أكاديميون: مواقع التواصل الاجتماعي تهدد ثوابت وقيم المجتمع
تاريخ النشر: 16th, September 2024 GMT
العمانية: أكّد عدد من الباحثين والمختصين أنّ مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الاجتماعية أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، إلا أنها تُعدُّ سلاحا ذو حدين، إذ أفرزت عدّة تحدّيات، منها تأثيرات على السلوك الاجتماعي التي من شأنها أن تؤثر على تشكيل وتغيير علاقاتنا وهويتنا الاجتماعية.
وقال الدكتور رجب بن علي العويسي خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية بمجلس الدولة: إنّ منصات التواصل الاجتماعي أصبحت تؤدي دورا كبيرا في صناعة توجهات الشباب ورسم صورة المستقبل لديهم، والتأثير على الاتجاهات الاجتماعية والقيمية والأخلاقية، وتمجيد السلوكيات الاستهلاكية وتأثيرها على قناعاتهم الفكرية وطموحاتهم، بل في تقديرهم للواقع الاجتماعي، وقراءتهم للجوانب المتعلقة بالرغبات الشخصية والاحتياجات الذاتية.
وأضاف: إنّ التحولات التي ارتبطت بالمنصات الاجتماعية في ظل ظهور من يُسمَّون بالمشاهير والمؤثرين فيها، وحجم ما قدمته لهم الدعاية والإعلانات التجارية وبرامج التسويق والترويج من فرص اقتصادية وموارد مالية ومكاسب مادية بات يُلقي اليوم بظلاله على قناعات الشباب وتوجهاتهم الشخصية وقراءتهم للمستقبل بل وقناعاتهم حول التعليم والعمل والمهنة والوظيفة، والحريات الفكرية والاجتماعية ومفاهيم الاستقلالية الشخصية والعلاقات الأسرية والاجتماعية.
وذكر أنّ ما تتناوله منصات التواصل الاجتماعي باتت في أحيان كثيرة بصورة قد تتنافى مع الثوابت المجتمعية والأولويات، وبالتالي ظهرت طبيعة الصورة الذهنية التي بات يُسقطها الشباب على مشاهير هذه المنصات، والتباينات في المحتوى الرقمي المقدَّم واتجاهه نحو تمجيد الخروج على المبادئ والأخلاق وتعظيم ثقافة الاستهلاك والمنافسة المادية والاهتمام بالمظاهر الشخصية.
ولفت إلى ما يُثيره واقع منصات التواصل الاجتماعي من مشاهد وأحداث ومواقف -حتما تعبر عن ممارسات فردية وسلوكات شخصية- تدعو إلى المزيد من المراجعة والتأمل والبحث والتقصي في تبني سياسات وطنية تُعزز من المحتوى الرقمي المنتج في ظل ما يمنحه من تنوع في الخيارات والفرص والبدائل التي تمنح الشباب فرص الاختيار الكفء والأداء المتناغم مع الهوية والسمت العُماني.
وذكر أنّ ترهل الممارسة الفكرية عبر هذه المنصات وارتفاع سقف التأثير السلبي المعزز بصعود الهشاشة الفكرية والنفسية لدى الشباب في التعامل مع المعلبات الفكرية التي تُلقي سمومها هذه المنصات الاجتماعية -في أكثر الأحيان- باتت تُلقي بظلالها على النموذج الأخلاقي العماني وإعادة توجيهه بطرائق مختلفة في ظل تكرار الدعوات المبطنة أو المؤثرات الكونية والفضاءات المفتوحة التي تحاول رسم صورة ضدية لهذه الأخلاق في علاقتها بأولويات الإنسان المعيشية وضروراته الحياتية بالتقليل من مساحة الالتزام الأخلاقي.
وأكّد أهمية الالتزام الأخلاقي في استخدام منصات التواصل الاجتماعي باعتباره تعبيرا أصيلا عن فقه المجتمع العماني ومساحة أمان تحفظ المجتمع وتحافظ على كيانه، لتضع الأخلاق العمانية على المحك وتُشوّه صورة الشخصية العمانية التي غرفت من منابع العقيدة والقيم الأصيلة مع أهمية المحافظة على مستويات عالية من التوازن زادا يقيها من أي مشوهات لجماليات الصورة أو أي مُسببات للخدش في قيم الحياء.
ولفت إلى أنّ الرهان في هذا الجانب يقع على الإعلام والتعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية والمسجد والخطاب الديني والضبط الأسري والتربية الوالدية والقانون والتشريع في إعادة إنتاج مسار المتابعة وتشخيص الحالات ورصدها وفهم العوامل الباعثة إليها، والأسباب التي تقف خلف هذا الاغتراب القيمي والأخلاقي من بعض مكونات المجتمع، وحالة عدم التورع أو البعد عن الشبهات التي بات الفرد يزج فيه لتوجيه الأنظار إليه، أو سلب فقه المبادئ منه، أو تغيير قناعاته والتأثير عليه بدوافع ذاتية.
وأكّد أهمية تعظيم البعد الإيجابي الذي توفره منصات التواصل الاجتماعي من بدائل لاحتواء الشباب وتعميق فرص الوعي وترسيخ ثقافات إيجابية تسهم في تغيير السلوك النمطي السائد في المجتمع وضبط انتشار الظواهر السلبية والفكرية بين الشباب.
وشدّد على أهمية الحاجة إلى إعادة هندسة السلوك الشبابي في المنصات الاجتماعية، وتقوية حضور الفضيلة والهدف والمنهج والمحتوى كموجهات أساسية تُخرج المنصات الاجتماعية من أيديولوجية التصرف وأنانية الذات وفوقية المصالح وكومة التراكمات السلبية التي غيبت الشباب عن مهمته وأولوياته إلى رُقي المنافسة وصقل الشخصية والتعامل مع الصدمات وردّة الفعل وتمكينه من إدارة واقعه وحوكمة ممارساته في إطار من الوعي والتحليل والريادة والمنافسة.
وقال معمّر بن علي التوبي أكاديمي وباحث متخصّص في الذّكاء الاصطناعي: إنّه إلى جانب ما يمكن أن نراه من تطور رقمي في عالم الاتصالات والتواصل الاجتماعي نتيجة انبثاق منصات التواصل الاجتماعي، فإننا نرى جانبا سلبيا يُهدّد السلوك الاجتماعي للإنسان وقيمه المجتمعية بسبب ما يمكن أن تُحدثه منصات التواصل الاجتماعي عبر التفاعل غير المحكم والواعي من قبل أفراد المجتمع، فنجد أنّ هذه المنصات الرقمية أحدثت تغييرات في السلوك الفردي والجمعي للأفراد من حيث التعبئة الثقافية المفتوحة على مصراعيها التي تُعدُّ جزءا من منظومة "العولمة الرقمية".
وأضاف: إنّ أبرز السلبيات التي يمكن أن نلحظها في هذا التفاعل الرقمي ظاهرة الإدمان الرقمي الذي لم يعد حكرا على الألعاب الإلكترونية، بل شملت أيضا وسائل التواصل الاجتماعي واستعمالاتها غير المقننة والمحكومة، فتُحدث تغييبا للوعي السليم الذي يكون أسيرا لعالم رقمي تتباين فيه الأحداث بين الحقيقة والتزييف، فيغدو العقل البشري أسيرَ هذه الأحداث التي يمكن أن تكسبه حسا عاطفيا غير حقيقي يتبنّى بواسطته أفكارا وقيما تخالف نمطه الاجتماعي والديني، فيقع في فخ الانفصال عن الواقع المجتمعي الذي يعيشه، ليعيش واقعا لا ينتمي إليه بشكل مباشر.
وذكر أنّ مثل هذه الظواهر أدت إلى تفاقم ما يمكن أن نُطلق عليه بالقطيعة المعرفية التي تجعل من الإنسان متبنِّيا لصناعة معرفية مصدرها منصات التواصل الاجتماعي، فتضاعفت ساعات استهلاكه لهذه المنصات، وانعزاله عن البيئة الواقعية، وتراجعت مستويات القراءة والمطالعة، وتقلصّ الشغف المعرفي ليُستبدل بشغف التفاعل مع المنصات الرقمية، وأوجدتُ بعضا من الدراسات التي أكّدت تضاعف حالات الاكتئاب والقلق والتوتر النفسي الذي صاحب ظاهرة الإدمان الرقمي منها إدمان استعمال وسائل التواصل الاجتماعي.
وأشار إلى أنّ وسائل التواصل الاجتماعي ومنصاتها الرقمية أعادت تشكيل الإنسان من ناحية القيم التي بدورها تُؤثر على سلوكه الشخصي، فبات الإنسان الرقمي أكثر سطحية لا يتحرك بوعي عميق ذي بُعد مجتمعي متشرّب بالقيم الاجتماعية والدينية.
وبيّن أنّ هذا ما شكّل العقل الجمعي الجديد للمجتمع الذي يمكن أن يتأثر بأحداث لا تمس واقعه، فينقاد إليها دون وعي، فيسهل تحوّله إلى أداة بيد أصحاب الأيديولوجيات، ويخضع وفقَ هذه المعايير السطحية الواهمة إلى قانون القطيع الذي يجعل منه أداة عنف أو ترويج تجاري دون أن يكتشف وقوعه في هذا الفخ لافتا بأنّ الجيل الحالي الذي ولد في فترة العصر الرقمي سيكون أكثر عرضة لتلك المخاطر.
وذكر أنّ من بين المظاهر السلبية التي تولّدت من التفاعل المجتمعي مع منصات التواصل الاجتماعي ظاهرة "الشهرة" المرتبطة بصناعة ما يُطلق عليهم بـ"المشاهير" التي تحوّلت عند الجيل الحديث -خصوصا- إلى تعلق غير مبرر برموز محطات التواصل الاجتماعي، وهذا ما قاد إلى تفاقم أزمة السطحية المجتمعية التي وصفها المفكر الكندي "آلان دونو" بـ"نظام التفاهة" الذي يُوحي بتفكك القيم المجتمعية العميقة واستبدالها بقيم تفاهة تُهمّش الإنسان ونظامه الذاتي والاجتماعي.
وأفاد بأنه أصبح من السهل أن نستشرف شيئا من المظاهر المستقبلية التي ترتبط بخط سير المجتمع وأفراده مع المنظومة الرقمية المتمثلة في منصات التواصل الاجتماعي، ونرى تفاقم أزمتها نظير ما تكسبه من فراغ فكري ومعرفي في العقل البشري دون الادعاء أن هذه قاعدة عامة، فثمّة عدّة أشكال مرتبطة بوسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن نتوقع وجودها مستقبلا تأخذ منحنى التطوير من المظاهر الحالية بعضها يصب في جوانب إيجابية.
ورأى أنّ من بين هذه الجوانب الإيجابية، نمو النشاط الاقتصادي الرقمي الذي سيتخذ من المنصات الرقمية وسائل للترويج التجاري نظرا لقوة تأثيرها، وهذا ما سيكسر نظام الاحتكار التسويقي الذي كان بيد كبرى المؤسسات التجارية التي يمكن أن تصل بصوتها إلى المستهلكين بوسائل إعلانية مدفوعة، ولكن سيُتاح للجميع بما فيهم صغار المستثمرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي للوصول إلى جمع غفير من الجمهور دون تكاليف باهظة.
وأشار إلى أنّ من بين الجوانب السلبية للمنصات الاجتماعية مضاعفة مظاهر التفاهة والهشاشة الفكرية والمعرفية التي ينبغي أن تعالج وفقَ أطر ثقافية متوازنة ومتوازية مع النمو الرقمي دون الإخلال بالحركة التقنية وتطويراتها.
ويرى الباحث الاجتماعي مبارك بن خميس الحمداني أنّ هناك ثلاثة تحولات رئيسة للمختصين في علم الاجتماع أفرزتها وسائل التواصل الاجتماعي في البنية الثقافية للمجتمعات، وخاصة فيما يتصل بالبنى الثقافية للأسر إذ تُسهم في توسيع الفجوة الثقافية بين الأجيال، ويرتبط الثاني بـ"تنسيب القيم"، فيما يرتبط الثالث بإعادة تشكيل المفاهيم المرتبطة بالأسرة والثقافة الاجتماعية بشكل عام.
وقال إنه في الجانب الأول المرتبط بتوسيع الفجوة الثقافية أصبحت هناك أجيال متفاوتة، إذ أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي كمحرك في إضفاء طابع لكل جيل، ووسعت اختلاف القيم الثقافية لكل جيل، إضافة إلى طبيعة التوقّعات والتفضيلات والممارسات والسلوكيات.
وأضاف إنه أصبح ما يعرف بالجيل الصامت وجيل الطفرات السكانية وجيل السبعينات وجيل الألفية وجيل التقانة، ويرمز لها عادة بالحروف X & Y & Z، مضيفا إنه عندما ننظر للخصائص التي أضفتها مواقع التواصل الاجتماعي تحديدا للجيل الأخير فنجدها تتمثل في خمس خصائص أساسية، وهي: السرعة والاجتزاء، والحرية الافتراضية، والآنية واللحظية، والانتماء والهويات العالمية، والرؤية الأحادية للواقع.
ووضّح أنّ هذه الخصائص لا يمكن الحكم المطلق بكونها سلبية تماما ولكنها تعتمد على مستويات النضج في التعامل مع وسائل التواصل، ومدى انخراط الفرد في الفضاءات الواقعية مقابل الفضاءات الافتراضية ومدى وجود آليات ثقافية لدى المجتمع لتحييد التأثيرات السلبية لهذه المواقع بالإضافة إلى قوة منظومة الثقافة المجتمعية.
وذكر أنه في جانب تنسيب القيم فإن هذه المواقع، ومن خلالها انخراط الأفراد خلالها في فضاء من القيم العالمية، أعطت الكثير من الأسئلة لدى طيف واسع من الجيل حول حقيقة القيم وجذبت بعض الأفراد للانخراط في قيم عالمية بعضها قيم إيجابية وبعضها قيم سلبية، لافتا إلى أنّ مكامن الخطوة في هذه الجزئية تكمن فيما إذا كانت منظومة القيم لدى الأفراد مؤسسة بطريقة هشة، ومنها تحدث الانكسارات الثقافية والقيمية.
وبيّن أنه في جانب إعادة تشكيل المفاهيم المرتبطة بالأسرة والثقافة الاجتماعية بشكل عام، فقد وفّرت مواقع التواصل الاجتماعي نمطا من التفضيلات والتوقعات المختلفة لدى الأفراد المنخرطين فيها خاصة فيما يرتبط بتفضيلات الأسرة والزواج والممارسات الاجتماعية وكذلك التفضيلات المتصلة بالجوانب الثقافية الأخرى.
ويؤكد أنه في المجمل العام تبقى المنصات الاجتماعية مجرد أدوات تُحرّكها المضامين المعرفية والاتصالية التي تحمُلها ويعتمد تأثيرها سلبا وإيجابا على مدى وجود منظومة قيمية وثقافية راسخة لدى المجتمع وعلى دور المؤسسات الاجتماعية في حفظ هذه المنظومة ونقلها عبر الأجيال سواء عبر العمليات الأسرية أو التعليمية أو الدينية أو نشاط الأنساق الاجتماعية الأخرى.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: مواقع التواصل الاجتماعی وسائل التواصل الاجتماعی منصات التواصل الاجتماعی المنصات الاجتماعیة هذه المنصات یمکن أن وذکر أن الذی ی التی ت إلى أن
إقرأ أيضاً:
مفتي الجمهورية: وسائل التواصل الاجتماعي ساعدت على انتشار فوضى الفتاوى
قال الدكتور نظير عيَّاد- مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم: نلتقي في هذه اللحظات المباركة احتفاءً باليوم العالمي للفتوى، واحتفالًا بيوم تأسيس "الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء بالعالم"، وتعزيزًا للجسور الدينية والمعرفية والفكرية بين دار الإفتاء المصرية وجميع المؤسسات العلمية والإفتائية والإعلامية بالعالم؛ بما يمكننا من ترسيخ دعائم الوسطية والاعتدال وتحقيق الأمن الفكري وتعزيز السلم العالمي، والتكامل نحو صياغة خطاب إفتائي رشيد يبين صحيح الدين ويحقق مقاصده، بالإفادة من القرائح المتميزة، والثقافات المتنوعة، والأطروحات التجديدية الكريمة التي سيطرحها السادة العلماء.
عرض فيلم تسجيلي عن إنجازات دار الإفتاء وأمانتها العالميةوأضاف خلال كلمته بالندوة الدولية الأولى التي تعقدها دار الإفتاء المصرية بمناسبة اليوم العالمي للفتوى تحت عنوان: "الفتوى وتحقيق الأمن الفكري" المنعقدة في الفترة 15 – 16 ديسمبر برعاية السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي -رئيس جمهورية مصر العربية- متوجهًا بخالص الشكر والامتنان لفخامة الرئيس، على رعايته الكريمة للندوة الدولية الأولى لدار الإفتاء المصرية، مشيرًا إلى أن رعاية سيادته لها تأتي ضمن دعمه الكبير واللامتناهي للمؤسسات الدينية من أجل القيام بدَورها الديني والوطني والعالمي نحو نشر وسطية الإسلام وتصحيح صورته بعيدًا عن تحريف الغالين أو تأويل المبطلين.
وتابع: هناك تحديات جسيمة وخطيرة تواجهنا في الواقع الذي نعيشه اليوم، وتعد هذه التحديات المهدد الرئيس لأمننا ومجتمعاتنا بشكل كبير، ومنها بلا شك: "الفتاوى الشاذة" أو "فوضى الفتاوى"، التي تصدر من غير ذي صفة في الفتوى، وتكون فتياه عارية عن النظر والاستدلال الصحيح المتفق مع نصوص الشريعة الكلية ومقاصدها الكريمة، أو تصدر ممن ظن أنه بمجرد قراءة بسيطة في بعض الكتب أو المواقع قد أصبح بها في مصافِّ أهل الفتوى؛ وهذه الفتاوى أصبحت سببًا للطعن في الإسلام وتشويه صورته، ومعوقًا رئيسًا لتحقيق الأمن والاستقرار، ولا شك أن تسميتها فتوى هو بالأساس من باب المجاراة، وإلا فحقها أن تسمى دعوة أو دعوات للإفساد في الأرض، فإن التطرف نحو تكفير المسلمين، واستباحة دمائهم، وتخويف الآمنين وترويعهم ليس من الإسلام في شيء.
كما أكد أن وسائل التواصل الاجتماعي ساعدت على انتشار هذه الفوضى، حتى إننا نجد عدد المفتين في الواقع الافتراضي يكون بعدد مَن لهم صفحات أو مواقع عليها، الأمر الذي أثر بالسلب على الأمن الفكري والاستقرار المجتمعي بشكل خطير، ومن ثم فإن المرء ليتعجب عندما ينظر في حال هؤلاء القوم ويقارن بينهم وبين حال الصحابة الكرام رضي الله عنهم الذين كانوا يتورعون عن الفتوى بالأساس، فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله ﷺ -أراه قال: في المسجد- فما كان منهم محدِّث إلا ودَّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفتٍ إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا». وورد عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «مَن أفتى الناس بكل ما يسألونه فهو مجنون».
في الإطار ذاته قال فضيلة المفتي: عندما نتحدَّث عن الأمن الفكري نقصد به: حماية العقول الإنسانية من أيِّ تطرف أو غلو في فهم النصوص الدينية، أو تطبيقها بشكل خاطئ على أرض الواقع، ونهدف بذلك إلى ضرورة تصحيح المفاهيم المغلوطة وصيانة الأفكار من كل انحراف أو شذوذ فكري، وبذل الجهود نحو تحصين الشباب من الاستقطاب الفكري الذي تحرض عليه الجماعات المتطرفة، وحمايتهم من الجنوح نحو الإلحاد والإباحية.
وأضاف مفتي الجمهورية: وإننا في الوقت ذاته نواجه منهجَي [الإفراط والتفريط]، ونبحث كيف نحمي الإنسان من شرورهما الأثيمة، لذا فإن اهتمامنا بالأمن الفكري وقضاياه المتنوعة يأتي من منطلق الترابط الوثيق بينه وبين الأمن المجتمعي، فهو أهم ركائزه الرئيسة؛ لأنه مرتبط بالفهم الوسطي والمعتدل لصحيح الدين، ويشكل هوية الأمة وعقيدتها في النواحي الدينية والمدنية، ويبني إنسانًا صالحًا سليمًا من الأفكار المتطرفة، فاعلًا في المجتمع، مشاركًا في استقراره وتعزيز أمنه وسلامته.
ومن ثَمَّ تظهر خطورة الجماعات المتطرفة على الأمن الفكري والمجتمعي على السواء؛ حيث إنها تغرس أفكارًا منحرفة في العقول، تجعل الإنسان مسخًا مشوهًا بلا انتماء أو هُوية، غير الانتماء لها ولمصالحها الخبيثة، وتعزِّز فيه معاداة المجتمع باعتباره من وجهة نظرها مجتمعًا كافرًا جاهليًّا لا يمثِّل المجتمع المسلم الصحيح، ثم إنها تنمي عنده العزلة الشعورية أو الحسية تجاه المجتمع، وفي النهاية تطلب منه أن يستبيح الدماء المعصومة، ويمارس أعمالًا إرهابية تخريبية في المجتمع بذريعة أن هذا هو طريق الإصلاح.
ولفت فضيلته النظر إلى أن اجتماعنا اليوم يجب أن يؤكد أن هذه الجماعات لا تمثِّل الإسلام في شيء، وأنها كانت سببًا رئيسًا لوصف الإسلام بما ليس فيه.
وأردف مؤكدًا أن الفتوى لها دَور مهم في إرساء دعائم الأمن الفكري، من خلال: تعزيز الانتماء الوطني والشعور بالهوية، وإرساء مبادئ المواطنة الشاملة، التي تقوم على التعايش والتسامح وقَبول التنوع الديني والعِرقي والمجتمعي في الوطن الواحد، وتجلي قيمة العقل والفكر والعلم، وتعلي من شأن العلوم الإنسانية وتنظر إليها باعتبارها تتكامل مع العلوم الأخرى من أجل تحقيق النهوض الحضاري المنشود، وتدعم الابتكار والإبداع والفن الذي يعزِّز القيم الأخلاقية والمجتمعية، كما أنها بمنزلة الحارس الأمين الذي يحرس الأمة من الفتن والاضطرابات والحيرة والبَلبلة التي تنشرها الجماعات المتطرفة في المجتمع.
وفي سياق ذي شأن أوضح مفتي الجمهورية، أنه وفقًا لمكانة الفتوى وقيمتها وجدنا جماعات العنف والتطرف قد حرصت على أن تنفذ لقلوب الناس من خلالها، فأنشأت مواقع ودوائر إفتائية بمسميات دينية براقة، وأصدرت كتابات تتضمَّن محتويات إفتائية في قضايا فكرية ومجتمعية بالغة الخطورة، تتعلَّق بتكفير المسلمين واستباحة دمائهم وأموالهم وأعراضهم بداعي الردَّة لأدنى سبب، وتطورت فتاوى التكفير إلى الحكم على الإسلام بالإرهاب وعلى المسلمين بالتعصب والدموية.
وقد قامت دار الإفتاء المصرية بجهود كبيرة وفعالة في تعزيز الاستقرار المجتمعي ودعم ركائز الأمن الفكري على مدار مسيرتها الدينية والوطنية، منذ تأسيسها حتى هذه اللحظة التي أقف فيها بين يدي حضراتكم الآن، وتأتي هذه الندوة المباركة امتدادًا طبيعيًّا لهذه الجهود، ومن المهم أن أعلن لحضراتكم عن استراتيجية دار الإفتاء المصرية لتحقيق الأمن الفكري في المرحلة المقبلة، والتي ستكون وفق المسارات الآتية:
المسار الأول: تفعيل مشروع "التجديد المؤسسي لقضايا الفكر والمجتمع"، والذي يأتي امتدادًا لما قام به الأزهر الشريف في مؤتمر (التجديد في الفكر والعلوم الإسلامية عام 2020م)، وسيكون ذلك من خلال التعاون والتكامل مع جميع المؤسسات الدينية والمجتمعية المصرية وفي مقدمتها "الأزهر الشريف" برعاية مولانا فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الأستاذ الدكتور/ أحمد الطيب (حفظه الله ورعاه)، بهدف التعاون والتكامل نحو رصد القضايا والإشكاليات الملحَّة في الواقع، لدراستها دراسة فقهية وإفتائية جادة تنتهي إلى صياغة الحكم الشرعي صياغة دقيقة ومحكَمة تحقق مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، وتراعي المصالح الوطنية والمجتمعية، وتغلق الباب أمام كل متربص بالإسلام أو مزايد على صلاحيته لكل زمان ومكان، مع ضرورة إتاحتها والترويج لها بشكل مجتمعي مناسب يُسهم في تعزيز الوعي عند أفراد المجتمع، الأمر الذي سيتحقق به الأمن الفكري.
وفي الوقت نفسه ستقوم "الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء بالعالم" بالتواصل مع جميع دور وهيئات الفتوى بالعالم لرصد القضايا والإشكاليات الملحَّة عندهم والتعاون معهم بهدف بيان وجهة النظر الشرعية المناسبة لهذه القضايا، بما سينعكس بشكل إيجابي على السِّلم والأمن الدولي والمجتمعي.
المسار الثاني: تدشين العديد من البرامج المجتمعية التي تُعنى بقضايا الأمن الفكري، مع نشر الوعي بمخاطر منهجَي الإفراط والتفريط وتداعياتهما السلبية على الأمن المجتمعي، والتحذير من خطورة الاستقطاب نحو الأفكار المنحرفة، وتعزيز القيم والمبادئ التي تُعنى ببناء الإنسان بناءً معرفيًّا وثقافيًّا وجسديًّا وروحيًّا بناءً جادًّا، وذلك وفق خطة دقيقة ومحكمة سيلتقي فيها أمناء الفتوى بالدار جميعَ أطياف المجتمع ومؤسساته للردِّ على أسئلتهم واستفساراتهم حول القضايا الملحة والمستجدة.
المسار الثالث: تطوير "وحدة حوار" بهدف تعزيز الأمن الفكري عند الشباب، وبناء الجسور المعرفية والثقافية مع جميع أفراد المجتمع، وتعزيز مكانة المرجعية والمؤسسات الدينية التي حرصت – ولا تزال – الجماعات المتطرفة على تشويهها.
وهذا التطوير سيكون بدفع طاقات شبابية جديدة قادرة على الحوار الجاد الذي يقوم على تعزيز قضايا الأمن الفكري بناء على حجج عقلية وبراهين منطقية، لا يستطيع طرفي الإفراط والتفريط نقضها أو تجاوزها، بالإضافة إلى تحديث البرامج التدريبية التي تؤهل أعضاء هذه الوحدة تأهيلًا معرفيًّا وثقافيًّا جادًّا يحقق غايتها ورسالتها التي أُنشئت من أجلها.
المسار الرابع: تكليف "مركز سلام" التابع لدار الإفتاء المصرية بالتواصل مع مؤسسات وهيئات البحث العلمي لدراسة الظواهر والأفكار المهددة والمعوقة لتحقيق الأمن الفكري، دراسة علمية جادة تتكامل فيها وجهات النظر والرؤى الدينية والإنسانية حتى تؤطر مخرجاتها للإجراءات الواقعية والمناسبة لتعزيز وتحقيق الأمن الفكري.
المسار الخامس: تعزيز قدرات دار الإفتاء في مواجهة "الإرهاب الإلكتروني" الذي يعدُّ أكبر مهددات الأمن الفكري والمجتمعي، والذي تكرس له الحركات والجماعات المنحرفة جهودها، بهدف نشر العنف، وزعزعة الثقة بين أفراد المجتمع، ونشر الشائعات المغرضة، ومحاولة تجنيد الشباب لأفكارها الإرهابية المتطرفة، والابتزاز المادي والمعنوي الذي تمارسه بحق بعض الأفراد والأُسر، وغير ذلك مما يهدد أمن المجتمع ويزعزع استقراره، وستبذل الدار جهودًا حثيثة في مواجهة ذلك من خلال صفحاتها ومواقعها على وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك من خلال برامجها التوعوية الميدانية على أرض الواقع.
وفي ختام كلمته توجَّه المفتي بخالص الشكر والتقدير لحضور الندوة الكريم من داخل مصر وخارجها، كما توجَّه بخالص الشكر والتقدير لجميع العاملين بدار الإفتاء المصرية الذين قاموا بأدوار كبيرة وأسهموا بشكل فعال في الإعداد لهذه الندوة ونجاحها على النحو المنشود، وكذلك توجه بالشكر والتقدير للجهات التنفيذية والأمنية والإعلامية التي أسهمت في نجاح الندوة.