إلى أبطال وثبة الأُسود : ضاع من ادَيَّ ولد .. وخايف على الثاني
تاريخ النشر: 15th, September 2024 GMT
بقلم : فالح حسون الدراجي ..
قبل ثمانية عشر عاماً، أي في لجة الاضطرابات الامنية، وذروة الإنفعالات الطائفية الكريهة البغيضة
وايام ما سمي بـ (الفتنة الطائفية)، كتبت أغنية إنسانية نبيلة، تقطر وجعاً وشجناً وعاطفة تمزق القلب.. أغنية أفخر بروعة مضمونها وفكرتها وهدفها، وأزهو بجمال كلماتها ولحنها وأدائها.. أغنية لم يكن الإقدام على كتابتها ونشرها وغنائها وتسجيلها آنذاك امراً سهلاً بالمرة.
لقد كان الشاعر ( الشيعي او السني)، يخشى غضب أبناء (طائفته) إذا ما مضى إلى إنجاز نص غنائي يدعو للحب والسلام الوطني والاجتماعي، وينتصر فيه للاخوة والوطن والجمال وليس للطائفة، بينما أبناء جلدته يذبحون آنذاك كل ساعة على عتبات الطائفية.. وربما يكون أفراد أسرة الشاعر أو الفنان أقرب من غيرهم إلى انتقاده، والغضب عليه.. فالكلام عن الاخوة والشراكة في الوطن والتاريخ والمصير أمر يثير السخرية في تلك الأيام السود..
لقد كان أمام الشاعر أو الفنان الذي يقوم بإنجاز مثل هذه الأغنية خياران لا ثالث لهما، إما المشاركة في (حفلات الموت) والتحريض على قتل الآخر، أو عليه أن يصمت
وهذا أضعف الإيمان- !لكني – ومعي زملاء لا يتجاوزون عدد الأصابع- خرجنا عن السرب ، بل وغردنا بصوت عالٍ ضد الاقتتال بين الأخوة، مستخدمين كل ما يتوفر لدينا من وسائل جمالية لإقناع الناس بفداحة الخسارة التي تلحق بالجميع نتيجة هذا الصراع الدامي، وفي نفس الوقت ننشر لوائح هول الفجيعة التي أنتجتها هذه الفتنة المجنونة، ليرى العراقيون إثم ما فعلوه بأنفسهم وببلادهم أيضاً..
ولأني (شاعر غنائي) لا يملك سلاحاً غير سلاح الكلمة، شاعر وظيفته الإبداعية والجمالية والأخلاقية والوطنية، كتابة النصوص وتوظيفها لصالح قضايا الوطن والناس والسلام بات لزاماً عليٌ المساهة بقوة في انتاج ما يسهم في تحقيق السلام وصناعة الامل..
ومادام الأمر هكذا، وسط دماء أبناء وبنات أهلي وناسي التي تملأ شوارع العاصمة والمدن الأخرى.. كما تتناثر في الشوارع العراقية جثث أخوتي العراقيين من مختلف الطوائف والأديان دون استثناء.. أصبح لزاماً علينا أن نسهم في ايقاف حمامات الدم الشنيعة بكل ما نقدر به وعليه، ويجب هنا أن نبرز شجاعتنا الوطنية والإنسانية والأدبية إن كنا شجعاناً حقاً، ونظهر أمام المشهد بوضوح تام، وليس خلف كواليسه، مهما كانت النتائج التي تنتظرنا.. وإلا فلا يحق لنا أن ندعي الوطنية والتقدمية والإنسانية..
فتناولت لحظتها القلم، وكان أمامي مشهد موجع لأحد الأصدقاء الذين فقدوا في حرب الطائفية القذرة أحد أولادهم، ولم يعد له في الدنيا غير ولد واحد.. فتخيلت هذا الصديق المفجوع وهو يقف فوق منصة عالية وسط بركة من دم ضحايا (الطرفين)، ينادي بكل ما في الأسى والفقد والخوف من وجع وألم، قائلاً بصوت مؤثر :
( ضاع من ادَيَّ ولد .. وخايف على الثاني ..
گلبي على ديرتي
و أهلي و خلاني
خايف على كل طفل ..
كل طير .. كل نبتة
و صدگني مو بس عليّ..
خايف عليك انته
و لا تظن وحدي الهدف
انته الهدف و آني
ضاع من اديَّ ولد
خايف على الثاني ..)
و رغم ضياع الولد و قسوة الجراح، وخوفه من أن يضيع الوطن ايضاً، ويفقد الأهل والأحبة، فهو يخاف على (الآخر ) وأبناء الآخر من الفقد أيضا..!
فالخسارة في فقدان ولده لا يشعر بها صديقي وحده فقط إنما هي حتماً خسارة لجميع العراقيين دون استثناء.. لذلك قلت على لسان صديقي المفجوع:
( مو آني بس اخسرت
انته اخسرت مثلي ..
چان ابني لابنك اخو
و اهلك اهل لاهلي
منين اجانه العدو
و فرق اخو عن اخو ؟!
يا وطن انته الابو
وكل ولدك اخواني ..
ضاع من اديَّ ولد
خايف على الثاني )..
وفي ختام النص صرخت بقوة مطالباً الجميع -وقد كانت الآذان صماء وقتها-
بالعودة إلى ينابيع الحب العراقي الصافية، والى أواصر الاخوة العراقية الحميمية، ونبذ نبرة الجفاء والعداء وأبجدية الفتنة الطائفية البغيضة:
حيث قلت في ذلك النص:
( حتى يظل الوطن
عالي بعلو شمسه
خلينا ننسه المضى
و نبتدي من هسه
شما فرقتنا المحن
و طشتنه ريح الفتن
يرجع يلمنه الوطن
واحد مع الثاني
ضاع من اديَّ ولد
خايف على الثاني ..)
وما أن انتهيت من كتابة النص، حتى برزت امامي مشكلة: من سيلحنه، ومن
سيغنيه، وأين سنسجله ، ومن سيعزف موسيقى الأغنية لو اردنا تسجيلها؟! وقتها فكرت بأسماء عديدة معروفة في الساحة الغنائية، لكن اغلبهم رفض، او اعتذر، وكلٌ له مبرره وعذره الذي تعكز عليه..!
وبينما أنا منشغل في هذا الأمر المتعب، اتصل بي الفنان الكبير عبد فلك، يخبرني عن مسابقة غنائية دعت اليها شبكة الإعلام العراقي لتحريك المياه الفنية الراكدة، وهي خطوة كانت وقتها جريئة وشجاعة جداً .. ولعل أفضل ما فيها أن شبكة الإعلام ستوفر كل مستلزمات تسجيل وتصوير وبث الاغاني المقبولة في المسابقة.. فكان هذا الخبر بمثابة قارب الإنقاذ، الذي جاء لينقذ مشروعنا الغنائي ..
وحين أطلعت صديقي الفنان عبد فلك على النص والفكرة، وجدته يطير من الفرح .. وهكذا قدمنا النص وتم قبوله، ثم جاء دور عبد فلك ليقدمه بصوته وألحانه ويفوز بالجائزة الثانية.. وبصراحة أقول إن أغنيتنا التي فازت بجائزة المسابقة الثانية، كانت تستحق المرتبة الاولى، ولكن فوز الفنان الجميل والصديق العزيز عدنان البريسم بالجائزة الاولى وهدف الاغنية الأساسي خفف من وطأة الأمر ..
لقد بُثت الاغنية ونجحت
في وقتها نجاحاً شعبياً رائعاً.. وهذا هو المكسب الحقيقي والجائزة الاهم..
ومما ساهم في إنجاحها – عدا اللحن والاداء الرائعين لعبد فلك- هو الإخراج، فالعمل كان من ( اخراج المبدع الكبير حسين الأسدي، الذي اجاد هو الاخر في صناعة توليفة ثقافية، فنية، أرّخت لمرحلة صعبة، و مؤلمة، زالت لكن ينبغي ان نظل نستذكرها حتى تكون عبرة لتجاوز تلك الانقسامات البغيضة).
وها أنا لم أنسَ الاغنية، فقد تذكرتها أمس حين حقق ابطال جيشنا العراقي نصراً عسكرياً استخبارياً عظيماً في صحراء الأنبار، كان النصر فذاً بحيث كسرنا به ظهر هذا التنظيم الإرهابي.. وطبعاً ما كان لهذا النصر العظيم أن يتحقق لولا بطولة جيشنا بأولوية مكافحة الإرهاب وفرسان العمليات المشتركة، وجهود رجال المخابرات العراقية الذين اشتغلوا سراً سنة كاملة على هذه المفصلية المهمة..
وايضاً بدعم واضح من مستشاري التحالف الدولي.. والأهم في ذلك هو أهل الأنبار أنفسهم.. إذ من المستحيل الحصول على مثل هذا الصيد المهم والدسم بدون دعم ومساعدة من ابناء المنطقة- أي من ابناء الأنبار- وهكذا انتصر ابني الثاني، وانتصر معه ابن أخي ( الآخر) ، إذ لم يضع جهدي، ولا ابداع الفنان عبد فلك، ولا جهود الذين ساهموا في انجاز هذه الاغنية الوطنية..
فالح حسون الدراجيالمصدر: شبكة انباء العراق
كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات عبد فلک ضاع من
إقرأ أيضاً:
إفطارهم فى الجنة.. أبو الفضل عيسى.. بطل خلدته التضحية فى ذاكرة الوطن
يظل اسم الشهيد البطل أبو الفضل محمد عيسى عالقًا في ذاكرة الوطن، ويذكرنا أن البطولة لا تقتصر على ساحات المعارك الكبرى، بل تمتد إلى اللحظات الصامتة التي يختار فيها الأبطال أن يهبوا حياتهم فداءً لوطنهم.
كان أبو الفضل، ابن قرية "شطورة" في شمال محافظة سوهاج، رمزًا للتضحية والفداء، وملحمة من الشجاعة في زمن لا يعرف إلا سطوة المجهول.
في كل صباح، كان يودع زوجته وأبناءه الأربعة – أسماء، وصفاء، إيمان، وزمزم – متجهًا إلى عمله في كمين "سلامون" قرب مدينة طما، حيث لا يعلم أن هذا الصباح سيكون آخر لقاء له مع أحبائه. كان رجلًا لا يطلب شيئًا من الدنيا سوى خدمة وطنه، يزرع الابتسامة في وجوه جيرانه وأصدقائه، ويأخذ همومهم في قلبه دون أن يشعرهم بذلك.
كان الشهيد أبو الفضل خير مثال على الشرطي الذي يعيش من أجل الناس، ينقضّ على التحديات بكل قوة، لا يتردد في الدفاع عن بلاده بكل ما أوتي من إيمان وعزم. وفي إحدى تلك الأيام التي لا تُنسى من تسعينات القرن الماضي، تعرض كمين "سلامون" لهجوم غادر من إرهابيين لا يعرفون سوى الدماء والخراب. لكن أبو الفضل، بكل شجاعة، ثبت في مكانه وواجه الموت، رافعًا راية التضحية والفداء. وبينما كانت ضربات الرصاص تتساقط من حوله، سقط شهيدًا، ليُسجل اسمه في سجل الشرف في قلب كل مصري.
ومرّت السنوات، ولكن روح أبو الفضل لا تزال حية في قلوب من عرفوه، لا ينسى أبناء قريته تضحياته، ولا يزال اسم الشهيد غائبًا عن شوارع قريته أو منشآتها الحكومية.
ورغم الدعوات المستمرة من أهالي "شطورة" لتكريمه، يظل حلمهم قائماً: أن يُطلق اسم الشهيد على إحدى المنشآت الحكومية، سواء كانت مدرسة أو مسجدًا أو حتى موقعًا شرطياً، ليبقى اسمه حيًا في ذاكرة الوطن، ويظل شاهدًا على أن هناك دائمًا أبطالٌ يختارون الموت على الحياة من أجل أن يظل الوطن شامخًا، وأن تظل رايته مرفوعة.
أبو الفضل محمد عيسى ليس مجرد اسم، بل هو رمز للأبطال الذين لا يطلبون شيئًا سوى أن يظل الوطن بخير.
في قلب هذا الوطن الذي لا ينسى أبنائه، يظل شهداء الشرطة رمزًا للتضحية والفداء، ويختصرون في أرواحهم أسمى معاني البذل والإيثار، رغم غيابهم عن أحضان أسرهم في شهر رمضان، يبقى عطاؤهم حاضرًا في قلوب المصريين، فالوطن لا ينسى من بذل روحه في سبيل أمنه واستقراره.
هم الذين أفنوا حياتهم في حماية الشعب، وسطروا بدمائهم صفحات من الشجاعة والإصرار على مواجهة الإرهاب، هم الذين لم يترددوا لحظة في الوقوف أمام كل من يهدد وطنهم، وواجهوا الموت بابتسامة، مع العلم أن حياتهم ليست سوى جزء صغير من معركة أكبر ضد الظلام.
في رمضان، حين يلتف الجميع حول موائد الإفطار في دفء الأسرة، كان شهداء الشرطة يجلسون في مكان أسمى، مكان لا تدركه أعيننا، ولكنه مكان لا يعادل في قيمته كل الدنيا؛ فإفطارهم اليوم سيكون مع النبين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا.
مع غيابهم عن المائدة الرمضانية في بيوتهم، يظل الشعب المصري يذكرهم في صلواته ودعواته، تظل أسماؤهم محفورة في ذاكرة الوطن، وتظل أرواحهم تسكن بيننا، تعطينا الأمل والقوة لنستمر في مواجهة التحديات.
إن الشهداء هم الذين حفظوا لنا الأمان في عز الشدائد، وهم الذين سيظلون نجومًا مضيئة في سماء وطننا، فلهم منا الدعاء في كل لحظة، وأن يظل الوطن في حفظ الله وأمانه.
مشاركة