الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة
تاريخ النشر: 17th, September 2024 GMT
كل الدراسات حول الشركات الأمنية والعسكرية التي اطلعت عليها لم اجد فيها دراسة أشارت إلى احتمالية تمرد احدى الشركات الأمنية أو العسكرية، ورغم أن ما حدث في روسيا من تمرد لشركة فاغنر ضد روسيا يعتبر أمرا غريبا بالنظر الى المعايير والقوانين التي تحكم عمل هذه الشركات حول العالم ومهامها وواجباتها وطبيعة علاقتها بالدولة، لكن يفهم في سياق طبيعة النظام السياسي في روسيا وبالتالي العلاقة بين الحكومة الروسية والشركات الأمنية وغيرها من الشركات شبه الحكومية، كما تشير تكهنات أن وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية (GRU)رغم نفي روسيا المستمر بأن يكون لفاغنر أي صلة بالدولة، تمول وتشرف سرا على مجموعة فاغنر، وهذا يختلف كليا عن طبيعة العلاقة بين الشركات الأمنية في الدول الغربية الديمقراطية.
وتمرد قوات الدعم السريع ليس ببعيد عن توصيف حالة شركة فاغنر وعلاقتها بالحكومة، صحيح أنها لم تبدأ كشركة بالمفهوم العام، لكنها كانت تنوب عن أهل المناطق التي تهاجمها الحركات المتمردة في دارفور، كان أهل تلك المناطق يوفرون لها المال، ومنذ 2003 أصبحت تلك القوات تستعين بها الحكومة لتعزيز عمليات الجيش والقيام بعمليات نوعية سريعة بمرونة لا تتوفر للجيوش النظامية عادة. ثم تمددت هذه القوات وزادت عدتها وعتادها وعدد أفرادها باستجلاب مرتزقة من عدة دول أفريقية تقع في غرب افريقيا، ثم سيطرت على عدد من مناجم الذهب ثم انشأت عدد من الشركات، وارتبطت بعلاقات مع شركة فاغنر الروسية؛ مما مكنها من زيادة أسلحتها ونوعها، بل امتدت علاقاتها الى الخارج حيث طرحت نفسها كقوة قادرة على محاربة الهجرة غير الشرعية، وكقوة أثرت على المشهد السياسي داخل السودان، بل تخطت قواتها حدود السودان لتقاتل ضمن القوات المشاركة في عملية عاصفة الحزم في اليمن ضد جماعة أنصار الحوثي. لذلك يتضح جليا التشابه الكبير بين شركة فاغنر وقوات الدعم السريع في عدة أوجه آخرها القيام بالتمرد على الدولة.
أصبحت شركات الأمن الخاصة (PSCs) صناعة راسخة في جميع أنحاء العالم، وتنتشر في بعض بلدان مثل روسيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا وإسرائيل وجنوب إفريقيا والفلبين، وهذه الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة هي كيانات تجارية خاصة تقدم خدمات عسكرية أوأمنية، وتشمل هذه الخدمات العسكرية والأمنية بصفة خاصة الحراسة المسلحة وحماية الأشخاص، القوافل، المباني والأماكن الأخرى؛ وصيانة وتشغيل منظومات الأسلحة، احتجاز السجناء وتقديم المشورة للقوات المحلية وأفراد الأمن أو تدريبهم ( ).
ونظراً لتضخم المهام التي تقوم بها هذا الشركات، فقد بدأت تبحث عن غطاء أخلاقي أو سياسي لتبرر نشاطها وتحظى بمصداقية وشرعية، وفى سبيل ذلك اتجهت هذه الشركات تساندها الحكومات التي تديرها أو تستفيد منها إلى الترويج لنفسها باعتبار أنها شركات تقدم خدمات تكنولوجية وتدريبية، وأن دورها ليس إشعال الحروب وقتل الأبرياء، وكان النموذج الإيجابي الذي طرحته هذه الشركات لنفسها هو الذي قامت به شركة"Outcomes Executive " الجنوب أفريقية في سيراليون عام 1995حينما نجحوا في إعادة الاستقرار للبلاد وطرد المتمردين وإعادة 300 ألف لاجئ إلى بلدهم، ومن هنا بدأت هذه الشركات تتحرك لتحظى بموافقة مسئولي الأمم المتحدة على إسناد مهام لهم، بيد أن الحرب الأمريكية على العراق عام 2003 وما أعقبها من احتلال لهذا البلد، كشفت عن حجم هذه الشركات وعن الجرائم التي ارتكبتها والانتهاكات الخطيرة، وبددت كل المزاعم حول شرعيتها. يذكر أن أعمال هذه الشركات القذرة تخالف مدونة السلوك الدولية لخدمات الشركات الأمنية الخاصة عام 2010، التي جاء فيها بأنها " أي نوع من الأعمال أو الكيانات بأي صيغة كانت (سواء كانت ملكية خاصة أو عامة أو مؤسسة)، التي تقوم بحراسة وحماية الأشخاص والممتلكات، كمرافقة المواكب الرسمية وحماية المؤسسات ومواقع محددة وحماية الممتلكات أو أية أماكن أخرى، أو أي نشاط آخر لأجله تقوم الشركات أو الأشخاص بحمل أو استخدام السلاح لإنجاز واجباتهم“. بالإضافة إلى ذلك تخالف تلك المهام الجديدة معايير منظمة الأمم المتحدة، التي صدرت لتوضيح ماهية خدمات الشركات الأمنية الخاصة:
أ- توفر الخدمات الأمنية المدنية الخاصة خدمات شاملة تهدف بوجه عام إلى حماية وتأمين الناس والبضائع والأماكن والأحداث والعمليات والمعلومات من المخاطر.
ب- يقوم بالخدمات الأمنية المدنية الخاصة أشخاص اعتباريون أو طبيعيون يعملون لقاء أجر.
ج- مقدمو الخدمات الأمنية الخاصة هم جهات معتمدة رسميا وتخضع للوائح تنظيمية والقوانين.
د- يمكن أن تكون الخدمات الأمنية الخاصة خدمات وقائية أو داعمة لأجهزة تنفيذ القانون الرسمية.
تزامن ظهور الشركات الأمنية الخاصة وبروزها مع انسحاب الدولة من كافة الأنشطة الاقتصادية ليقتصر دورها على مهام حفظ الأمن والدفاع، ثم بدأت مرحلة خصخصة الأمن وعرضه في الأسواق كسلعة مادية، بالإضافة إلى الرغبة في تنفيذ عمليات وأنشطة خارجة عن القوانين والمواثيق المعهود بها سواء من قبل الدولة الوطنية أو المجتمع الدولي، أي الإسهام في القيام بانقلابات عسكرية لتغيير الحكومات التي ترفض الخضوع، دون التورط علانية في مثل هذا السلوك غير المشروع.
عرف الكاتب دبليو سنجر الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة في كتابهCorporate Warriors بأنها " تلك الكيانات التجارية الخاصة التي تقدم للمستهلكين مجموعة واسعة من الخدمات العسكرية والأمنية، حال اعتبارها عموما في إطار السياق العام حصرا " ( ).
ونذكر هنا أن البحوث الأكاديمية تقسم الجهات الأمنية غير الحكومية إلى فئتين: الشركات العسكرية والأمنية الخاصة.
لذلك هناك العديد من التعريفات المختلفة لكلا المصطلحين في المؤلفات الأكاديمية، وتعرف الفئة الأولى بأنها " شركات تقدم خدمات متخصصة تتعلق بالحرب والصراع، بما في ذلك القتال العمليات والتخطيط الاستراتيجي وجمع المعلومات الاستخبارية والدعم التشغيلي واللوجستي والتدريب والمشتريات والصيانة؛ اما الفئة الثانية تعرف على أنها كيانات تجارية تقدم خدمات أمنية ذات طبيعة شرطية أساسًا للعملاء من القطاعين الخاص والحكومي بهدف تحقيق الربح " ( ).
وعرفت الاتفاقية الدولية حول الشركات العسكرية والأمنية الخاصة كما يأتي: "الشركات العسكرية والأمنية الخاصة هي منظمة تنشأ استناداً إلى تشريع دولة طرف لتقدم على أساس مأجور خدمات عسكرية أو أمنية من خلال أشخاص طبيعيين أو كيانات قانونية تعمل وفق ترخيص خاص وتشمل الخدمات العسكرية إلى الخدمات المتعلقة بالأعمال العسكرية بما فيها العمليات القتالية والتخطيط الاستراتيجي والاستخبارات والدعم اللوجستي والتدريب والدعم التقني وغيرها، أما الخدمات الأمنية فتشمل الحراسة المسلحة للممتلكات والأشخاص وتفعيل تطبيق إجراءات الأمن والمعلوماتية والنشاطات الأخرى المتضمنة استخدام وسائل تقنية ليست ضارة بالأشخاص والبيئة بغرض حماية المصالح والحقوق المشروعة لعملائهم " ( ).
أبرز الشركات الأمنية والعسكرية
الشركات العسكرية والأمنية الخاصة هي شركات عابرة للحدود، هدفها الدخول في تعاقدات مقابل مليارات الدولارات تدفع لها ولمرتزقتها الذين تجندهم من بقاع مختلفة من العالم لتأجير خبراتهم القتالية في معارك وبؤر صرعات مسلحة، ويظهر ذلك بصورة واضحة في أفغانستان، العراق، ليبيا، سوريا واليمن، حيث تنشط هناك شركات عسكرية خاصة أمريكية وروسية، لحساب دول وجيوش تسعى لتخفيض النفقات والخسائر البشرية والمساءلة القانونية؛ وفيما يلى ابرز تلك الشركات:
أ- شركة بلاك ووتر Blackwater Companyالأمريكية
بلاك ووتر شركة أمريكية تقدم خدمات أمنية وعسكرية للحكومات والأفراد عبر العالم، تأسست بلاك ووتر وفقا للقوانين الأمريكية في العام 1997 على يد إريك برنس، الضابط السابق في مشاة البحرية المعروفة باسم المارينز، وهي تعتمد على مرتزقة من المتقاعدين والقوات الخاصة من مختلف أنحاء العالم. توقع الشركة عقودا مع حكومات في دول عديدة من أجل تقديم خدماتها لها بعد موافقة حكومة الولايات المتحدة. يتقاضى المنتمين إليها تعويضات مالية مغرية مقابل الخدمات التي يقدمونها ( ). يذكر ان اسم الشركة تغيير الى (إكس اي للخدمات) في عام 2009، وتعرف حاليا باسم أكاديمي منذ عام 2011 بعد أن حصلت الشركة على مجموعة من المستثمرين الخاصين؛ تعمل هذه الشركة في جميع أنحاء العالم، وتقدم خدماتها الأمنية من تدريب وعمليات خاصة إلى الحكومة الإتحادية للولايات المتحدة والأفراد على أساس تعاقدي. حيث قدمت أكاديمي خدماتها إلى وكالة الاستخبارات المركزية منذ عام 2003، وشمل ذلك عقد بمبلغ 250 مليون دولار عام 2010 وحصلت الشركة في عام2013 عقد بقيمة 150 مليون دولار تقريبا لحراس أمن وزارة الخارجية الأمريكية، هذا ويبلغ معدل الدخل اليومي للعاملين في هذه الشركة بين 300 و 1000 دولار ( ).
ب- شركة فاغنر Wagner Group الروسية
تعتبر فاغنر الروسية إحدى أشهر الشركات العسكرية التي تنشط في المنطقة العربية منذ 2014، تتولى حاليا العمليات في الحرب الأهلية السورية الى جانب الحكومة السورية، وعملت كذلك في الحرب الاوكرانية في دونباس في الفترة من 2014 إلى 2015، وتتولى "فاغنر" تدريب عناصر من شركتين، لحماية الاستثمارات الروسية في سوريا، وفاغنر هي وحدة تتمتع بالاستقلالية تابعة لوزارة الدفاع الروسية أو مديرية المخابرات الرئيسية، والتي تقول بعض التقارير أن الحكومة الروسية تستخدمها في النزاعات، حيث يتم تدريب قواتها على منشآت وزارة الدفاع. ويقول خبراء عسكريون لـ (بي بي سي) إن الأسلحة المتطورة التي استخدمها مقاتلوا فاغنر في ليبيا غير متوفرة في سوق الأسلحة ولا يمكن الحصول عليها إلا من خلال اتصالات حكومية على أعلى المستويات وهذا يدلل على العلاقة بين الحكومة الروسية وشركة فاغنر وتمويلها لها. يعتقد أنها مملوكة لرجل الأعمال يفغيني بريغوجين ( )؛ تعود جذور شركة فاغنر إلى شركة أوريل Orelالعاملة في مجال مكافحة الإرهاب والتي تأسست رسميا في مدينة أوريل في عام 2003 التي تمتلك مركزاً للتعليم والتدريب غير الحكومي. وهي شركة أسسها أفراد متقاعدين من القوات الخاصة، ووقعت تلك الشركة عقودا مع شركات مدنية روسية مختلفة لحماية عملياتها التجارية في العراق، وتنشط المجموعة في ليبيا منذ 2016 وتدعم القوات الموالية للقائد العسكري خليفة حفتر. ويُعتقد أن ما يصل إلى ألف مرتزق من فاغنر شاركوا قوات حفتر في الهجوم الذي شنته على الحكومة الرسمية في طرابلس عام 2019، ودعيت مجموعة فاغنر إلى جمهورية أفريقيا الوسطى عام 2017 لحراسة مناجم الماس، وفي الآونة الأخيرة دُعيت مجموعة فاغنر أيضا من قبل حكومة مالي لتوفير الأمن ضد الجماعات الإسلامية المتشددة، وقد كان لوصول المجموعة إلى مالي أثر على قرار فرنسا بسحب قواتها من البلاد عام 2021. كما وردت تقارير إعلامية تفيد بأن المجموعة تنشط كذلك في السودان بالتعاون مع قوة الدعم السريع في مجال استخراج الذهب، حيث تعمل على حراسة مناجم الذهب وتوفر التدريب لقوات الدعم السريع؛ ظهرت فاغنر لأول مرة في شرق أوكرانيا في عام 2014، حيث ساعدت الانفصاليين المدعومين من روسيا في السيطرة على الأراضي الأوكرانية وفي إنشاء جمهوريتين منفصلتين في منطقتي دونيتسك ولوهانسك ثم باخموت. انبثقت عن شركة أوريل Orel عدة شركات من أبرزها شركة مجموعة موران للأمن التي سجلت رسميا في عام 2011، وهي تقدم خدمات الحماية في المجال البحري بما في ذلك الحراسة المسلحة للسفن، ولديها أنشطة في أفريقيا الوسطى وكينيا ونيجيريا، وتمتلك عدد من السفن البحرية الخاصة بها المسجلة في جزر الكوك ( ). تشير مصادر عدة الى إن قاعدت فاغنر التدريبية في مولكينو بجنوب روسيا، حيث توجد جنبا إلى جنب مع قاعدة عسكرية روسية.
بعد الحرب الروسية الأوكرانية في عام 2022، ازداد نفوذ بريغوجين كقائد للمجموعة العسكرية الخاصة فاغنر، وزادت قوتها حيث انضم إليها أكثر من 50,000 مقاتل في يناير 2023 فقط، بعد أن كان عددها عدة آلاف من المقاتلين في 2018.
ج ـ جي فور إس (Group 4 Securicor) البريطانية
هي شركة خاصة للخدمات الأمنية، متعددة الجنسيات بريطانية الأصل مقرها في لندن، تأسست في العام 2004 عندما اندمجت شركة Securicor ومقرها لندن مع شركة Group 4 Falck الدنماركية، وتمتلك الشركة أكبر جيش خاص في العالم بعد وول مارت وفوكسكون، حيث يبلغ عدد موظفيها 657 ألف موظف. تقدم الشركة مجموعة من الخدمات، بما في ذلك توريد أفراد الأمن ومعدات المراقبة ووحدات الاستجابة والنقل الآمن للسجناء. تعمل G4S أيضًا مع الحكومات في الخارج لتقديم خدمات الأمن، كما تصنّف على أنها أكبر شركة أمنية في العالم من حيث ايراداتها وعملياتها التي تشمل 125 دولة وقدّر دخلها السنوي في عام 2014 بنحو 6 مليار و848 مليون جنيه إسترليني.
يذكر أن شركة G4S سابقًا كانت مدرجة في البورصة المزدوجة مع قوائم في بورصتي كوبنهاغن ولندن، وقد تم شراؤها من قبل شركة Allied Universal في أبريل 2021 ( ).
omarmahjoub@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: العسکریة الخاصة الخدمات الأمنیة الأمنیة الخاصة الدعم السریع شرکات الأمن هذه الشرکات خدمات الأمن تقدم خدمات شرکة فاغنر فی عام بما فی
إقرأ أيضاً:
عزرائيل السوريين.. ما هي الأجهزة الأمنية خلال حكم الأسد؟ وما مصيرها؟
لطالما مثلت الأجهزة الأمنية في سوريا خلال فترة حكم عائلة الأسد رمزًا للرعب والقهر والقتل، حيث ارتبط اسمها بقوائم لا تنتهي من حالات الاعتقال التعسفي والتعذيب الممنهج، مما أدى إلى وفاة عشرات الآلاف من السوريين واختفائهم بلا رجعة داخل أقبيتها، فلا عجب أن أطلق عليها السوريون أسماء مثل "أجهزة الرعب" و"عزرائيل"، في إشارة إلى قسوتها وتوحشها.
في الحقيقة، لم تكن عائلة الأسد، في عهد الأب والابن على السواء، سوى انعكاس لسلطة هذه الأجهزة التي جاوز نفوذها نفوذ الحزب، والحكومة، والبرلمان، والقضاء، وكل مؤسسات الدولة مجتمعةً، حتى صارت معها المؤسسات السورية مجرد هياكل فارغة على هامش السلطة الحقيقية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2حديث الجنود.. معركة تحرير سوريا كما لم تروَ من قبلlist 2 of 2"دبلوماسية الهدهدة".. كيف يتحرك أحمد الشرع في حقل الألغام السوري؟end of listومع انطلاق الثورة السورية في عام 2011، تحولت هذه الأجهزة إلى أدوات قتل وتدمير حقيقية، حيث يرى السوريون أنها لعبت دورًا محوريًا فيما آلت إليه البلاد من دمار وخراب. إنها ليست مجرد أجهزة أمنية، بل منظومة قمع شاملة شكّلت ملامح السلطة السورية لعقود طويلة.
ومع انهيار نظام بشار الأسد وما سبقه من انهيار سريع ومفاجئ لجيشه في غضون 11 يومًا فقط خلال ديسمبر/كانون الأول الماضي، أصبح مصير هذه الأجهزة الأمنية سؤالا لا يفارق أذهان السوريين الذين عاينوا وحشيتها على امتداد 5 عقود، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل: ما هي تلك الأجهزة الأمنية؟ وكيف كانت هياكلها؟ وما مصيرها الآن بعد سقوط النظام الذي تولت حماية عرشه وتثبيت أركانه؟
من المؤكد أن الأجهزة الأمنية، أو أجهزة المخابرات كما يعرفها السوريون، في عهد الأسد كانت هياكل ضخمة ومترهلة إلى حد بعيد. ويُعتقد أن تلك الأجهزة وظفت مجتمعةً عشرات الآلاف من العسكريين والمدنيين، بالإضافة إلى أمثالهم من المخبرين السريين.
إعلانوتقدّر بعض الأوساط عدد العاملين في تلك الأجهزة بما يشمل المخبرين؛ بنحو 300 ألف شخص، النسبة الكبرى منهم من لون طائفي واحد، وخاصة قياداتهم على اختلاف مستوياتها، وهي التي كانت تسيطر على عمل الجيش، ورافقت كل كتائبه في عملياته العسكرية منذ عام 2011 وحتى سقوط النظام.
ووفقا لتقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، كانت هناك 4 أجهزة رئيسية تتقاسم السلطة على الساحة السورية، هي: جهاز المخابرات العسكرية (الأمن العسكري)، وجهاز المخابرات الجوية، وجهاز المخابرات العامة (ويُعرف أيضا بأمن الدولة)، وأخيرا جهاز الأمن السياسي.
يقع المقر الرئيسي لكافة الأجهزة في العاصمة، ويتبعها العديد من الفروع التي تُعد صورة مصغرة عن الإدارة العامة. وبالإجمال، تتفرع هذه الأجهزة إلى 48 فرعا أساسيا، إضافة إلى فروع أصغر في المحافظات، ناهيك عن الفروع السرية غير المعروفة.
يشرف على الأجهزة الأربعة مكتب الأمن الوطني، وهو مكتب حلّ محل مكتب الأمن القومي سابقا بموجب مرسوم رئاسي عام 2012، والذي أتى بُعيد تفجير مكتب "خلية الأزمة في مبنى الأمن القومي" في ذات العام، والتي كانت تشرف على تطبيق الخطة الأمنية لمواجهة الحراك الثوري.
وفيما يلي معلومات أساسية عن الأجهزة الأربعة، حسبما أوردتها مراكز دراسات، منها مركز حرمون للدراسات المعاصرة، ومركز عمران للدراسات الاستراتيجية، وغيرهما.
جهاز المخابرات العسكريةهو جهاز تابع للجيش، وظيفته في الأصل تأمين الضباط والجنود والمنشآت العسكرية، بما يشمل مراقبة العسكريين وانضباطهم وولاءهم، لكنه منذ تشكيله مُنح حق التدخل في الشؤون المدنية، وله فروع في كل المدن السورية تمارس اختصاصات متباينة، فرع للتنصت وفرع للمداهمة وآخر للمعلومات وغيرها، ويُعتبر الأكثر قوة وتسلطًا بين أجهزة الأمن السورية.
مارس الجهاز عمليات قتل وتعذيب منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهو المسؤول عن مجازر عدة منها مجازر سجن تدمر، ومجازر وعمليات قتل جماعي في سجن صيدنايا. وللجهاز عدة فروع من أهمها فرع فلسطين الذي كان يُفترض أن يكون متخصصًا في مكافحة التجسس الإسرائيلي، غير أنه بات يتدخل في مختلف مناحي الحياة السورية. كما أن له فروعًا تختص بقضايا الإنترنت والاتصالات والاقتصاد والنشر والصحافة وغيرها.
إعلانيتبع الجهاز وزارةَ الدفاع إداريا وماليا دون أن يكون لوزير الدفاع أي سلطة عليه. والحقيقة أن الجهاز هو الذي يتدخل في تعيين وزير الدفاع ونوابه ورؤساء الأركان، وترسيم حركات تنقلات الضباط في الجيش، ويعيَّن رئيسٌه بقرار مباشر من رئيس الجمهورية. كان آخر من تولى رئاسة الجهاز في عهد النظام المخلوع اللواء كفاح ملحم، الذي عيّنه الأسد في مارس/آذار 2024 خلفا للواء محمد محلا.
يتشكل الجهاز من عدة فروع مركزية تقع مقراتها جميعا في دمشق، وأهمها الفرع 291 وهو الفرع الإداري، ويسمى أيضاً فرع المقر أو فرع الأفراد. وظيفة هذا الفرع مراقبة الأداء داخل الجهاز، وتلعب التقييمات الصادرة عنه دورا في ترقية أو إبعاد أو نقل العاملين ضمن الجهاز.
بعد ذلك يأتي الفرع 293، وهو فرع شؤون الضباط أو أمن الضباط، ويحتوي على ملفات التقييم والمراقبة والمتابعة لكافة ضباط الجيش، وله دور أساسي أيضا في ترقية أو إبعاد أو نقل ضباط الجيش أو تعيينهم في مراكزهم، ويملك رئيس هذا الفرع إمكانية الاتصال مباشرة برئيس الجمهورية ورفع تقاريره له.
يتكامل أداء هذا الفرع مع الفرع 294 أو فرع أمن القوات، وهو المسؤول عن مراقبة تحركات قطع الجيش والقوات المسلحة (باستثناء القوات الجوية والدفاع الجوي)، ويمارس مهمة إشرافية على جهاز الشرطة العسكرية ووحداتها الملحقة بالتشكيلات العسكرية.
ثم هناك الفرع 235 المعروف أيضا باسم "فرع فلسطين"، وهو من أهم فروع الجهاز وأقدمها، حيث يعادل حجم المهام الموكلة إليه حجم إدارة استخباراتية كاملة، وله نشاط داخلي وخارجي. كان يُفترض أن يكون هذا الفرع متخصصا بالنشاط ضد إسرائيل والأمور المتعلقة بالحركات الفلسطينية، إلا أن مهامه توسعت كثيرا وأضحت تشمل مطاردة الحركات الإسلامية والعمل على اختراقها.
ومن اختصاصات هذا الفرع أيضاً مراقبة اللاجئين الفلسطينيين المقيمين على الأراضي السورية، إذ يتبع الفرعَ وحدة تسمى وحدة الضابطة الفدائية تختص بشؤون الحركات الفلسطينية المسلحة التي تتواجد بسلاحها بشكل رسمي على الأراضي السورية (مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – أحمد جبريل).
إعلانالفرع التالي هو فرع المعلومات، المختص بجلب وتقييم المعلومات المتعلقة بعمل الجهاز وإعداد الدراسات اللازمة، ويحوي عددا من الأقسام المختلفة منها قسم للأديان والأحزاب السياسية، ويراقب أيضا نشاط وسائل الإعلام المحلية والعالمية المسموعة والمقروءة والمرئية بما يشمل شبكة الإنترنت. وبعده فرع الدوريات (رقم 216) الذي ينفذ كافة الأوامر القيادية سواء المركزية أو الفرعية المتعلقة بالمهام الأمنية الميدانية، ويدير عددا من السجون الوحشية.
يضم الجهاز أيضا، الفرع 237 ويسمى فرع الإشارة وهو مسؤول عن اتصالات الجيش والأمن وتشفيرها. إضافة إلى فرع الكمبيوتر (رقم 211) المختص بالخدمات المتعلقة بالكمبيوتر والإنترنت في الجهاز، ومن مهامه أيضاً مراقبة الإنترنت ورصد كافة النشاطات الافتراضية، كما يتدخل في قضايا القرصنة وحجب المواقع أو رفع الحجب عنها. ويناظره الفرع 225 أو فرع الاتصالات المسؤول عن مراقبة اتصالات الهاتف والفاكس.
ولا ننسى ذكر الفرع 248 أو "فرع التحقيق العسكري"، وهو هيئة التحقيق الرئيسية لجهاز الأمن العسكري والذي يعتبر ثاني أسوأ فرع في الجهاز من حيث الانتهاكات بعد فرع فلسطين. ويتكامل عمله مع فرع 215 أو "سرية المداهمة والاقتحام"، الذي يضم حوالي 4000 عنصر مدرب على كافة المهام الخاصة المتعلقة بعمليات الاقتحام والخطف والاغتيال وإلقاء القبض على المطلوبين المستعصين عن باقي الفروع.
وأخيرا وليس آخرا، يأتي فرع مخابرات القنيطرة "فرع سعسع" (أو الفرع 220) ويختص بالشؤون الاستخبارية في الجولان المحتل، ويراقب قوات الطوارئ الدولية (أندوف) العاملة هناك.
الجدير بالذكر أنه إلى جانب هذه الفروع المركزية، هناك عشرات الفروع الفرعية للجهاز تنتشر في كافة محافظات سوريا، وقد يتبعها -حسب الحاجة- أقسام على مستوى المناطق ومفارز على مستوى النواحي، وتأخذ هذه الفروع أرقاما تدلل على هويتها.
إعلانمن الملاحظ أيضا في شعبة المخابرات العسكرية أن نسبة أبناء الطائفة العلوية فيها من ضباط وصف ضباط وأفراد تبلغ حوالي 80%، ومعظم العاملين فيها منتدبون من باقي قطاعات الجيش، باستثناء بعض المجندين الذين يكلفون بمهام الحراسة والحجابة والمداهمة، كما تتبع لها مدرسة المخابرات العسكرية التي تخرّج العناصر التي تنخرط في الجهاز مباشرة.
جهاز المخابرات الجويةيتبع هذا الجهاز القواتِ الجويةَ في الجيش، وكانت مهمته حماية سلاح الجو السوري، إضافة إلى طائرة الرئاسة وأمن الرئيس خلال وجوده خارج سوريا، وله سجون داخل القواعد الجوية. وتحوّل هذا الجهاز منذ انطلاق الاحتجاجات عام 2011 إلى ذراع رئيسي للقتل والقمع، وساهم في الكثير من المجازر التي شهدتها سوريا منذ ذلك الحين.
للجهاز 6 فروع في العاصمة دمشق بخلاف فرع التحقيق الخاص به، أولها الفرع الإداري الذي يحتوي على ملفات جميع العاملين ضمن الجهاز، والمسؤول عن ترقية أو إبعاد أو نقل هؤلاء العاملين، يليه فرع المعلومات ويحوي العديد من الأقسام منها قسم للأديان والأحزاب السياسية، ويتولى أيضاً نشاط وسائل الإعلام المحلية والعالمية المسموعة والمقروءة والمرئية، بما فيها مواقع الإنترنت.
بعد ذلك يأتي فرع التحقيق، وكما يشي اسمه فهو المكان الذي تجري فيه عمليات التحقيق المهمة، ويعتبر من أسوأ فروع المخابرات في التعذيب والانتهاكات. ثم هناك فرع المطار ومقره مطار المزة، وهو مسؤول عن أمن المطار الرئاسي وأمن الطائرة الرئاسية، وعن المهام الاستخبارية المتعلقة بالأمن الشخصي للرئيس أثناء تنقلاته في الخارج.
الفرع التالي هو فرع العمليات، وهو المسؤول عن العمليات الداخلية والخارجية للجهاز، بما فيها الأمور المتعلقة بسلاح الجو والتي تتطلب جهداً استخبارياً خارجيا، وينسق مع فرع المطار أثناء تأدية المهام الاستخبارية الخارجية المتعلقة بأمن الرئيس أثناء تحركاته. وينتشر عملاء هذا الفرع في مكاتب الطيران السورية بالخارج. وأخيرًا يأتي فرع العمليات الخاصة المنتشر في كافة المحافظات السورية على شكل أقسام، حيث يقوم بأعمال ميدانية مستعيناً بمن يشاء من وحدات الدفاع الجوي والقوى الجوية والمطارات العسكرية وحتى المدنية، بما فيها من طائرات وسلاح وعتاد.
إعلانإضافة إلى هذه الفروع المركزية، تقسم المخابرات الجوية الجغرافيا السورية إلى 6 مناطق تديرها من خلال فروعها الإقليمية الستة، وهي فرع المنطقة ويغطي مدينة دمشق وريفها ومقره مدينة دمشق، وفرع المنطقة الجنوبية ويغطي درعا والقنيطرة والسويداء ومقره مدينة دمشق أيضا. ثم فرع المنطقة الوسطى ويغطي حمص وحماة ومقره مدينة حمص، وفرع المنطقة الشمالية ويغطي حلب وإدلب ومقره مدينة حلب، وفرع المنطقة الشرقية ويغطي دير الزور والرقة والحسكة ومقره مدينة دير الزور، وأخيرا فرع المنطقة الساحلية ويغطي اللاذقية وطرطوس ومقره مدينة اللاذقية.
لهذه الفروع أقسام تتوزع في المحافظات التي لا يوجد فيها المقر الرئيسي لهذه الفروع، وأقسام أخرى في المناطق، ومفارز في النواحي والبلدات بحسب الحاجة.
جهاز مخابرات أمن الدولة (المخابرات العامة)يتخصص في ضمان "أمن الدولة" كما يوحي اسمه، إلا أن تفسيره للأمن يشمل كل شيء تقريبا، ونتيجة لذلك فإنه بسط سلطته على مناحي الحياة اليومية للسوريين من خلال عشرات الفروع المركزية والفرعية.
أولها فرع المعلومات (رقم 255) المسؤول عن جمع المعلومات في القطاعات الدينية والحزبية والإعلامية، وفيه تصبّ كل المعلومات الواردة إلى الإدارة من باقي الفروع المركزية وفروع المحافظات ومن المصادر الأخرى. كما يُصدر قرارات منع السفر والمراجعة للمواطنين الذين جرّمتهم سائر فروع الإدارة. ويلحق به الفرع (رقم 111) الخاص بمكتب مدير الإدارة العامة للمخابرات، وينظم كافة الملفات التي يشرف عليها مباشرة مدير الإدارة، ويتدخل في كافة ملفات الفروع، ومعظم العاملين فيه من الطائفة العلوية.
الفرع التالي هو فرع التحقيق (رقم 285) وهو مسؤول عن التحقيق بشأن المعلومات المحالة من الفروع أو المصادر الأخرى، وإليه يُحال معظم الموقوفين من المحافظات بعد التحقيق معهم في أقسام التحقيق الفرعية.
إعلانوجرت العادة أن يكون رئيس هذا الفرع ومعظم المحققين فيه من الطائفة العلوية. ثم يأتي فرع مكافحة الإرهاب (رقم 295) المسؤول عن تلقين العلوم العسكرية والأمنية، ورفع اللياقة والقدرة البدنية، بالإضافة إلى مهمته الرئيسية وهي المداهمة والاختطاف والاغتيال تحت شعار "مكافحة الإرهاب". وكان هذا الفرع من أول الفروع التي اعتمدت عليها الإدارة في قمع الحراك الثوري في درعا وبانياس.
الفرع التالي هو فرع مكافحة التجسس (رقم 300) المختص بمتابعة الأجانب والمشتبه في تعاملهم مع الجهات الخارجية، بالإضافة إلى مراقبة المؤسسات الحكومية والخاصة التي تتعامل مع الخارج. كما يتتبّع الفرع أنشطة وعلاقات الأحزاب والشخصيات السياسية، وتربطه أيضاً علاقات وظيفية مع الفرع الفني (رقم 280) المسؤول عن عمليات التنصت والتشويش والمراقبة الفنية، بالإضافة إلى دعم الفروع بكافة المستلزمات الفنية والتقنية، وتنفيذ كافة الأعمال الهندسية والكهربائية والميكانيكية بالإدارة وفروعها.
بعد ذلك يأتي الفرعان: الخارجي (رقم 279) ومهمته إدارة محطات الاستخبارات الخارجية في السفارات والقنصليات في دول العالم، والتحقيق بكافة المعلومات الواردة والمتعلقة بوزارة الخارجية، أو الوزارات التي تعتمد مبدأ البعثات والإيفاد الخارجي، إضافة إلى متابعة ومراقبة المواطنين السوريين المغتربين، وكافة أشكال عملهم السياسي والاجتماعي.
أما الفرع الداخلي (رقم 251) فهو فرع الإدارة في دمشق المسؤول عن أعمال "الاستخبارات المضادة" داخل سوريا وخاصة في دمشق وريفها. يتدخل هذا الفرع في تعيين المسؤولين الحكوميين، ورؤساء النقابات وغرف التجارة والمدراء العامين والجامعات وأمناء فروع الحزب وكافة المناصب المهمة في الدولة، وقد جرت العادة أن يكون رئيس هذا الفرع من الطائفة العلوية حصرا.
ومن الأشخاص الذين تم تكليفهم سابقاً برئاسة هذا الفرع بهجت سليمان ومحمد ناصيف وتوفيق يونس وأحمد ديب، ويضم بداخله قسماً يُعرف بالقسم أربعين، ويُعد بمثابة إدارة كاملة أسندت رئاستها لمدة طويلة إلى حافظ مخلوف (ابن خال بشار الأسد).
إعلانولا نغفل فرع التدريب (رقم 290) المنوط به تقديم كافة الدورات التي تهدف إلى رفع كفاءة عناصر الإدارة، والفرع الاقتصادي (رقم 260) المختص بالمتابعة والتحقيق في كافة القضايا المتعلقة بالاقتصاد والإدارة، سواء على مستوى المواطنين أو الشركات الخاصة أو على مستوى المؤسسات والهيئات والشركات العامة الرسمية.
إضافة إلى كل تلك الفروع، هناك العشرات من الفروع الإقليمية للمخابرات العامة في المحافظات، تتواجد بها أقسام مشابهة للفروع المركزية بدمشق، وتتمتع بنفس اختصاصاتها ولها نفس عملها لكن في حدود المحافظة. ولكل فرع منها أقسام ومفارز تتوزع في مختلف أرجاء المحافظة، ولكل بلدة أو قرية عنصر أمني مسؤول عنها، وبذلك تغطي الإدارة جميع المناطق أمنيا من خلال الآلاف من العناصر والمخبرين والمندوبين في كل المدن والبلدات والمؤسسات الخاصة والعامة.
جهاز الأمن السياسييتولى المسؤولية عن شؤون المواطنين وعلاقتهم بالدولة، ويعد بمثابة خزان المعلومات بالنسبة للنظام السوري.
ومن الناحية العملية، يختص الجهاز بملفات مثل الأحزاب المرخّصة والسرية، والحركات الإسلامية ونشاطاتها، وخطباء المساجد ومتابعتهم، والترخيص للمكاتب التجارية والمهنية، ومراقبة الوزارات ومؤسسات الدولة والموظفين وغيرها من التدخلات التي لا يحدّها قانون واضح. وبشكل عام، تتطلب الكثير من معاملات المواطنين أو طلبات ترخيص الأعمال والمنشآت موافقة شعبة الأمن السياسي التي تمتلك سجونا خاصة بها في عدة مدن سورية.
ورغم تبعية الجهاز/الشعبة رسميا لوزارة الداخلية إداريا وماليا، فإن الواقع غير ذلك، حيث يشرف الجهاز عمليا على أداء ضباط وعناصر الوحدات الشرطية، ويتمتع باتصال مباشر مع رئيس الجمهورية، وهو أكثر الأجهزة الأمنية تغلغلاً في المجتمع واحتكاكاً بالمدنيين وانتشاراً بين المواطنين.
يتأتى ذلك من خلال عدة فروع مركزية في دمشق، تتبعها فروع في المحافظات كما المعتاد في هيكلة الأجهزة النظيرة. أول الفروع هو فرع أمن الشرطة الذي يحتوي على ملفات جميع العاملين ضمن هذا الجهاز وله دور في ترقيتهم أو إبعادهم أو نقلهم، كما يوجد لديه ملفات عن جميع العاملين في وزارة الداخلية بمختلف رتبهم ووظائفهم.
إعلانبعده يأتي فرع المعلومات وتصبُّ فيه كل المعلومات والدراسات الواردة من الفروع المركزية الأخرى وفروع المحافظات، ويحوي عدداً من الأقسام منها قسم للطلاب يختص بالجامعات والمعاهد والمدارس ورياض الأطفال والقائمين على هذه المؤسسات، وكذلك قسم التجسس.
ويراقب الفرع أيضاً نشاط وسائل الإعلام المحلية المسموعة والمقروءة والمرئية، ويتعامل معها أيضاً بشكل مباشر أو غير مباشر فيما يهم عمل الجهاز.
ثم هناك فرع التحقيق وهو هيئة التحقيق الرئيسية لجهاز الأمن السياسي التي يحال إليها الموقوفون من فروع المحافظات والفروع المركزية الأخرى في الجرائم التي يعتبرها النظام هامة، وفرع الدوريات والمراقبة الذي يسيّر دوريات في مدينة دمشق وريفها، ويوظف أيضا في أعمال القبض والمداهمة.
أما فرع الأحزاب والهيئات فيراقب نشاطات الأحزاب بما فيها الحزب الحاكم والأحزاب "الصديقة" والأحزاب المعارضة و"المعادية" حسب تسميات النظام لها، إضافة إلى رصد أي نشاط سياسي معارض، وتتبّع المجموعات "الإرهابية" ومراقبة المساجد والكنائس وكافة النشاطات الدينية، ومنح التراخيص لأئمة وخطباء وخدم المساجد والدروس الدينية، ومنح تراخيص الجمعيات الخيرية والأهلية ومراقبة كافة الاجتماعات والمؤتمرات والاحتفالات، سواء أكانت موالية للنظام أم مناهضة له.
وكما يوحي اسمه، يجمع فرع الأمن الاقتصادي المعلومات المتعلقة بالوضع الاقتصادي التي ترد إليه من فروع المحافظات. كما يقدم عروضا دورية عن النشاط الاقتصادي لرئيس الجمهورية، ويحتفظ بأرشيف عن الموظفين الذين يتم توقيفهم بسبب أمور تتعلق بوظائفهم. أما فرع الديوان فيختص بتلقي المراسلات من كافة الفروع والدوائر والجهات الأخرى وإعادة إرسالها إلى الجهات المعنية بعد عرضها على رئيس الشعبة.
واحد من أهم فروع الجهاز هو فرع الشؤون العربية والأجنبية الذي تصب فيه كافة المعلومات المتعلقة بالأجانب والعرب الموجودين على الأراضي السورية، ويتلقى التقارير التي ترد إلى الشعبة من الخارج، كما يختص بالموافقة على الإقامات والنشاط الاقتصادي والاجتماعي للأجانب في سوريا ومراقبتهم. ويتقاطع معه فرع النظم المعلوماتية التي تُحفظ فيه السجلات الشخصية الورقية والمُؤَتْمتة للسوريين والعرب والأجانب.
إعلانولا ننسى فرع الشؤون الإدارية المكلف بتسجيل الأسلحة والذخائر والأثاث والأبنية والمشتريات بكافة أنواعها للفروع المركزية وفروع المحافظات، وفرع الإشارة الذي يتولى مهمة تأمين أجهزة الاتصال السلكية واللاسلكية لكافة الفروع ومراقبة الاتصالات ضمن الشعبة واتصالات وزارة الداخلية. وأخيرا فرع المركبات المُكلف بتأمين الآليات بمختلف أنواعها للفروع كافة.
وفيما يتعلق بالفروع الإقليمية، تضم شعبة الأمن السياسي 13 فرعا في 13 محافظة سورية، عدا محافظة القنيطرة التي تغَطى أمنياً من قبل فرع ريف دمشق. ويوجد لهذه الفروع أقسام في جميع مناطق القطر السوري ومفارز في النواحي، بحيث تُغطي كافة أرجاء البلاد. وتتولى فروع المحافظات مهمة مراقبة المواطنين على امتداد القطر، كما تقوم مفارزها وأقسامها بتجنيد المخبرين واستلام التقارير منهم وأرشفتها وتنظيمها وإرسالها إلى الفرع الخاص بالمحافظة.
الشبكات الأمنية السورية وأهدافهاكما هو واضح، يتقاطع عمل هذه الأجهزة الأمنية مع بعضها البعض لتصنع شبكة حمائية عنكبوتية مركزها النظام الحاكم ورأسه في دمشق. لكن النظام لم يكتف بكل ذلك، بل عمد إلى تشكيل وحدات أمنية خاصة ترتبط به مباشرة، ومنحها صلاحيات واسعة بعيدا عن يد الأجهزة الأمنية التقليدية.
أبرز هذه الوحدات هي قوات الحرس الجمهوري، التي تأسست في السبعينيات إثر الصدامات المسلحة التي وقعت بين نظام حافظ الأسد ومعارضيه في حماة وحلب، وهي قوة نخبة جيدة التسليح قوامها 10 آلاف جندي تقريبا ومهمتها الأساسية حماية العاصمة دمشق من أي تهديدات داخلية أو خارجية، ويُعتقد أن ضباط الحرس البارزين كانوا يتلقون حصصا مهمة من إيرادات النفط السوري لضمان ولائهم.
وبجانب الحرس الجمهوري، يبرز اسم الفرقة الرابعة للجيش التي طالما اعتُبرت احتياطيا استراتيجيا للنظام، ويعود تأسيسها إلى عهد حافظ الأسد وشقيقه رفعت الذي كان يقود "سرايا الدفاع" المسؤولة عن مجازر مدينة حماة عام 1982، قبل أن تُدمج تلك السرايا في الفرقة الرابعة بعد إبعاد رفعت الأسد إلى المنفى عام 1984.
إعلانيصل عدد أفراد الفرقة حسب مصادر إعلامية فرنسية إلى 15 ألف مقاتل، وتنحدر الغالبية الساحقة منهم من الطائفة العلوية. وتعد الفرقة الرابعة من أفضل تشكيلات الجيش السوري تدريباً وتجهيزاً، وتمتلك أحدث الآليات الثقيلة مثل دبابات "تي 72" الروسية، وكان يقودها -حتى سقوط النظام- العميد ماهر الأسد شقيق الرئيس المخلوع بشار الأسد.
يبرز أيضا نجم "قوات النمر"، وهي تشكيل حديث نسبيا عابر للتنظيمات العسكرية والأمنية، تأسست عام 2013 على يد سهيل الحسن المقرب من روسيا، كثمرة لتحالف بين المخابرات الجوية والجيش والفرقة الرابعة، وتُعد قوة ذات طبيعة خاصة تجمع بين العملين العسكري والأمني مع صلاحيات واسعة لاستخدام جميع مرافق الدولة بما يشمل المطارات العسكرية والمدنية.
وتهدف القوة إلى ضمان التدخل السريع دون عوائق بيروقراطية، وحماية المجال الحيوي للطائفة العلوية، ومنع أي تحركات احتجاجية في معاقلها. وتلقت القوة تمويلا من جمعية البستان التابعة لرامي مخلوف (ابن خال بشار الأسد)، وقد شاركت في معظم المعارك الرئيسية للنظام ضد معارضيه مثل ريف دمشق، حماة، إدلب، حمص، وريف اللاذقية، مستفيدة من دعمها الاجتماعي داخل الطائفة العلوية وصلاحياتها الواسعة.
عملت جميع هذه الأجهزة، وغيرها من الأجهزة الرديفة التي تشكلت خلال نحو 15 عاما من عمر الانتفاضة السورية، وفق فلسفة واحدة تقريبا هي مزج الولاء الطائفي للنظام بالمصالح والمنافع المادية الواسعة. وبينما نجح النظام في ربط هذه الأجهزة برابط من الولاء الوثيق ومنحها صلاحيات واسعة للتدخل في جميع مناحي الحياة، تحرص هي على تكريس التنافسية فيما بينها عبر توزيع النفوذ والمصالح، مثل التحكم بالمنافذ الحدودية بحيث أصبح كل منفذ حدودي تابعا لجهاز أمني واحد هو المسيطر عليه والمتحكم في عائداته، فالمنافذ الحدودية مع العراق تابعة لإدارة المخابرات العامة، والمنافذ الحدودية مع الأردن تابعة للمخابرات الجوية، والمنافذ مع لبنان للمخابرات العسكرية، والمنافذ مع تركيا للأمن السياسي.
إعلانوحتى داخل المؤسسات الأمنية ذاتها، زرع النظام بذور الشك والخوف بين الأعضاء بما يمنع نشوء تحالفات داخلية يمكن أن تهدده، وكرّس تركيبة طائفية متناقضة داخل دوائر القرار في كل فرع، لضمان الولاء المطلق. وقد سمحت هذه الفلسفة للأجهزة بالتركيز على هدف وحيد هو حماية النظام كجزء من حماية مكتسباتها التي توسعت باستمرار على حساب سائر النفقات المدنية، مثل الخدمات والتعليم والصحة.
وفي ظل تردي الخدمات والإدارة، عملت فلسفة الأمن على ربط المجتمع السوري كليًا بالنظام الأمني، وهو ما أعاق أي تطور أو إصلاح، وجعل الأجهزة الأمنية المصدرَ الفعلي والوحيد للسلطة في المجتمع. ولم تقف الأمور عند هذا الحد، بل أغرقت الأجهزة الأمنية المجتمع بعدد كبير من الفروع المتداخلة والمرجعيات المختلفة، بما أدى إلى تعقيد الحياة اليومية وفرض حصار بيروقراطي خنق أي محاولة للتنظيم الاجتماعي أو السياسي في مهدها.
الأجهزة الأمنية ورموزها ما بعد الأسدوالآن بعد سقوط النظام، يلف الغموض مصير تلك الأجهزة الأمنية التي أحالت حياة السوريين جحيما مقيما. وقد أعلن رئيس جهاز الاستخبارات العامة في الإدارة السورية الجديدة أنس خطاب، في 29 ديسمبر/كانون الأول 2024، عن خطط لإعادة تشكيل المؤسسات الأمنية من جديد بعد حل كافة الفروع وإعادة هيكلتها.
لن تكون تلك المهمة سهلة أو مفروشة بالورود في ظل تعقد الشبكات المرتبطة بهذه الأجهزة، لكن المهمة الأصعب بالتأكيد هي مطاردة ومحاسبة القادة الأمنيين الذين تحكموا في هذه المنظومة وفرّوا خارج البلاد أو اختبؤوا داخلها بلا أثر في انتظار فرصة للهروب، وعلى رأسهم بالطبع رئيس النظام بشار الأسد الذي فر بأسرته إلى موسكو التي منحتهم حق اللجوء، وشقيقه ماهر الأسد قائد الفرقة الرابعة، الذي تشير المصادر إلى أنه فر كذلك إلى روسيا.
وهناك أيضا علي مملوك، المستشار الأمني للأسد والرئيس السابق لجهاز المخابرات العامة، المدان من قبل محكمة فرنسية بالتورط في جرائم حرب، ويعتقد أنه فر إلى لبنان، ولا يُعلم إن كان لا يزال هناك أم لا. ولا نغفل الإشارة إلى رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد، والشخصية الاقتصادية الأكثر نفوذا في عهد الرئيس السابق، والذي أفادت تقارير أنه كان ضمن موكب يتحرك إلى لبنان من سوريا قبل أن يُطلق عليه النار من قبل مسلحين، ما أسفر عن مقتل أخيه إيهاب، وإصابة شقيقه إياد، وأن الموكب وصل إلى بيروت رغم ذلك، ولكن دون تأكيد رسمي للخبر.
إعلانتضم القائمة أيضا، سهيل الحسن، رئيس القوات الخاصة السورية التي كانت مفتاحاً للعديد من انتصارات النظام في مراحل سابقة من الحرب في سوريا، بما فيها حلب والضواحي الشرقية لدمشق، ومكانه غير معروف حتى الآن. هذا بالإضافة إلى حسام لوقا، رئيس جهاز المخابرات العامة، وقحطان خليل، رئيس المخابرات الجوية، وكلاهما مجهول المكان أيضا. وأخيرا وليس آخرا، علي عباس، وزير الدفاع السوري منذ أبريل/نيسان 2022 وحتى سقوط نظام بشار الأسد، والذي يعتقد أنه هرب بصحبة قحطان خليل من المطار قبل وصول المعارضة إليهما، ولا تزال وجهته غير معلومة هو الآخر حتى اليوم.