مقدمات في الدعاية والدعوة بين المقاومة والعدو.. قاموس المقاومة (44)
تاريخ النشر: 18th, September 2024 GMT
بعد محطات عدة مررنا بها في قاموس المقاومة، يمكننا التعرف على منظومة المفاهيم الإيجابية الدافعة للمقاومة والتحرير، وكذا نتمكن من الكشف والاكتشاف للمفاهيم الخبيثة؛ مفاهيم دافعة تتطلب منا صناعة الرسوخ والتمكين لها، ومفاهيم غازية يطلقها العدو خبيثة في محتواها وتأثيراتها يجب اجتثاثها. وكلتا المهمتين تجب على الأمة كمجال حيوي لإعمال هذه الرؤية والاستراتيجية ضمن صناعة ثقيلة في الأمة؛ ألا وهي صناعة الوعي الممتد فيها على قاعدة ذهبية؛ المقاومة في الأمة والأمة في المقاومة؛ لتتحول الأمة بكل فعاليتها ومكوناتها إلى أمة مقاومة داعية لها ورافعة دافعة معها ولها، فتصير بالفعل وفي الميدان مقاومة لأمة شاملة ومتكاملة ومتكافلة.
هنا فقط يمكننا أن نتحدث ونشاهد بحق "أمة الطوفان في مواجهة العدوان والطغيان"، ويتحقق الشعار "من طوفان الأقصى إلى طوفان الأمة"، فتكون المقاومة في قلب الأمة وفعلها.
ضمن هذه الرؤية الاستراتيجية المتكاملة لا بد أن تكون تلك الرؤية مشفوعة بتفكير وتدبير، بتخطيط وتنفيذ يتم بعقل استراتيجي للأمة لا ينفصل بأي حال عن عقل استراتيجي للمقاومة؛ فيتمدد الوعي في الأمة ويتجدد، وتتعدد مسالكه ولا يتبدد أو ينحرف ويتجمد.
ومن أهم الأصول الحضارية في هذا المقام حضور مفهوم "الأمة"، يعني "الأَمّ"، وهو القصد والوجهة، فالأمة محل القصد والقِبلة والاتجاه، وحينما يبرز مفهوم جديد لا يُعنَى "بالأمة الوسط" وإنما "بالشرق الأوسط" مضافا إليه صفة "الكبير"، فإنما يشير ذلك إلى معانٍ جغرافية، ويشير إلى أن مَن أطلق صفة "الكبير" (الولايات المتحدة) إنما يحدد عناصر اهتمامه هو ومجاله الحيوي فيما يعتبره يحقق مصالحه هو، ويحقق عناصر استراتيجيته الكونية في منطقة تعتبر عقدة استراتيجية. ولكن هذا يحوّل الأمة من قَصْدٍ، ومن بشرٍ قاصد، ومن مقصود وفكرة ورسالة، إلى "مكان" مُصمَتٍ يراه الخارجُ كيفما شاء وكيفما تصور، وكأنه مساحة خالية من البشر الفاعل أو الفكرة الجامعة، إنه -بهذا- مجال للفك والتركيب وإعادة التشكيل وهندسة المنطقة في إطار تتحكم فيه "هندسة الإذعان"؛ وفي مجال تغيب الأمة أو تكاد من أن تكون طرفا فاعلا حيا يملك الندية كما يتصف بالفاعلية في التغيير والتأثير.
الأزمة الحقيقية لاستقرار جوهري في المنطقة واستمراره على قواعد راسخة؛ تستلهم معنى الأمة وشهودها في مواجهة تحديات جسام وعقبات عظام، ومكمن الداء في هذا الشأن أن الاستقرار ليس بأيدي أهلها ولكنه بأيدي غيرها
إن الأزمة الحقيقية لاستقرار جوهري في المنطقة واستمراره على قواعد راسخة؛ تستلهم معنى الأمة وشهودها في مواجهة تحديات جسام وعقبات عظام، ومكمن الداء في هذا الشأن أن الاستقرار ليس بأيدي أهلها ولكنه بأيدي غيرها، صحيح أن العالم بتفاعلاته لم يعد معه الأمر الذي يتعلق بالتمييز بين داخل وخارج هو الأمر الصحيح، ولكن مهما كان للخارج سطوته فإن الداخل هو الذي يمكّن له، فهل يمكن أن نتصور أن تكون هناك رؤية ضمن مشروع لكل هذه القضايا ويبحث عن متطلبات الاستقرار؟ أم أن التفكيك هو مصير المنطقة ومزيد من التفتيت؟
إلا أنه ومع وجود تلك التحديات والعقبات فإننا نؤكد على أهمية العمل الجدي لتقديم استجابات واعية داعية، قادرة فاعلة، بحيث يكون ذلك لصناعة المستقبل مسبوق باستشرافه، وكذلك فإنه على الرغم من التحديات المختلفة التي تواجه مشروع الأمة في المقاومة، إلا أنه ما يزال الأقدر علي الاستمرار كإطار ووسيلة للمواجهة والانتصار في صراع الأمة مع الكيان الصهيوني، سواء كان ذلك على المستوى النظري أو التطبيقي وعلى المدى القصير أو البعيد، إلا أن هذه التحديات والعقبات قد أسهمت في تراجع المشروع من حيث الفاعلية -دون أن ينفي ذلك استمرار لنهج المقاومة طالما ظل الصراع قائما- في حسم الصراع على الصعيد العربي على الأقل في إطار المدى القصير. بدا طوفان الأقصى يشير إلى ذلك الإشكال الحقيقي ويؤكده بأعلى صوت؛ لا يخلو من الإنذار والتحذير ومن الإنذار والدعوة إلى النفير.
ضمن هذه المداخل الثلاث الجامعة؛ لمدخل الكلمات والمفاهيم، وكذا مدخل الأمة واستلهام معانيها ومبانيها ومغازيها، وصناعة المستقبل وعيا واستشرافا؛ علينا أن ننظر إلى "الدعاية والدعوة بين المقاومة والعدو" من المادة اللغوية "د ع و"، جاء الاشتقاق لمادتي: دعوة، ودعاية، وبينهما التقاء وتباعد، التقاء في اللفظ، وتباعد في الدلالة والهدف.. وهذا من محاسن اللغة العربية وسعتها في الاشتقاقات.
فالدعوة هي سبب من أسباب الوصول إلى غاية حسنة، معيّنة في "دين الإسلام، والانصهار في تعاليمه"، والدعوة لا تكون إلا بكلمة حق عن حق وبحق. أما الدعاية فهي أسلوب إداري مبتكر، للترويج للسلع، وبأنواع الأساليب التجارية، لغاية المكسب والأغراض الدنيوية. فالأولى إذا صَدَقت النيّة في تطبيق المفهوم الأساسي بالدعوة إلى دين الله سبحانه، وسخّر الداعية الذي يجب أن يكون عارفا حقيقة بما يدعو إليه: علما وفهما، وعالما بما ينهى عنه، نفسه وعلمه وحلمه في هذا الميدان، والدعاية من أدواتها الإعلان والترويج والتسويق وكلها عمل مادي صِرف، لأن عمل الدعاية أسلوب مبتكر من قبل الشركات والمصانع وما يشابهها مما يعود بمردود مالي عليه، وترويج بضائعها.
ولكن هذين المفهومين لم يبقيا في مجالاتها المختلفة عند المستوى الداخلي؛ بل امتدا إلى دوائر أوسع في الخارج، وأكثر من هذا في الأزمات والحروب. وظل كل من المفهومين يحتفظ بجوهره؛ الدعوة التي تتوسل الصدق الكامل والحق الدائم، والدعاية التي تتغيا التروّيج لمصالحها بالدعاية التي أصبحت فنا من فنون المعرفة، تنفَق فيها أموال وجهود، وأساليب متنوعة، حتى تحصل على السمعة الحسنة مهما كانت ولو كان في هذا الأسلوب تضليل على من توجه إليه هذه الدعاية، لأن أصحابها عندهم أن الغاية تبرر الوسيلة، صدقا أو كذبا، أو جزءا من الحقيقة تنسج حوله خيوطا متشابكة من الكذب، فيمرر هذا الجزء من الحقيقة أكاذيب كثيرة وافتراءات باطلة.
هذا في ميدان الكلمة؛ فماذا عن الأمة وصناعة مستقبلها في شأن موضوع الدعوة والدعاية؟ في الحقيقة قليل من المهتمين هم من ميزوا بين الدعوة والدعاية، خاصة حينما انتقلتا إلى المجال السياسي.
نؤكد منذ البداية أن الدعوة هي مقام الأمة، والمقاومة فيها لا تتأسس إلا على قيم الصدق والحق والعدل؛ تنطلق إلى الداخل والخارج على حد سواء؛ مفعمة بمنظومة القيم حتى لو كانت في ميادين الحروب والمعارك.. مَعَنَا الحق؛ متوسلا الصدق، متوجا كل ذلك بالعدل في الموقف والقول والفعل.
"الحرب خدعة" ترد هذه الكلمة إما مفردة كحديث للنبي r أو أنها أحد الأشكال الثلاثة التي يباح فيها الكذب كوضع استثنائي، خروجا على أساس من قاعدة الشرع التأسيسية المحرمة له، المعظمة لأثر نشوئه، والمشيرة إلى اعتباره أصلا في الكبائر، مناقضا لأصل الإيمان، بل قد ينقضه، ويحذر المسلم، والمؤمن من تسربه إلى نفسه فيمارسه "عادة" تتحكم في سلوكه، وتؤثر على مسار حركته فضلا عن عناصر رؤيته واتجاهاته، فتؤدي إلى حالة من حالات السواد الحالك في علاقته بذاته وعلاقته بغيره وعلاقته بربه في المبتدئ والمنتهى.
إن للحرب فنون وقواعد من مثل الاستخفاء (العدد- العدة، والتعرف على أحوال العدو وقدراته)، وهي مما تقتضي عناصر الخداع بحيث يعد ذلك آلية استثنائية تتعلق بحالة استثنائية، وهو ما تفرضه استراتيجية الكر والفر والتخطيط الحربي وعناصر التكتيك وغير ذلك من أمور.
إن عنصر الخدعة وإخراجه إلى دائرة الحلال أو المباح مما هو في ذلك ليس من شأنه أن يخدع في إطار القواعد والمقصود والقيم التي تحيط بالحالة الحربية (الإنسان، الأشياء) ومادة العمران، ومن ثم فإن عمليات الخداع بدورها مخصصة ومحددة بالحالة الحربية من جهة، ومقيدة بعناصر القيم العامة المرتبطة بالحالة الحربية أو المقاصد الكلية المرتبطة ببناء مادة العمران في حق العدو كما هو في حق "الجماعة المسلمة"، وهي علاوة على ذلك ترتبط بالقدر اللازم لها، أي بالحدود المؤدية للمقصود والغرض؛ لا تتعداه (فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ..). المثلية في العدوان قاعدة تحقق أصول العدل حتى ضمن الحالات الاستثنائية في الحالة الحربية.. ومن ثم من الواجبات في الحالات الحربية خداع العدو وشن حرب نفسية ومعنوية للنيل من إرادته وباطله.
وإن مقام العدو المغتصب للأرض المرتكب لكل أشكال الإبادة الجماعية لكل أشكال العمران، ومادته الأساسية الإنسان الحامل لمهمة العمران في الحياة، والقائم بالتخريب عن عمد وقصد؛ هو الدعاية الكاذبة والافتراء المحترف والمنحرف عن جادة الحق، الحامل للظلم في كل أشكاله وألوانه؛ منذ أن قام كيانه وقبل أن يقوم، وهو ما دفع كثيرين إلى أن يؤلفوا في هذا المعنى "الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل" المزعومة.
إن البحث في نموذج الدعاية الإسرائيلية ومقوماته وسماته؛ قد يتطلب منا تفحص هذه الاستراتيجيات للعدو وسبل مدافعتها ومقاومتها في مقال آخر بحول الله.
x.com/Saif_abdelfatah
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المقاومة المفاهيم الدعاية الدعوة المقاومة الدعاية الدعوة مفاهيم مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة من هنا وهناك سياسة من هنا وهناك صحافة سياسة رياضة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی هذا
إقرأ أيضاً:
محمد أحمد أبو رَنّات.. وقاضٍ في الانقلاب (1-3)
في إعادة النظر في عقيدة أن انقلاب 17 نوفمبر 1958 كان تسليماً من عبد الله خليل واستلاماً من الفريق عبود
محمد أحمد أبو رَنّات.. وقاضٍ في الانقلاب (1-3)
عبد الله علي إبراهيم
(أعيد هنا نشر ثلاثة فصول من كتابي ". . . ومنصور خالد" (2018) أعدت فيها النظر في ذائعة أن انقلاب 17 نوفمبر 1958 كان مجرد عملية "تسليم وتسلم" بين عبد الله خليل رئيس الوزراء (أو حزبه) للجيش. وهي ذائعة أفسدت ذوقنا في تحليل ذلك الانقلاب، بل تعدى ذلك إلى بؤس تحليلنا لما بعده من انقلابات. وساق هذا إلى نظريات في الانقلاب غاية في الكآبة و"قدر ظروفك". اطلعت في هذا النظر المجدد إلى أدبيات مجهولة أو مهملة. منها "تقرير لجنة تقصي الحقائق عن انقلاب 17 نوفمبر"، وكتابات الرفيقة روث فيرست عن ذلك الانقلاب في كتابها عن الانقلاب في أفريقيا، وكتاب ب بختولد في السياسة السودانية، وكتاب وليد الأعظمي عن الوثائق البريطانية عن السودان، وكتابات لجعفر حامد البشير قريب الصلة باللواء، وأخرى لمحمد أدروب وعصام ميرغني. وسعيت لدار الوثائق الأمريكية بماريلاند لأتحقق من ذائعة أن الأمريكان من كانوا من وراء الانقلاب التي هي رواية الشيوعيين).
غلب الرأي في فكرنا السياسي، أن الانقلاب عملٌ خاص إما لعبد الله خليل (البيه)، رئيس الوزراء من حزب الأمة على حكومة ائتلافية بين حزب الأمة وجزب الشعب الديمقراطي (الختمية)، أو لحزبه أو لدوائر متنفـِّذة فيه. وأن العساكر تسلموا أمراً بالقيام به من البِيْه، وزير الدفاع، فاستلموا الحكم امتثالاً لأمر عالٍ كما هي نظم الجيش. فمحمد عمر بشير يرى أنه كان حتى السيد عبد الرحمن ضَلَع في الانقلاب لإغراء البِيْه بتأمين رئاسة السودان له. وهو ما حلم به دائماً كما تواتر. وقال بذلك السيد محمد أحمد محجوب أيضاً. ولهذا قيل إن السيد سارع لتأييد الانقلاب يوم وقوعه. وقال اللواء أحمد عبد الوهاب، الرجل الثاني في الجيش، إنهم ربما وجدوا خطاب السيد بمباركة حركتهم حين التقوا به في يوم الانقلاب أو أنه أعده بعد خروجهم من داره مباشرة.
ربما لم يكن العساكر خلوّاً من السياسة حتى تقع لهم كتعليمات من البِيْه على حسب العبارة المشهورة "تسليم وتسلم". فقد صورنا الأمر كذلك ربما من باب الاستهانة بغريزة العسكر السياسية أو للكيد للبِّيْه وحزب الأمة. وقد استثمر العسكر نسبة انقلابهم إلى التسليم والتسلم استثماراً تنصلوا به عن مسؤولية الانقلاب يوم الحساب كما نجد ذلك في أقوالهم للجنة التي تشكلت بعد ثورة أكتوبر 1964 للتحقيق في الأسباب التي أدت إلى ذلك الانقلاب. فقد قال عبود أمام المحققين معه، بعد ما أطاحت به ثورة أكتوبر 1964، عن قيامه بالانقلاب خضوعاً لأمر عالٍ من وزير الدفاع، البِيْه:" لو عبد الله خليل قال بلاش الحكاية كنا في ثانية ألغينا كل شيء."
من جهة أخرى، ربما لم يكن البِيْه هو وحده الذي وسوس للعسكريين بالانقلاب، فقد اتفق للكثيرين، واليساريين منهم على وجه الخصوص، أن الأمريكان هم من أوحى بهذا الانقلاب للبِّيْه وللجيش معاً. وأفضل عرض لدور أمريكا في الانقلاب، هو ما جاء على لسان روث فيرست الشيوعية الجنوب أفريقية، التي اغتالها نظام بلدها العنصري، في عام1982. فقد رجَّحت أن أمريكا وبريطانيا باركتا تقحـُّم الجيش السوداني للحكم في 1958 بعد لأيٍّ لما ارتأيا أنه شرٌّ لابد منه، لاستقرار البلاد كما فهما ذلك. وقالت إنه بتاريخ 13 نوفمبر 1958 كان صُنّاع السياسة الأمريكية، قد اقتنعوا أن مصر ستنفِّذ انقلاباً في السودان بناءً على تصريح مختَــلَف عليه بأن حزبي الوطني الاتحادي والشعب الديمقراطي بصدد التحالف لإقصاء حزب الأمة من الحكم يوم افتتاح البرلمان في 17 نوفمبر 1958. وأضافت فيرست أن المقصود من التصريح كان تسريع خطوات تحالف حزبي الأمة والوطني الاتحادي. وقد رأينا في الفصل الفائت كيف سهرت بريطانيا، التي انطوت على شيء من الثقة بالوطني الاتحادي منذ اختار استقلال السودان على الوحدة مع مصر في 1956، لإنشاء هذا الحلف بين حزبي الأمة والاتحاديين بالوعد والوعيد. وقد تواثق الحزبان على هذا الحلف في اجتماع انعقد ليلة 17 نوفمبر. ومات الحلف في مهده بحركة الجيش في فجر تلك الليلة. ومن رأي فيرست أن ذلك التصريح، والمقصود منه التعجيل بتحالف الأمة والاتحادي، عاد بعكس مراده، فقد أسرع عبد الله خليل البِيْه، رئيس الوزراء من حزب الأمة، بزجِّ الجيش في الحكم.
ربما لم نجانب الصواب إن قلنا إن بريطانيا وأمريكا خاصة لم تكونا بعيدتين عن خطة الانقلاب وهما في غمرة سعيهما لتوفيق أوضاع السودان بما يلائم أغراضهما في إطار الشرعية الدستورية. ونحتاج لبيان دورهما في الانقلاب إلى نظرٍ أدق في وثائقهما الدبلوماسية. فسيكون مثيراً أن نعرف إن كان لسفارتي الدولتين صلة مباشرة بالجيش نفسه. فلو وُجدت هذه الصلة استوجب علينا أن نراجع العقيدة السائدة في أن الانقلاب لم يكن سوى "تسليم وتسلم" أمر به البِيْه وزير الدفاع، وأتّبَعه الجيش كأمرٍ صادر من الضابط الأعلى. فلو صح أن للدولتين سكة سالكة لقيادة الجيش لتعقد أمر منشأ الانقلاب.
ومما يغري بالكشف عن صلة مستقلة لقادة الجيش بالدبلوماسيين البريطانيين والأمريكان، عبارة غامضة قالها محمد أحمد أبو رنات، رئيس القضاء في عهد البِيْه وعبود، وأحد أعمدة الطاقم المدني في دولة نوفمبر لِــ " روث فيرست ". وسبب غموضها أنه بنى الفعل فيها للمجهول بدربته القانونية المعروفة حتى ضاع الأثر وغاب المذنب. فقد قال إنه قد اتفق ضمنياً للناس (من هم؟) في مناقشات استمرت لبضعة أسابيع صواب أن يتولى الجيش زمام الأمر. وقد كان أمر الجيش والحكم مما جرت الشورى حوله وتقليبه بين هؤلاء الناس. وقال القاضي إنه وضح من هذه المناقشات بين هؤلاء الناس أن حركة الجيش هذه ستكون موضع ترحيب ما. وليس واضحاً من عبارة أبي رنات طبيعة هذه الجماعة التي قَلَّبت أمر حركة الجيش، واستعدَّت لمباركتها متى وقعت.
غير أننا ربما لن نشتطّ إن قلنا إن القاضي ربما كان طرفاً في هذه الجماعة التي تدبر شراً للدستور الذي أقسم أن يصونه. فقد وجده زعيم من حزب الأمة مختلياً بالبِيْه ظهيرة اليوم الذي سبق الانقلاب. وتكرر ذكر اسم القاضي في روايات وشهادات عن الانقلاب وجده أهلها في مواقع للشبهة. فقد ورد أنه أوصل بعربته المرحوم اللواء حسن بشير، الرجل القوي في دولة نوفمبر، إلى منزل المرحوم أحمد خير في السابعة والنصف من صباح الانقلاب. وكان اللواء جاء لأحمد خير ليعرض عليه أن يكون مستشاراً قانونياً للانقلابيين. وقد تقدّم أبو رنات اللواء داخل المنزل. وألمح لأحمد خير بسبب الزيارة. لهذا لم يكن أحمد خير خالي ذهن عن عرض اللواء. وسمى أحمد خير هذا التلميح بالإنجليزية (hint). ورجَّح أحمد خير، أمام لجنة التحقيق الرسمية في دواعي الانقلاب، أن مجيء القاضي له صباح الانقلاب، كان ليدل اللواء على منزله. وهذا بمثابة تغطية لرئيس القضاء من تُهمة التآمر لخرق الدستور. ثم واصل أحمد خير، نفي الشبهة عن أبي رنات، رفيق سلاحه في نظام عبود، قائلاً إنه لا يعتقد أنه ممَّن علم بجذور الانقلاب، ولكنه كان مع ذلك، وثيق الصلة بعبود وحسن بشير. وأضاف أن هذه صلات قد تجعله أقدر منه ليدرك علم نفس الموقف السياسي وأغراضه آنذاك. وفي سياق هذه التبرئة لأبي رنات من وِزر التآمر للانقضاض على الدستور قال حسن بشير في أقواله للمحققين إنه جاء وحده لأحمد خير. ولكنه عاد ليقول للمحققين إنه وجد أبا رنات مع أحمد خير حين ذهب لعرض منصب المستشار القانوني عليه بأمر من عبود. وظل اسم القاضي يرد في أقوال الآخرين كلاعب ذي وزن في الانقلاب. فقال الدرديري محمد نقد للمحققين أن أحمد خير صَبِح ليلة الانقلاب مع العسكريين وقد صاغ لهم كل بياناتهم. وأضاف أن القاضي هو الذي زكَّى أحمد خير للعسكريين حين طلبوا منه أن يكون مستشاراً تقية منه حتى لا يُشاهد رجل في منصبه والتزاماته يُظاهِر على خرق الدستور.
جاء عند فيرست ما قد يضع النقاط على حروف أبي رنات المواربة عن أولئك الناس الذين تواثقوا على فكرة قلب نظام الحكم. فمن رأيها أن بريطانيا وأمريكا مالتا لفكرة الانقلاب في الدقائق الأخيرة لأن احتمالات استحواذ مصر على السودان بانقلاب يقوم به صغار الضباط، أو بتحالف الاتحادي مع حزب الشعب، وكليهما مصري الهوى، كانت تتزايد يوماً بعد يوم. وجاءت فيرست بما يشير إلى صلة واصلة بين الدبلوماسية الغربية والانقلابيين. فقد قالت: "ولما بلغ الأمر هذا الحد، لم يعد لبريطانيا وأمريكا وجه اعتراض على تدخل الجيش، فهما إما أصبحتا على الحياد بشأن تدخل الجيش، مما اعترضتا عليه قبلاً، طلباً لاستقرار الوضع السياسي، أو قد هجرتا بحماس موقفهما بشأن الانقلاب لاحتواء مطامع مصر وحِيَلها الحقيقية أو المتوهمة حيال السودان. وقد طمأنا الانقلابيين أنهما قد تبديان عدم ارتياح للانقلاب في الظاهر إلا أنهما راضيتان بقيام الانقلاب وما يعقبه".
وعليه ليس صعباً الاستنتاج هنا أن هناك أكثر من جهة أوحت للجيش بالانقلاب. بل ربما كان الجيش هو من أوحى لنفسه بخرق الدستور واعتلاء سدة الحكم. فقال ف. بختولد، الذي كتب كتاباً حسناً عن السياسة السودانية، إن الجيش ربما استوحى الانقلابات الناجحة من حوله في مصر والعراق والباكستان. وزاد بأن الضباط السودانيين كانوا عقدوا أواصر مع باكستان في عهد أيوب خان. وربما أغرتهم هذه الأواصر للتحرك لأخذ الحكم عنوةً. بل قال اللواء أحمد عبد الوهاب إن أول أسبابهم للانقلاب كان هو "إحباط محاولات الضباط الصغار، الذين كانوا على وشك إحداث انقلاب قد يعود بنتائج سيئة". وقال اللواء حسين على كرار أيضاً إنهم كانوا في سباق مع صغار الضباط " لأنه إذا لم يعملوها، فلا بد أن الصغار سيعملوها". وكان أخشى ما يخشاه هؤلاء الضباط الكبار أن يكون انقلاب الصغار لصالح مصر التي قال اللواء محمد أحمد التيجاني إن زيارات مسؤوليها للسودان قد تواترت. وتبقى شيء في نفس هؤلاء الضباط العظام من تهور صغارهم حتى بعد الانقلاب. فلما انقلب المرحوم المقدم على حامد ورفاقه على النظام في 1959 كان عبود، شديد الاقتناع بضرورة إعدامهم منعاً للفتنة. وقال للصحفي جعفر حامد البشير أنهم جاؤوا إلى الحكم وهم على أبواب المعاش وقد أسلس قياد الناس لهم بالنظر إلى خبرتهم الطويلة في أصقاع البلد، ومعرفتهم بطبائع الناس. وسأل جعفر: “فكيف بمصير البلاد الآن إذا وقع حكمها في أيدي شبان مغامرين، حديثي السن والتجربة والمسؤولية، لا يزيد بعضهم على رتبة الرائد؟".
مولانا أبو رنات رئيس القضاء قبل وخلال فترة إبراهيم عبود
ibrahima@missouri.edu