مهرجان المسرح الخليجي والعالمية
تاريخ النشر: 17th, September 2024 GMT
عاد مهرجان المسرح الخليجي في دورته الرابعة عشرة المقامة في الرياض للمرة الأولى في الفترة من 10 إلى 18 سبتمبر بعد انتظار طال لمدة عشر سنوات. سأل المسرحيون: لماذا طال هذا الغياب؟ تقدم العالم بمخترعاته وتقنياته وكذلك تقدمت أساليب العرض المسرحي في عالم أخذ يكتشف مؤخرًا أنه غير راض في المطلق عن الإقامة فيه.
حصلت أحداث كثيرة في العالم تأثر بها المسرح لعل أهمها وأخطرها وأشرّها كان وباء كوفيد 19 الذي تسبب في تعطيل الحياة من النواحي جميعها. أدى ذلك إلى التفكير بالتقنية وخدمتها في المسرح. ظهر ما أطلق عليه الميتافيرس والذكاء الاصطناعي ليطرح سؤالا حول إمكانية الاستفادة منهما في الفن المسرحي. سأل المسرحيون أنفسهم: ما الذي سوف يتأثر أكثر من المسرح بهذه التقنية في العالم؟ ما الفائدة التي سيستفيد منها المسرحيون من استثمار الذكاء الاصطناعي في تطور العرض المسرحي وجمالياته؟ هل سيضحى بالنصّ ومؤلفه لتتجدد صيحات موت المؤلف التي تُفهم مع الأسف الشديد في سياقات متناقضة؟ هل سيختفي الممثل ليحل محله الروبوت؟ هل سيتوارى الناقد ليقبع في بيته وأمامه شاشة زرقاء يتفرج منها على العروض ليكتب مداخلته المتخيلة عن العرض المسرحي؟ هل سيُخلق جمهور جديد من شرائح اجتماعية مختلفة، أو يُستعان بكائنات خرافية تتناسخ عن بعضها بعضًا أو آلات ميكانيكية كالدمى لتجسّد أدوار الجمهور، وتلتقط أنفاسهم وصيحاتهم وتصفيقهم أو امتعاضهم وردود أفعالهم المتباينة تجاه العرض في حال أعجبهم وراقهم أو لم يُعجبهم؟
إن تفكير مسرحنا بالعالمية ليس صبغة جديدة أو صيحة يمكن ترديدها في الملتقيات والمحافل الدولية وجلسات احتساء فناجين القهوة. إن كل مبدع يفكر بالعالمية. المؤلف والممثل والمخرج والموسيقي والتقني والفنان المسرحي والسينمائي وفنان الدمى وفن العرائس وصانع اللدائن الدقيقة جدًا يفكرون جميعهم بالعالمية كلٌّ من موقعه واشتغاله. ينبع تعريف العالمية من منطلقات عدة هي: وجود تراث ثقافي متجذر يتسم بالقدرة على التفاعل لا الجمود والتصلب أو التخشب نحو استقبال كل ما هو جديد. ويدخل في الثقافة كل ما يتصل بالتراث المادي واللامادي كاللباس والطعام والموسيقى ومرجعيات السرد الكبرى واللغة. لا يقف الحال عند تفاعل التراث المادي واللامادي مع الجديد، بل يتطور إلى قدرته على الانتقال عبر العالم مع الأفراد وحكاياتهم. يذكرني هذا بعناصر الحكاية الشعبية التي وضعها الباحث الروسي في دراسات الفلكلور (فلاديمير بروب 1895م- 1970م) وعددها ثلاثة وثلاثون عنصرًا سرديًا.
إن التراث إذا طبقنا عليه عناصر وظائف الحكايات الشعبية لا ينتقل بمكوناته بين الحضارات إلا إذا كان يمتلك خصائص معينةً وقيمًا إنسانيةً واعية يكون لها صداها لدى الشعوب التي تستقبلها وأهمها قيم الحرية الفكرية والعدالة الاجتماعية واحترام كرامة الإنسان، بالإضافة إلى توفر القيم الروحية المنسجمة مع آدمية الإنسان التي ترفع من الوجود الإنساني في العالم كله.
هذا حسب تقديري في الواقع هو ما يجعل السرد الأدبي ممثلا في الرواية أن تكون عملًا فنيًا عابرًا للحدود، ويمكن القياس أيضا على الموسيقى والشعر وفن المسرح الذي إذا شاهد متفرج في أي بقعة من الجغرافيا منزوية في العالم عرضًا يدور عن الحرب والاضطهاد لاستطاع التأثر بها في بقعة فيها سلام وأمن وأمان، دون أن تكون البقعة الجغرافية التي ينتمي إليها تتعرض للحرب. إن امتلاك الفن لعناصر العاطفة والتعاطف والشفقة هي ما تجعله قادرا على اختراق المحرمات والمحاذير التي تتفنن الرقابة في وضعها وتطويرها عبر آلاف السنين.
بالطبع إن الظهور الجارف للعولمة قد أثر في سياسات الثقافة والاقتصاد في العالم كله. والجانب الخطير من العولمة يتمثل في تحويل الجغرافيا والتراث المحلي إلى أرقام بجانبها أصفار. كلما زادت الأصفار ارتفع سعر الرقم في سُلّم التقسيمات العالمية للشعوب وتراثها وثقافتها. لا تملك السياسات في العالم إلغاء العولمة أو تجاهلها أو تأجيل تقدمها؛ لأن العالم كله يعيش في عالم عبر الاتصالات والتقنيات وحرب المعلومات وتبادل المعارف والأسلحة. لكن سياسيات الشعوب باستطاعتها مواجهة العولمة عبر تخطيط سلسلة من البرامج الثقافية بين الجهات الرسمية في كل دولة. ويعد الفن المسرحي الفن الأكثر قدرة على احتواء الفنون الأخرى وهضمها وتشكيلها، ولكن بشرط أن يملك الكاتب والمخرج والفرقة رؤية فنية عالية تستوعب تداخل الثقافات في الفنون المحلية وغير المحلية.
قرأت جملة تُنسب إلى الرئيس الراحل غاندي تقول: «يجب أن أفتح نوافذ بيتي لكي تهب عليه رياح الثقافات كلها، بشرط ألا تقتلعني من جذوري». دلالات الجذور في جملة غاندي معانيها كثيرة، وتصب جلّها في معاني الأصول. ومن هنا فالعالمية بهذا المعنى ليست حكرا على شعب دون غيره. فلكل شعب ثقافته الأصيلة التي ينتسب إليها، ولا يملك إزاءها موقفا واضحا أو قاطعا. إذ يحتاج المرء أن يكون منتميا إلى عائلة ما، ينمو ويترعرع داخلها كما النبات.
في الكلمة التي ألقاها سلطان البازعي، الرئيس التنفيذي لهيئة المسرح والفنون الأدائية أكد نقاطا تتصل بحاضر المسرح الخليجي العربي والتوجه نحو العالمية، استوقفني فيها التالي: أولا: «الدعم اللامحدود من قبل القيادة الرشيدة -أيدها الله تعالى- لوجود مسرح مستدام يحافظ على الأصالة، ويعزز الثقافة ويحيي التراث». ثانيا: «اعتبار المهرجان منصة حيوية دورية يتبادل فيها المبدعون والفنانون الخبرات والمعارف، بما يؤسس لبناء جيل جديد من المسرحيين الخليجيين المحترفين». ثالثا وأخيرا: «نحن في المملكة ماضون في التزامنا بدعم الحركة الثقافية والفنية في الخليج والمنطقة العربية وترسيخ مكانة الخليج باعتباره مركز إشعاع ثقافي وفني».
الناظر إلى تضافر النقاط الثلاث واتصالها مع بعضها بعضًا يحدوه الأمل في أن مفردة (العالمية) باتت تشكّل تحديا كبيرا للمسرح الخليجي شأنها شأن الحداثة التي تقتلنا وآن أوان التصدي لها، وأبرز جوانب العولمة تتجلى تأثيراتها على الثقافة والهوية. إن الانفتاح على الثقافات كما قال غاندي يجب أن لا يجعلنا نعيش في جغرافيا لا نشعر بالانتماء إليها. ولا لغة نتكلمها ونخجل منها، ولا لباسًا نلبسه في النهار لنتوارى عنه في الليل، ولا موسيقى عالمية نصفق لها وألحانا تراثية نمجها وننفر منها! هكذا تتجلى خصائص العولمة. أما في الفن، فالمسرح -أبو الفنون، الشاهد على الفنون جميعها- يحتاج إلى تفعيل الخطط التي تجعله موجودا في حياتنا المعيشية. قُدمت في مهرجان المسرح الخليجي عروض مسرحية لامست تراثنا وهويتنا ومكوننا المشترك؛ اللغة والدين والكرم والنخوة، وهي قواسم أكد وجودها المؤلفون والمخرجون والممثلون والفنيون. إن ما شاهدته من عروض مسرحية اتسمت بالحيوية والتجريب واللجوء إلى استثمار التراث والفلكلور يمكن أن تنطبق عليها عناصر الحكاية الثابتة للسرد. عبَّرت العروض في المجمل عن شعور كتابها بالأصالة والمعاصرة، ونشأت الحاجة إلى دمجهما بسبب ما يتعرّض له الإنسان اليوم من إرهاب ومحاولات لطمس هويته وقتل فعل المقاومة في داخله وتحويله في نهاية الأمر إلى سلعة أو حلية تزيينية في المتحف للفرجة! كذلك تجلت في بعض العروض صرخات حادة من التراث التكفيري الذي يجثم على القلوب ونداءات للتنوير والخروج إلى النهار وإعلان انتصار الحب، والغاية من تقديم تلك المعالجات للتراث جعل خشبة المهرجان منصة حيوية لبناء الحوار بين الأجيال، بحيث لا تزيد الفجوة وتتسع، ولا تتمركز مفاهيم العلاقة مع الغرب المنفتح على العالم حول جرّنا إلى ثنائية الشرق والغرب، أو الشمال والجنوب. إن المسرحيين الخليجيين يملكون طاقات كبيرة تؤهلهم الدخول إلى العالمية منطلقين من محليتهم ولهجاتهم والجيد من تراثهم دون التشبث بعناصر حضارة الحداثة المُربكة، وأن ذلك لن يأتي إلا باحترام الحرية والاختلاف والابتعاد عن السلبيات وتشجيع روح العمل المنظم، عندئذ سنرى مبدعينا من المسرحيين والفنانين يتبادلون المعارف بينهم، بما يعزز الترابط بين مهرجانات المسرح في الخليج وتكاملها فيما بينها لتكون أكثر مهرجانات في المنطقة منارة مشعة للتنوير في العالم.
آمنة الربيع باحثة أكاديمية متخصصة في شؤون المسرح
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المسرح الخلیجی فی العالم
إقرأ أيضاً:
دبي.. اختتام مهرجان "إكسبو 971 التراثي والحرفي" وسط إقبال واسع
اختتم، اليوم الأحد، مهرجان "إكسبو 971 التراثي والحرفي"، الذي نظمه رُواق عوشة بنت حسين الثقافي في حديقة مشرف في دبي، تحت شعار "التراث هويتنا"، وذلك تزامناً مع يوم العَلم برعاية صندوق الفرجان، المشروع المجتمعي، الذي يستهدف تمويل الأفكار والمشاريع التطويرية والمجتمعية في الأحياء السكنية.
وشهد المهرجان، الذي استمر ثلاثة أيام، إقبالاً واسعاً من جميع فئات المجتمع للاستمتاع بالأجواء التراثية الغنية والفعاليات المتنوعة وورش العمل التفاعلية، مما يعكس حرص المجتمع على الحفاظ على التراث الإماراتي الأصيل.
وتضمن "مهرجان إكسبو 971 التراثي والحرفي" مجموعة من الأنشطة التي هدفت إلى ترسيخ الهوية الوطنية وغرس حب الوطن في نفوس الأبناء من خلال تسليط الضوء على التراث الوطني والحرف التقليدية، إضافة إلى انتقال المعرفة والمهارات الخاصة بالتراث عبر الأجيال، وتعزيز السياحة الثقافية عبر جذب الزوار من مختلف أنحاء العالم لاستكشاف غنى وتنوع الثقافة الإماراتية، ودعم الحرفيين من خلال توفير منصة لهم لعرض مهاراتهم وبيع منتجاتهم. ثقافة وتراث واحتضن المهرجان أمسيات شعرية شارك فيها الشعراء حميد الدرعي، والمر محمد المري، وسلمان بن حامد التميمي، الذين ألقوا قصائد تناولت مواضيع مختلفة تعكس الثقافة والتراث الإماراتي ومواضيع تعزز الهوية الوطنية ومثلت هذه الأمسيات فرصة للجمهور للاستمتاع بالأداء الشعري المباشر والتفاعل مع الشعراء.
وشهد المهرجان عروضاً للرقصات الشعبية الإماراتية، التي تمثل جزءاً أصيلاً من ثقافة الدولة، إضافة إلى فقرات فنية غنائية قدمتها فرق محلية واحتفت بالموروث الإماراتي وجسدت القيم والعادات التي كانت جزءاً من الحياة اليومية في الماضي.
واستقطب السوق الشعبي في المهرجان، الذي ضم 50 خيمة تراثية للأسر المنتجة الإماراتية وأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة، أعداداً كبيرة من الزوار الذين حرصوا على التوافد إليه للاستمتاع بمعروضاته التي تنوعت بين الدخون والعطور والإكسسوارات التراثية، والمنتجات المصنوعة من الخوص، فضلاً عن الملابس التراثية للرجال والنساء والأطفال.
ويهدف السوق الشعبي إلى تمكين الأسر المنتجة من عرض منتجاتها التراثية والحرفية والتعريف بها لجمهور واسع، وذلك ضمن جهود صندوق الفرجان في تشجيع هذه المشاريع ودعمها، خصوصاً في المجالات التي تسهم في الحفاظ على التراث الثقافي.
فنون جميلة وتضمن المهرجان معرضاً فنياً ضم لوحات تعكس التراث الإماراتي بريشة فنانين تشكيليين محليين أسهموا من خلال أعمالهم في إظهار جوانب مختلفة منه، سواء من خلال تصوير البيئات التقليدية مثل الصحاري والبحار، أو من خلال إبراز العناصر التراثية التي تعكس الحياة اليومية في الماضي.
واشتمل المهرجان على معرض للمهن والحرف التراثية، ضم عدداً من المهنيين والحرفيين الذين عرضوا مجموعة من الحرف التقليدية مثل صناعة الخوص والسيوف والخناجر وعمل الوسم والتلي وقلد الحبال وغزل الصوف وقرض البراقع وصناعة الشباك البحرية والفخار وغيرها من الصناعات التقليدية العريقة.
وشكل المعرض فرصة للزوار للاستمتاع بالعروض الحرفية المباشرة التي تُظهر الأدوات والأساليب التقليدية المستخدمة لابتكار مجموعة من المصنوعات اليدوية الإماراتية.
ويهدف المعرض إلى نشر ثقافة الحرف التراثية بين جميع شرائح المجتمع وتسليط الضوء على أهمية هذه الحرف ودورها في تشكيل هوية الإمارات على مر العصور.
ونظم "مهرجان إكسبو 971 التراثي والحرفي" معرضاً لأصحاب الهمم لعرض أعمالهم من منتجات تراثية ولوحات تشكيلية، ويُعد دعم أصحاب الهمم جزءاً من التزامه عبر إتاحة الفرصة للجميع للمشاركة في الحفاظ على التراث الثقافي.
مسابقات متنوعة واستمتع زوار المهرجان بعروض الطهي الحية وتذوق مجموعة من المأكولات الشعبية الإماراتية التي تتميز بتنوع أصنافها واعتمادها بشكل رئيس على المكونات المحلية، فضلاً عن مذاقها الشهي ورائحتها الزكية، إضافة إلى التعرف على طرق إعدادها بما يسهم في تعزيز انتشارها بين الأجيال.
وتضمن المهرجان مسابقات تراثية للحضور هدفت إلى تعزيز الوعي بأهمية الحفاظ على التراث ونقله إلى الأجيال المقبلة وجذبت الأسر والأفراد من مختلف الأعمار، ما أضفى أجواءً حيوية على المهرجان وعززت من روح المنافسة الإيجابية. احتفاء بيوم العلم وتزامناً مع يوم العَلم، نظم "مهرجان إكسبو 971 التراثي والحرفي" احتفالية لرفع علم الإمارات شارك فيها الزوار والمشاركون في المهرجان، بهدف ترسيخ قيمة العلم في نفوس الأجيال، وذلك وسط أجواء وطنية جسدت صورة ناصعة ومشرّفة عن أسمى معاني الولاء للقيادة والانتماء للوطن الغالي.
وأكد الجميع أن هذه المناسبة الوطنية الغالية تمثل فرصة للاحتفاء برمز وحدتنا وهويتنا الوطنية.
يُذكر أن "صندوق الفرجان" أحد مبادرات اللجنة العليا للتنمية وشؤون المواطنين، التي تستهدف الارتقاء بجودة حياة المواطنين، وتمويل الأفكار والمشاريع التطويرية والمجتمعية في الأحياء السكنية والتي يديرها المواطنون، وتنفيذ برامج تعزز الاستقرار الأُسَريّ، وتخلق تجربة مجتمعية متميزة لحياة المواطنين في فرجانهم.