يمانيون../
نص خطاب قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف، الأحد 12 ربيع الأول 1446هـ/ 15 سبتمبر 2024م.

((الْإِيْمَانُ يَمَانٍ، وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ)) صَدَقَ رَسُوْلُ اللهِ “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم”.

من شواهد هذا الحديث المبارك: حضوركم في هذا اليوم المبارك، هذا الحضور المهيب، الكبير، الحاشد، الذي لا مثيل له في الأرض، حُباً لرسول الله، وتعظيماً لرسول الله، وشكراً على نعمة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

أُرَحِّبُ بِكُمْ جَمِيعاً، حَيَّاكُم الله، وَأَهْلاً وَسَهْلاً وَمَرْحَباً فِي كُلِّ السَّاحَات، وَأسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَكْتُبَ أَجْرَكُم، وَأَنْ يُبَارِكَ فِيكُم، وَأَنْ يَتَقَبَّلَ مِنْكُم.

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب:56].

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات، الحَاضِرُونَ جَمِيعاً فِي كُلِّ سَاحَاتِ الإِحْتِفَال، فِي هَذهِ المُنَاسَبَةِ المُبَارَكَةِ المَجِيدَة: ذِكْرَى مَوْلِدِ خَاتَمِ النَّبِيّين، وَرَحْمَةِ اللهِ لِلعَالَمِين، البَشِيرِ النَّذِير، وَالسِّرَاج المُنِير، مُحَمَّد بْنِ عَبْدِ الله بْنِ عَبْدِ المُطَّلِب بْنِ هَاشِم “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

وَكَتَبَ اللهُ أَجْرَكُم، وَتَقَبَّل مِنْكُم هذا الحضور الكبير، حيث أقمتم في هذا اليوم المبارك أعظم احتفالٍ على وجه الأرض، في أعظم مناسبةٍ، تعظيماً، وتوقيراً، وَإِعزازاً، ومحبةً؛ لأزكى، وأسمى، وأعظم، وأكمل، وأرقى إنسان في كل تاريخ البشرية، وفرحاً، وابتهاجاً، وسروراً، بنعمة الله وفضله ورحمته، حيث مَنَّ على المجتمع البشري، وبعث لإنقاذه وإخراجه من الظلمات إلى النور، خير خلقه، وسيِّد رُسله: مُحَمَّداً “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، ومباركٌ لكم ولكل أمتنا الإسلامية بهذه المناسبة المباركة.

إن هذا الإحياء العظيم لهذه المناسبة، هو من مظاهر الفرح، والابتهاج، والتقدير لنعمة الله تعالى، والاعتراف بفضله وَمِنَّتِه، كما قال “جَلَّ شَأنُهُ” في كتابه الكريم: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس:58].

ما قبل مولد رسول الله محمدٍ “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، كان الضلال المبين قد عمَّ أنحاء المعمورة، وظلمات الجاهلية قد استحكمت في كل مكان، والظلم والجور قد ملأ كل الدنيا، والفساد قد انتشر في كل المجتمعات، وما كان لدى المجتمع البشري من موروث الرسالة الإلهية، مما أتى به رسل الله وأنبياؤه عن الله تعالى، كان قد تعرَّض للتحريف، على يد من يزعمون انتماءهم إلى الرسالة الإلهية، كما هو حال أهل الكتاب آنذاك من اليهود والنصارى، الذين كانوا قد أصبحوا جزءاً من المشكلة، وتحوَّلوا إلى منتجين للضلال، ودعاةٍ إلى الباطل، وساعين في الأرض فساداً.

وأطبقت الجاهلية الجهلاء بظلمها وظلماتها على كل المجتمعات، بمختلف أديانها واتجاهاتها، وطال عليهم الأمد، وتطاول عليهم العمر، وأصبحت الأباطيل والمفاسد سلوكاً متجذراً، وعاداتٍ اجتماعية، ومعتقداتٍ راسخة، محميةً من قوى الطاغوت المستكبرة، وكان الأمل الوحيد للخلاص، والإنقاذ للبشرية من ضياعها وضياع مستقبلها، هو: ما بقي معروفاً ومأثوراً من بشارة الأنبياء “عَلَيْهِمُ السَّلَامُ” بالنبي الخاتم، الذي ظهرت إرهاصات قُرب مولده “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم” في تلك المرحلة المعتمة بالظلمات.

ولكن قوى الطاغوت الظلامية كانت تسعى للحيلولة دون تحقق الخلاص، ولمنع تحقق الوعد الإلهي، فقامت بحملتها، التي أرادت أن تكون حملةً استباقيةً، لوأد المشروع الإلهي في مهده، وتحرك آنذاك الجيش الحبشي الموالي لامبراطورية الرومان، ومن معه من مرتزقة العرب، في حملة أصحاب الفيل، باتجاه مكة المكرمة؛ بهدف هدم الكعبة المشرَّفة، والسيطرة على الوضع هناك، بما يمنع ظهور النور الإلهي من تلك البقعة المباركة، وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم حملتهم تلك، وكيف فشلت تماماً، وكان الله لهم بالمرصاد، فدمَّرهم تدميراً، قال تعالى: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}[الفيل: 1-5]، صَدَقَ اللهُ العَلِيُّ العَظِيْمُ. فكانت تلك الحادثة العجيبة والمهمة من أهم إرهاصات القدوم المبارك لخاتم الأنبياء، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[يوسف:21].

في عام الفيل ولد رسول الله وخاتم أنبيائه، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، ونشأ يتيماً؛ لوفاة والده، ثم من بعد ذلك وفاة والدته، فرعاه الله برعايته كما قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى}[الضحى:6]، وهيَّأ له رعايةً مميزة من جده عبد المطلب، ثم من بعد وفاته من قِبَلِ عمه أبي طالب، ونشأ نشأةً مباركةً طيبةً، وفريدةً، تفوق كل جهدٍ بشريٍ تربوي، ولم يتدنس بشيءٍ من دنس الجاهلية، وارتقى في سُلَّم الكمال الإنساني، بإعدادٍ إلهي للمهمة العظيمة المُقَدَّسة: رسالة الله للعالمين.

وفي تمام الأربعين من عمره الشريف ابتعته الله بالرسالة إلى العالمين، وأنزل عليه القرآن الكريم، المعجزة الخالدة، الذي يحتوي رسالة الله تعالى، ويتضمن خلاصة كتب الله السابقة إلى الأنبياء “عَلَيْهِمُ السَّلَامُ”، وفيه الهداية الكافيَّة للناس إلى قيام الساعة، كما قال الله تعالى: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[إبراهيم:1].

وأتت رسالة الله رحمةً للعالمين، ونجاةً لمن يهتدي بها، ونوراً منقذاً من الظلمات، وبدأ رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ” حركته بها، بدءاً في مجتمع مكة، وعلى مدى ثلاثة عشر عاماً، ثم هاجر إلى المدينة، حيث لم يتوفَّق مجتمع مكة آنذاك للشرف المهم والعظيم، في احتضان الرسالة الإلهية، ولم يؤمن منه إلا القليل، وأثَّرت عليه أكثر زعاماته المستكبرة، التي أصرَّت على الضلال باعتباره ضامناً لمصالحها غير المشروعة، في الاستعباد والاستغلال للناس، واتِّباع الأهواء والرغبات والأطماع.

ومع أن رسالة الله تعالى هي رحمةٌ لكل الناس، وفيها الخير لهم جميعاً، إن هُم آمنوا بها وقبلوها، وهي نورٌ يسمو بالإنسان في رشده وأخلاقه، وفي كل مسيرة حياته، ويترتب على الإيمان بها والاتِّباع لها خير الدنيا والآخرة؛ إلَّا أن قوى الشر والإجرام المستكبرة، وزعامات الفساد والطغيان المُضِلَّة، اتخذت موقفاً عدائياً ضد الرسول والقرآن، وسعت لمحاربة الإسلام بكل الوسائل والأساليب، بما في ذلك: الدعايات الكاذبة، والحرب الاقتصادية، والاستهداف العسكري، وكانوا مغرورين بإمكاناتهم العسكرية والمادية، وطامعين بالنجاح في القضاء على حركة النبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ” بالرسالة الإلهية؛ بالنظر إلى قِلة المسلمين في البداية، ومحدودية إمكاناتهم. أعلنوا حربهم على رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، وعلى المسلمين، ومارسوا العنف، والتعذيب، والاضطهاد للمسلمين المستضعفين، وحاولوا الاغتيال لرسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، إلَّا أنهم فشلوا في ذلك.

وقد هاجر رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ” من مكة إلى المدينة، حيث المجتمع الذي حضي بشرف الاحتضان للرسالة الإلهية، والإيواء والمناصرة لنبي الإسلام، وهم الأوس والخزرج اليمانيون، الذين سمَّاهم الله تعالى بالأنصار، وكانت الميزة المهمة لهم: أنهم أسلموا، وحملوا راية الإسلام، واحتضنوا المشروع الإلهي.

فَتَكَوَّن المجتمع الإسلامي من المهاجرين والأنصار، بقيادة رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، في المدينة المنورة؛ بينما كانت البيئة المحيطة بهم من بقية قبائل العرب بيئةً معادية، وكان الاستهداف لهم من مختلف الفئات، التي تحالفت وتعاونت في مؤامراتها وحربها ضد الإسلام والمسلمين، وكانت الأمور تَتَّجِه بشكلٍ واضح نحو المواجهة المسلَّحة، والحرب العسكرية، بعد أن فشل الأعداء في القضاء على الإسلام والمسلمين بالوسائل الأخرى، ولعدوانيتهم وحقدهم الشديد على رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، وعلى المسلمين، ولرهانهم على إمكاناتهم العسكرية، الضخمة في العدد والعدة، مقارنةً بالإمكانات البسيطة من ذلك لدى المسلمين؛ فأتى أمر الله تعالى لنبيه وللمسلمين بالجهاد في سبيل الله تعالى، والتحرُّك في الميدان العسكري؛ للتصدي للطاغوت، وكسر شوكة الاستكبار.

ومع أنَّ الصراع حالةٌ واقعيةٌ في المجتمعات البشرية، على مدى التاريخ، إلَّا أنَّ الجهاد في سبيل الله تعالى كان له مميزاته العظيمة والراقية، التي تجلَّت في الأداء الجهادي بقيادة رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ” على أرقى مستوى، في مبادئه، وقيمه، وأخلاقه، وروحيته، وأهدافه، فالقضية هي أسمى قضية، هي نور الله وهديه المبارك، هي الإسلام العظيم، هي الحق في مواجهة الباطل، والخير في مواجهة الشر، والعدل في مواجهة الظلم.

وفي الأداء الجهادي لرسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، كان التحرك بإذن الله وأمره، كما قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}[الحج:40]، وأتى الأمر من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” إلى عبده ورسوله وجنديه: محمد بن عبد الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا}[النساء:84].

وقد واجه رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ” مختلف فئات الكفر والشر، التي أعلنت حربها على الإسلام، من مشركي العرب، واليهود، وصولاً إلى المواجهة المباشرة مع الروم، الدولة الكبرى آنذاك، وحقَّق الله لنبيه وللمسلمين معه الانتصارات الكبرى، والتمكين العظيم، والفتح المبين، وتجاوزوا التحديات والمخاطر الكبرى، وتهاوت قوى الشر والكفر واحدةً تلو الأخرى، بالرغم من إمكاناتها الكبيرة، وما بذلته من جهدٍ وكيدٍ في محاربتها للإسلام، وصفه الله في القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}[إبراهيم:46]، فقد تجمَّع- آنذاك- خبث اليهود ومكرهم، ومكائدهم، وغدرهم من جهة، مع شراسة المشركين من المجتمع العربي، الذي كان مجتمعاً معروفاً بالقتال العنيف، وبالتوحش، إلى درجة وأد البنات، وقتل البنين، والتَّمرُّس على القتال الدائم حتى لأتفه الأسباب، والمعتاد على القتل، والسلب، والنهب، كسلوكٍ اعتيادي، ولكنهم فشلوا جميعاً، حتى عندما وصلت المواجهة مع امبراطورية الرومان، بما تمثله من قوةٍ عسكريةٍ، واقتصاديةٍ، وسياسية، كلهم فشلوا، وكانت نتائج مؤامراتهم، ومكائدهم، وحروبهم ضد رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم” والمسلمين، كانت النتيجة هي انتصار المسلمين، إلى درجة أن أصبحوا قوةً فعَّالةً حاضرةً في الساحة العالمية، في الصدارة بين الأمم، ومتميزةً برسالتها المقدَّسة.

لقد خلَّد الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” المسيرة الجهادية لنبيه محمد “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ” في القرآن الكريم؛ لتبقى درساً لكل أجيال الإسلام، بما فيها من التعليمات، والتوجيهات، والمواقف، والتقييم للأداء في حالات انتصار المسلمين، وحتى أسباب إخفاقهم في بعض المعارك، وشمل الحديث في الآيات القرآنية:

وقائع غزوة بدرٍ الكبرى، وغزوة أُحُد، وغزوة الأحزاب، المعروفة بـ (غزوة الخندق)، ووقائع أخرى من المواجهات مع مشركي العرب، وصولاً إلى الفتح العظيم: فتح مكة المكرَّمة.

وكذلك المواجهات مع اليهود، بمختلف تجمعاتهم المعادية للإسلام: بني قينقاع، وبني النظير، وبني قريظة، وفي خيبر، وفدك، والعوالي، ووادي القرى… وغيرها.

وكذلك المواجهة مع الرومان في غزوة مؤتة، وغزوة تبوك، التي تحققت فيها نتائج مهمة، مهَّدت السبيل لتحقيق انتصارات الفتوح الكبرى فيما بعد في مواجهة الروم، وانتقلت بالمسلمين إلى مستوى المواجهة لهم.

وواجه أيضاً جبهة النفاق، التي كانت تخلخل الصف الإسلامي من الداخل، وتعمل لخدمة الأعداء؛ فأتى الأمر من الله تعالى بالموقف الحاسم، في قوله “جَلَّ شَأنُهُ”: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[التوبة:73]، فشنَّ رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ” عليهم حملةً كبيرةً؛ لفضحهم، وإبطال تأثيرهم في الساحة الإسلامية، وإفشال مساعيهم لخدمة الأعداء، وأهانهم، وأذلهم، وقهرهم، وكان سقف الإجراءات تجاههم عالياً إلى مدىً بعيد، كما قال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}[الأحزاب:60-62].

والدروس العظيمة الملهمة الهادية من مسيرة رسول الله الجهادية، كفيلةٌ بالارتقاء بالمسلمين من واقعهم المؤسف في هذا العصر، الذي وصل بهم إلى درجة الخنوع والذلة في مواجهة اليهود، الذين قد ضَربَ الله عليهم الذلة والمسكنة، ومن أهم تلك الدروس:

أولاً: ضرورة التمسك بقضيتهم المقدَّسة في حمل رسالة الله تعالى، والالتزام بها، وحمل راية الإسلام الموعود بالظهور والغلبة، كما قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التوبة:33]، والتحرُّك وفق تعليماته المباركة.

ثانياً: الثقة بالله تعالى، والتوكل عليه في مواجهة التحديات والمخاطر والأعداء، كما أمر الله نبيه “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، فقال له: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ}[النمل:79]، وقال له: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ}[الفرقان:58]، وقال “جَلَّ شَأنُهُ”: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[آل عمران:122].

ثالثاً: الروح المعنوية العالية، والاستعداد للتضحية في سبيل الله تعالى، كما قال “جَلَّ شَأنُهُ”: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}[التوبة:111]، وأهم عاملٍ في ذلك هو: الانطلاقة الإيمانية، التي يحظى المجاهدون فيها بالدعم المعنوي الإلهي، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ}[الفتح:4].

رابعاً: البصيرة العالية، والوعي، واليقين، بما في ذلك الوعي القرآني عن الأعداء بمختلف فئاتهم، وعن طبيعة الصراع معهم، وعن عوامل النصر، وأسباب الهزيمة، وفي القرآن الكريم البصيرة الكافيَّة، كما قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا}[الأنعام:104].

خامساً: الصلابة، والصبر، والثبات، في مواجهة الصعوبات والتحديات، كما قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران:200].

سادساً: الاستقامة، والتقوى لله، والاهتمام العملي، والجد، والمثابرة، والمسارعة، كما قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}، وقال “جَلَّ شَأنُهُ”: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}[آل عمران:120]، وقال “جَلَّ شَأنُهُ”: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}[التوبة:41]، وقال “جَلَّ شَأنُهُ”: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران:133].

سابعاً: الحكمة، والرشد، والأخذ بالأسباب، وحسن تقدير الموقف، والإدارة الصحيحة في الأداء، على المستوى الاستراتيجي والتكتيكي، فكان لكل معركةٍ خطتها، وترتيباتها، وطريقتها، ما بين بدرٍ، وأُحُد، والخندق؛ وما بين قينقاع، وقريظة، وخيبر؛ وما بين غزوة الحديبية، وفتح مكة، وغزوة حنين، وغزوة مؤتة، وغزوة تبوك؛ وما بين السرايا إلى مناطق كثيرة، والعمليات الاستباقية، والهجوم المباغت… وغير ذلك.

لقد كانت مسيرة رسول الله الجهادية أعظم قصة نجاحٍ في التاريخ، لأعظم قائدٍ وقدوة، ولأقدس راية، وبأقل التكاليف على مستوى الخسائر البشرية والمادية، ولصالح أعظم مشروعٍ لخير الناس في الدنيا والآخرة.

إنَّ الاتِّباع، والاقتداء، والاهتداء، والتأسي برسول الله محمد “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، بقدر ما هو التزامٌ إيماني، هو طريق النجاة والفلاح، وصلةٌ برحمة الله تعالى وتأييده ورعايته، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21].

إننا في هذه المناسبة المباركة، وفي ظل الظروف الراهنة، التي تعاني فيها الأمة الإسلامية من الاستهداف الشامل، من قِبَلِ قوى الكفر والنفاق، وعلى رأسها: أمريكا وإسرائيل، ومن يدور في فلكهم، وفي إطار مسؤولية المسلمين الجهادية، لنصرة الشعب الفلسطيني المظلوم، الذي يرتكب الأعداء الصهاينة اليهود بحقه جرائم الإبادة الجماعية في كل يوم، لنؤكِّد ثبات شعبنا اليمني المسلم العزيز، على موقفه المبدئي الجهادي، في حمل راية الإسلام، والوقوف بوجه الطاغوت والاستكبار.

وإنَّ عملية اليوم، التي نفَّذتها القوة الصاروخية، بصاروخٍ باليستيٍ جديد، بتقنيةٍ متطورة، حيث تجاوز واخترق كل أحزمة الحماية، التي يحتمي بها العدو الإسرائيلي، ويتمترس بها، بما في ذلك منظومات الدفاع الجوي المتعددة والمتنوعة، إضافةً إلى المدى البعيد، حيث قطع مسافة تقدر بـ (2040 كم)، في غضون (11 دقيقة ونصف الدقيقة)، هي في إطار المرحلة الخامسة من التصعيد ضد العدو الإسرائيلي، ونصرةً للشعب الفلسطيني، وعملياتنا مستمرةٌ طالما استمر العدوان والحصار على غزة، وموقفنا ثابتٌ حتى تطهير فلسطين المحتلة من براثن الاحتلال الصهيوني، نُصَعِّد في كل مرحلة تصعيد، وننسق مع إخوتنا المجاهدين في فلسطين، وفي محور القدس والجهاد والمقاومة، ونتحرك لفعل ما هو أكثر، والقادم أعظم بإذن الله تعالى.

كما تواصل قواتنا المسلحة عملياتها في البحار، لاستهداف الحركة الملاحية المرتبطة بالعدو الإسرائيلي، وشريكه الأمريكي والبريطاني، وهي- بحمد الله وتوفيقه- عملياتٌ ناجحة، وفي غاية التأثير.

أمَّا فيما يتعلَّق بالوضع الداخلي: فقد بدأ مسار التغيير في الجانب الحكومي، وفي الجانب القضائي، وهي البداية، والمسار في ذلك متواصلٌ- بإذن الله تعالى- حتى الاستكمال، وحتى يلمس أبناء شعبنا العزيز الثمرة المطلوبة لذلك.

وإننا نتوجَّه إلى أمتنا الإسلامية جمعاء، للتذكير بالمسؤولية الدينية والواجب المقدَّس لنصرة الشعب الفلسطيني، وإنَّ موقع هذه المسؤولية في الدين، هو في المستوى الذي قال عنه رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”: ((مَنْ أَصْبَحَ لاَ يَهْتَمُّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ مِنَ مِنْهُم، وَمَنْ سَمِعَ مُنَادِياً يُنَادِي: يَا لَلْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يُجِبْهُ، فَلَيْسَ مِنَ الْمُسْلِمِين)).

إنَّ النهج الإيماني الذي سار عليه رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، هو: التمسك بالقرآن الكريم، والتحرُّك العملي على أساس توجيهات الله تعالى، كما قال الله “جَلَّ شَأنُهُ”: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[البقرة: 285-286]، صَدَقَ اللهُ العَلِيُّ العَظِيْمُ.

وَفِي خِتَامِ هَذِهِ الكَلِمَة، أَسْألُ اللهَ أَنْ يَكْتُبَ أَجْرَكُم جَمِيعاً عَلَى حُضُورِكُم، وَإِحْيَائِكُم العَظِيم لِهَذِهِ المُنَاسَبَة المُبَارَكَة، وَأَنْ يَكْتُبَ أَجْرَ كُلِّ العَامِلِين، مِنْ: أَمْنِيِّين، وَمُنَظِّمِين، وَفَنِّيِّين… وَغَيْرِهِم، كَتَبَ اللهُ أَجْرَكُم جَمِيعاً، وَبَارَكَ فِيْكُم، وَتَقَبَّلَ مِنْكُم.

وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

رَعَاكُمُ الله، وَبَارَكَ اللهُ فِيْكُم، وَحَفِظَكُم، وَكَتَبَ أَجْرَكُم، وَبَيَّضَ اللهُ وُجُوهَكُم، وَرَفَعَ قَدْرَكُم، وَأَعْلَى شَأنَكُم، فِي رِعَايةِ الله.

المصدر: يمانيون

كلمات دلالية: فی القرآن الکریم کما قال تعالى کما قال الله لرسول الله ع ل ى آل ه رسالة الله الله تعالى فی مواجهة رسول الله ت ع ال ى ال م ؤ م ن س ب ح ان ه آل عمران ل الله ت ع ل ى ال الله ب بما فی فی ذلک د الله ما بین ة الله

إقرأ أيضاً:

سجناء المُطالبات المالية

 

 

 

خليفة بن عبيد المشايخي

khalifaalmashayiki@gmail.com

 

يضم هذا الكوكب البشر ومخلوقات أخرى بعضها سخره الله تعالى لخدمة الإنسان، وإذا كان المولى عزَّ وجلَّ سخر الشجر والدواب ليكونا في خدمة الإنسان ومن أجل الإنسان، فمن باب أولى سخرنا لخدمة بعضنا البعض، وأن هذا الكوكب وهذه الحياة قائمة على هذا التسخير، وإلا لن تكون هنالك حياة إذا لم يكن كل منَّا بحاجة الآخر.

فمثلا الأعمال حتى تنجز بحاجة إلى البشر للقيام بها، وليس كل البشر بمقدورهم العمل أو خدمة ومنفعة نفسه، قس على ذلك الطفل حتى يكبر، يحتاج إلى من يخدمه ويعتني به، وينسحب ذلك على بقية المجالات الحياتية.

ولما كان الأمر كذلك، فإن من تمام الإيمان وكماله حب الخير والسعادة والهداية والصلاح لعموم البشر، والحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم قال "لا يُؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

الحال- إذن- يقتضي أن نحب كل خير عندنا لغيرنا، وإن لم نستطع أن نجعله في مستوانا من العيش والكفاف والكفاية، لا نكون حجر عثرة في طريقه، أو نتسبب في أذيته وإلحاق الضرر به، أو نكون سيوف ذل ومهانة وقهر تغرس في خاصرته.

فمتى ما علمنا عن ذي كربة، علينا أن نسارع بفك كربته بالحال والمال والكلمة فورا، ومتى ما علمنا عن محتاج أو متعسر أو يعيش أوضاعا حياتية مأساوية وصعبه، علينا أن لا نتردد في مد يد العون له.

ومن الشهامة والنخوة والرجولة والكرم والخيرية، أن يفزع الإنسان لخدمة الآخر ونجدته وإنقاذه ومساعدته، ولو بالقليل والبسيط والمتيسر، فليس بالضرورة المساعدة بالمال إن لم يكن متوفرًا كل حين؛ بل حتى المساعدة بالكلمة الطيبة خير، والتحرك من أجل حل مشكلته وقضاء حاجته خير، فخير الناس أنفعهم للناس.

واليوم ونحن نعيش نِعمًا شتى، ينبغي ألا ننسى غيرنا من الناس، حتى المُستغني مالًا وحالًا وجاها ومنصبا، يجب أن لا ننساه من الدعاء له في ظهر الغيب بما يجعله قريبًا من الله تعالى، وبما يجعله في خيرٍ وصحة وعافية وسلامة.

والإنسان مطالب أن يستأنس بقرب الله تعالى، فليس كل ذي مال موفق لذلك، وليس كل ذي منصب ودرجة ومكانة اجتماعية وعلمية وعملية وصاحب شهادة وعلم موفق إلى ذلك.

وقيل إذا أردت أن تعرف مع الله مكانك، فانظر في ماذا أقامك وأوجدك، إذن لطالما نظرتنا يجب أن تكون نظرة رحمة للجميع، فأولئك الذين يقبعون اليوم في السجون من مسندم إلى ظفار بسبب المطالبات المالية، نقول ليس من الخير فينا والشهامة والمروءة والكرم بيننا، أن يكونوا في السجن بسبب مطالبتهم بسداد ما عليهم من ديون، وهم لا يملكون شيئًا، ولا حول ولا قوة لهم إلا بالله تعالى.

في السجون اليوم أناس كبار في السن تجاوزوا الستين سنة، وهناك الشباب ومتوسطو الأعمار، قادتهم الظروف ليكونوا في السجن بسبب مطالبات مالية مختلفة.

اليوم الذي سُرِّح من عمله وعليه قروض بنكية أو تمويل نجده بعيدًا عن أولاده وزوجته وأهله يقبع في السجن، والذي عليه إيجارات متأخرة، أو دين لأحد أو نفقة شرعية أو تنفيذ مدني أو التزام مالي أي كان ولم يستطع الوفاء به، نجده في السجن.

لقد تعودنا أن يبادر الناس واللجان والجمعيات الخيرية بفك الكُرَب في شهر رمضان، وإذا انتهى الشهر فترت الناس وضعفت الهمم، وظل من في السجن مكانه لسنوات طويلة يعاني ويتألم ويفكر في مصيره ومصير أولاده وأسرته.

إن الأمر لم يتوقف عند سجن المدين؛ بل تعدى الى ضياع أسرته وخرابها وتشردها؛ فالسجين الذي ضاع أولاده بسبب لجوء الزوجة إلى طلب الطلاق، وترك الأولاد مع أهلهم من أبيهم، أمر يحُز على النفس ويخلق أناساً ضعيفي الانتماء للأصل والفرع، وهذا الوطن لا يقوم إلا بسواعد الجميع.

لقد سمعنا وتصلنا الكثير من الاتصالات والقصص الموجعة والمؤلمة التي لا نرضاها على أنفسنا، ولا نرضاها في غيرنا من الناس، وللأسف أصبح الوضع وكأن لا حياة لمن تنادي، وكأنه إذا سلمت ناقتي ما عليَّ من ناقة رفاقي.

إن الله تعالى يقول "وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ".. فيا أصحاب المال والجاه والمنصب والكلمة والقرار، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.

ابحثوا للناس عن حلول غير الزج بهم في السجن، وجدوا لهم مخارج غير السجن، ضعوا أنفسكم في مكانهم لو جار عليك الزمان ودارت عليك الدوائر، أو على أولادك ورميت في السجن لأي سبب أو آخر.

من هذا المنبر ندعو إلى إنشاء هيئة أو لجنة وطنية مهمتها إبعاد الناس عن دخول السجن من خلال ابتكار حلول عملية، واتخاذ خطوات فعَّالة لحفظ كرامة المواطن والحيلولة دون دخوله السجن بسبب المطالبات المالية.

اجلسوا على طاوله واحدة واطرحوا الآراء والحلول، واستنبطوا الأفكار حتى تصلوا للحل، ومتى عُقدت النية، تأكدوا أن الله تعالى سيلهمكم الصواب، وسيكون التوفيق حليفكم لا محالة، وتذكروا أن الرحمة فوق القانون.

مقالات مشابهة

  • رئيس مجلس السيادة يهنئ رئيس جنوب إفريقيا بمناسبة ذكرى العيد الوطني لبلاده
  • سجناء المُطالبات المالية
  • بمناسبة ذكرى وفاة محمد عبد الوهاب.. سمية وجدي تحيى حفلًا غنائيًا بدار الأوبرا
  • ورطة السائق الذي يؤشر للانحراف في كل الاتجاهات في وقت واحد
  • الشرارة… فيلم  وثائقي يوثق انطلاقة الثورة من درعا ويحيى ذكرى شهدائها
  • معايير اختيار الصديق الصالح على الطريقة النبوية
  • موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 في مصر
  • علي جمعة: التفكر في ذات الله تعالى منهي عنه
  • جيل المستقبل يحتفي بـ ماضي الأبطال .. حفل بمناسبة ذكرى تحرير سيناء
  • وصايا الرسول قبل موته.. أمور مهمة أوصى بها النبي فاغتنمها