحف القوات المسلحة، ومتحف التاريخ الطبيعي بجامعة الخرطوم، إلى جانب متحف السلطان علي دينار بالفاشر.
وأضافت في بيان لها، أن المحفوظات الأثرية في المتحف القومي تعرّضت للنهب والتهريب عبر “اثنتين من دول الجوار”. في نفس الوقت استهدفت ما أسمتها المليشيا، دار الوثائق القومية، وعدداً كبيراً من المكتبات العامة والخاصة، والجامعات والمعامل والمساجد والكنائس ذات القيمة التاريخية في العاصمة الخرطوم ومدينة ود مدني وسط السودان، مما يوضح أنّ المخطط كان يستهدف “محو الهوية الثقافية الوطنية”.
وأكّـدت الخارجية أنّ حكومة السودان ستواصل جهودها مع “اليونسكو والإنتربول” وكل المنظمات المعنية بحماية المتاحف والآثار والممتلكات الثقافية، لاستعادة ما تم نهبه من محتويات المتحف القومي وبقية المتاحف، ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم.
وطالبت الخارجية فى بيانها، المجتمع الدولي بإدانة ذلك السلوك الإرهابي من المليشيا ومَـن يقفون وراءها، وأضافت: “تتضح كل يومٍ، الأبعاد الحقيقية والخطيرة للمخطط الإجرامي الذي تنفذهما أسمتها مليشيا الجنجويد الإرهابية وراعيتها الإقليمية ضد الأمة السودانية: “إنساناً، ودولة، وإرثاً ثقافياً، وذاكرة تاريخية وبني اقتصادية وعلمية”.
وأعادت الخارجية السودانية للأذهان، أوضاع الأسرى الذين تم إطلاق سراحهم من مواقع احتجاز تابعة لدعم السريع بعد تحرير ولاية الخرطوم، وقالت إنّ حال الأسرى يظهر عن المدى غير المسبوق الذي انحدرت إليه ما أسمتها المليشيا في “فظائعها ضد إنسان السودان مُمثلةً في المقابر الجماعية لآلاف القتلى من الرهائن والأسرى في مراكز التعذيب السرية المنتشرة في أنحاء العاصمة، وتحول من نجا منهم من الموت لهياكل عظمية”.
السوداني
إنضم لقناة النيلين على واتساب