معهد ثقافي عربي في قلب ميلانو
تاريخ النشر: 15th, September 2024 GMT
حمد الناصري
بما عُرف عنه من حُب للثقافة والعُلوم وتَشجيعه ودَعْمه السَخيّ لطالبي العِلْم والباحثين، فقد كان صاحب السُمو الشيخ الدكتور سُلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة وما زال يأتي بمُبادرات مُتميزة ولامِعَة في تلك المجالات؛ وبما يُعزز المكانة الثقافية للإمارات العربية الشقيقة خصوصًا وللعرب عُمومًا.
وكانت آخر تلك المُبادرات الرائعة بافتتاح معهد ثقافي عربي، في قلب جامعة القلب المُقدّس الإيطالية بمدينة ميلانو، وذلك في يوم الجمعة الموافق 30 أغسطس 2024.
وقد شرَّف سُمّوه حفل الافتتاح وألقى كلمة بالمناسبة المُبهجة، مُعَبرًا عن اهتمامه الشخصي واهتمام دولة الإمارات العربية المُتحدة بالثقافة بشكل عام والثقافة العربية الأصيلة بشكل خاص وعن عُمق العلاقة التي تجمع الشارقة بميلانو، وكانَ من ثمار تلك العلاقة احْتضان جامعة القلب المُقدس في رحابها للمعهد العربي الثقافي، وبَعد سِنين مُثْمِرة من التعاون الثقافي والعِلمي، ومِمّا يُشكل تعزيزًا وتطويرًا للتعاون البَنّاء بين هيئة الشارقة للآثار وبين جامعة القلب المقدّس.
وأكّد سُموه على مَسَاعِيه الجادّة لبلورة جُهوده التَوّاقة لخدمة الثقافة واللغة العربيّتين، وقد عَبّر عن نفسه في الافتتاحية بأنه باحث ودارس للغة العربية التي تزخر بعجائب من كلمات ومُرادفات تشترك في مَعنى واحد، ظاهريًا وباطنيًا.
وذكر سُمّوه أنه ومن خلال بَحثه بين المعاجم والقواميس العربية عن أصُول هذه اللغة من حيث نشأتها ومرجعها، قد وجَد مَن ادّعُوا بأنّ هناك لغة تُسمى السامية، استنبطت من اسم سام ابن نوح عليه السلام، وأنّ له ابن يُسمى آرام وذلك ليس صحيحًا، وإنّما الآراميّة أتَت مِن إرَمْ على وزن هِرَم ووِرَم وتعني الأرض المُرتفعة التي نزلت بها قدم عاد بأطراف عُمَان "سلطنة عُمان الحالية"، وقد ذكرها الله في قوله "ألمْ تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد"؛ وهي إرَمْ التي تتميّز بكثرة الأعْمِدة وليس مَعناها آرام ابن نوح عليه السلام.
وقد كشف سُموه عن مَعْلومات أخرى في حفل الافتتاح، منها أنّ آدم عليه السلام وزوجه حوّاء، قد أتيا من شرق أفريقيا أو هُم قد تحَدّرا من القارة الأفريقية الشرقية، ومن هذه القارة انْطَلقا وانتشرت بشريتهم، وكان المكان الأنسب للانتشار هي جزيرة العرب، أي الجزيرة العربية الحالية. وقد أكّد سُموه أنّ الآثار الأولية لأبناء آدم عليه السلام اكتشفت في الشارقة، وقد اكتشفها بروفيسور هانز من جامعة تُيوبنغ، مُوضحًا أنّ الهِجْرات لا ترمز إلى عُبورهم من الجزيرة العربية ولكن بَعد الاكتشاف تم تصحيح الخرائط القديمة، ووُضِع خط أحمر يَخرج من شرق أفريقيا إلى الجزيرة العربية حتى يصل إلى الشارقة.
وأيضًا ما ذكره الشيخ سُلطان القاسمي، وهذا فخر للشارقة أنْ يكون بها الأوائل من أبناء آدم عليه السلام، وخِلال بحث سُموه، وجد أنّ اللغة العربية، هي نفسها اللغة التي خرجت إلى الجزيرة العربية، مُؤكدًا أنّ هناك كلمات عربية أصيلة قد لا تستعملها الشعوب العربية لِقِدْمها، ولكنها موجودة في القواميس، لافِتًا إلى مشروع للغة العربية، سيتم إنجازهُ وهو عبارة عن "معجم تاريخي للغة العربية" الذي سيكون من 125 مجلدًا، ويَحتوي كل جزء على 750 صفحة ويُفَسّر المعجم ما وُجد في قاموس اللغة اللاتينية، المُترجم إلى العربية.
وقد أضاف سُمو الشيخ سلطان القاسمي في كلمة الافتتاح قائلًا: "أنا الآن في بداية العمل على خمسة مجلدات للقاموس اللاتيني، آملا أنْ يَصدر ليُبيّن فيه القاموس العربي إلى اللاتيني.. وأنّه يَعْمُر الأرض ولا يُخرّبها، مُعَبرًا بأنه يَمُدّ يد التعاون في المجالات الإنسانية وليس في المجالات التخريبية، ونحمي الثقافة سواء أكانت عربية أم إيطالية أم لاتينية أو أي ثقافة أخرى، نُحافظ عليها من العبث". كما أشار سُموه إلى تشويه صُورة سيّدنا المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام في الأولمبياد الذي أقيم في باريس "فرنسا" إذْ كانت الصُورة فيها من العَبث الكثير.
كذلك ألقت الشيخة بدور بنت سُلطان القاسمية رئيسة مجلس هيئة الشارقة للكتاب خطابًا بالمناسبة، وعَبّرت عن سعادتها باللحظة التاريخية لافتتاح المعهد العربي الثقافي في الجامعة الكاثوليكية للقلب المقدس في ميلانو، مُؤكدة بأنها مُناسبة هامة وهي تجسيد عمليّ لتعزيز الحوار الثقافي والتعاون الأدبي بين الشارقة والعالم بأسره. وأضافت سُموها أنّ افتتاح المعهد الثقافي العربي بداية فصل جديد في مسيرة الشارقة الثقافية والأدبية، ومَسِيرة تَمضي لتتخطّى الحدود وتَعْبُر القارات براية الأدب التي طالما جمع القلوب ووحّد العُقول منذ الأزل.
خلاصة القول.. تأتي افتتاحية المعهد العربي في ميلانو في وقت تلاشى فيه التركيز على الثقافة العربية في حوارات ثقافية عربية؛ سواءً في أوروبا أو بقيّة قارات الأرض، ولكنها عادت لتنطلق من الشارقة إلى العالم مُعززة بدعم لا مَحدود من سُمو الشيخ سلطان القاسمي ولتفعيل دور المعرفة والإبداع في مدّ جسور التواصل المعرفي والحوار الثقافي العربي العالمي الإيجابي، وكان الاختيار على تأسيس المعهد ذا أبْعاد ثقافية ومعرفية وحضارية، وليكشف للعالم الجوانب الفكرية التي بَقيت مَخْفِية لقرون في الحضارة العربية.
وآمل شخصيًا أنْ يُشرق المعهد العربي الثقافي عن الوجه الحقيقي للإبداع العربي الفكري في كل مناحي الحياة، وأنْ يكون مُلتقى للحضارات في واحة ثقافتنا العربية، وثقافة عادلة ومُنصفة، فالماضي رسالة وتُراث وإبداع حياتي.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
بعد تعنُّت إسرائيل.. كيف عاش اليهودي يوسف طرّاب ينكرها ومات لبنانيًا عربيًا
بعد ما نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، مساء أمس “الأربعاء”، أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمهل رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أسبوعين إلى ثلاثة لإنهاء الحرب في غزة؛ ليسعى الأخير بشتى الطرق من أجل فرض مزيد السيطرة على حكومته وعلى الإسرائيليين الذين باتت قطاعات منهم ترفض المزيد من العدوان عل قطاع غزة، تبدو على صفحات التاريخ المعاصر واليومي أحداث تفيد بأنّ المسألة لدى إسرائيل ليست وطن يحتلونه بقد ما هو مخطط لآباءهم الذين باتوا يرتبون له من قديم، فوفاة الصحفي الناقد يوسف طرّاب
لم يكن يضع إيمانه الديني حاجزًا بينه وبين عروبته، ولم تكن اليهودية بالنسبة له جواز مرور إلى هوية دخيلة أو تبعية لدولة احتلال. كان إنسانًا قبل كل شيء، مثقفًا قبل كل عنوان، وعربيًا قبل كل انتماء ديني. يوسف طراوب، آخر اليهود اللبنانيين، عاش حياته ينكر "إسرائيل" ويرفع رأسه بلبنان وعروبته حتى لحظة الرحيل. لم يهادن الجحود، ولم يبدل الأرض بالأوهام، بل عاش ومات شاكرًا لانتمائه، مدافعًا عن فلسطين، مخلصًا لبيروت التي أحبته كما أحبها.
مولد في بيروت.. وطفولة في مدينة بلا تمييز
ولد يوسف طراب في العاصمة اللبنانية بيروت، المدينة التي احتضنت تنوعًا فريدًا وعايشت فيها الأديان أوقاتًا لم تفرق فيها بين يهودي أو مسلم أو مسيحي. وصف بيروت بأنها كانت "مدينة تجمع الجميع دون تفرقة أو تصنيف". هناك ترعرع وسط مجتمع لبناني متعدد، آمن أن التعددية ثراء لا تهديد، وأن الأرض التي تحتضن الجميع لا يمكن أن تفرّق بينهم.
بدأت مسيرته الصحفية من باريس، حيث كتب أول مقال فني في صحيفة "لوريان"، عن معرض لم يحضره أحد بسبب أحداث ثورة مايو 1968. عاد بعدها إلى لبنان، محمّلًا بشهادات في الفلسفة وعلم الاجتماع والاقتصاد، إلى جانب شغفه العميق بالفن والمسرح، ومهاراته اللغوية والثقافية المتعددة.
برع يوسف طراب كناقد فني في صحيفة "لوريان لو جور"، التي تحوّلت إلى منبره الثقافي لأكثر من ثلاثة عقود. دوّن تاريخ الفن التشكيلي اللبناني، ورافق تحولات المشهد البصري من سبعينيات القرن الماضي وحتى مطلع الألفية، مشرفًا على افتتاح المعارض وكتابة مقدمات الكتب الفنية، ومؤسسًا لجمعية نقاد الفنون الجميلة مع نخبة من المثقفين اللبنانيين.
رفض إسرائيل.. وفخر بالهوية اللبنانيةرغم أصوله اليهودية، كان يوسف طراب صريحًا في موقفه: "لم أعترف يومًا بإسرائيل، وأنا فخور بأنني لبناني وعربي". حملت مواقفه جذورًا متينة من تربية عائلية وطنية، إذ كان حفيدًا لأحد أبرز حاخامات بيروت الذي ظل رافضًا لمغادرة لبنان ومدافعًا بشدة عن القضية الفلسطينية. ولم يكن طراوب يومًا من أولئك الذين يبحثون عن النجاة في الولاء للغريب، بل آمن أن أرضه الأولى والأخيرة هي لبنان، وأن الظلم لا دين له.
بيروت في ذاكرته.. والفن ملاذهخلال الحرب الأهلية، عاش في منطقة الحمرا، ثم أجبرته الظروف الأمنية على الانتقال إلى جونيه، لكنه بقي متعلقًا ببيروت التي وصفها بأنها "ملتقى أفكار وأرواح قبل أن تُقسّمها السياسة والميليشيات". عاد إلى لبنان بعد تجربة قصيرة في فرنسا "لأنه لا يستطيع العيش دون شمس لبنان وطبيعته".
نهاية الرحلة.. وإرث خالدتوقف "طراب" عن الكتابة عام 2004، لكنه لم يتوقف عن الشغف، ظل حاضرًا في المشهد الثقافي حتى آخر معرض فني أشرف عليه عام 2009 مع صالح بركات، ساعيًا لاستعادة الهيبة لسوق الفنون التشكيلية في لبنان. لم يكن انشغاله بالفنون البصرية مجرّد هواية، بل مسيرة ووعي ومرآة لروحه التي آمنت بالجمال في كل شيء.
وداع المثقف العربي.. لا آخر اليهودرحل يوسف طراب، ولم يرحل أثره. نعت جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت رحيله بقولها: "كان طراوب ضميرًا فنيًا وثقافيًا لهذا الوطن، ساهم في صناعة الحداثة، وأبقى بيروت مدينة للإبداع رغم كل العواصف".
لم يكن مجرد "آخر يهودي لبناني"، بل كان أول المُخلصين لفكرة أن الانتماء لا تصنعه العقائد، بل الأرض، والصدق، والنضال من أجل الحق، وصفعة بمذاق نادر على وجه الكيان المُحتل.