تشكل اليد العاملة البشرية، بمهاراتها وخبراتها، أحد أهم عوامل الإنتاج إلى جانب التكنولوجيا والمواد الخام. ورغم التطور الهائل في مجالات الأتمتة والذكاء الصناعي، الذي أتاح تشغيل الآلات تلقائيًا وبذكاء ودقة، فإننا لا نستطيع الاستغناء عن الطاقات البشرية، حيث يظل الإنسان هو المبرمج والمطور والمشغل لهذه الآلات.



التحول الديموغرافي في ألمانيا.. هل المجتمع الألماني في حالة انكماش؟

وفقًا لإحصائيات دائرة الإحصاء الفيدرالية في ألمانيا، فإن معدل الولادات في البلاد يتناقص باستمرار، حيث وصل إلى 1.53 مولود لكل امرأة، في حين أن الحفاظ على التوازن السكاني يتطلب معدل 2.1 مولود لكل امرأة.

ورغم هذا التراجع في معدل المواليد، إلا أن العدد الإجمالي لسكان ألمانيا شهد ارتفاعًا طفيفًا في السنوات الأخيرة ليصل إلى 84.4 مليون نسمة. ويرجع هذا النمو إلى الهجرة، حيث يعتمد المجتمع الألماني بشكل كبير على الوافدين لتعويض النقص السكاني. ونتيجة لذلك، ارتفع عدد السكان من أصول أجنبية إلى حوالي 25 مليون نسمة، ما يعادل 30% من إجمالي السكان.

صعود اليمين المتطرف والضغط لإيقاف الهجرة:

استغل اليمين المتطرف في عدة دول أوروبية قضية المهاجرين والمسلمين واللاجئين لتحقيق مكاسب سياسية. فالأحزاب اليمينية المتطرفة غالبًا ما تُحَمِّل المهاجرين مسؤولية مشكلات المجتمع، وتصب غضبها عليهم. كما تستغل بعض الحكومات هذه المشاعر عندما تفشل في سياساتها الداخلية، فتجد في المهاجرين الحلقة الأضعف لتمرير أجنداتها، خاصة وأن المهاجرين يفتقرون إلى التمثيل في البرلمانات ووسائل الإعلام، مما يجعلهم هدفًا سهلًا للهجمات السياسية.

في ألمانيا، صعد حزب "البديل لألمانيا (AfD)" ليصبح ثالث أكبر الأحزاب السياسية. وفي الانتخابات الأوروبية الأخيرة، حصل على أعلى نسبة من الأصوات في الولايات الشرقية. هذا الصعود السريع دفع أحزاب الائتلاف الحاكم (الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وحزب الخضر، والحزب الليبرالي) إلى حالة من القلق، خوفًا من تحقيق نتائج وخيمة في الانتخابات البرلمانية القادمة. وحتى الحزب المسيحي الديمقراطي، الذي قادته المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، تبنى مواقف أكثر تشددًا تجاه اللاجئين لاستعادة ناخبيه الذين انجذبوا إلى حزب "البديل لألمانيا".

ألمانيا تعيد نقاط التفتيش الحدودية.. هل تهدد اتفاقية شنغن ودبلن؟

اعتبارًا من 16 سبتمبر 2024، بدأت ألمانيا في إعادة التفتيش على جميع نقاط حدودها البرية مع الدول المجاورة مثل النمسا، بولندا، التشيك، سويسرا، فرنسا، الدنمارك، بلجيكا، هولندا، ولوكسمبورغ. سيُعاد أي لاجئ يحاول الدخول عبر هذه المعابر إلى البلد الذي جاء منه، مما أثار جدلاً واسعًا حول فعالية وتأثير اتفاقيتي شنغن ودبلن.

كل من غادر وطنه يدرك صعوبة اتخاذ قرار الهجرة، فهي ليست مغامرة طوعية بل هروب من القمع، والفقر، والجوع، بحثًا عن حياة كريمة. ومع ذلك، تُصر الأحزاب اليمينية المتطرفة على عرقلة الاقتصاد ومحاربة المهاجرين، وتروّج للأنظمة الديكتاتورية وكأنها آمنة، فقط لإيجاد ذرائع لإعادة اللاجئين إلى معاناتهم، وفقًا لمبدأ: "اللاجئ الجيد هو اللاجئ الذي يغادر ألمانيا".أقدمت ألمانيا على هذه الخطوة بعد شعورها بالإحباط من تطبيق الدول المجاورة لاتفاقية دبلن، التي تنص على تقديم اللاجئ طلب اللجوء في أول دولة آمنة يصلها. لكن معظم الدول الموقعة على اتفاقية شنغن تدفع اللاجئين للمغادرة إلى ألمانيا وترفض إعادتهم حتى لو كانت لهم بصمات وملفات لجوء لديها.

ضبط الحدود سيترتب عليه تداعيات سياسية وتكاليف اقتصادية باهظة. كما سيؤدي إلى اختناقات مرورية عند النقاط الحدودية، مما يؤثر سلبًا على التجارة والسياحة بين ألمانيا والدول المجاورة. ومن المتوقع أن تستمر هذه الإجراءات مبدئيًا لمدة ستة أشهر، مع إمكانية تمديدها إلى ثلاث سنوات في حالات استثنائية.

الدول المجاورة لألمانيا أعربت عن استنكارها لهذه الإجراءات. ووصف رئيس الوزراء البولندي، دونالد تاسك، هذه الخطوة بأنها "غير مقبولة". وأكدت النمسا أنها لن تقبل بإعادة الأشخاص المرفوضين دون إجراءات رسمية. كما انتقد رئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، هذه الإجراءات، مشيرًا إلى أن حل مشكلة الهجرة غير الشرعية لا يمكن أن يكون بتقويض منطقة شنغن بشكل أحادي.

الاقتصاد الألماني وسياسة "الأسوار العالية".. حاجة ملحة للمهارات والكفاءات

في عام 2023، تجاوز الاقتصاد الألماني نظيره الياباني ليصبح ثالث أكبر اقتصاد عالمي بعد الاقتصاد الأمريكي والصيني، بحجم سنوي يصل إلى 4.46 تريليون دولار. ورغم ذلك، يواجه الاقتصاد الألماني اليوم تحديات كبيرة بسبب التحول الديموغرافي في تركيبته السكانية، مما أدى إلى نقص في العمالة المؤهلة في مختلف القطاعات.

تعاني العديد من القطاعات مثل البناء، الإدارة، الصحة، التعليم، والخدمات من نقص في الكفاءات. فعلى سبيل المثال، تحتاج ألمانيا الآن إلى 80 ألف سائق شاحنة، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى 180 ألفًا بحلول عام 2030، نظرًا لأن 35% من العاملين في هذا المجال تجاوزت أعمارهم 55 عامًا.

تتفاقم المشكلة مع خروج عدد كبير من العاملين إلى التقاعد، رغم رفع سن التقاعد إلى 67 عامًا. وهؤلاء المتقاعدون ينتمون إلى جيل "طفرة المواليد" في ستينيات القرن الماضي، مما يُفاقم فجوة العمالة في سوق العمل.

وللتخفيف من وطأة هذه الأزمة، أصدر البرلمان الألماني قانون "الهجرة بالنقاط" لاستقطاب العمالة الماهرة من خارج البلاد. ومع ذلك، لا تزال الحاجة إلى المهارات والكفاءات قائمة، خاصة في ظل سياسات الأحزاب اليمينية المتشددة التي تقف عقبة أمام فتح باب الهجرة.

من المتعارف عليه أن السياسة تخدم الاقتصاد، إلا أن الوضع الحالي في أوروبا، وخاصة في ألمانيا، يشير إلى أن الاقتصاد يتعرض لضغوط شديدة من صعود التطرف السياسي والعنصرية ضد المهاجرين. فالتطرف السياسي والسعي للسلطة يعمي بصيرة الأحزاب اليمينية المتطرفة، ويدفعها لاتخاذ مواقف عنصرية على حساب ثالث أقوى اقتصاد في العالم.

كل من غادر وطنه يدرك صعوبة اتخاذ قرار الهجرة، فهي ليست مغامرة طوعية بل هروب من القمع، والفقر، والجوع، بحثًا عن حياة كريمة. ومع ذلك، تُصر الأحزاب اليمينية المتطرفة على عرقلة الاقتصاد ومحاربة المهاجرين، وتروّج للأنظمة الديكتاتورية وكأنها آمنة، فقط لإيجاد ذرائع لإعادة اللاجئين إلى معاناتهم، وفقًا لمبدأ: "اللاجئ الجيد هو اللاجئ الذي يغادر ألمانيا".

*نائب ألماني سابق

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه سياسات المانيا رأي مهاجرون سياسات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة من هنا وهناك صحافة سياسة صحافة رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الاقتصاد الألمانی الدول المجاورة فی ألمانیا

إقرأ أيضاً:

ألمانيا تبدأ فرض الرقابة على حدودها بهدف الحد من الهجرة

قالت وزارة الداخلية إن ألمانيا أعادت فرض ضوابط مؤقتة على حدودها الغربية والشمالية اليوم الاثنين في إطار الجهود الرامية إلى مكافحة الهجرة غير الشرعية والجريمة عبر الحدود.

وتشكل هذه القيود جزءاً من سلسلة من الإجراءات التي اتخذتها ألمانيا لتشديد موقفها إزاء الهجرة غير النظامية في أعقاب ارتفاع أعداد الوافدين، وخصوصاً الفارين من الحرب والفقر في الشرق الأوسط، وزيادة التأييد للمعارضة اليمينية المتطرفة والمحافظين.

وستطبق عمليات التفتيش والتحقق الآن على الحدود البرية لألمانيا مع فرنسا وبلجيكا ولوكسمبورغ وهولندا والدنمرك لمرحلة أولى مدتها 6 شهور، وهو ما يعد انتكاسة أخرى لحرية التنقل داخل الاتحاد الأوروبي.

وهذه الحواجز موجودة بالفعل عند المعابر مع بولندا، وجمهورية التشيك والنمسا وسويسرا.

Germany expands border controls to curb migrant arrivals
➡️ https://t.co/dsn9OpL7Or pic.twitter.com/aYbiABvP20

— FRANCE 24 (@FRANCE24) September 16, 2024

وقالت وزارة الداخلية الألمانية إن الشرطة الاتحادية ستنفذ هذه الضوابط بشكل مرن مستندة في إجراءاتها إلى الوضع الأمني الحالي مع التركيز على تقليل ما قد يزعج الركاب والمسافرين أو يعرقل التجارة.

ولم تحدث اليوم عراقيل على الحدود حتى الآن.

ونصحت الوزارة المسافرين بحمل بطاقات هوية سارية وبأن يُعد المواطنون من خارج الاتحاد الأوروبي وثائق دخولهم، ومنها التأشيرات، لتكون جاهزة للفحص.

وتأتي هذه التغييرات على خلفية انخفاض طلبات اللجوء إلى ألمانيا 21.7 % في الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالي.

وقالت وزيرة الداخلية نانسي فيزر إن الأعداد انخفضت وإن ذلك يعود جزئياً إلى الضوابط التي تم إدخالها العام الماضي والتي منعت دخول ما يزيد على 30 ألفا بدون تصريح.

وأضافت في بيان "لهذا السبب فإننا سنوسع نطاق سيطرتنا الحدودية المؤقتة لتشمل جميع الحدود البرية لألمانيا وفقاً للأمر الذي أصدرته اليوم".

ومضت قائلة "الأمر الذي أصدرته يهدف أيضا إلى الحماية من التهديد الحاد الذي يشكله إرهاب المتشددين والجرائم الخطيرة العابرة للحدود".

Germany on Monday began extending controls on all its borders in an attempt to curb illegal immigration, a move that critics say threatens the Schengen Area's rules on freedom of movement.

The German police were scheduled to begin conducting inspections at the border crossings… pic.twitter.com/fDFFe1N2GD

— Hagaag (@hagaag1) September 16, 2024

وأثارت هذه الإجراءات انتقادات من جيران ألمانيا. فقد دعا رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك إلى إجراء مشاورات عاجلة مع البلدان المتضررة الأخرى التي تخشى أن تضطر إلى استيعاب المزيد من طالبي اللجوء وتتعرض تجارتها لأضرار.

كما حذر المستشار النمساوي كارل نيهامر من أنه إذا اتخذت ألمانيا تدابير لإعادة المزيد من المهاجرين عبر حدودهما المشتركة، فإن النمسا سترد بالمثل بإرسال المزيد من الأشخاص شرقا نحو البلقان.

ومن المقرر أن تستمر عمليات التفتيش على الحدود مع النمسا حتى 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024. وعلى نحو مماثل، من المقرر أن تستمر عمليات التفتيش على الحدود مع بولندا وجمهورية التشيك وسويسرا حتى 15 ديسمبر (كانون الأول) 2024.

وأشارت وزارة الداخلية الألمانية إلى أنه من المرجح أن يكون هناك تمديدات أخرى لفترة تنفيذ هذه الضوابط.


مقالات مشابهة

  • هولندا تريد الحصول على استثناء من قواعد الاتحاد الأوروبي بشأن اللجوء
  • ألمانيا تسد منافذها أمام المهاجرين.. "القاهرة الإخبارية" ترصد الأسباب
  • ألمانيا.. اليمين المتطرف يتصدر استطلاعات الرأي في الانتخابات الإقليمية
  • وول ستريت جورنال: خريف مظلم ينتظر الاقتصاد الألماني
  • حملة تضليل روسية لصالح اليمين المتطرف الألماني
  • قرارات تعجيزية من حكومة هولندا اليمينية ضد المهاجرين.. ماذا أقرت؟
  • اتفاق هجرة جديد بين ألمانيا وكينيا.. ما تفاصيله؟
  • كير ستارمر يلتقي جورجيا ميلوني في روما لبحث استراتيجيات وقف تدفق المهاجرين
  • ألمانيا تبدأ فرض الرقابة على حدودها بهدف الحد من الهجرة