لجريدة عمان:
2025-01-09@01:23:12 GMT

الابتكار بعدسة «القيادة الكاريزمية»

تاريخ النشر: 17th, September 2024 GMT

عندما تنجح الشركات الريادية فإن الأنظار تتجه أولًا نحو قيادة المؤسسة كونها أساس صناعة هذا النجاح، ولكن تختلف الصورة مع الاكتشافات العلمية والابتكارات التكنولوجية، فالانطباع النمطي الذي يتشكل في الأذهان يتمحور حول النجاح التشاركي لمجموعة الباحثين والمبتكرين الذين عملوا على نقل الفكرة من طاولة التطوير إلى منصات التسويق، فالابتكار هو عملية تشاركية في المقام الأول وينطوي على مدخلات عدة، ولا يلتفت الكثيرون إلى حقيقة أن الشركات العلمية بحاجة أيضًا إلى القيادة المتمكنة مثل أية مؤسسة تجارية، وأن أنماط القيادة العلمية لها تأثيرها الجذري على مخرجات الابتكار، فهل للقيادة الكاريزمية دور في سياق الاعتبارات الإستراتيجية للابتكار التكنولوجي؟

إذا عدنا بالزمن للوراء، سنجد بأن المؤرخ آرثر شليزنجر هو من أدخل مفهوم «الكاريزما» أعقاب الحرب العالمية الثانية، وقد ارتبطت في نشأتها بالبطولة العسكرية، ثم تطورت لتشمل مختلف درجات الجاذبية الشخصية والتميز، وبعد الدراسات المستفيضة تمكنت الدوائر العلمية والبحثية من إثبات أن «الكاريزما» مكونٌ أساسي لشخصية القيادة في جميع المجالات، وغالبًا ما تنعكس في الممارسات التنظيمية وتؤدي إلى نتائج ناجحة؛ إذ يميل القادة المرتبطون بمثل هذا الأسلوب القيادي إلى إلهام فرق العمل من خلال ترسيخ الثقة بالنفس، والانضباط، والتواصل الواضح، وتعزيز الشعور بالهدف والرؤية المشتركة، ولكن القيادة الكاريزمية لم تعبر محيط الأعمال التجارية إلى المؤسسات البحثية والابتكارية إلا مؤخرًا، وهذا ما جعل من موضوع الترابط بين أنماط القيادة وجودة مخرجات الابتكار موضوعًا مهمًا ومحوريًا في الوقت الراهن، ويعكف الباحثون والمفكرون على دراسة تأثيرات هذا النمط من القيادة لتعزيز فعالية الاستثمار في البحث العلمي والتطوير التكنولوجي والابتكار، وتتفق الأدبيات بالإجماع على أن التأثير الإيجابي للكاريزما على مستوى القيادة التنفيذية يأتي من خلال تعزيز البيئة الداخلية للأداء، وتوجيه الجهود نحو أهداف وغايات أعلى من مجرد إنجاز المهام المطلوبة، مما يؤدي إلى تحفيز فرق العمل بشكل جوهري لتبني مجموعة من السلوكيات المبتكرة التي تساعد في مجملها في رفع الأداء الكلي على مستويات الابتكار والإبداع.

ففي المشهد التنافسي الذي تعمل فيه الشركات العلمية والمراكز البحثية والابتكارية، لم يعد الابتكار يشكل عاملًا مهمًا في تحقيق الميزة التنافسية وحسب، ولكنه أصبح من أهم الأدوات الداعمة للمؤسسات التي تطمح إلى النمو والتوسع في مجالات أخرى بجانب ابتكاراتها الأساسية، ومن منظور آخر أصبح متخذو القرار وواضعو السياسات والممارسون أكثر ميلًا لاستخدام الابتكار باعتباره منطلقا لانتهاج مسارات عمل جديدة، أو مواكبة للتطورات والمستجدات، وتسريع أجندات التغيير المؤسسي، وجميع هذه الأدوار الوظيفية للابتكار بحاجة ماسة إلى القيادة الكاريزمية المعتمدة ثقافيًا على قيم الإلهام والانتماء للفريق، والقدرة على التعبير عن الأفكار والإقناع، والمشاركة في صنع القرار، وهذا التأثير المتنوع للقيادة الكاريزمية هو أساس الحجج النظرية المتعلقة بأهمية الكاريزما في مجال القيادة التنفيذية في الشركات العلمية، فإذا كانت الكاريزما محورية لنجاح الشركات الريادية في العموم، فإن دورها لا يقل أهمية في عالم شركات الابتكار التكنولوجي التي تواجه تحديات تسارع موجات الثورات التقنية والتطورات العلمية المتلاحقة.

ومع أهمية القيادة الكاريزمية في الابتكارات العلمية والتكنولوجية تظهر الحاجة إلى بناء واستقطاب المواهب العلمية ذات الكاريزما، فإدارة وقيادة الابتكار في تصورها المحض تتضمن التعامل الذكي مع درجات عالية من عدم اليقين والمخاطرة واحتمالات الفشل، وهي عملية معقدة وصعبة للغاية، إذ تعتمد على وضع الرؤية الإستراتيجية بطموح وعقلانية معًا، ثم ترجمتها إلى منتجات ذات قيمة اقتصادية، وأثر اجتماعي يبرر الاستثمار في الجهود البحثية والتطويرية، وفي الوقت ذاته تقع على القيادة العلمية مسؤولية تهيئة الأوساط الداعمة لتوليد وتدفق الأفكار الجديدة وتبنيها، والتحلي بالصبر في تطويرها، والاستعداد للتعلم من المحاولات التي لم تنجح، وهذا يعني في الأساس أن القادة في عالم الابتكار بحاجة إلى قدرات ومهارات إضافية لإدارة المسارات المتضاربة للإبداع العلمي، ففي حالات معينة يجب على القيادة أن تشجع مهارات الفضول العلمي والإلحاح، وفي حالات أخرى يكون من الحكمة اتخاذ قرار الانسحاب الآمن من محاولات التطوير التي لا يمكنها عبور درجات محددة من الجاهزية التكنولوجية.

والقيادة الكاريزمية تحمل مفتاح الحصول على التوازن في الترجيح بين هذه المسارات، واتخاذ غيرها من القرارات المصيرية من حيث القدرة على إقناع فرق العمل الفنية، وتوجيهها نحو الأهداف المشتركة بمستويات منخفضة من حالات مقاومة التغيير، وهذا ما يضاعف أهمية القيادة الكاريزمية في الابتكار، حيث يتميز هذا النمط بالقدرة على تأمين التأييد المعنوي على المستوى الفردي والمؤسسي، وكذلك تلبية التطلعات العلمية داخل المؤسسة، والتوقعات المجتمعية والثقافية بشكل فعال، ويعود ذلك إلى السمات الشخصية التي يتمتع بها القادة العلميون من ذوي الكاريزما العالية، والذين يستثمرون هذه السمات في تعزيز الثقة والتعاون والدافعية، والتي تعد بالغة الأهمية للارتقاء بالابتكار والأداء، ومن أجل ذلك تعد القيادة الكاريزمية أحد أهم أنماط القيادة الضمنية المستمدة من المزايا الفردية، والمعتمدة ثقافيًا على القيم والمعايير والقناعات والتصورات المجتمعية للقيادة الناجحة والملهمة.

إن قيادة الابتكارات التكنولوجية بطبيعتها المعقدة والمُتطِّلبة والمستهلكة للموارد تستلزم التوافق بين الخبرة العلمية والكاريزما الملهمة، وهذا التوافق ليس مجرد مسألة تفضيل، ولكنه ضرورة إستراتيجية لتحقيق المرونة والرشاقة التنظيمية اللازمة لإنجاح الجهود الابتكارية، فعملية تشكيل القيادة الفعالة هي في صميم صناعة الابتكارات النوعية ذات التأثير المستدام، والتأثير السياقي للقيادة الكاريزمية لا يتوقف عند التحفيز الإيجابي لفرق العمل التقنية؛ لأن القيادة الكاريزمية مرتبطة جوهريًا بالابتكار، وأبعادها الحقيقية تمتد لتشمل إدماج التغيير الجذري في نهج القيادة العلمية كجزء لا يتجزأ من القيادة التحويلية، والتي تهدف إلى ترجمة الأفكار الكبيرة إلى أهداف صغيرة قابلة للتحقيق، وتوليد القدرة على إيجاد القيمة من جميع أنواع الموارد المتاحة، وعلى المستوى الكلي، فإن القيادة الكاريزمية الفعالة تظل عاملًا حاسمًا في تجويد مخرجات الابتكار، وتعزيز القدرة الإبداعية.

د. جميلة الهنائية باحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

«وحدة الأضداد» في الفكر المعاصر لإدارة الابتكار

في عام (2008م)، نشر خبير الإدارة الحديثة المفكر «جاري هامل» كتابه الذي حمل عنوان «المستقبل الكبير للإدارة»، قدّم الكتاب طرحًا جديدًا كليًا عن الفكر السائد، وقدّم نموذجًا مبتكرًا للإدارة ويتكون من خمسة مستويات؛ وهي الابتكار التكنولوجي، والابتكار التشغيلي، والابتكار الاستراتيجي، ونموذج الأعمال، والابتكارات الإدارية، وتضمن الكتاب دعوة إلى المزيد من التركيز على التصميم الاستراتيجي للابتكار من حيث القيادة، والمهمة، والقيمة الدافعة، وعلى الرغم من أن الكتاب قد ظهر في خضم الأزمة المالية العالمية التي كانت تتطلب مختلف الأطر لتحليل وإدارة التحديات الكبرى، إلا أن الاهتمام بالمحتوى الفكري لهذا الكتاب قد جاء بعد انحسار الأزمة بسنوات.

في البدء، دعونا نقترب أكثر من واقع نماذج إدارة الابتكار على المستوى الاقتصادي العالمي، سنجد بأن معظم الاقتصادات قد اعتمدت على النموذج الغربي التقليدي الذي كان منشؤه الأصلي هو الثورات الصناعية المتلاحقة، ومع صعود الاقتصادات الناشئة - مثل الصين والهند – ظهرت أهمية توظيف مساهمة المعارف التقليدية المستمدة من الحضارات الآسيوية، وهذا قد غيّر المعادلة جذريًا، وبذلك فقد تحول النموذج الحديث لإدارة الابتكار من الصورة النمطية إلى نهج أكثر تكاملًا وانفتاحًا بشأن دمج التفكير المحدد والصارم للعلوم الطبيعية، مع التفكير المرن للعلوم الاجتماعية، والفنون وذلك ضمن منظور فلسفي موجه بالاستراتيجية، وهذا ما أطلق عليه المفكرون «التكامل بين البحث عن الحقيقة، والبحث عن الجمال»، وبذلك فإن إدارة الابتكار قد اكتسبت جوانب أخرى إضافية بجانب إدارة المعرفة والتكنولوجيا، وعبرت الحدود الفاصلة بين المجالات المعرفية التي ظلت لفترات طويلة من الزمن تعمل بانعزالية، ولقد أسهمت التطورات التكنولوجية على التقريب بين مختلف مجالات العلوم، وعلى سبيل المثال، يوفر الذكاء الاصطناعي أدوات داعمة للإدارة المتكاملة من حيث تقديم رؤية منهجية وشاملة للجمع بين الإدارة الاستراتيجية، والتصميم التنظيمي، والبناء الثقافي، واستشراف الاتجاهات الصناعية، وتوظيف التفكير المتباين للهندسة والعلوم الاجتماعية لاغتنام الفرص الاستراتيجية القادرة على إعادة تشكيل مزايا ومقومات الكفاءة الأساسية لإنتاج الابتكارات التشاركية.

وهذا يقودنا إلى العناصر الخمسة التي وردت في كتاب «المستقبل الكبير للإدارة»، وتبدأ بالابتكار التكنولوجي الذي يُعد من أهم موجهات النمو الاقتصادي، وهو يتطلب إدارة المعرفة التكنولوجية، ومسارات اكتساب القيمة، وأما الابتكار التشغيلي فهو البعد الغائب في معظم الجهات والمؤسسات المعنية بإنتاج المعرفة، وتطوير التقانة، وهو يشمل جميع مكونات ومدخلات انتاج المعرفة، وهو لا يعكس كفاءة التشغيل وحسب، ولكنه يمتد ليتضمن ثقافة الابتكار، والسمات الفردية والجماعية، وكذلك القيمة الكامنة للفلسفات والقناعات التي تتحكم في سلوكيات الجهود التطويرية والابتكارية، وأما البعد الثالث فهو الابتكار الاستراتيجي الذي يرتبط بالقدرة الكلية لقيادة الابتكار، ووضع الرؤية المشتركة، وتوجيه كل المدخلات نحو الإنتاجية، ويرتبط هذا البعد مع نموذج الأعمال الذي ذكره الكتاب منفصلًا عن الابتكار الاستراتيجي، وكذلك الابتكار التنظيمي، وذلك لأن نموذج الأعمال ليس نتاجًا مضمونًا لاستراتيجية العمل، أو للعملية الإدارية، ولا يحدث بشكل عفوي وتلقائي، ولكنه العنصر الفاعل الذي لا يلتفت إليه المنظور الكلاسيكي للعملية الابتكارية والابداعية، إذ يتم التعامل مع نماذج الأعمال بأنها الإطار الذي يلبي القيمة المضافة لمخرجات العملية البحثية أو الابتكارية، ولكنها في الواقع هي محور توجيه الابتكارات لتصبح أقرب للتطبيق الفعلي، وتتواءم مع متطلبات المستفيدين منها، ولكي تصبح قابلة للصمود لأطول فترة ممكنة أمام الابتكارات المنافسة، وأخيرًا تطرق الكتاب إلى الابتكارات الإدارية لكونها أساس قيادة الابتكار من حيث إبراز الدور الرئيس لعناصر المعرفة في خلق القيمة الاقتصادية والاجتماعية، وتعزيز الجوانب الناعمة من مخرجات الابتكار مثل الرفاهية، والارتقاء بالحس الجمالي، وهذا يضع المسؤولية الجسيمة على إدارة الابتكار في رقع القدرة الإنتاجية للابتكار مع عدم الإخلال بالتوازن الأمثل بين وظائف التكنولوجيا، وأدوار المعارف الإنسانية الأخرى في حل التحديات، وذلك عبر تقاسم الموارد والمخاطر المرتبطة بمخرجات الابتكارات التي تطرح الحلول المربحة لجميع الشركاء والفاعلين في العملية الابتكارية.

وأهم الدروس المستفادة من كتاب «المستقبل الكبير للإدارة»، هو أن المستقبل قد يحمل الكثير من المفاجآت التي تتجاوز قدرة العقل البشري على استشرافها، ولذلك فإن متطلبات الإدارة العصرية يجب ألا تقتصر على تحقيق المواءمة الأفقية للموارد والمدخلات، والتوافق الرأسي في المخرجات، ولكن على قادة العمل فهم الحاجة إلى التوازن بين الانفتاح على التطوير والمواكبة، وبين حتمية تعزيز الكفاءة الداخلية لاستيعاب متطلبات التغيير، وبأن القيمة الدافعة للابتكار يجب توجيهها بالتكامل والشمول.

إن صناعة المستقبل المستدام في عالم تقوده الابتكارات التكنولوجية المتسارعة بحاجة إلى فتح حوار أوسع بين البحث العلمي، والابتكار التكنولوجي، والتنمية الاجتماعية، والرقي الجمالي والحضاري، مما يستوجب استكشاف نماذج عصرية للإدارة التكاملية والشاملة للعلوم، وذلك من أجل إيلاء المزيد من الاهتمام بالقيمة الكلية للابتكار بما يتجاوز السمات والعوائد الاقتصادية التقليدية، إذ لم تعد الغاية الكبرى للابتكار هي تحقيق متطلبات النمو الاقتصادي عبر الاختراعات العلمية والتكنولوجية والاستفادة منها تجاريًا، ولكن قد فرضت التحولات الاقتصادية مفهومًا جديدًا للابتكار الشامل الذي يهدف إلى تسريع التكامل التكنولوجي بين القطاعات والصناعات الاقتصادية الحيوية من جهة، وجميع جوانب سلسلة القيمة في الابتكار والفاعلين فيها من جهةٍ أخرى، وهو نهجٌ مدفوع باستراتيجية ترسخ التكامل الرأسي، والتفاعل الأفقي، والتطوير الديناميكي في بيئة الابتكار الاستراتيجي، لتتجاوز بذلك كل أوجه القصور القائمة حاليًا في الإدارة الجزئية المحدودة؛ لأن التقدم المستدام في الابتكار يتطلب التغيير الجذري في الفكر الإداري، وفي الفلسفة والممارسات، وذلك من منظور شامل واستراتيجي في آنٍ واحد، وبما يتماشى مع القيم الأساسية المشتركة بين مختلف الدوائر المعرفية، ويدعم الوصول للتطور المشترك بين فروع الهندسة والتكنولوجيا، والعلوم الأساسية والتطبيقية، والعلوم الإنسانية والاجتماعية، والفنون، والمعارف التقليدية، ويعتمد هذا التوجه بشكل كبير على خلق ثقافة الابتكار الشامل، ودعم التكامل بين المجالات المختلفة للعلوم، والتي من شأنها بناء وتعزيز المنظور الطويل الأجل للابتكار الديناميكي المدفوع بالقدرات التنافسية المستقرة، والمرنة، والمستدامة.

مقالات مشابهة

  • #هذه_أبوظبي.. جزيرة نوراي بعدسة مايكل هندرسون
  • كم بلغ عدد الشركات المصرية التي تصدر منتجاتها للاحتلال الإسرائيلي؟
  • الإدارة العلمية
  • رئيس وزراء اليونان: لدينا الكثير من الشركات التي ترغب في التعاون مع مصر في مجال الطاقة
  • دعم القطاع الخاص للبحوث والدراسات العلمية
  • «الخارجية» تقود الابتكار الرقمي والاستجابة السريعة
  • شرطة أبوظبي تُطلق مسابقة الابتكار الشرطي العالمية
  • #هذه_أبوظبي.. كورنيش أبوظبي بعدسة سبت بن عتيق الفلاحي
  • انطلاق الدورة العلمية الفقهية الأولى في المسجد الحرام غداً
  • «وحدة الأضداد» في الفكر المعاصر لإدارة الابتكار