سودانايل:
2024-09-19@04:50:33 GMT

الوطنية السودانية واستقلال السودان (2 -2)

تاريخ النشر: 17th, September 2024 GMT

Sudanese Nationalism and the Independence of the Sudan (2-2)
G.N. Sanderson جورج نيفيل ساندرسون
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا هو الجزء الثاني والأخير من ترجمة لفصل في كتاب حرره مايكل بريت (Michael Brett)، صدر عام 1973م بعنوان: "Northern Africa: Islam and Modernization" (شمال أفريقيا: الإسلام والتحديث) عن دار نشر Frank Cass بلندن، في صفحات 97 -109.

وكان جورج نيفيل ساندرسون (1919 – 2001م) قد تخرج في جامعة أكسفورد عام 1940م والتحق بالجيش البريطاني وبُعِثَ به لمصر، ثم عمل في مصلحة المعارف بالسودان، وعمل محاضراً للتاريخ في كلية غوردون التذكارية بين عامي 1947 و1953م، ثم ترقى إلى رتبة محاضر أول (1953 – 1962م)، وصار محرراً لـ "مجلة السودان في رسائل ومدونات"، ثم أستاذاً للتاريخ، و"رئيس وحدة أبحاث السودان" في الأعوام 1962 – 1965م. بعدها غادر السودان ليعمل أستاذاً في جامعة لندن إلى حين تقاعده في عام 1985م.
وسبق لنا ترجمة مقال لساندرسون عنوانه: مجلة "السودان في رسائل ومدونات" كمصدر من مصادر أبْحَاث السودان، يمكن الاطلاع عليه في هذا الرابط: https://shorturl.at/LPlbH
المترجم
********* ********** ********
لقد كان السيد علي الميرغني رجلاً شديد التحفظ في أفكاره ورؤاه، وليس لديه أي قدر من التعاطف مع الوطنية العلمانية المتطرفة. وكانت رعايته ومساندته لحزب "الأشقاء" والحزب الذي خلفه مشروطة وحذرة للغاية، بل قام بتعطيل تلك الرعاية والمساندة لفترات طويلة من الزمن. غير أنه لم يحتمل في عام 1944م القبول صامتاً وهو يرى احتكار السيد عبد الرحمن المهدي للرعاية والمساندة من البريطانيين، التي أظهرته كـ "سلطان السودان" المحتمل، الذي يحكم تحت نوع من أنواع الحماية أو السيطرة البريطانية. وكان السيد علي في حاجة ماسة لسلاح يحارب به منافسه؛ وكان يرى أن "مصداقيته" و"دعمه" للنظام فيما يبدو لم تكسباه شيئاً عند البريطانيين، فقرر أن يحذو حذو السيد عبد الرحمن ويجعل من نفسه مصدر إزعاج وهو في جناح المعارضة.
وسعى تحالف "الأشقاء" مع الختمية، بحسب قاعدة أن "عدو عدوي هو صديقي"، إلى كسب التأييد من مصر (وإن لم يكن، إلى حد كبير، ذلك هو السبب الوحيد) وخاضوا حملتهم الانتخابية على أساس برنامج "الوحدة مع مصر". وهنا تتضح لنا جليا المفارقة المزدوجة (double paradox) التي اتسمت بها الوطنية السودانية: فهناك "التقدمي" والسياسي الطموح عبد الرحمن المهدي الذي يتخذ من "السودان للسودانيين" شعاراً له، ولكن يصفه المتشددون بأنه "ذيل للإمبرياليين"؛ بينما نرى نفس أولئك المتشددين يتلقون الدعم والسند من الزعيم المحافظ السيد علي الميرغني (الذي دخل عالم السياسة على مضض)، ويؤسسون برنامجهم على ما هو أقل من الاستقلال التام لبلادهم. وظهر حزب الأمة في عام 1945م باعتباره التنظيم السياسي الرسمي للسيد عبد الرحمن. وفي بداية عام 1946م فشلت – كما كان متوقعا- محاولة متأخرة من أعضاء المؤتمر "المحايدين" لإعادة وحدة الحركة الوطنية.
لقد كانت هناك بالفعل قوة سياسية أخرى بالسودان، ولكنها كانت قوة مُستَضعَفة ومتذبذبة، ورغم ذلك دأب البريطانيون على تقدير قوتها وحجمها، ودفعوا ثمناً باهظا نظير غلطتهم تلك. وكان يحلو للبريطانيين أن يطلقوا على تلك القوة "حزب الريف The country party"، إذ أن زعماءه كانوا من الأعيان وكبراء رجالات المناطق الريفية بالبلاد، والذين كانوا يحسون بالغيرة من السيد عبد الرحمن المهدي، خاصة من سعيه ليغدو سلطان البلاد، وكانوا يتوجسون خيفة من المتشددين المتطرفين، ومن المصريين الذين يدعمونهم. وتمت تعبئة تلك "القوة" عام 1944م في "المجلس الاستشاري". ولم يكن السكرتير الإداري نيوبوولد يخفي آماله في أن يعمل أعضاء ذلك المجلس في حرمان مؤتمر الخريجين من بعض شهرته ونفوذه السياسي في أوساط السودانيين. ولعل نيوبوولد كان يتمنى سراً أن يعمل أعضاء المجلس الاستشاري على مُعَادَلَة ومُوَازَنَة نفوذ السيد عبد الرحمن، الذي صار يتزايد بصورة مضطردة حتى صار من العسير الاستغناء عنه.
ثم صار "الأشقاء"، بصورة مضطردة أيضا، من الفئات التي لا غِنَى عَنْها، فقد كانوا قد شرعوا في الابتعاد عن الختمية، وكشفوا عن أقوى أسلحتهم – ألا وهي رفضهم التام للدخول في أي حوار سياسي رسمي مع الحكومة، وأعلنوا أنهم سيقاطعون أي آلية دستورية قد تقيمها الحكومة. ولكن "حزب الريف"، الذي لم يكن قد نجا بأي حال من الأحوال من الانقسامات الطائفية، أثبت أنه لا يعتمد أو يعول عليه. وكان معظم أعضائه راضين للغاية عن الوضع الراهن في السر، ولكنهم لم يتمكنوا من إعلان ذلك في العلن. وكانت قدرتهم على التنظيم الجماعي ضئيلة للغاية، وكانت قدرتهم على التكتيكات والدعاية أقل كثيراً من غيرهم. وكانوا يصدرون تحذيرات للعامة كانت في بعض الأحيان مصحوبة بعبارات محسوبة ضد "التسرع غير المبرر"، ويرسلون باستمرار خطابات خاصة للمسؤولين البريطانيين المتعاطفين. وكانت تلك هي خلاصة نشاطهم السياسي حتى نهاية عام 1951م، عندما نظموا أنفسهم في آخر المطاف - بدعم من بريطانيا - في حزب أسموه – للغرابة - الحزب الجمهوري الاشتراكي (لرأي مخالف يمكن النظر في مقال للمؤرخ أحمد إبراهيم أبو شوك بعنوان الحزب الجمهوري الاشتراكي ورجال الإدارة الأهلية (1) المترجم).
وأظهر "بروتكول صدقي – بيفن" في أكتوبر 1946م (الذي اعترف فيما يبدو بسيادة مصر على السودان) مدى انحياز الإدارة البريطانية للسيد عبد الرحمن المهدي واعتمادها عليه. وهدد حزب الأمة بمقاطعة "المجلس الاستشاري" (الذي كان "الأشقاء" قد قاطعوه قبلهم)؛ وسارت في أم درمان عدد من المظاهرات ضد ذلك البروتكول. ولم تكن مثل تلك المظاهرات لتشكل تهديداً خطيرا على الأمن العام، رغم أن سلوك وموقف "القسم السياسي" لحكومة السودان منها جعلها تبدو كذلك. وسافر الحاكم العام هدلستون إلى لندن لمقابلة رئيس الوزراء أتلي، وعبر له عن استعداده لتقديم استقالته إن لم تعدل حكومة جلالة الملك من سياستها. وكان هناك أيضاً عدد غير معلوم من صغار وكبار الإداريين البريطانيين على استعداد ليحذوا حذو كبيرهم هدلستون. وكان هناك أيضاً من الإداريين البريطانيين السابقين الذي عملوا في السودان (كان أشهرهم وينجت باشا( من مارس ضغطاً على الوزارة البريطانية للارتداد عن موقفها حيال "بروتكول صدقي – بيفن"، وبالفعل سارعت الحكومة بفعل ذلك.
ربما كان مرد ردة الفعل الحادة لـ "القسم السياسي" بحكومة السودان هو كرهها الشديد (بل الغامر /المَرَضِيّ pathological ) لمصر ولكل ما له صلة بالمصريين، ولم تك ردة فعلها مبينة على الحسابات السياسية الباردة. غير أن ذلك ربما كان من باب الانحياز الكامل (والضمني أيضاً) للسيد عبد الرحمن المهدي في تلك الأزمة ذات التبعات السياسية الخطيرة. وكان لإزالة حكومة السودان لأي أفق للتعاون مع الختمية وزعيمهم السيد علي الميرغني قد تركها معتمدةً بشكل كامل وخطير على تعاون السيد عبد الرحمن المهدي بصورة مستمرة، وعلى نواياه الحسنة. وبذلت الحكومة غاية جهدها في عامي 1950 – 1951م لخطب ود الختمية على أمل أن تستفيد من الشِقاق المتطاول بين السيد علي الميرغني وإسماعيل الأزهري، غير أن تلك المحاولات لم تجد فتيلا. ولكن كانت هناك فترة وجيزة حدث فيها تعاون مؤقت مُتَردِّد من على البعد بين الحكومة وبين طائفة الختمية (عندما كانت ضمن ما سمي بـ "الجبهة الوطنية"). غير أن الحكومة لم تسترد قط ثقة السيد علي الميرغني.
وفي واقع الأمر لم يحدث بين عامي 1946 إلى النصف الأخير من عام 1952م أي تغيير أساسي في الموقف السياسي السوداني. فقد ظل السيد عبد الرحمن المهدي يلحف - بإصرار شديد - في المطالبة باستقلال السودان بأعجل ما تيسر؛ غير أنه ما منعه من اتخاذ إجراءات عملية في هذا الشأن هو حاجته الملحة لتأييد البريطانيين وعونهم، خاصة في وقت كان المصريون يطالبون فيه - بتشدد كبير - بالسيادة على السودان، وكان ذلك مما منع أي احتمال للتوصل إلى اتفاق له مع مصر. وفي ذلك الأثناء كان "الأشقاء" يواصلون دوماً (والختمية أحياناً) إصرارهم على استراتيجية المقاطعة. وفي عام 1951م أفضى الشقاق بين الختمية والأزهري لتحسين طفيف في العلاقات بين السيدين؛ غير أن شكوكهما المتبادلة كانت تجهض دوما أي نوع من التفاهم أو التعاون المشترك. وكان من شأن ذلك استمرار حكومة السودان في الثقة بقدرتها على التسويف والمماطلة.
وفي أواخر عام 1951م بدأت أزمة ذلك الموقف الحرج في الانفراج رُوَيْدًا رُوَيْدًا، ولكن ليس بسبب رئيسي يتعلق بالتطورات الداخلية بالسودان أو حتى بسبب التكتيكات العنيفة التي كانت مصر تقوم بها بصورة متزايدة؛ تلك التي أفضت في النهاية لإلغاء مصر لاتفاقية الحكم الثنائي من جانب واحد، وإعلانها الملك فاروق ملكاً على مصر والسودان. وكان مما قوى من الموقف المصري في تلك المسألة هو الضغط القوي الذي مارسته وزارة الخارجية الأمريكية على وزارة الخارجية البريطانية في محاولة لكسب الدعم المصري لاستراتيجية أمريكا في الحرب الباردة عن طريق الاعتراف بالدعاوى المصرية. وغدا الأميركيون أشد إلحاحاً مع تنامي قناعتهم بأن النجاح الباهر في السودان وحده هو الذي بمقدوره أن ينقذ النظام الملكي في مصر من ثورة من شأنها أن تضاعف بكل تأكيد من النفوذ الروسي في مصر. وكان ذلك بمثابة تحرك مضاد إلى حد كبير للضغوط الأمريكية عندما بدأت الحكومة البريطانية الآن (في وقت أقرب بكثير مما كان أي من الطرفين يرغب فيه بالفعل) في الضغط على حكومة السودان لتقديم دستور لحكومة تمثيلية (representative government) وبعض مظاهر الحكم الذاتي الداخلي خلال "فترة انتقالية" غير محددة. وكما ذكر السكرتير الإداري بشكل سرِّيّ لحكام المديريات في فبراير من عام 1952م، كان من الضروري الإسراع في التخطيط لقيام حكم ذاتي بالسودان "نسبةً للأحداث الخارجة عن السيطرة البريطانية". ولم يكن للولايات المتحدة أن تعترض على تلك الخطوة بصورة علنية – على الرغم من أن السفارة الأمريكية بالقاهرة كانت تقدم بصورة خاصة العون والتسهيلات (aid and comfort) لإسماعيل الأزهري، مما أثار حفيظة البريطانيين وسخطهم الشديد (للأسف لم يورد الكاتب بخصوص هذه "المعلومة" أي مراجع أو حواشي ( (notes or references يمكن للقارئ الرجوع إليها، ولا في سائر أجزاء الكتاب! المترجم(.
وفي أكتوبرمن عام 1952م تم حل المأزق أخيراً. فقد تخلت الحكومة العسكرية في مصر التي استولت على السلطة في يوليو من ذات العام (تحت قيادة محمد نجيب، نصف السوداني) في مفاوضاتها مع حزب الأمة عن المطالبة المصرية بالسيادة على السودان، واعترفت بحق السودانيين في تقرير مصيرهم. وعلى هذا الأساس تمكن المتنافسون السودانيون على السلطة من إبرام هدنة مؤقتة، حددوا خلالها، بمساعدة مصرية، حداً زمنياً لتقدم السودان نحو الاستقلال الكامل (أو الاتحاد مع مصر)، وصاغوا عدداً من القواعد الدستورية لتنظيم الصراع على السلطة داخل السودان (يناير 1953م). ولم يكن أمام البريطانيين، الذين تخلى عنهم، على التوالي، عبد الرحمن المهدي ثم "الجمهوريون الاشتراكيون"، آخر أنصارهم وأقلهم فعالية، أي بديل سوى الموافقة. وكانت تلك الترتيبات، التي كانت مجرد تعديلات على الدستور الذي قدمه البريطانيون أنفسهم، قد جُسِّدَتْ على النحو الواجب في الاتفاقية الانجليزية – المصرية في 12 فبراير من عام 1953م. وكان الانهيار المفاجئ لسلطة البريطانيين الكاملة والفعالة في نهاية عام 1953م قد حدث في نهاية عام 1953م بعد أن فاز تحالف "الأشقاء" مع الختمية في الانتخابات على السيد عبد الرحمن وحزب الأمة (2). لذلك، وتحت عين إسماعيل الأزهري اليقظة كرئيس للوزراء، عُيِّنَتْ لجنتان دوليتان لإدارة الانتخابات ضمتا أعضاء مصريين وسودانيين. وكانت الوظيفة السياسية الوحيدة للبريطانيين هي ضمان حسن سير الترتيبات الرامية إلى إنهاء حكمهم.
وكان من المناسب أن تُجْرَى الأحداث الحاسمة في عملية الإطاحة بالقوة البريطانية في مجال الدبلوماسية. فقد كان "النضال الوطني" داخل السودان نفسه ي يُدَارُ دوماً باعتباره "لعبة" دبلوماسية، ولو فقط لأن البريطانيين كانوا، منذ البداية تقريباً، ممنوعين من استخدام القوة إلا في حدها الأدنى. غير أن المشاركين السودانيين قنعوا تماماً بذلك الوضع. وبالقطع لم يكن علي الميرغني وعبد الرحمن المهدي، ولا حتى الساسة العلمانيين المتشددين من الثوريين. وكان كل ما يطمح إليه زعماء وساسة السودان هو "وراثة" النظام الموجود وهو في حالة جيدة – وهذا هدف من غير المتوقع أن يتحقق عن طريق سياسة الانتفاضة الشعبية. وكان الوطنيون العلمانيون (وكانوا في الغالب من الموظفين المهنيين) في بعض الأحايين ينظرون إلى الاستقلال نظرة ضيقة، ويعدونه مرادفاً لعملية "سودنة" الوظائف الإدارية العليا.
وبالإضافة لما سبق ذكره فقد كان السيدان (وكذلك الساسة) من الرجال المحنكين في "لعبة الدبلوماسية". وكانوا قد تعلموها وأجادوها في الفترة ما بين الحربين العالميتين، حين شرعت الحكومة في استخدام سياسة "الجزرة والعصا" بمهارة من أجل "كسب أصدقاء والتأثير على الناس". وقامت الإدارة البريطانية بتطوير طرق ووسائل متقدمة لاستغلال التنافسات والتوترات الداخلية بين السودانيين لمنع تحول الأشخاص المتعاونين معها إلى شخصيات قوية وعاتية بصورة مفرطة لا يمكنها السيطرة عليها، ولمنعهم كذلك من التوحد ضد سلطتها. وكانت دبلوماسية التعاون التكتيكي (التي شارك فيها حتى إسماعيل الأزهري نفسه) مدرسة جيدة لتعلم دبلوماسية المضايقة والاستفزاز التكتيكي tactical harassment. ولم تكن "الجماهير في الشارع" هي أنجع أسلحة "النضال الوطني". لقد كان الإنكار أو التهديد بإنكار أي تعاون سياسي، بمثابة وسيلة لتقييد تدريجي لمساحة المناورة المتاحة للحكومة المحرومة من ممارسة أقصى درجات القمع العنيف. وعندما تقلصت مساحة المناورة المتاحة للحكومة في نهاية عام 1952 م إلى أن انعدمت تماماً، أفلح السودانيون في الفوز باللعبة.
لم يكن "النضال الوطني" هو وحده الذي يُمَارَس بحسبانه لعبة دبلوماسية. فقد كانت الصراعات بين السودانيين الذين سيرثون سلطة البريطانيين تُمارس بذات الطريقة (مع وجود بعض الاستثناءات النادرة). ويصح القول بأن السيد عبد الرحمن المهدي كان قد أظهر قوته المادية في أكتوبر 1946م، ومرة أخرى في مارس 1954م؛ وأن "الأشقاء" فعلوا ذات الشيء من دون أن يصيبوا نجاحاً كبيراً، وذلك في نوفمبر من عام 1948م عندما حاولوا تعطيل الانتخابات التي كانوا قد قاطعوها. ولكن حتى في ظل تلك الحالات الاستثنائية، فقد كان استخدام القوة المادية قد أُبْقِيَ في حده الأدنى بشكل ملحوظ. وبصورة خاصة، كان السيدان قد أدركا أن الأمر الطارئ الوحيد الذي سيسمح للبريطانيين باستخدام قوة قمعية هائلة هو اندلاع حرب أهلية بالبلاد، أو وجود تهديد جدي وموثوق بقرب حدوثها؛ وأنهم لن يسمحوا بالصراع الداخلي في السودان بأن يتحول لشيء أقرب لما حدث في أوليستر Ulster من اضطرابات مسلحة بين عامي 1920 – 1922م (3).
ويمكن للمرء عند دراسة "النصال الوطني" في السودان أن يخلص إلى أن مساهمة "الوطنية العلمانية" في الاستقلال لم تكن مساهمة مُؤَثِّرة. صحيح أنها مكنت إسماعيل الأزهري من أن يصبح هو شخصياً سياسياً مهما، وعلى الأقل فتحت الباب للهروب من السياسة الطائفية المحضة. غير أنها بقيت عاجزة تماماً عن تخطي الأزمة التي أبقت البريطانيين آمنين وهم يقبضون على زمام الأمور بالسودان في الفترة بين 1946 و1952م، وظلوا كذلك حتى نهاية حكمهم من دون أن يكون لنشاطات "الوطنية الشعبية" أي تأثير يذكر على الإدارة البريطانية. ولكن يجب القول أيضاً أنه حتى عام 1951م لم تكن "الوطنية العلمانية" تستحق أن توصف بأنها "شعبية"؛ بل كانت ما زالت هي مُعتَقَد (cult) بالنسبة للنخبة من ذوي الياقات البيضاء، ولم تكن حركة جماهيرية حقيقية. غير أن اتحاد نقابات العمال السودان المتشدد حوَّلَ عدداً من العمال المهرة (الصنايعية) والعمال اليدويين، خاصة في العاصمة المثلثة، إلى الجناح اليساري في السياسة السودانية، وإلى "وطنية نشطة". وكان ذلك التطور (الذي قابله الساسة الراسخون بمشاعر مختلطة) بلا شك مسمارا جديداً يدق في كفن طموحات السيد عبد الرحمن في أن يغدو ملكاً على السودان. لكنه كان بالتأكيد مسماراً غير مجدٍ وزائداً عن الحاجة. وفي نهاية عام 1951م على أكثر تقدير، لم تعد بريطانيا قادرة على تقديم الدعم السياسي الذي لولاه لما كانت السلطنة المهدية الجديدة قادرة على البقاء.
لقد كان من قَدَر الوطنية العلمانية أن تظهر كحركة جماهيرية لتجد نفسها، على الفور تقريباً، من دون أي معركة سياسية جادة تخوضها. وفقدت الإدارة البريطانية عقب عام 1953م، بسرعة كبيرة، كل سيطرة فعالة لها على مجرى الأحداث السياسية في السودان؛ وبحلول أبريل 1955م تم "سودنتها" لتختفي من بعد ذلك من الوجود. وسرعان ما غدا واضحاً أن "النضال الوطني" قد انتهى منتصراً في جميع الأمور الأساسية. غير أن الصراع الداخلي على السلطة، بالطبع، كان بعيدًا عن الانتهاء. وأظهر الواقع أن الصراع كان قد بلغ أشد حالات الحدة في استعراض عبد الرحمن للقوة في مارس 1954م. ولكن لم تكن للوطنية الشعبية أي دور فعال أو مؤثر لتؤديه في ذلك الصراع؛ فقد بقيت مجرد مجموعة تتفرج على ما يحدث، أو ربما صارت نوعاً من أنواع "الجوقات / الكَوْرَس الإغريقية" التي تتفاعل مع الأحداث دون أن تبتدر وقوعها.
وعلى وجه الخصوص، يبدو أنه ليس هناك سوى أدلة قليلة فقط تدعم الرأي السائد بأن الضغط الشعبي كان مسؤولاً عن الاندفاع المتسرع نحو الاستقلال الفوري، والذي بدأ في أغسطس 1955م والذي أدى إلى عدم تنفيذ الإجراءات المعقدة للغاية المنصوص عليها في الاتفاقية الإنجليزية - المصرية. ومع ذلك، فمن السهل إثبات الأهمية الحاسمة للاضطرابات المتنامية في جنوب السودان، والتي وصلت بالفعل إلى نقطة العنف المفتوح بحلول نهاية يوليو 1955م. لقد أصبح استمرار وجود القوات البريطانية وقواتها الآن محرجاً للغاية، وغدا في غاية الخطورة للحكومة السودانية. وكان يُشتبه في أن بريطانيا ومصر كانتا تعملان على إثارة الاضطرابات في الجنوب، أو على الأقل تشجيعها. وكان معروفاً عن مصر أنها كانت حريصة على إحباط أو تأخير إعلان الاستقلال السوداني الكامل باستغلال الاضطرابات في الجنوب ذريعةً لعمل عسكري متضافر من قبل دولتي الحكم الثنائي.
ولم يكن التمهيد المباشر للاستقلال ولا الانتقال الفعلي إلى الاستقلال كافيين لإرضاء الحماسة المحبطة لـ "الوطنية الشعبية". وفي نوفمبر من عام 1955م، نجحت المعارضة البرلمانية، من خلال مناورات ماهرة ولكنها غير أخلاقية من جماعات الضغط، في العمل على إسقاط أزهري في محاولة لحرمانه من شرف قيادة السودان إلى الاستقلال. وظل موقف أزهري ضعيفاً للغاية، ونشأت تطورات جراء ذلك سببت أزمة سياسية خطيرة. غير أن تلك الأزمة حُلَّتْ بنجاح، كما حُلَّتْ من قبل العديد من الأزمات والمآزق السابقة، من خلال مناورات دبلوماسية. والتقى السيدان المتنافسان (المهدي والميرغني)، في جو مشحون بالدعاية، وبود مبالغ فيه لم يظهره الرجلان من قبل. ودعا السيدان في الثالث من ديسمبر في بيان مشترك للتضامن الوطني، وتكوين حكومة ائتلاف وطني بعد نيل الاستقلال مباشرة. وبعد مرور ثلاثة أيام على صدور ذلك البيان التزم الأزهري بما دعا له السيدان. وبذا سُدَّ الباب على تلك الحادثة الخطيرة، والمتواضعة إلى حد ما، وذلك بفضل تدخل "الأبوين التقليديين" للسياسة السودانية. غير أن الضغط على الأزهري بقي قوياً؛ وربما كان ذلك الضغط الهائل هو سبب إصدار الأزهري لبيان في يوم الخميس 15 ديسمبر أشار فيه عن نيته إعلان استقلال السودان "يوم الاثنين القادم".
وأخيرا، كان الاختفاء الفعلي للرموز المادية وأجهزة الحكم الأجنبي بمثابة ذروة مخيبة للآمال. فقد تم إجلاء القوات البريطانية والمصرية دون وقوع أي حوادث أو ضجة إعلامية كبيرة، واكتمل الإجلاء بحلول منتصف نوفمبر 1955م. غير أن الاحتفالات التي رعتها الجهات الرسمية لوداع تلك القوات تأجلت بسبب الموقف السياسي المتوتر، ولم تُقَمْ قط. ولم يبق الآن في الخرطوم سوى الحاكم العام. لقد كان الآن مجرد رمز، ولكنه ظل رمزا إمبريالياً، ورمزا عاما لوضع السودان التابع. وكان خروجه الأخير أشبه بالمهزلة. وغادر الحاكم العام السودان في عطلته السنوية يوم 15 ديسمبر، فيما يبدو لزيارة عائلته في عيد الميلاد؛ وقبل أن تنقضي عطلته، أُعْلِنَ عن استقلال السودان. لقد اختفى المستعمر الأجنبي المكروه أخيراً، ليس بصوت دَوِيّ صاخب أو حتى نَشِيج حزين، بل بقعقعة عابثة مثل مفرقعة عيد الميلاد (Christmas cracker).
ولعل "الوطنية الشعبية" كانت قد بلغت إلى أقرب نقطة من تطهرها (catharsis) في التجمعات العامة الضخمة في الخرطوم وأم درمان لسماع الحاكم العام وهو يعلن رسمياً عن إبرام الاتفاقية البريطانية المصرية في فبراير 1953م. ويبدو أن ذلك الحدث، كان أكثر أهمية من مراسم إنزال العلمين (البريطاني والمصري) ورفع العلم السوداني في الأول من يناير 1956م. لقد كان ذلك الحدث بالفعل مناسبة شعبية حقيقية. غير أن "المناسبات"، مهما كانت مثيرة أو مؤثرة، فإنها لا تحل محل الانتصارات السياسية الحقيقية. فمنذ الاستقلال، أظهر الأسلوب السياسي الشعبي popular (على النقيض من الأسلوب السياسي النخبوي (elitist في السودان ميلاً واضحاً نحو ما يبدو أنها إيماءات وسياسات متطرفة بشكل واضح، في كثير من الأحيان في أمور ذات أهمية ثانوية للغاية. إن "التطرف والراديكالية في بحث يائس إلى حد ما عن شيء يمكن أن يكون فيه المرء متطرفا راديكالياً " هو الانطباع الذي تركه التطرف والراديكالية عند أحد المراقبين على الأقل. وقد تكون أحدى مصادر ذلك النوع من السلوك هي محاولة التعويض عن التجارب المحبطة والدور غير المميز للسياسة الشعبية إبان فترة "النضال الوطني" من أجل الاستقلال.
**************
إحالات مرجعية
1/ مقال المؤرخ أبو شوك في هذا الرابط: https://shorturl.at/O10rp
2/ يمكن الاطلاع على مقالين عن انتخابات السودان في الرابطين: http://www.sudaress.com/sudanile/42703 و https://shorturl.at/iCNoy
3/ https://shorturl.at/yYMXa

alibadreldin@hotmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الإدارة البریطانیة النضال الوطنی حکومة السودان الحاکم العام فی نهایة عام على السودان فی السودان على السلطة السودان فی کان السید حزب الأمة لقد کان فقد کان ما یبدو ولم یکن کان ذلک لم یکن فی عام لم تکن من عام غیر أن إلى حد کان من

إقرأ أيضاً:

حسن إسماعيل: هذا هو السبب الذي اشعل الحرب في السودان(….)

(نجـــــــوم في الحــــرب)
سلسلة حوارات يجريها:
محمــد جمــال قنـــدول
الكاتب الصحفي والمحلل السياسي حسن إسماعيل لـ(الكرامة):
السياسة عند برمة (مسالة معايش).. وهذا ما كان يفعله ايام الانقاذ (….)
لم يعُـــد هنالك حزبٌ اسمه (الأمــــــة القومي)..
كل قـــراءات عثمان ميرغني مضطـــربة وفاشـــلة
(90%) من قيــــادات الأحزاب أدوات بيد المطابخ الخارجية..
حسرتي على النخب التي يشتريها المتمرد بأرخص الأثمان
(تقـــــزُم) ولدت من رحم الميليشيا وخُصبت بماء الخيانة
هذا هو السبب الذي اشعل الحـــــرب (….)
(….) هذا ما قلتــــه للصادق المهدي
مطلوب الحسم سواء كان عسكريا او عبر تفاوض ينهي التمرد..
ربما وضعتهم الأقدار في قلب النيران، أو جعلتهم يبتعدون عنها بأجسادهم بعد اندلاع الحرب، ولكنّ قلوبهم وعقولهم ظلت معلقةً بالوطن ومسار المعركة الميدانية، يقاتلون أو يفكرون ويخططون ويبدعون مساندين للقوات المسلحة.
ووسط كل هذا اللهيب والدمار والمصير المجهول لبلاد أحرقها التآمر، التقيتهم بمرارات الحزن والوجع والقلق على وطن يخافون أن يضيع.
ثقتي في أُسطورة الإنسان السوداني الذي واجه الظروف في أعتى درجات قسوتها جعلني استمع لحكاياتهم مع يوميات الحرب وطريقة تعاملهم مع تفاصيل اندلاعها منذ البداية، حيث كان التداعي معهم في هذه المساحة التي تتفقد أحوال نجوم في “السياسة، والفن، والأدب والرياضة”، فكانت حصيلةً من الاعترافات بين الأمل والرجاء ومحاولات الإبحار في دروبٍ ومساراتٍ جديدة.
وضيف مساحتنا لهذا اليوم هو الكاتب الصحفي والمحلل السياسي حسن إسماعيل، الذي كان قد توقع كارثةً كبيرةً في البلاد بسبب ما سُمي بـ(الثورة) في 2019:
أين كنت حينما اندلعت الحرب؟
كنت خارج السودان في تركيا التي وصلتها في نوفمبر 2020 بعد مؤامرة التغيير في أبريل 2019، بعد أن مكثت عامًا في السودان ، وكانت فترة مراقبة للأوضاع، وشعرتُ بأنّ البلاد مقبلةٌ على كارثة فغادرت مع أسرتي.
متى كانت آخر مرةٍ زرت فيها السودان؟
غادرت في نوفمبر 2020 وللأسف لم أعُد، وكان من المفترض أن أعود في أغسطس الماضي تلبيةً لدعوةٍ من القيادات بمجلس السيادة ولكني لظروف لم أصل وربما أزور السودان خلال الشهر المقبل.
لماذا غادرت البلاد بشكل نهائي؟
لم اغادر بشكل نهائي ولدينا موعدًا في العودة قريبًا بإذن الله تعالى، ولكن أي شخص قريب من تتبع الأخبار بالبلد كان يستشعر بأنّها مقبلةٌ على كارثة تحت لافتة ما يسمى بـ”الثورة”، وهذه النبوءة ليست جديدةً، حيث إنني من 2013 عندما غادرت معسكر المعارضة كنت أقول إنّ المعارضة هذه إذا استلمت الأوضاع بالبلاد ستسلمنا لكارثة ولن يستطيعوا حتى توفير الكهرباء لمكاتبهم بالقصر الجمهوري وهذا ما حدث، ومن خلال متابعتي للتشكيل الهجين في 2019 كنت على يقينٍ تام بأنّ الوطن على مستواه الأمني والسياسي ومستقبله وحاضره مُقبلٌ على انفجارٍ ضخم وكارثةٍ كبيرة وتشظ، وكل هذا مكتوبٌ وموثقٌ وحتى ذكرته في حوار مع الأخ بكري المدني.
كيف تلقيت نبأ اندلاع الحرب بالسودان؟
نحن في فبراير 2023 كنا نسجل في حلقاتٍ نحذر فيها من كارثة الاشتباك العسكري، وذلك من خلال تتبعنا للحشد الذي كان يقوم به المتمرد “حميدتي”، وكذلك من خلال الخطابات التي كان يوجهها عبد الرحيم دقلو خاصةً من قاعة الصداقة ويهدد فيها أعضاء مجلس السيادة كنا متوقعين حدوث انفجارٍ في أي لحظة، ولدينا حلقةً مسجلةً نقدم فيها النصائح للمتمرد “حميدتي” بأنّ النار التي هو مقبلٌ على إشعالها لن تتجاوز ثيابه، وستشتعل في ثيابه، والأيام التي سبقت اندلاع التمرد خاصةً بعد تدشين التمرد باحتلال مطار مروي، كنا نتابع بالأخبار ولا نخلد للنوم الى أن سمعنا مباشرةً الاشتباك الذي حدث بالمدينة الرياضية بعد دقائق من اندلاعه.
ماذا كان شعورك في تلك اللحظة؟
الخوف على البلاد باعتبار أنّ الأيدي الخارجية كانت واضحة بتحرك “حميدتي” عبر العتاد، والخطط والسلاح، وقبل يومين من التاريخ الذي تمرد به-كونه يفكر (يضرب) مطار مروي والأبيض- والانتشار المهول لقواته يشعر الناس بأنّ البلاد تمضي في اتجاهين: أن تسقط في يد التمرد لا قدر الله، واتجاه آخر: ستحصل مقاومة من قبل القوات المسلحة والشعب تدحر التمرد ولكن بأثمانٍ غالية في الأنفس، والأرواح والبنية التحتية، والقلق كان في الاتجاه.
هل توقعت اندلاع الحرب؟
نعم توقعنا اندلاع الحرب وأي شخص كان يتابع يرى مؤشر الأحداث يوضح أنّ “حميدتي” أصبح لا يطيق صبرًا بأن يحصل على الامتيازات التي وفرها له “الإطاري” عُنوةً من قبل مجلس السيادة والجيش، ولكن الموضوع كان توقع أبعد من هذا باعتبار أنّ المساومة السياسية التي شكلت “الهجين” الذي حكم السودان في 2819 ، أي شخص عاقل واعي يعرف أنّ نهاية هذه المساومة هو ما جرى: القوى المدنية لا تريد خوض الانتخابات، وقوة شبه عسكرية تم تسليحها وتوفير المال لها، وحكومة عبد الله حمدوك تتطلع لأن ترث السودان، وكل المؤشرات ليس توقعًا وإنما يقينًا بأنّ البلاد مقبلة على كارثةٍ كبيرةٍ نتاجًا لسوء المعادلة السياسية.
كيف تقرأ الراهن السياسي على ضوء المتغيرات الجديدة؟
في الحقيقة الأفق الرؤية فيه محدودة وقصيرة، باعتبار أنّ الأيدي المتدخلة في السودان كثيرة وأي جهة لديها أطماعها “دول الجوار الإفريقي، ودول الجوار العربي”، حتى على مستوى المجتمع الدولي دول “الترويكا”، وعلى مستوى الدوائر بالولايات المتحدة، كثافة هذه الأيادي تجعل من التنبؤ والقراءة أمرٌ صعبٌ جدًا، لكن يؤكد لنا بأنّه ما من طريقة سُوى دحر هذه المؤامرة ببعديها “الداخلي والخارجي”، وتطلعاتنا كلها تصب في هذا الاتجاه هزيمة التمرد والمؤامرة الدولية التي أُعدت لتفكيك الدولة السودانية، وهو ما يحتاج لمزيدٍ من الجهد للجبهة الداخلية تعبئةً وتوعيةً ومزيدًا من العمل العسكري على مستوى الجيش والمستنفرين، بالانتصار على الأرض تتحدد ملامح المشهد السياسي والراهن.
هذه الحرب مختلفة عن سابقاتها؟
مختلفة باعتبار أنّ المؤامرة من 55 كان تحاول أن تورث السودان من أطرافه بواسطة الحركة الشعبية تارةً والحلو تارةً أخرى وبواسطة عبد الواحد محمد نور مرةً ثالثة، ولكن هذه المرة محاولة النيل من الدولة السودانية من قلب مركزها والعُدة التي أُعدت كبيرة والعتاد الذي جُهز ضخم جدًا، وبالتالي هي حرب مختلفة لأنّ أهدافها مختلفة خاصةً أنّ هنالك فترة من الفترات كان الهدف إضعاف السودان، ولكنّ هذه المرة تفكيكه وذلك واضحٌ من خلال الحشد المستمر والجسر الجوي المستمر الذي يمد المتمردين عبر تشاد وليبيا وبواسطة حكومة أبوظبي.
الناس مغبونة؟
مغبونة ولكن الغبن (لازم) يقوده وعي، وذلك عبر الفرز الواعي للمواقف والحيثيات، و,(أنا هسين عندما أرى شخص في المجتمع السوداني كنجم ورمز ولسه الأمور مختلطة ويقول ليك أنا ما بحرض عليه أو بشجع وكأنه الجيش السوداني ابتدأ الحرب) ، الجيش سنة كاملة بدافع عن مقاره ولم يتحرك خارج مقاره، وحركة الطيران السوداني الآن هي حركة لمنع “التشوين” الذي يأتي من تشاد وليبيا وتدمير مخازن المتمردين وعتادهم والقوات المسلحة تقوم بواجباتها، ولا يمكن عمل صيغة تساوي بين الجاني والمتعدي وبين الذي يقوم والطرف الذي يقوم بواجباته الدستورية والأمنية ولدينا مشكلة مسموعة ومعروفة (الصورة ما واضحة) ، وهذا يؤدي لغبن في كل الاتجاهات، ونحن محتاجون نضيء مصابيح التنوير لنا وللآخرين، وتحرير العقول من الأوهام والشائعات، وصحي الناس مغبونة من الخسائر والجراح التي وقعت عليها، ولكن الغبن دون وعي وطاقة معرفة تكون بلا نتائج.
الحسرة على وماذا؟
الحسرة على النخب وهذه المجموعات الرخيصة التي أصبحت سلعة يشتريها عبد الرحيم دقلو بأرخص الأثمان، الحسرة على الأحزاب السياسية الصدئة التي اكتشفها الناس بأنهم مجرد سوس، والحسرات كثيرة جدًا على الجوار.
“تقــــدم” هذه المجموعة هل استنفدت كل فرصها فى البقاء؟
هي “تقــــــــــزم” في الحقيقة، ولدت ميتةً لأنها ولدت من رحم التمرد وخُصبت بماء الخيانة والعمالة، وخرجت جنينًا مشوهًا وميتًا، وبالتالي الحديث عن “تقدم” يعني الحديث عن التمرد بل بصورةٍ أسوأ، باعتبار أنّ التمرد يقاتل في القضايا المتوهمة لديهم ولكن( ما معقول) قوى مدنية وتصطف خلف قوى متمردة عسكريًا وتوقع معها مصفوفة سياسية تتجاهل كل المعايير والسقوف الإنسانية.
حزب (الأمة القومي) صدم السودانيين بموقفه في الحرب؟
أنا من 2002 فقتُ وتفأجاتُ بأنّ الوضع في حزب الأمة هكذا، وكنا نقول للسيد الصادق إذا لم تُبنى المؤسسات سيُدار الحزب بالأسرة وسيؤول الصراع الأسري، وعلى الشعب السوداني أن يتجاوز هذه الأحزاب والأوهام ويقف على حقيقة إنه ما عندنا ما يسمى بالأحزاب، والتي أصبح عبد الرحيم ينظف بها حذاءه.
البلاد افتقدت العقلاء (الترابي، والمهدي ونقد) وآخرين؟
نسبيًا اتفق معك، ولكن في الحقيقة إنّ الذي نحن فيه حصاد فشل كل المجموعة السياسية من لدن الاستقلال ليومنا هذا ولا أستثني أحدًا، بنينا أحزابًا هشةً وضعيفة وكانت عُرضةً للاختراق، وكنا أقرب دائمًا على مستوى قياداتنا الحزبية للمغانم الشخصية من التجرد لصالح الوطن، وللأسف الآن 90% من الأحزاب والقيادات أدوات في يد المطابخ الخارجية.
هل تتوقع حسم هذه الحرب عسكريًا أم بالتفاوض؟
هنالك من يستخدم كلمة “تفاوض” استخداما مُبهما، والتفاوض الذي يقود لإنهاء التمرد مرحبًا به، ولكن الذي يعود بالدعم كقوى مزدوجة وموازية للجيش (دا تفاوض يعيد إنتاج الأزمة)، والحسم هو الحاسم سواءً كان عسكريًا أو تفاوضًا يقود لإنهاء التمرد.
صراعات حزب الأمة القومي بين الطموحات الشخصية والروافع الأُسرية، هل هي سبب الأزمة الآن فى الكيان العتيق؟
بالمعايير العلمية التي توصف بالأحزاب ما عاد هنالك حزب اسمه “الأمة القومي”، وهنالك أُسرة فقط ومنقسمة، والانقسام متخلف وليس على فكرة وإنما انقسام لمصالح أولاد زوجة محددة من الجانب الآخر، أما الحزب الذي يهتم بمشاكل الجماهير غير موجود.
وماذا عن قيادات الحزب برئاسة بُرمة؟
بُرمة مسألة السياسة بالنسبة له مسألة معايش يقتات منها ويسترزق منها مثل ما كان يفعل أيام الإنقاذ حينما كان يسلم تقاريرًا شهريةً لمكتب بكري حسن صالح عن الاجتماعات داخل حزب الأمة، والآن غير سيدًا بسيد وأصبح يعمل تحت إمرة عبد الرحيم.
عثمان ميرغني أدلى بإفاداتٍ تجرم “قحت” حول اشتراكها فى الحرب، ولكن يرى البعض بأنّ عثمان يراوغ؟
عثمان من الإعلاميين الذين لديهم موثوقيةً عالية بالمصادر الغربية، وليس لديه اهتمام بمؤشرات الحركة الداخلية، ولهذا قراءاته كلها (مضطربة وفاشلة).
من أشعل الحرب؟ الاتهامات متبادلة، “تقدم” تتهم “الإسلاميين”، و”تقدم” نفسها متهمة من الجميع؟
أشعل الحرب “الاتفاق الإطاري”، لأنّ “حميدتي” تحرك في 15 أبريل ليحوذ الامتيازات التي وفرها له “الإطاري”، ومن يقف خلف “الإطاري” “الرباعية وقحت”.

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • حسن إسماعيل: هذا هو السبب الذي اشعل الحرب في السودان(….)
  • مديرة المتاحف السودانية لـ«التغيير»: قوات الدعم السريع سرقت الآثار وهربتها
  • المستشار الثقافي والمدير الإداري بالسفارة السودانية يشاركان في فعالية توقيع كتاب الموت بالدانة لـ د. بخيتة أمين
  • أول توثيق للمأساة السودانية بقلم ناشطة نسائية
  • امتحانات الشهادة السودانية ستنعقد (قريبا جدا)
  • جبريل يتهم أمريكا بالتورط في الحرب السودانية
  • تأثير الحرب السودانية على التراث الثقافي: نهب المتاحف والمواقع الأثرية
  • «التايمز البريطانية»: الآثار السودانية المنهوبة تُباع على الإنترنت بشكل غير مسبوق
  • مليشيا الدعم السريع تبيع الآثار السودانية المنهوبة على الإنترنت