الخطف بمناطق سيطرة النظام السوري.. عصابات عدة وظاهرة لها شقان
تاريخ النشر: 17th, September 2024 GMT
لم تعد عمليات الخطف مقابل الفدية في مناطق سيطرة النظام السوري ضمن نطاق "الحوادث الفردية" كما تشير إليه قصص مواطنين من الداخل والخارج، بل أصبحت "ظاهرة مخيفة ومألوفة"، ويرى مراقبون وخبراء تحدث إليهم موقع "الحرة" أن "لها شقين وقطاعات".
وقبل أيام أعلن العراق عن تحرير أحد مواطنيه، ويدعى أبو الحسن حميد مساعد، بعد أن اختطف في مدينة حمص السورية، وجاء ذلك بالتزامن مع إعلان الأردن استعادة مواطنين اثنين كانا اختطفا لأكثر من أسبوع، من قبل جهة لم تحدد هويتها في جنوب سوريا.
وبينما كانت الأنظار تتجه إلى التفاصيل المتعلقة بهاتين الحادثتين من العراق والأردن، سرعان ما انحرفت باتجاه لبنان بعد نشر وسائل إعلام لبنانية، الاثنين، تفاصيل "فخ جديد من الخطف" وقع فيه الشاب أسامة أحمد تركي العبيد، وهو من سكان منطقة وادي خالد.
ولا يعرف حتى الآن مصير العبيد، وبعد تسريب صور له وهو مكبّل اليدين وعليه آثار التعذيب نفذت عائلته وقفة احتجاجية على الطريق الدولية عند معبر البقيعة-تلكلخ الحدودي بين سوريا ولبنان.
وطالبوا في تسجيل مصور، نشرته صحيفة "النهار"، بمعرفة مصير ابنهم، وناشدوا السلطات اللبنانية للتحرك فورا حرصا على سلامته ولتأمين فك أسره، كما أشاروا في الوقت ذاته إلى أن "الخاطفين يطالبون بفدية قيمتها 400 ألف دولار".
وتشير إحصائية نشرها "المرصد السوري لحقوق الإنسان"، قبل أيام، إلى أن مناطق سيطرة النظام السوري شهدت منذ بداية العام الحالي 223 حالة اختطاف، كان جزء من ضحاياها نساء وأطفال.
ويرد في الإحصائية أيضا أن الحالات لم تقتصر على مدينة دون غيرها، لكنها تركزت على نحو أكبر في مدينة حمص وسط البلاد، فيما حصل قسم آخر على مدى الأشهر الماضية في درعا والسويداء وطرطوس.
"الظاهرة لها شقّان وقطاعات"
محمد إبراهيم أحد السوريين الذين عايشوا إحدى حالات الخطف المذكورة التي وثقها "المرصد"، استهدفت قبل ستة أشهر اثنين من أقاربه.
وبينما نجا الأول بعد دفع مبلغ مالي طائل بالدولار الأميركي (50 ألف دولار) لم يسعف الحظ قريبه الآخر، وهو الذي يزيد عمره عن 60 عاما.
وينحدر إبراهيم من إحدى القرى الواقعة في ريف حماة الغربي (فضّل عدم ذكر اسمها لاعتبارات أمنية)، ويوضح لموقع "الحرة" أن حادثتي خطف قريبيه الاثنين لم يفصل بينهما سوى ستة أشهر.
القريب الأول عمّه، والثاني ابن عمته، ويقول إبراهيم إن الأول أطلق سراحه بعد أيام من "بازار فتحه الخاطفون (مفاوضات مالية)"، ووصل في آخر محطاته إلى حد دفع المبلغ المحدد بالدولار (أو كما سمي بالمعلوم) إلى إحدى الميليشيات المسلحة في منطقة مصياف.
ورغم أن ذات العملية انطبقت على ابن عمته الستيني، وعلى صعيد دفع المبلغ المالي لم يصل عنه أي خبر حتى الآن، و"ربما بات في عداد الأموات"، على حد تعبير إبراهيم.
الشاب يشير إلى أن مناطق ريف حماة الغربي "مغطاة أمنيا"، أي تحظى بانتشار أمني من جانب التشكيلات التابعة للنظام السوري، وعلى وجه الخصوص من "قوات النمر" سابقا، التي تعرف حاليا بـ"الفرقة 25".
ويعتقد أنه في هذه المنطقة "تجري عمليات الخطف ضمن إطار (القطاعات). بمعنى أن ذوي الضحية، في حال أرادوا تحريره يجب أن يتواصلوا وينسقوا مع التشكيل الأمني المسيطر هناك للوصول إلى الخاطفين، أو الدخول في البازار الذي يفتحونه".
"الأمر قطاعات.. ومثل أي بزنس في البلاد.. وكل قطاع خاص بتشكيل وميليشيا عسكرية معينة"، وفق وصف الشاب للظاهرة القائمة.
ومن جانبه يوضح مدير "المرصد السوري"، رامي عبد الرحمن، أن ظاهرة الخطف في سوريا حيث يسيطر النظام السوري لها "شقّان"، وأن جزءاً منها "مرتبط بفلتان أمني منظم وآخر غير منظم".
كما يقول عبد الرحمن لموقع "الحرة" إنها لم تعد تقتصر على المرتبطين بالمخابرات والأجهزة الأمنية، بل باتت "حالة موجودة في مناطق عدة، ويشترك الأمن ببعض منها".
ونادرا ما يعلّق النظام السوري على حالة التصاعد في عمليات الخطف ضمن مناطق سيطرته.
لكن، وفيما يتعلق بتحرير الشاب العراقي والمواطنين الأردنيين، كانت الرواية الرسمية في كل من بغداد وعمّان تذهب باتجاه أن عملية استعادتهم تمت "بالتنسيق مع السلطات السورية".
وفي غضون ذلك ذكرت وسائل إعلام سورية، بينها صحيفة "عنب بلدي"، أن عملية تحرير المواطنين الأردنيين تمت بشكل أساسي من جانب "اللواء الثامن"، وهو فصيل مدعوم من روسيا، كان سابقا ضمن تشكيلات المعارضة السورية.
"مناطق خطيرة وأخطر"
ويسيطر النظام السوري على مناطق واسعة من الجغرافيا السورية. ويشمل ذلك محافظات كبيرة بعينها، مثل حمص ودمشق ودرعا وحماة، إضافة إلى المناطق الساحلية التي لم تسلم خلال الأشهر الماضية من عمليات الخطف أيضا.
ويأتي تصاعد "الخطف لقاء الفدية" بعد توقف نسبي للعمليات العسكرية على الأرض، التي تخللها في السابق عمليات نهب وسرقة، وثقتها مراكز حقوقية بينها "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" و"المرصد السوري".
ويعتقد خبراء تحدثوا لموقع "الحرة" أن توقف العمليات العسكرية ربما تكون جزءا من الأسباب التي تدفع عناصر الميليشيات والعصابات للتوجه نحو "مورد مالي جديد".
ويشير إلى ذلك مدير "المرصد السوري"، مؤكدا من جانب آخر حالة "القطاعات" التي تحدث عنها الشاب إبراهيم.
ويستند عبد الرحمن، في حديثه، على حيثيات المشهد الحاصل في حمص، حيث تتركز معظم عمليات الخطف قرب الحدود مع لبنان، وضمن مناطق نفوذ "الفرقة الرابعة".
ويقول: "ظاهرة الخطف مقابل المال أصبحت "مخيفة"، والأخطر فيها عند الحدود السورية-اللبنانية"، ويضيف أن "العصابات المسؤولة عن ذلك، المرتبطة بالمخابرات، لا تمضي مهمتها باتجاه الدفاع عن أمن النظام.. بل من أجل الحصول على الأموال".
ويشير واقع الحال في سوريا إلى أن "معظم عوامل نمو الجريمة وانتشارها باتت موجودة"، وفقا لحديث الكاتب والناشط السياسي السوري، حسن النيفي.
وعلاوة على ذلك يضيف لموقع "الحرة" أنه "ثمة مناخ خصب لانتشار العديد من نماذج السلوك المنافي للإنسانية والأخلاق، بل الذي يهدد حياة البشر في الصميم".
ويعتبر النيفي أن العصابات القائمة على عمليات الخطف "ليست بعيدة من القوى المتسلطة على البلاد".
ويعني الناشط السياسي بذلك "معظم الكيانات العسكرية، سواء ما ينتمي منها إلى جيش النظام أو الميليشيات الطائفية الإيرانية أو مشتقاتها، ممن تنتشر بكثرة في جميع مرافق البلاد".
ومن جانبه لا يرى الأكاديمي السوري الناشط السياسي، فايز قنطار، أي غرابة في وصول عمليات الخطف منذ بداية العام الحالي، إلى أكثر من 200 عملية.
ويربط ما سبق بفكرة تتعلق "بوجود رعاية من قبل النظام والعصابات المرتبطة به، بغرض الحصول على المال".
كما يضيف قنطار لموقع "الحرة" أن "النظام عاجز عن تلبية الطلبات الأساسية للنواة الصلبة التي تحميه، وعلى أساس ذلك يطلق لها العنان لها للسلب وابتزاز المواطنين".
"مجتمع مفكك"
وباتت السمة الأبرز لحوادث الخطف ترتبط بشكل أساسي بالحصول على الفدية المالية، التي تقدّر في معظمها بآلاف الدولارات.
وليس ذلك فحسب، بل توسعت الدائرة في مناطق سيطرة النظام السوري خلال الأشهر الماضية لتصل إلى حد تفشي السرقات على نحو كبير، وهو ما أكدته وزارة الداخلية السورية لأكثر من مرة، متحدثة عن ممارسات طالت "مقدرات الدولة".
وتستهدف السرقات ممتلكات الناس ومحاصيلهم الزراعية، وهو ما يشير إليه الشاب عبد الحميد القاسم المقيم في مدينة حمص.
ويقول الشاب لموقع "الحرة" إن ما سبق دفع الكثير من العائلات لاتخاذ قرار "التسلح الفردي"، في محاولة منهم لحماية أرزاقهم، أو لدرء خطر الخطف مقابل الفدية أو التشليح.
ويعاقب القانون السوري مرتكبي الخطف بقصد طلب الفدية، واستعمال العنف بالسجن 10 سنوات، وغرامة ضعف الفدية المطلوبة، ويحكم بالحد الأقصى على مرتكبيه، وهو 20 سنة.
ونص المرسوم التشريعي 20 لعام 2013 على أنه إذا كان المخطوف طفلا، وطُلبت الفدية مقابل إطلاق سراحه، فإن العقوبة ستكون الأشغال الشاقة المؤبدة، وتصبح العقوبة الإعدام إذا نجم عن جريمة الخطف تلك وفاة المختطف (الضحية) أو حدثت له عاهة دائمة.
وأضاف التشريع السوري نصا خاصا بالخطف بقصد تحقيق مآرب سياسية، أو مادية، أو بقصد الثأر، والانتقام أو لأسباب طائفية، أو الاعتداء الجنسي على المجني عليه، بحسب تقرير سابق لـ"المرصد السوري".
وتكون عقوبة الخطف لتلك الأغراض إما المؤبد، "سواء أكان المخطوف طفلا أم بالغا".
ومع ذلك لا يزال النص القانوني المذكور بعيدا عن التطبيق، وفق مراقبين.
ومن ناحية أخرى يعتقد الناشط السياسي النيفي أن "جرائم الخطف نتيجة طبيعية لسيرورة نظام هو من أسس للجريمة في البلاد".
ويضيف الأكاديمي السوري قنطار أن "الأحداث الحاصلة أصبحت تشكل استراتيجية للنظام السوري لإبقاء المجتمع في حالة تفكك وانشغال".
وتخدم تلك الاستراتيجية "المشروع الإيراني للضغط على المجتمع، من أجل دفع أبنائه إلى الهجرة ومغادرة البلاد"، وفق قنطار.
كما يرى الأكاديمي السوري أن "الفوضى التي ترعاها أجهزة الأمن وتستفيد منها ماليا وتعتاش عليها في جانب كبير أصبحت تخدم سياسة النظام وإيران في هذه المرحلة".
ويتابع أن "النظام بعدما كان في البداية عصابة واحدة تحول الآن إلى عصابات متعددة ومتنافسة تتلاعب بمصير السوريين والمجتمع السوري وتعمل على تفكيكه".
لكن في المقابل سبق أن اعتبر المحلل السياسي المقيم في دمشق، غسان يوسف، أن "العصابات التي تلجأ إلى الخطف تقف وراءها جهات معينة، ربما تكون سياسية أو مدعومة من دول أخرى لتبرز أن هناك ضعفا ما في الدولة السورية ومفاصلها".
وعلى خلاف ما يدور الحديث عنه، يضيف يوسف لموقع "الحرة" أن "هناك تحسنا في الوضع الأمني في سوريا، وأن هناك سيطرة من قبل الدولة السورية"، مستبعدا أن تستمر حوادث الخطف "لأن أجهزة الدولة صاحية (مستيقظة)".
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: المرصد السوری عملیات الخطف من جانب إلى أن
إقرأ أيضاً:
موقف حركة النهضة وحلفائها من الثورة السورية
في خاتمة المقال السابق، كنا قد أشرنا إلى أن قراءة مواقف الفاعلين السياسيين والمدنيين التونسيين من الثورة السورية لا تكتمل إلا بالاشتغال على موقف أحد أهم الفاعلين السياسيين خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي؛ ألا وهو حركة النهضة. ولا يمكن فصل هذه الحركة عن حلفائها سواء أولئك الحلفاء الاستراتيجيين (ائتلاف الكرامة أو حزب المؤتمر بقيادة الدكتور منصف المرزوقي) أو أولئك الذين التقوا معها موضوعيا دون اعتراف مبدئي. فرغم الالتقاء البراغماتي بين حركة النهضة والتكتل الديمقراطي (خلال مرحلة الترويكا)، والالتقاء بينها وبين حركة نداء تونس أو تحيا تونس (خلال مرحلة التوافق) والتقائها مع حركة قلب تونس (بعد انتخابات 2019)، فإننا لا نعتبر هذا الالتقاء من باب التحالف الاستراتيجي أو الاعتراف المبدئي بهذه الحركة، بل هو مجرد تقاطع مصالح ظرفي لم يكسر التقابل الجذري الذي حكم المشهد السياسي التونسي منذ المرحلة التأسيسية، أي التقابل بين "العائلة الديمقراطية" وبين النهضة وائتلاف الكرامة باعتباره -حسب ما يسمى بالقوى الديمقراطية- مجدر "واقي صدمات" أو جسما وظيفيا في خدمة النهضة مثلما كان شأن "لجان حماية الثورة".
لو أردنا فهم موقف حركة النهضة من الثورة السورية، فإن الانطلاق من بيان المكتب التنفيذي للحركة يوم 9 كانون الأول/ ديسمبر سيكون مدخلا جيدا، ولكنه مدخل لا يختزل تعقد الملف السوري -محليا وإقليميا- ولا تعقد المتغيرات التي حكمت مواقف الحركة منذ انطلاق الثورة السورية بصورة سلمية وتحولها التدريجي إلى نزاع مسلّح ذي تداعيات على الأمن الوطني التونسي، خاصة في ملفي الإرهاب والتسفير. ولكننا سنترك ذلك البيان ولن ندرسه إلا في موضعه من مسار الموقف النهضوي من الثورة السورية.
مهما كان موقفنا من "القوى الديمقراطية"، في ملف إفشال الانتقال الديمقراطي، أو في ملف العلاقة بمحور الثورات المضادة أو في ملف دعم الأنظمة الاستبدادية، فإن مواقفها تبدو أكثر مبدئية وأقل تأثرا بالوقائع محليا وخارجيا. ذلك أن هذه القوى دافعت عن النظام السوري في أسوأ الوضعيات التي مرّ بها، وما زالت تدافع عنه حتى بعد سقوطه
لقد كان الملف السوري من أكثر الملفات التي عمّقت التقابل بين "القوى الديمقراطية" السياسية والمدنية وبين حركة النهضة والرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي. ففي 2 شباط/ فبراير 2012 (أي على عهد حكومة الترويكا التي شهدت تحالفا سياسيا بين النهضة وحزب المؤتمر والتكتل الديمقراطي) استضافت تونس مؤتمر "أصدقاء سوريا" بحضور سبعين بلدا، بعد عرقلة روسيا والصين لمشروعي إدانة للنظام السوري. ورغم أن قطع تونس لعلاقاتها الديبلوماسية مع النظام السوري سنة 2012 (بعد مجزرة حي الخالدية في مدينة حمص) كان متوافقا مع توجهات جامعة الدول العربية وأغلب القوى الإقليمية والدولية، فإن هذا القرار السيادي لم يُرض أغلب "القوى الديمقراطية" التي اعتبرت الموقف التونسي دعما للإرهاب وضربا لمحور "المقاومة والممانعة".
لقد كان موقف حركة النهضة خلال عشرية الانتقال الديمقراطي خاضعا لضغطين كبيرين: ضغط القواعد الانتخابية والحلفاء من جهة (وهو ضغط يدعو إلى تصليب الموقف من لا شرعية النظام السوري، خاصة بعد اعتراف مؤتمر سوريا بـ"المجلس الوطني السوري" ممثلا وحيدا للشعب السوري)؛ وضغط الأغلب الأعم من مكونات المشهد التونسي أو النخب السياسية والنقابية والإعلامية والثقافية التي حاولت توظيف الأزمة السورية للربط بين الحركة والإرهاب، خاصة في ملف التسفير إلى سوريا.
فقد حاولت تلك القوى بعد نجاحها في إسقاط حكومة الترويكا أن تعيد صراعها السياسي مع حركة النهضة إلى المربع الأمني القضائي، سواء بملف "التنظيم السري" أو ملف التسفير. ولأن ملف تورط بعض الجمعيات المدنية في التسفير إلى سوريا مازال مفتوحا أمام القضاء، فإننا سنكتفي بالإشارة إلى حرص "القوى الديمقراطية" على التعامل بازدواجية المعايير مع هذا الملف. فالتسفير لم يشمل فقط تورط بعض التونسيين في الحركات الجهادية السورية، بل تورط البعض الآخر في المجاميع شبه العسكرية الداعمة للنظام السوري (كتيبة محمد البراهمي). ولا شك في أن إدانة "المجاميع الجهادية" (وهو أمر منطقي بحكم عملها خارج الأطر الرسمية، بل على الضد من الموقف الرسمي التونسي الرافض لتسليح المعارضة وللتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى) لا ينفي إدانة "المجاميع التشبيحية" التي مارست السلوك نفسه، أي لا ينفي التعاطي القضائي مع التونسيين الذين حاربوا مع النظام السوري بصورة غير شرعية وخارج وصاية الدولة التونسية، بل ضد مواقفها الرسمية.
بعد دخول مرحلة التوافق مع حركة تونس منذ 2014، لم يكن لحركة النهضة من التأثير السياسي أو من القدرة التفاوضية ما يمنع الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي من فتح مكتب للخدمات الإدارية والقنصلية في سوريا منذ وصوله إلى قصر قرطاج. ورغم أن هذا القرار لم يكن يعني تطبيع العلاقات مع النظام السوري، فإنه كان خطوة في ذلك الاتجاه. فهذا القرار هو اعتراف بشرعية النظام، ولكنها خطوة لم تكن ترتقي إلى مستوى انتظارات "العائلة الديمقراطية" ومكوناتها التي دعمته ضد السيد منصف المرزوقي بمنطق "الانتخاب المفيد". فهذه الخطوة "الرمزية" لا ترتقي إلى مستوى ما وعد به خلال حملته الانتخابية بإعادة العلاقات الديبلوماسية مع سوريا.
ونحن هنا لا نتفق مع السيدة مباركة عواينية (أرملة الشهيد محمد البراهمي) التي رأت أن إسقاط اللائحة البرلمانية المطالبة بإعادة العلاقات الديبلوماسية مع سوريا سنة 2017 كان نتيجة صفقة بين حركة النهضة وحركة نداء تونس (إسقاط نواب نداء تونس للائحة مقابل تمرير نواب النهضة لمشروع قانون المصالحة مع بعض رموز الفساد المالي والإداري خلال حكم المخلوع). فالمرحوم الباجي لم يتردد في استضعاف حركة النهضة في ملفات أكثر إحراجا لها أمام قواعدها الانتخابية، مثل ملفات الجنسية المثلية ورفع الاحترازات عن اتفاقية سيداو (مسألة المساواة في الميراث بين الجنسين)، بل لم يتردد في فرض أحد رموز التطبيع (السيد خميس الجهيناوي) لإدارة ملف السياسة الخارجية منذ المرحلة التأسيسية.
لقد كان موقف المرحوم الباجي محكوما أساسا باعتبارات إقليمية ودولية، فالجامعة العربية وأهم القوى الدولية لم تكن قد أعطت الضوء الأخضر لتونس أو لغيرها لتطبيع العلاقات مع النظام السوري. وهو ما فهمه الأستاذ عبد الفتاح مورو، مرشح حركة النهضة للانتخابات الرئاسية سنة 2019، عندما قال: "نحن بلاد منضوية تحت منظمة عربية، ولنا سياسات مشتركة مع الدول العربية لا يمكن أن نخرج عنها"، مضيفا أن "كل تغيير يحصل (في الموقف من سوريا) ينبغي الاقتناع به داخل هذه المنظمة لننفتح على واقع جديد".
ولا شك في أن بيان حركة النهضة الصادر سنة 2019 والذي تحدث عن "مصالحة وطنية شاملة يستعيد فيها الشعب السوري حقه في أرضه وفي حياة ديمقراطية، وتضع حدا للتقاتل وما نتج عنه من مآس إنسانية" لا يخرج عن هذا النطاق، ولكنه لا ينفي أيضا أن موقف الحركة مرتبط بالتوازنات السياسية الداخلية بصورة أفقدته الكثير من المبدئية. فالارتباط الشرطي بالتوازنات المحلية والخارجية جعل مواقف الحركة براغماتية ومرتبطة بموازين القوى أكثر من ارتباطها بقاعدة مرجعية صلبة.
ومهما كان موقفنا من "القوى الديمقراطية"، في ملف إفشال الانتقال الديمقراطي، أو في ملف العلاقة بمحور الثورات المضادة أو في ملف دعم الأنظمة الاستبدادية، فإن مواقفها تبدو أكثر مبدئية وأقل تأثرا بالوقائع محليا وخارجيا. ذلك أن هذه القوى دافعت عن النظام السوري في أسوأ الوضعيات التي مرّ بها، وما زالت تدافع عنه حتى بعد سقوطه.
رغم أن عودة العلاقات الديبلوماسية بين تونس وسوريا جاءت في إطار تطبيع عربي شامل مع النظام السوري (عودة سوريا إلى الجامعة العربية بعد تعليق عضويتها منذ 2011)، فإن النهضة -ممثلةً في المستشار السياسي لرئيس الحركة السيد رياض الشعيبي- قد اعتبرت أن هذا القرار "يدخل في إطار سعي السلطات إلى البحث عما يؤيد ادعاءها بـ"تورط" الحركة في ملف التسفير إلى بؤر التوتر". وإذا كان السيد الشعيبي لا يرفض -من منطلق ما يسميه بـ"الموقف الأيديولوجي المنغلق"- عودة العلاقات الديبلوماسية مع سوريا، فإنه يعتبر أن ذلك القرار قد جاء مدفوعا بـ"العقل الأمني" الباحث عما يؤيد تورط حركته في ملف التسفير، ولم يكن بحثا عن دور إيجابي في حل الأزمة السورية.
ولكن بعد مرور أكثر من سنة على عودة العلاقات الديبلوماسية بين تونس وسوريا، لا يبدو أن "مخاوف" السيد الشعيبي أو تفسيره لأسباب إعادة العلاقات مع سوريا مطابقة للحقيقة. ولذلك فإننا نعتبر أن تصريحاته لا تعكس أسباب ذلك القرار السيادي (موقف جامعة الدول العربية وحلفاء تونس الإقليميين) بقدر ما تعكس استمرارا لمنطق "المظلومية"، تلك المظلومية التي وظفتها النهضة بعد الثورة ثم أضاعت جزءا كبيرا منها بسبب خياراتها التوافقية المرفوضة حتى داخل قواعدها الانتخابية. ونحن نعني بالتوافق هنا خيار التطبيع مع المنظومة القديمة بشروط تلك المنظومة وبعيدا عن استحقاقات الثورة وانتظارات عموم التونسيين.
إثر سقوط النظام السوري أصدر المكتب التنفيذي لحركة النهضة يوم 9 كانون الأول/ ديسمبر 2024 بيانا هنّأ فيه الشعب السوري بـ"انتصار ثورته". وقد حرص بيان الحركة على عدم تهنئة فصائل المعارضة أو ذكرها بالاسم، كما حرص البيان على "تصدير" التجربة التوافقية التونسية إلى سوريا تحت مسمى "الوحدة الوطنية"، وحرص أيضا على التعامل مع الثورة السورية وكأنها نسخة أخرى من الثورة التونسية وشعاراتها في الحرية والعدالة والكرامة والمساواة. كما تجنب البيان أي إشارة إلى البنية الطائفية أو الخلفية البعثية للنظام السوري. فالثورة السورية هي "انتصار الحرية على الاستبداد"، وهو موقف لا يمكن فصله عن الواقع التونسي وإكراهاته.
نرجح مواصلة الرئيس لمشروعه السياسي بمنطق البديل لا بمنطق الشريك، فإن تونس قد تعرف تقاربا بين الرئيس وبين بعض مكونات "العائلة الديمقراطية" لاستباق أي استفادة ممكنة لحركة النهضة من الثورة السورية. ولكن قد يذهب النظام إلى نوع من التهدئة أو الاحتواء لحركة النهضة، بعيدا عن منطق الإقصاء والمقاربة الأمنية للصراع السياسي. وفي كل الحالات، فإننا نستبعد حصول أي تقارب بين حركة النهضة وبين القوى اليسارية والقومية المعارضة
فالنهضة لا تستطيع مقاربة الملف السوري إلا بترسانة مفهومية "توافقية" قد تسبب لها انتقادات واسعة حتى في صفوف حلفائها السابقين (مثل الرئيس المرزوقي)، ولكنها تبعدها عن أي استهداف على أساس الهوية الأيديولوجية من طرف النظام أو حلفائه الموضوعيين، حتى داخل المعارضة اليسارية والقومية. فسقوط النظام السوري لا يعني بالضرورة سقوط سرديات الاستئصال الصلب والناعم في تونس، كما لا يعني حصول انفراجة سياسية أو تقارب بين القوى المعارضة. بل إن سقوط النظام السوري قد يعني عودة الصراعات الهوياتية في تونس على أساس ملفي التسفير والإرهاب.
ختاما، فإن سقوط النظام السوري وقيام حكومة جديدة في دمشق، هو أمر قد يفتح تونس على سيناريوهات متناقضة، وهي سيناريوهات لا يمكن أن يكون المحدد الأساسي أو النهائي فيها محليا صرفا. فطوفان الأقصى ومشروع الشرق الأوسط الجديد يلقيان بظلالهما على المشهد التونسي من خلال المحاور الإقليمية والاستراتيجيات الدولية المتناقضة.
ورغم أننا نرجح مواصلة الرئيس لمشروعه السياسي بمنطق البديل لا بمنطق الشريك، فإن تونس قد تعرف تقاربا بين الرئيس وبين بعض مكونات "العائلة الديمقراطية" لاستباق أي استفادة ممكنة لحركة النهضة من الثورة السورية. ولكن قد يذهب النظام إلى نوع من التهدئة أو الاحتواء لحركة النهضة، بعيدا عن منطق الإقصاء والمقاربة الأمنية للصراع السياسي. وفي كل الحالات، فإننا نستبعد حصول أي تقارب بين حركة النهضة وبين القوى اليسارية والقومية المعارضة.
ونحن لا نعتبر أن سقوط النظام السوري هو العلة الحقيقية لامتناع التقارب بين النهضة وبين أغلب مكونات "العائلة الديمقراطية" في السياق الحالي أو في أي سياق منظور، بل إننا نرد ذلك الامتناع إلى الجوهر الإقصائي واللاديمقراطي للسرديات الأيديولوجية الكبرى، كما نرده إلى المصالح المادية والرمزية والقضايا الصغرى التي توظَّف السرديات الكبرى لحمايتها وشرعنتها.
x.com/adel_arabi21