فى الصعيد «عندينا» يوجد إهتمامٌ كبير لدى ملايين الناس بالبحث عن جذورهم، وإثبات انتمائهم وصِلَتهم بعائلاتهم القديمة، سواءٌ اختلطت هذه العائلات بغيرها من الأصول أم لا، وهو أمر طبيعى فى الصعيد الذى يفتخر أبناؤه دائمًا بأنهم ينتمون لجذور «عَفية» مُستمسكةٌ بأصولها تمسكِ ساقُ النخلةِ بالأرض!!
بسبب هذه الفكرة المسيطرة على الأذهان، تلقيت منذ فترة إتصالًا من إبن خالي، الذى طلب منى تحضير مستندات عضوية نقابة الأشراف مثل الكثيرين من أقاربى، لتأكيد هويتى العربية وانتمائى لسيد الخلق أجمعين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ورغم خفقان قلبى لهذه الفكرة المُشرفة، إلا أننى بادرته بسؤال: وهل نحن عربٌ يا ياسر؟ قال لى: نعم جذورنا عربية! فقلت له: ولكننا ننتمى لأكثر من ألف سنةٍ لجدودٍ استوطنوا وعاشوا فى أحضان جبال إسنا بمحافظة الأقصر، أى أننا أقربُ للأصول الفرعونية، فكيف لنا أن نعرف أن أصولنا عربية ونحن الأقرب للمصريين القدماء؟ فقال لي: الجدود قالوا لنا أنهم ينتمون لقبائل عربية هاجرت إلى مصر مع الفتح الإسلامى.
هنا تاهت الإجابات التى لا يمكن حسمها.. ولكنها مناقشة جعلتنى أتذكر ما قاله لى الدكتور مصطفى وزيرى الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للآثار، عندما قابلته فى أحد اللقاءات الرسمية منذ عدة أشهرٍ، وعند مصافحته لى قال: إنت تشبه إخناتون.. إنت منين؟ فقلت له: من الأقصر..فقال لى: تمام كده!!
إذن الحقيقة غائبة.. ونحن المصريون.. وفى الصعيد بالذات.. تائهون ما بين أصولٍ مصريةٍ قديمة.. وأصولٍ عربية.. وهو مجال مهم للبحث والتنقيب.
منذ سبع سنوات نشرت دورية «اتصالات الطبيعة» الصادرة عن مجلة «الطبيعة» وهى مجلة علمية بريطانية شهيرة، أن معظم سكان مصر الحاليين أفارقة الأصل بعكس سكان مصر القدماء الذين ينتمون بالجذور لبلاد الشام وتركيا وعدد من بلاد الشرق الأوسط!! وطبعًا معروف الغرض من هذا التوصيف الذى يحاول إنكار علاقة المصريين القدماء بالحضارة المصرية!!
خبير الآثار المصرى عبدالرحيم ريحان علق على التقرير فور صدوره مؤكدًا أن كافة المعلومات الواردة فى الدراسة غير صحيحة، وأن المصريين أصولهم مصرية قديمة وليست شامية أو إفريقية.. وقال إن الدراسة التى تزعم القيام بتحليل كامل لجينوم سكان مصر القدماء اعتمدت على تحليل الحمض النووى لتسعين مومياء عاش أصحابها من سنة 1400 قبل الميلاد وحتى عام 400 بعد الميلاد، وهى مومياوات ناتجة من أعمال حفائر فى منطقة واحدة تسمى أبو صير التابعة لمركز الواسطى فى بنى سويف، والنتائج هى مجرد محاولة التفاف، لإثبات أن قدماء المصريين جاءوا من مناطق سكنها العبرانيون وبنو إسرائيل قبل قدومهم إلى مصر!!
عمومًا، أنا لست مع الجذور«الحاسمة» للمصريين.. لأن مصر دولة غارقة فى عمق التاريخ، ومرت بها أصول متعددة، واختلطت بها أعراق هاجرت إليها عبر الزمن إما للغزو أو بحثًا عن الحياة، وإن كنت أظن أن هذا الإختلاط العرقى كان بنسب مختلفة فى شمال مصر عن جنوبها، فاقتراب الدلتا من البحر الذى نقل أبناء شعوب أخرى إلى المحروسة ليستقروا فيها و يتزوجوا وينجبوا أجيالًا متعاقبة، يختلف عن الصعيد الذى أكثر انغلاقًا على الغريب القادم إليه سواء كان مُهاجرًا أو غازيًا!!
ولذلك فإننى أميل لرأى المفكر الجغرافى الكبير جمال حمدان الذى يؤكد فى كتابه«شخصية مصر.. دراسة فى عبقرية المكان» على استمرارية الشخصية المصرية منذ الفراعنة وحتى الآن، بما فى ذلك عشرات الملامح الاجتماعية والثقافية والألفاظ والأدوات القديمة التى لا تزال مستخدمة فى مصر الحديثة، والاستمرارية المقصودة هى نوع من التراكم الذى يشبه ورق البردى الفرعونى الذى كتب عليه الإنجيل والقرآن، ولا تزال الكتابة المصرية القديمة منقوشة على المعابد الفرعونية أيضأً.. ولذلك فإن الاستمرارية المصرية تراكمية وتراكبية ومعتدلة، ولهذا يصف أصل المصرى بوصف عبقرى وهو أن «الجد فرعونى والأب عربى» ولذلك يوجد تداخل فى الشخصية المصرية بين الانتماءات العربية والإسلامية والقبطية والفرعونية.. وهذا هو سر عبقريتها.
قد تسألنى: ما رأيك فى النهاية؟ سأقول لك.. أنا شخصيًا.. مهتم جدًا بما قاله لى الدكتور مصطفى وزيرى حول تشابه ملامحى مع «إخناتون» وسوف أبدأ من الآن البحث عن تراث «جدى» الملك الفرعونى العظيم!!
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: نور الآثار المصري
إقرأ أيضاً:
الركين
«الركين» مهنة غير موجودة إلا لدينا، هو ذلك الشخص الذى يُسيطر على مساحة من الشارع ويستغلها لركن السيارات مقابل «إتاوة» يحصل عليها من صاحب السيارة. وتختلف تلك «الإتاوة» من حى لآخر وحسب نوع السيارة. وهناك من يطلق على تلك المهنة «سايس سيارات» أو «منادى سيارات» أياً ما كان اسم هذه المهنة التى لا يخلو أى شارع فى مصر من واحد منهم، يقف أمامك عندما تَهم بالطلوع بالسيارة، وهناك من يأخذ هذه الإتاوة مقدماً، ويسأل السؤال المُعتاد «حضرتك قاعد أد إيه!» بعضهم يحمل علامات فى وجهه تدل على «شقاوته» يظهرون تلك العلامة لحضرتك حتى تدفع الذى يُطلب منك. وقد أصبحوا فى الآونة الأخيرة قوة فى الشارع ولا تعرف مَن وراءهم. يتعاملون مع الناس ببجاحة شديدة، حتى لو كان مين واقف، لتجد نفسك وحيداً ليس هناك من تلجأ إليه، وأصبح لبعضهم مساعدون يعملون معه، وتحولوا بعد السكوت على تلك الظاهرة إلى سرطان يحتل الشارع، ويركن السيارات صف أول وثانى ولهم تسعيرة ستمائة جنيه شهرياً، وعشرة جنيهات أو أكثر للزبون غير الدائم، فلو ركن عنده مائة سيارة يكون دخله الشهرى حوالى خمسة وسبعين ألف جنيه، وإذا تجرأت وسألت أحدهم عن نهر الفلوس هذا يقول لك هذه الفلوس «مش» لوحدى.. والله أنا ميال لتصديقه!
لم نقصد أحداً!