عتمة صادفت مولدين
تاريخ النشر: 17th, September 2024 GMT
غازي البحر الروَّاس
ركودٌ وفقرٌ ومظلمة... كانت عُمانَ تغوصُ وتختنق، وحبال مشنقة تلف وطنًا بأكمله، كان لا شيء ما عدا رقبته.. ظلمات قتلت سوادها ولم يعد للون سمة أو حتى متعصبين للون الصباح.
كان الراحل عبدالعزيز الروَّاس مستشار جلالة السُّلطان للشؤون الثقافية سابقًا، يُكنّى بـ"أبو سعود" تيمنًا منه بسعة كُنى ذلك العصر.
صادف هدفه المغروس في كيمياء عقله دون سابق عِلة، عنقاء من سليل وطن خرجت على تمام عادتها من تراب الوطن لا الرماد، جاء "قابوس" ومعه ثورة وبرنامج وهدف. وكان عبدالعزيز آنذاك قد استوى، فصادفتْ اللحظةُ مرادَهَا. رجلُ دولةٍ تماهى مع صاحبِ دولةٍ، وكان لقاءً غير مجدولٍ، لكنه فُصِّلَ بحتميةِ القدرِ.
تعرفتُ على عبدالعزيز الروَّاس بحكم أواصر الدم، وكان أوَّل اتصال غير مُباشر وأنا ابن الثامنة، مع أمسيات شاطئ مطرح نهايات صيف 1970، وكنتُ بجوار أبي وبعض الأعمام، وكان حديثهم عن عُمان وقابوس وقبيلة الروَّاس ودورها في ترسيخ مُهمة السلطان. لا أدرك شيئًا وكان لا يهمني أن أفهم، فقد كنتُ مهمومًا بقطعة سلاح "مسدس" وضعه عبدالعزيز بجانبه، وفي خلسةٍ وهو مُنشغِلٌ بحديث الوطن، بدأتُ ألاعبُ القطعة في غفلةٍ منه، لكنَّ عبدالعزيز لا يغفل، فنهرني، وقال لي السلاح ليس مُتعة!
ومن يومها وأنا أشعر كلما قابلته رغم لطفه المتقطع، أني مسكون بهذا التوتر غير المُبرَّر منذ تلك اللحظة.
كنتُ التقي به على مدى عقودٍ بشكل غير مبرمج وحضور رسمي خارج الدولة، وينظرُ إليَّ دون تركيز، ويُعيرني اهتمام دون مهام، وإذا أبدى اهتمامًا بي يربطه بوالدي ومناقبه.
وفي عام 1989 زار السلطان قابوس- رحمه الله- الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران في العاصمة باريس، وكانت زيارة دولة، وحينها كنتُ دبلوماسيًا أعملُ في هذه المدينة الساحرة رغم كثرة فئرانها! وكان عبدالعزيز مُرافقًا للسلطان كالعادة، وفي ليلة انتهاء الزيارة، همس لي عبدالعزيز وقال: "مُرْ عليّ بمقر الإقامة لنذهب إلى مكان تختاره لتناول العشاء". صُدمتُ بهذه المَهمَّة المُباغتة، وطِرتُ بأفكاري، كيف سأتحدث عن هذه الحظوة مع كل أبناء عمومتي في صلالة؟! طبعًا لاقيته على الموعد في مقهى ومطعم "لو فوكيتس" العريق، على تقاطع جادة جورج الخامس والشانزليزيه، في قلب عاصمة النور. ودار بيننا حديثٌ صارم، علّمني فيه الفارق الذي يفصل بين من يستحق أن يكون ذا أهمية من عدمه. ورغم أنَّ الحديث لا يُشبه رومانسية باريس، لكنه على الأقل يتوافق مع توجهات ماكسميليان روبسبيار وجان دارك وثورتيهما!
استمر هذا التواصل المُتقطِّع حتى منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة، حينها تماسكت العلاقة واقتربت منه واكتشفني عندما كنت أُحادَّه بلطفٍ وأدبٍ في مواضيع الفكر الإسلامي والفِرَق والنِحَل والمِلَل، نتجاذبُ الحديث وأشعُرُ من رده على شططي، أحيانًا، أنه يوافقني بردة فعله الحادّة، ويعتريني شعور أني وافقته دون اعتراف منه. وبقيْنا هكذا على هذا المنوال، ولاحظتُ نزوله عن الشجرة نحوي، وفي بعض الأوقات النادرة يفضض معي، وتماسكتْ العلاقة لتصبح صداقة من نوع فاخر. وذات مرة اعترف لي دون سابق إنذار بأنَّ هناك مشتركات بيننا، وأنه يُكِن لي محبة خاصة، وبدأ يُفككني وانطلقت معه، وفتح لي صفحاته المُغلقة والمكتوم من الحديث، وكان يعاتبني بودٍ إذا طالت غيبتي وتأخرت عن زيارته، وأُردِّدُ له بيتًا من أشعار علي ابن الجهم، "أبلغ أخانا تولى الله صحبته.. أني وإن كنت لا ألقاه ألقاه".
أبو سعود كيان مُتفرِّد صاغ نفسه بخياطة دقيقة، عصاميٌّ منذ طفولته، يملك فراسة وذهنًا متوقدًا وحادًا، اختطَّ لنفسه مشروعًا آمنَ به ولم يحِد عنه طوال حياته.. آمنَ بالسلطان قابوس وكان من صحابته والمؤمنين الأوائل بهذه الشخصية الفذة المُتقدة، وتوافقت الأهداف والمسيرة.. صحبةٌ لم تنقطع وإيمان لم تعترهِ شكوك.
زُرتُهُ في منزله برابية القرم بمسقط، قبل وفاته بأسابيع قليلة، وكان المرض قد نال منه، لكن حضوره وصلابة عقله والمودة منقطعة النظير لم تتغير. وعندما استأذنته بالخروج وقف وأخذني بيدي مُودِّعًا ومُصِرًّا على مُرافقتي إلى سيارتي، رغم تعبه، وكأنَّ حاله يقول هذا هو الوداع الأخير!
عندما علمتُ بنبأ نقله إلى المستشفى السلطاني في آخر لحظات حياته، استقليتُ الطائرة من صلالة إلى مسقط، ولم أُصدِّقُ أنَّها النظرة الأخيرة، وعندما قابلته ضغط على يدي، ثم قبَّلتَ جبينه، وكان ينظرُ إليَّ بعيونٍ مُودِّعة، ولسان حاله يقول "لا تحزن.. إنِّها الخاتمة"!
بعدها بيومين انتقل عبدالعزيز الروَّاس إلى جوار ربه.
رحم الله أبا سعود، فقد عاش شامخًا ومات واقِفًا.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
جائزة الأمير عبدالعزيز بن عياف لأنسنة المدن تحتفي بـ15 فائزًا في دورتها الثانية
تحتفي جائزة الأمير عبدالعزيز بن عياف لأنسنة المدن الأحد المقبل بالفائزين بجوائز دورتها الثانية في فروع الجائزة الأربعة الهادفة إلى تعزيز أبحاث أنسنة المدن، بحضور صاحب السمو الأمير الدكتور عبدالعزيز بن محمد بن عياف المستشار الخاص لخادم الحرمين الشريفين نائب وزير الحرس الوطني، ورئيس الجامعة المكلف الدكتور عبدالله بن سلمان السلمان وعددٍ من المتخصصين في مجال العمران.
وسيشهد الحفل إعلان أسماء 15 فائزًا وفائزة لتكريمهم ضمن فروع الجائزة الأربعة، وهي: جائزة البحث العلمي، التي تهدف إلى إثراء الأبحاث المعنية بإضفاء الطابع الإنساني على المدن، وجائزة طلاب وطالبات الدراسات العليا، المخصصة للأبحاث والمشاريع المتميزة لطلاب الماجستير والدكتوراه، بالإضافة إلى جائزة طلاب وطالبات مرحلة البكالوريوس، التي تشجع طلاب البكالوريوس لعمل مشاريع عمرانية تراعي البعد الإنساني، وأخيرًا جائزة المنح البحثية، التي توفر دعمًا ماليًا للأبحاث التي تسعى لتكون المدن أكثر إنسانية وتفاعلًا.
اقرأ أيضاًالمجتمعجامعة الملك عبدالعزيز تناقش أوجه التعاون المشترك مع وفد الجامعات الأمريكية
ويتضمن الاحتفاء تكريم الفائزين في مبادرة إستديو التصميم العمراني لأنسنة الأحياء السكنية.
ويصاحب الفعالية معرض خاص بأعمال الطلاب ويحوي أكثر من 200 عمل مقدم لطلاب وطالبات المرحلة الجامعية، كما سيتم افتتاح المعرض المصاحب الذي يعرض أعمال الباحثين والطلبة المكرمين، ليشكل نافذة ملهمة على الإبداع والتفوق.