لجريدة عمان:
2024-09-19@06:43:09 GMT

ثقافة الأصداء

تاريخ النشر: 17th, September 2024 GMT

نشأنا على مصدرين أساسيين منهما كنَّا نُحصِّلُ ما نشتاقه من معارف وثقافة، المصدر الأوّل هو مكتبات الجهات العامّة، أو مكتبات الولايات، والمصدر الثاني هو المكتبة الوطنيّة في العاصمة، فجيلي هو جيلٌ ورقيٌّ، تعوّد على ملمس الأوراق والكتب، وشمِّ روائحها وتقليب صفحاتها، ولحدِّ اليوم، رغم هذا المدّ في سيادة الثقافة الرقميّة، ما زلنا نتطعَّم روائح الكتب القديمة، ونسعد للملمس الكتب، وتقليب صفحاتها.

ثقافتان تتعايشان اليوم، ثقافة الأعماق وثقافة الأصداء، ثقافةٌ آمنَّا بها، وما زلنا نؤمن بها، (ولعلِّي أجعلها ثقافة عمقٍ لأنّي أنتسب إليها، وقد يعتبرها غيري من جيل الثقافة الرقميّة، محض أوهام، وحنين رُكامٍ من البشر)، وهي الثقافةُ الكُتبيّة التي أعتبرها عميقة ومؤسِّسة وباعثةً لعقولٍ مُفكِّرة، ما زلنا نحتاج جهودها وعمق فكرها، وثقافةٌ رقميّة هامّةٌ ولها أدوارها وتيسير أدواتها، ولكنّها تبقى حمّالة أهواء، قد تفضي إلى معرفةٍ سطحيّة، وثقافةٍ شكليّة، ووعيٍ زائف، وحظُّ التزييف والتسطيح والوهم فيها وسيعٌ رحبٌ. أكتب هذا الأمر، وأنا على وعيٍ تامٍّ بضرورة مواكبة الثقافة الرقميّة، وإعمالها في شتّى المجالات والميادين، وأنا أيضا على درايةٍ بأنّها ضرورة تاريخيّة، وحتميّة اقتضاها الواقع، وهي حتميَّةٌ يُمكن أن تكون ناجعةً ومنتجةً، غير أنّنا نرى بعض الظواهِر الرقميّة المؤثّرة في أجيالٍ صاعدةٍ، قد تَعْدم مستقبلاً الصلة بالكتاب، وهو الأمر الجلل، والفعل الخَطر. أوّلا هنالك ظاهرةٌ صارت سائدة في مجتمعاتنا العربيّة، ولا قُدرة لنا أحيانًا على مجابهتها، ولا آليَّة لنا للوقوف ضدّها، ولا أدوات لنا لكشْفها وبيانها، وهي السَّرقات، والسّرق فعلٌ مذموم أخلاقيًّا، وأصْبَح داءً عُضَالاً علميًّا وثقافيًّا، ويسّرته الرقميّات بشكلٍ عجيب، واختلقت له من الأدوات ما يُخفيه وما يُجلِّيه، ما يكتُمه وما يفضحه، فسادت رسائل جامعيّة في مختلف المستويّات مسروقة، وعمّت بحوث ومقالات منقولة، والرقيبُ في حيرةٍ، قد تتجاوزه الرقمنة وقد يُحسن السّارق إخفاء مسروقه، فتُسند شهادات ورُتب علميّة لغير أهلها، ولأناس لا يستحقّون الحبر الذي كُتِبت به. وقد يعترض معترضٌ، ويحتجُّ محتجٌّ قائلا: إنَّ السّرق فعلٌ قديمٌ، وسلوكٌ عتيق، وقد ذمَّه الأقدمون وعابوه، ولا علاقة له بالرقمنة ولا بسيادتها، وهو قولٌ حقٌّ في جانبٍ، ففعل السّرقة قديم، ولكن وسائط التواصل ومواقع الويب ومختلف أشكال التطوّر الافتراضي للعالم، ورقمنة الكتب والمقالات والبحوث يسّرت أمر الأخذ وشجّعت على الإغارة والسّلب، فهل هذا ذنب التطوّر؟ حتمًا لا، وهو ذنب من لم يُحدث لهذه الذنوب حزمة من شديد العقوبات، وقوانين زجريّة، وثقافة في احترام الملكيّة الفكريّة، وتكوين الناشئة على تجريم الأخذ من الغير على غير وجه حقّ. الأمر الثاني الذي أراه خطرا في هذه العوالم الافتراضيّة، وهذه المساحات الكبرى من ثقافة الويب والنت ومختلف أشكالها ومظاهرها، هو بزوغ نجومٍ من ورقٍ، بلا عقولٍ ولا أفئدة، نجوم يستقطبون شبابًا ويستلبون الأضواء في المناسبات والمعارض، حتّى معارض الكتب والفنون، وهم الأوهن، والأضعف، لا منزلة لهم، سوى جمهور وسيع يُتابعهم لعلَّةٍ من العلل، حُسن طالعٍ، أو قدرة على المزاح والسخريّة، أو جرأة ومخالفة للمعهود، أو أحيانا بلا علّة ولا سبب.

عدد المتابعين على صفحات التواصل الاجتماعيّ صار قياسا، لا يعنيني إن صار قياسًا للشهرة، فدومًا كانت الشهرة متأتيّة من مسالك سطحيّة وساذجة، ولكن الذي يعنيني أنّ عدد المتابعين صار قياسًا للمقروئيّة، فخذ مثالاً على ذلك الكاتبة التونسية فاتن الفازع التي تكتب باللهجة التونسيّة التي صارت رقمًا في النشر، وتُصرّح -وهي فعلا كذلك- بأنّها أكثر كاتب تونسيّ باع كتبا، والكاتبة الجزائريّة سارة ريفنس التي حقّقت رقما تاريخيّا في مبيعات كتبها، لم يحققه أي كاتب جزائري، ولكنّ الأخطر من كلّ هذا، وما لم أستسغه، ولن أقبله، أن يُدعى وُجهاءُ منصة أكس أو انستغرام أو التيك توك إلى معارض الكتاب، وأن يُصبحوا نجوم تلك المعارض، فهذا لعمري اعتداءٌ صارخ يئنُّ منه الكتاب ويألم.

وهذا فعلٌ يُمكن أن نتعقّله لو كان الفاعل في مواقع التواصل الاجتماعيّ محفِّزًا على قراءة الكتب، عاملاً على تنشيط أذهان متابعيه، غير أنّ العكس هو القائمُ، إذ إنَّ الفاعل في مواقع التواصل الاجتماعي، أجير عند شركات كبرى، تستعمله، بسببٍ من أرقام متابعيه للترويج لسلعها، ومن النكد النكود أنّه أصبح من وُجهاء الثقافة، هذه الثقافة التي طالما طمست وجوه مثقّفيها الأصليين. يُمكن أن أفهم حركةً مثل «بوك توك» وعميق أثرها على الفعل القرائيّ، وأنّها ساهمت في جعل الشباب يكتشفون «ميلهم الدفين إلى القراءة»، بالرغم من الآثار السلبيّة لهذه الحركة على جودة الكتب وعمق الكتاب، إذ أنشأت كُتّابًا على المقاس التيك توكي، ولكن ما هو دافعٌ إلى الخزي والعار، أن يدعو معرض للكتاب بائع سوائل تجميل، أو عارضة أكلاتِ مطاعم، أو كاشف حياته الأسريّة ليصير نجمًا في الكُتب. الكتابُ له رائحة الورق، له عبقُ التاريخ، له حميميّة لا يعرفها إلاَّ من سهر الليالي يتمعّن الصفحات، ويخطُّ الأسطر ويمحوها، ويتمثّل أبعادها وأورادها، ولم يكن الكتاب يوما في حاجة إلى لاعب كرةٍ أو عارضة أزياء، أو صاحب صوتٍ رنّان. الكتاب أصلٌ لا يفنى من بعد فناء أبطالِ الورق ودُعاة الأصداء.

محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الرقمی ة

إقرأ أيضاً:

حزب الكتاب ينقل أحداث الفنيدق إلى البرلمان ويطالب بكشف حقيقة الصور المتداولة

أخبارنا المغربية - عبدالاله بوسحابة

وجه "رشيد حموني"، رئيس فريق التقدم والاشتراكية طلبا (سؤالا كتابيا) إلى رئيس لجنة الداخلية والجماعات الترابية والسكنى وسياسة المدينة والشؤون الإدارية بمجلس النواب، دعا من خلاله إلى ضرورة عقد اجتماع يروم تدارس ما اعتبره "خلفيات وحيثيات ووقائع محاولات الإقدام على هجرة جماعية غير نظامي".

ووفق ما جاء في نص السؤال الكتابي، فقد أشار "حموني" إلى أن: "الرأي العام تابع، من خلال الإعلام الوطني ووسائل التواصل الاجتماعي، محاولاتٍ للإقدام على هجرة جماعية مكثفة وغير مشروعة نحو سبتة المحتلة، لمئات القاصرين والشباب إما من خلال السباحة أو عبر محاولات اقتحام المعبر الحدودي.

في ذات السياق، أوضح برلماني "الكتاب" أن العملية جاءت في أعقاب تداول منشورات ومحتوياتٍ رقمية محرِّضَة على الهجرة الجماعية"، مشيرا إلى أن السلطات المغربية سعت نحو التعامل معه وفق واجباتها المهنية وبشكلٍ يترجم التزامات بلادنا بخصوص الهجرة غير النظامية"، وفق تعبيره.

وتساءل ذات المتحدث عن صور راجت عبر مواقع التواصل الاجتماعي تزامنا مع أحداث الفنيدق، مشيرا إلى أن: "هذه الصور قد تكون لها علاقة بالموضوع وتُجهَلُ لحد الآن حيثياتها وموثوقيتها، لكنها تلحق ضرراً بليغاً بسمعة بلادنا وبمجهوداتها على أكثر من صعيد".

في سياق متصل، قال "حموني": "نعتقد أنه من الضروري فتحُ نقاش الحكومة مع ممثلي الأمة، من أجل تبديد كل الالتباسات المحيطة بهذه الوقائع، وتفسير خلفيات وحيثيات هذه الأحداث وما يُرافقها من تضارب القراءات والتأويلات، وكذا من أجل تدارس المؤسستين التنفيذية والتشريعية، بغض النظر عن احتمالات افتعال وقائع أو أحداث بعينها، للعوامل الكامنة وراء استجابة شباب وقاصرين لنداءات مشبوهة من أجل الهجرة الجماعية وغير المشروعة، ولا سيما من حيث السياسات العمومية المفترض أن توجه لإخراج ملايين الشباب من وضعيات اجتماعية مقلقة، وأيضا من أجل تدارس كيفيات تعامل سلطات بلادنا مع مثل هذه الأحداث، إن على المستوى الاستباقي أو على صعيد المعالجة البَعدية، سياسيا وتواصليا وقانونيا وتنمويا وأمنيا"، وفق تعبيره.

مقالات مشابهة

  • حزب الكتاب ينقل أحداث الفنيدق إلى البرلمان ويطالب بكشف حقيقة الصور المتداولة
  • اصحاب البصيرة بالعريش تكرم ثقافة شمال سيناء
  • أنشطة متنوعة لقصور الثقافة بأسوان ضمن فعاليات مبادرة "بداية"
  • «وعي وثقافة وصحة وتعليم».. أهداف المبادرة الرئاسية «بداية جديدة لبناء الإنسان»
  • احتفالاً بالمولد النبوي.. لقاءات تثقيفية وعروض فنية لقصور الثقافة بالبحر الأحمر
  • غدا.. قصور الثقافة تقدم أوبريت «بداية جديدة» على مسرح روض الفرج
  • قصور الثقافة تقدم أوبريت «بداية جديدة» على مسرح روض الفرج غدا
  • ثقافة وسياحة أبوظبي تفوز بالجائزة الذهبية للمسؤولية المجتمعية 2024
  • الحرب على غزة مستمرة.. ولكن!