نشأنا على مصدرين أساسيين منهما كنَّا نُحصِّلُ ما نشتاقه من معارف وثقافة، المصدر الأوّل هو مكتبات الجهات العامّة، أو مكتبات الولايات، والمصدر الثاني هو المكتبة الوطنيّة في العاصمة، فجيلي هو جيلٌ ورقيٌّ، تعوّد على ملمس الأوراق والكتب، وشمِّ روائحها وتقليب صفحاتها، ولحدِّ اليوم، رغم هذا المدّ في سيادة الثقافة الرقميّة، ما زلنا نتطعَّم روائح الكتب القديمة، ونسعد للملمس الكتب، وتقليب صفحاتها.
ثقافتان تتعايشان اليوم، ثقافة الأعماق وثقافة الأصداء، ثقافةٌ آمنَّا بها، وما زلنا نؤمن بها، (ولعلِّي أجعلها ثقافة عمقٍ لأنّي أنتسب إليها، وقد يعتبرها غيري من جيل الثقافة الرقميّة، محض أوهام، وحنين رُكامٍ من البشر)، وهي الثقافةُ الكُتبيّة التي أعتبرها عميقة ومؤسِّسة وباعثةً لعقولٍ مُفكِّرة، ما زلنا نحتاج جهودها وعمق فكرها، وثقافةٌ رقميّة هامّةٌ ولها أدوارها وتيسير أدواتها، ولكنّها تبقى حمّالة أهواء، قد تفضي إلى معرفةٍ سطحيّة، وثقافةٍ شكليّة، ووعيٍ زائف، وحظُّ التزييف والتسطيح والوهم فيها وسيعٌ رحبٌ. أكتب هذا الأمر، وأنا على وعيٍ تامٍّ بضرورة مواكبة الثقافة الرقميّة، وإعمالها في شتّى المجالات والميادين، وأنا أيضا على درايةٍ بأنّها ضرورة تاريخيّة، وحتميّة اقتضاها الواقع، وهي حتميَّةٌ يُمكن أن تكون ناجعةً ومنتجةً، غير أنّنا نرى بعض الظواهِر الرقميّة المؤثّرة في أجيالٍ صاعدةٍ، قد تَعْدم مستقبلاً الصلة بالكتاب، وهو الأمر الجلل، والفعل الخَطر. أوّلا هنالك ظاهرةٌ صارت سائدة في مجتمعاتنا العربيّة، ولا قُدرة لنا أحيانًا على مجابهتها، ولا آليَّة لنا للوقوف ضدّها، ولا أدوات لنا لكشْفها وبيانها، وهي السَّرقات، والسّرق فعلٌ مذموم أخلاقيًّا، وأصْبَح داءً عُضَالاً علميًّا وثقافيًّا، ويسّرته الرقميّات بشكلٍ عجيب، واختلقت له من الأدوات ما يُخفيه وما يُجلِّيه، ما يكتُمه وما يفضحه، فسادت رسائل جامعيّة في مختلف المستويّات مسروقة، وعمّت بحوث ومقالات منقولة، والرقيبُ في حيرةٍ، قد تتجاوزه الرقمنة وقد يُحسن السّارق إخفاء مسروقه، فتُسند شهادات ورُتب علميّة لغير أهلها، ولأناس لا يستحقّون الحبر الذي كُتِبت به. وقد يعترض معترضٌ، ويحتجُّ محتجٌّ قائلا: إنَّ السّرق فعلٌ قديمٌ، وسلوكٌ عتيق، وقد ذمَّه الأقدمون وعابوه، ولا علاقة له بالرقمنة ولا بسيادتها، وهو قولٌ حقٌّ في جانبٍ، ففعل السّرقة قديم، ولكن وسائط التواصل ومواقع الويب ومختلف أشكال التطوّر الافتراضي للعالم، ورقمنة الكتب والمقالات والبحوث يسّرت أمر الأخذ وشجّعت على الإغارة والسّلب، فهل هذا ذنب التطوّر؟ حتمًا لا، وهو ذنب من لم يُحدث لهذه الذنوب حزمة من شديد العقوبات، وقوانين زجريّة، وثقافة في احترام الملكيّة الفكريّة، وتكوين الناشئة على تجريم الأخذ من الغير على غير وجه حقّ. الأمر الثاني الذي أراه خطرا في هذه العوالم الافتراضيّة، وهذه المساحات الكبرى من ثقافة الويب والنت ومختلف أشكالها ومظاهرها، هو بزوغ نجومٍ من ورقٍ، بلا عقولٍ ولا أفئدة، نجوم يستقطبون شبابًا ويستلبون الأضواء في المناسبات والمعارض، حتّى معارض الكتب والفنون، وهم الأوهن، والأضعف، لا منزلة لهم، سوى جمهور وسيع يُتابعهم لعلَّةٍ من العلل، حُسن طالعٍ، أو قدرة على المزاح والسخريّة، أو جرأة ومخالفة للمعهود، أو أحيانا بلا علّة ولا سبب.
عدد المتابعين على صفحات التواصل الاجتماعيّ صار قياسا، لا يعنيني إن صار قياسًا للشهرة، فدومًا كانت الشهرة متأتيّة من مسالك سطحيّة وساذجة، ولكن الذي يعنيني أنّ عدد المتابعين صار قياسًا للمقروئيّة، فخذ مثالاً على ذلك الكاتبة التونسية فاتن الفازع التي تكتب باللهجة التونسيّة التي صارت رقمًا في النشر، وتُصرّح -وهي فعلا كذلك- بأنّها أكثر كاتب تونسيّ باع كتبا، والكاتبة الجزائريّة سارة ريفنس التي حقّقت رقما تاريخيّا في مبيعات كتبها، لم يحققه أي كاتب جزائري، ولكنّ الأخطر من كلّ هذا، وما لم أستسغه، ولن أقبله، أن يُدعى وُجهاءُ منصة أكس أو انستغرام أو التيك توك إلى معارض الكتاب، وأن يُصبحوا نجوم تلك المعارض، فهذا لعمري اعتداءٌ صارخ يئنُّ منه الكتاب ويألم.
وهذا فعلٌ يُمكن أن نتعقّله لو كان الفاعل في مواقع التواصل الاجتماعيّ محفِّزًا على قراءة الكتب، عاملاً على تنشيط أذهان متابعيه، غير أنّ العكس هو القائمُ، إذ إنَّ الفاعل في مواقع التواصل الاجتماعي، أجير عند شركات كبرى، تستعمله، بسببٍ من أرقام متابعيه للترويج لسلعها، ومن النكد النكود أنّه أصبح من وُجهاء الثقافة، هذه الثقافة التي طالما طمست وجوه مثقّفيها الأصليين. يُمكن أن أفهم حركةً مثل «بوك توك» وعميق أثرها على الفعل القرائيّ، وأنّها ساهمت في جعل الشباب يكتشفون «ميلهم الدفين إلى القراءة»، بالرغم من الآثار السلبيّة لهذه الحركة على جودة الكتب وعمق الكتاب، إذ أنشأت كُتّابًا على المقاس التيك توكي، ولكن ما هو دافعٌ إلى الخزي والعار، أن يدعو معرض للكتاب بائع سوائل تجميل، أو عارضة أكلاتِ مطاعم، أو كاشف حياته الأسريّة ليصير نجمًا في الكُتب. الكتابُ له رائحة الورق، له عبقُ التاريخ، له حميميّة لا يعرفها إلاَّ من سهر الليالي يتمعّن الصفحات، ويخطُّ الأسطر ويمحوها، ويتمثّل أبعادها وأورادها، ولم يكن الكتاب يوما في حاجة إلى لاعب كرةٍ أو عارضة أزياء، أو صاحب صوتٍ رنّان. الكتاب أصلٌ لا يفنى من بعد فناء أبطالِ الورق ودُعاة الأصداء.
محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الرقمی ة
إقرأ أيضاً:
الثقافة تختتم ملتقى أهل مصر لفتيات المحافظات الحدودية في الوادي الجديد
أقيم بمسرح سينما هيبس بمدينة الخارجة، حفل ختام الملتقى الثامن عشر لفنون المرأة والفتاة، ضمن مشروع "أهل مصر" المقام برعاية الدكتور أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة، ونظمته الهيئة العامة لقصور الثقافة، بإشراف الكاتب محمد ناصف، نائب رئيس الهيئة، بمحافظة الوادي الجديد، تحت شعار "يهمنا الإنسان".
شهد الختام ميرڤت حامد، مدير إدارة الفنون بالإدارة العامة لثقافة المرأة، مها رشدي، منسق فعاليات الإدارة، وماهر كامل، مدير قصر ثقافة موط، ولفيف من القيادات الثقافية والتنفيذية بالمحافظة وإعلاميين.
استهلت الفعاليات بتفقد معرض تضمن أعمالا مميزة نتاج الورش الفنية والحرفية التي نفذت خلال الأسبوع وهي: الأركت، الإكسسوارات، حقائب بالخرز، مشغولات بالشبك، والرسم بالرمال.
وأوضحت منسق فعاليات الإدارة أن الملتقى جاء بمثابة منصة للتواصل بين الفتيات والسيدات، وإظهار مواهبهم طيلة فترة إقامته، التي شهدت إبداعات مميزة تلقي الضوء على عمق التراث الثقافي المحلي، وابتكارات تعكس الطموحات والآمال المستقبلية. كما قدمت الشكر لكل من ساهم في إنجاح الفعاليات، مؤكدة استمرارها لدعم الهوية الثقافية وتمكين المرأة.
وأثنى مدير قصر ثقافة موط، على الأعمال المقدمة مبديا سعادته باستضافة الملتقى، بمحافظة الوادي الجديد التي أثبتت مكانتها كمنارة للإبداع والفن، مؤكدا أهمية دعم المرأة كشريك أساسي في التنمية.
ورش فنية لطلاب المدارس في احتفالات عيد الطفولة بثقافة الغربية| صور بعد واقعة تكسير الهرم.. رئيس اتحاد الآثاريين العرب: يجب محاسبة المسئول خبير آثار: مدينة طيبة القديمة تراث عالمي يجب الحفاظ عليه إطلاق كتاب «شوشا.. جوهرة أذربيجان» بالعربية في جناح الإيسيسكو بـ «كوب 29»|صور انطلاق أولى القوافل الثقافية لطلاب المدارس بالقليوبية احتفالا بأعياد الطفولة قصور الثقافة تصدر ديوان "خيول الوقت" للشاعر محمد السيد الوكيل ديوان "كبسولة فرغلي الزمنية".. جديد إصدارات هيئة قصور الثقافة قصور الثقافة تحتفل بعيد الطفولة مع أطفال "الخيالة" استمرار تصفيات دوري الثقافة لطلاب الأزهر بأسيوط الوقت المناسب لالتهام الشوكولاتة.. مجموعة قصصية لمها كمال النجار عن قصور الثقافة أمسيات ثقافية
ثم توالت فعاليات حفل الختام مع عرض فيلم تسجيلي قصير يوثق الورش الفنية والحرف التراثية، والأمسيات الثقافية، ودوائر الدعم النفسي، وكذلك الزيارات الميدانية للأماكن الأثرية ومنها معبد هيبس، مدينة القصر، ومدينة بلاط الإسلامية، وغيرها لإظهار مدى تأثير تلك الفعاليات في تعزيز الوعي الثقافي ودعم المشاركات.
وشهد الحفل عرضا فنيا نتاج ورشة الموسيقى للفنان سمير خاطر، قدمت الفتيات خلاله مقطوعات مستوحاة من التراث، تفاعل معها الجمهور.
أعقب ذلك تقديم نتاج ورشة الصحافة الحرة التي أشرف عليها الصحفي محمد خضر، قدمت خلالها المشاركات أبرز كتابتهن الصحفية، وحظيت تلك التجربة بإشادة من الحضور.
ونتاج ورشة التصوير الفوتوغرافي بقيادة الفنان طارق الصغير، قدمت المشاركات مجموعة من الصور المبدعة التي وثقت اللحظات اليومية التي حظين بها خلال الملتقى، من ورش وأمسيات ثقافية، بجانب صور تبرز المعالم الطبيعية والأثرية التي تزخر بها المحافظة.
واختتمت الفعاليات بعرض فني لفرقة الوادي الجديد للفنون الشعبية، قدمت خلاله مجموعة من الرقصات الفلكلورية المستوحاة من التراث منها "الخزام" و"النوبي"، مما أضفى أجواءً من البهجة بالمسرح، وذلك عقب تكريم المشاركين في الملتقى ومدربي الورش والإدارات المعاونة، وعدد من القيادات الثقافية.
فعاليات الملتقى أقامتها الإدارة العامة لثقافة المرأة، برئاسة د. دينا هويدي، ضمن برامج الإدارة المركزية للدراسات والبحوث، برئاسة د. حنان موسى رئيس اللجنة التنفيذية للمشروع، بالتعاون مع إقليم وسط الصعيد الثقافي، برئاسة ضياء مكاوي، وفرع ثقافة الوادي الجديد، برئاسة ابتسام عبد المريد.
وقدم الملتقى فعاليات ثقافية وفنية ثرية بجانب الورش الفنية والحرفية، وذلك بكل من مسرح هيبس، قصر ثقافة الخارجة وقصر ثقافة موط.
كما تضمن أيضا عددا من المحاضرات واللقاءات التثقيفية والتوعوية، وورش العمل والأمسيات الثقافية، بالإضافة إلى تنظيم زيارات ميدانية لأشهر الأماكن الأثرية والتاريخية بالمحافظة.
مشروع "أهل مصر" أحد أهم مشروعات وزارة الثقافة المقدمة لأبناء المحافظات الحدودية "المرأة والشباب والأطفال"، وينفذ ضمن البرنامج الرئاسي، الذى يهدف لتشكيل الوعى، وتعزيز قيم الانتماء والولاء للوطن ورعاية الموهوبين، وتحقيق العدالة الثقافية.